توجد خاصيتان أساسيتان لجميع التحقيقات التي تتولاها السلطات في تركيا منذ الكشف عن فضيحة الفساد والرشوة بتاريخ 17 ديسمبر/كانون الأول (2013م) ألا وهما:

1- تدمير جميع المعلومات والوثائق الملموسة ذات الصلة بفضيحة الفساد ومحاولة إلغاء ملف القضية تمامًا والتغاضي عنه.

2- رفع دعاوى جديدة من أجل إلصاق التهم بـ”حركة الخدمة” من خلال مشاعر انتقام فظيعة والسعي للتستّر على “أكبر فضيحة فساد في تاريخ تركيا” عن طريق هذه الدعاوى الزائفة.

يعتمد النظام الحاكم في تركيا اليوم على طريقة لجأت إليها الأنظمة السابقة في أقدم حقب تاريخ تركيا وأكثرها ظلامًا، فَهُمْ في البداية يختلقون أخبارًا لا أساس لها من الصحة ثم يصدرون تعليماتهم للنواب العموم بإعداد ملفات لهذه القضايا، وبعدها تنتقل القضية إلى المحكمة وسرعان ما يواصلالإعلام المفتريدعايته السوداء ليأسر عقول الناس.

إنهم لا يجدون أدلة ملموسة لإلصاق التهم بحركة الخدمة منذ عام ولهذا تسيطر عليهم مشاعر الغضب ويواصلون نشر أخبارٍ مفبركة بواسطة وسائل الإعلام التي يسيطرون عليها ما يفضي إلى رفع دعاوى ضد الحركة.

أضف إلى ذلك أنهم ينطلقون للبحث عن “مظلومين مفتَرَضين” من خلال قضايا عرفها الجميع ونشرتها كل الصحف قبل سنوات ويسعون لإقناعهم حتى يصبحوا “مشتكين” عما يسمون بـ”الكيان الموازي”، وكأنهم ليسوا من كانوا يحكمون البلاد ويمسكون بزمام الأمور فيها حينها… بلاغات كاذبة، شهود زور، وشهود سريون أُجبروا على الافتراء…

إن التحقيق الذي فُتح بحقي وحق السيد “هِدَايَتْ كَارَاجَا” مدير مجموعة “سامان يولو” الإعلامية أظهر للجميع كيف أن هذا النظام “الظلامي” يعمل بشكل طائش.

إن قلوبنا تدمي بسبب الاتهام الذي اختلقه أولئك الذين يدعمون تنظيمًا تنتشر ادعاءات بشأن ارتباطه بتنظيم القاعدة الإرهابي وذلك انطلاقًا من خبر ومقالين وسيناريو مسلسل تليفزيوني كُتبوا قبل خمس سنوات، وكأن هذه المواد التي نشرت قبل خمسة أعوام قد ظلمت تنظيمًا مناصرًا لتنظيم القاعدة، فالمنطق الذي يسعى لاختلاق “تنظيم إرهابي” وهميّ من خلال هذه المواد الصحفية والدرامية التي لا يشوبها ولو عيب واحد من ناحية المعايير الصحفية والتليفزيونية هل يظن أنه لن يُحاسَب في المستقبل على نمط الصحافة الذي تُبيح كلَّ شيءٍ بما في ذلك نشر الافتراءات؟

إن الإعلام المقرّب من الحزب الحاكم هو من يحيك أكبر المؤامرات شناعةً في هذا البلد فما يكتبه وينشره هذا الإعلام تنقله السلطات الأمنية لتوظّفه في صياغة ملفات قانونية ومن ثم يبدأ المدعون العموم فتح تحقيق حول هذه الادعاءات، ولو كانت هناك موضوعية في هذه الأخبار المختلقة التي يصيغونها بناء على تعليمات ترِد إليهم وكانوا قد عملوا بقواعد كتابة الخبر واحترموا حق الرد واستندت القضية إلى معلومات ووثائق ملموسة بدلًا عن الشائعات لكان من الممكن أن نقدم تفسيرًا منطقيًّا لتحرك النواب العموم بشأن هذا الملف، لكن الوضع ليس على هذا النحو بالمرة، فماذا يعني هذا؟ يعني أنه في الوقت الذي تَرْتَكِبُ فيه وسائل الإعلام المؤيدة للحكومة جريمة من خلال الأخبار التي تختلقها فإن المسؤولين الأمنيين والقضائيين يُشاركونهم ويكونون هم أيضًا قد ارتكبوا جرمًا إذا بدؤوا عملية قانونيّة اعتمادًا على هذه الأخبار الملفقة.

