قدّم محبو الأستاذ فتح الله كولن، صباح يوم الجمعة الماضي، تعازيهم إليه في وفاة شقيقه الأصغر سيف الدين، فردّ الأستاذ عليهم بقوله “أدعو الله أن يديم عليكم الصحة والعافية”، فأمّن الجميع وراء هذا الدعاء الجميل.
أثبتت هذه الاتصالات القلبية أن أحدًا لا يمكنه أن يقف في وجه الحب، ولا يستطيع أن يمحو المحبة من القلوب، فالظلم الذي احتمى بدرع الدولة الواقي أصاب البعض بالخوف والهلع، فيما لم يزد آخرين إلا صمودًا، فهؤلاء يسيرون نحو الأفق بإيمان وعزيمة، وكما أنه ليس هناك أي ظلم أبدي، فليس هناك موت يعني الفناء، فكل موت حياة، وكل ظلم صحوة!
قبِل رسائل التعازي، لفّها واحتضنها، وأودعها في أدعيته، وقال: “يا ليت كانت لديّ إمكانية المشاركة في صلاة الجنازة”، لكن هيهات!
عندما عبّر الذين يعرفون الأستاذ كولن منذ سنوات عن بعض الذكريات، وعندما قادت التداعيات إلى مراجعة حالات وفاة وقعت في الماضي، ظهر أمامنا مشهد ذو مغزى عميق، لقد حكى الأستاذ كولن لأصدقائه كيف رأى والده وودعه للمرة الأخيرة، فقال إنه طلب الإذن من والده المريض طريح الفراش حتى يتسلم مهام عمله في رئاسة الشؤون الدينية في تركيا، وكان والده يرغب في أن يبقى ابنه الشاب في مدينة أرضروم -مسقط رأسه- لعدة أيام، لكنه رأى حماسة كبيرة في عيني ابنه، فقال له: “اذهب يا بني لمزاولة مهام عملك، فإذا كانت تنتظرك عينان هنا، فالجامع الذي ستتولى فيه مهام عملك تنتظرك به مئات العيون”، وقبل أن يكمل الأستاذ كولن بعض الخطب والدروس العلمية، أتاه الخبر الحزين بوفاة والده.
استطاع الأستاذ كولن المشاركة في جنازة والدته وهو من أم الصلاة عليها، وبخلاف ذلك، لم يستطع أن يشارك في جنازة أي من أقاربه كأعمامه وغيرهم، ذلك أنه عندما مات أقاربه الواحد تلو الآخر، كان إما محبوسًا في السجون دفاعًا عن دعوته، وإما يجري البحث عنه من أجل تصنيفه حسب انتمائه وفق أهواء الانقلابيين، أو كان يتحرق قلبه شوقًا لوطنه في بلاد الغربة، وكلما سألناه عن الأصدقاء الذين كنا معهم في ذلك الصباح في الصالة نفسها، أجابنا، ولاحظت أن الأستاذ يحس بمشاعر وكأنه يعيش حزن الاضطرار لأداء صلاة الجنازة على الغائب في مقر إقامته في الغربة…
مِن أين سيعرف أولئك الجهلة، البعيدون كل البعد عن همّ الدعوة والهجرة والشوق والعزلة والألم والثبات، ففي حيّهم لا يسمع صوت أغاني الغربة والمنفى، بيد أن الهجرة التي بدأت مع الإنسان الأول ستستمر إلى يوم القيامة ولا يستطيع أن يتحمل هذه الآلام سوى الذين يقولون “قبضك وبسطك جميل يا الله”، ولا شك أن كل دعوى سامية تأتي بالابتلاءات، وإذا لم تكن هذه الابتلاءات موجودة فكيف سيجري التمييز بين الطيب والخبيث.
يا أحبتي، بلادنا عامرة بالأشخاص الأوفياء المحبين لأوطانهم!
لا جدال في أن رسائل العزاء الواردة من مختلف دول العالم تخفف الآلا، ولقد سمع بعض الأصدقاء بتواجدي في الولايات المتحدة قدرًا، فبدأت أتلقى اتصالات هاتفية منهم بشكل مكثف، فمَن وجد صديقًا له يرافق الأستاذ كولن، وليس أنا فقط، يتصل به ليصل إلى الأستاذ من أجل إبلاغه تعازيه بشكل مباشر، من جميع الفئات، رجال أعمال، سياسيون، مثقفون، أناس عاديون…
هناك العديد من المؤمنين الذين لم ينحنوا لغير الله، فهؤلاء يهاجرون من هذه الدنيا الزائلة إلى العالم الآخر وهم أحرار، أما الذين يعتقدون أن هذه الحياة الدنيا هي كل شيء، وكذلك الذين يعتدون على حقوق الآخرين مستندين إلى هذه الفكرة الخاطئة، هؤلاء محكوم عليهم أن يحيوا تعساء فاقدي الأمل، حتى وإن عاشوا في قصور فاخرة.
كل من يتصل يشاطرنا آلامنا ليخفف عنا ما نحن فيه من كدر بمواساته لنا، وعلى الرغم من شعوره بالإرهاق والتعب بسبب حركة الاتصالات الكثيفة، فإن الأستاذ كولن لا يهمل قبول التعازي من المتصلين مباشرة، وفاء في مقابل الوفاء!
عندما اقترب وقت صلاة الجمعة، تذكرت عندما توفي شقيقه الآخر حسبي الذي كان قد توفي هو الآخر صباح يوم الجمعة، وحينها تلقى الأستاذ كولن اتصالات كثيفة قبل صلاة الجمعة وبعدها، وكان هناك بعض الأشخاص الذين اتصلوا لإبلاغ واجب العزاء وقتها، لكنهم اليوم تخلوا عن صداقتهم ووفائهم وانسحبوا منذ وقت طويل، يا ليت الريح لم تحملهم إلى وادٍ بعيد لتتحول هناك سيرتهم وصورتهم إلى شكل آخر غير الذي اعتدنا عليه، على كلٍ.. شرح خطيب الجمعة في ذلك اليوم بعض الأفكار حول معنى الحياة وحقيقة الموت، وكان يوضح -في الظاهر- الأسرار الميتافيزيقية للموت لكنه -في الواقع- كان يحل عقد هذه الفكرة، وتذكرنا مرة أخرى أن الموت لا يعتبر النهاية بالنسبة للأشخاص الذين يعتقدون بوجود الآخرة بعد الحياة الدنيا بل إنه البداية وأن العالم الآخر هو الأساس، شرحت الخطبة صدورنا، وداوت جراحنا برقّة ورحمة…
استمررنا في تلقي مكالمات المعزين من بعد الصلاة وحتى وقت متأخر، ولقد أثبتت هذه الاتصالات القلبية أن أحدًا لا يمكنه أن يقف في وجه الحب، ولا يستطيع أن يمحو المحبة من القلوب، فالظلم الذي احتمى بدرع الدولة الواقي أصاب البعض بالخوف والهلع، فيما لم يزد آخرين إلا صمودًا، فهؤلاء يسيرون نحو الأفق بإيمان وعزيمة، وكما أنه ليس هناك أي ظلم أبدي، فليس هناك موت يعني الفناء، فكل موت حياة، وكل ظلم صحوة!
هناك العديد من المؤمنين الذين لم ينحنوا لغير الله، فهؤلاء يهاجرون من هذه الدنيا الزائلة إلى العالم الآخر وهم أحرار، أما الذين يعتقدون أن هذه الحياة الدنيا هي كل شيء، وكذلك الذين يعتدون على حقوق الآخرين مستندين إلى هذه الفكرة الخاطئة، هؤلاء محكوم عليهم أن يحيوا تعساء فاقدي الأمل، حتى وإن عاشوا في قصور فاخرة…
“لا داعي للمضاهاة والمحاكاة والافتعال والتصنّع، بل يجب السماح للناس بأن يمارسوا كينونتهم وشخصيتهم الذاتية حتى تستطيع تركيا الخروج من هذا النفق المظلم الذي دخلته، فلا يمكن أن تبحر سفينة السياسة في تركيا من خلال العبارات الاستفزازية التي تدمي القلوب والضمائر.. وواقعنا شاهد على ذلك“.