عندما تعود الأمور في تركيا إلى نصابها الطبيعي ستتوقّف هذه العجلة لا محالة، ولا أدري حينها كيف سيُنقِذ الإعلام المحرّض نفسَه من القانون، ولكن يجب على موظفي الدولة أن يكونوا عادلين وأن تكون أقدامهم راسخةً وثابتةً في الحقّ ومع أصحاب الحقّ إذ إن مهمتهم هي إدارة دولة القانون وذلك حتى يستطيعوا أن يستشرفوا آفاق المستقبل بشرف وعزة…

قبل فوات الأوان

نواجه اليوم في تركيا خطرًا محدقًا إذ إن أولئك الذين لا يرغبون في سماع أقل صوت معارض لهم قد أطلقوا لأنفسهم العنان لممارسة الضغوط المكثّفة على الجميع.

يسجنون فتًى يبلغ من العمر ستة عشر عامًا ويعتقلون صحفيّة لنشرها تغريدة عبر “تويتر” بشأن التحقيق في قضية الفساد ويداهمون مقرات الصحف والقنوات التليفزيونية ويشنون حملات على مقرات بعض الأحزاب السياسية لتعليقها لافتات ذات صلة بفضيحة الرشوة ويحاكمون مجموعةً من مشجعي فريق كرة قدم بتهمة التدبير للقيام بانقلاب ويطبّقون مادة “الاشتباه المعقول” على الجميع تقريبًا، الأمر الذي حوّل تركيا إلى سجن “شبه مفتوح”.

وللأسف فإن قسمًا من الذين يقعون تحت التهديد يبدو أنهم لم يدركوا خطورة هذه القضية، فحرّيّة التعبير أصبحت في الحضيض، يضاف إلى ذلك أن هذا الخطر صار يهدّد الجميع، كما نشهد تعطيلًا لجميع المؤسسات والهيئات التي تغذي الديمقراطية في البلاد ما يجرف تركيا إلى السير في طريق “نظام الرجل الواحد”.

يقدم لنا أصحاب القوة والسلطة حتى الحريات التي حصل عليها الشعب ولو بشكل ناقص خلال السنوات الماضية على أنها لطفٌ وإحسانٌ منهم، بيد أن أولئك الذين لا يهتمّون بما يحدثُ اليوم ويُدخلون أيديهم في جيوبهم ويصفرون ويبادرون إلى عدّ النجوم من أجل التغاضي عما يحدث لا يستطيعون أن يدركوا أن الحقوق والحريات الأساسية تنهار واحدة تلو الأخرى.

لماذا؟

الأسباب كثيرة ولا حدّ للحجج والمعاذير، فهناك من يرجّح السكوت بسبب خوفه والبعض الآخر يفضّل السكوت والانتظار مختبئًا تحت الطاولة حتى تتبيّن مجريات الأحداث، لن ألومهم فالتاريخ يسجّل كلّ المواقف، ولا يكفي أن ينسى الإنسان عِبَر الماضي لكي يتيقن أن هذه الأيام ليست عابرةً بل عليه أن ينسى نفسه أيضًا حتى يتمكن من الانسلاخ عن مشاعر المسؤولية والتخلص من ضغوط واضطرابات ضميره…

الإعلام التركي يحمل عبئًا كبيرًا في حقيبته، فهويته الأيديولوجية تجبره على أن يكون طرفًا في النزاع، ولهذا السبب يركز على سؤال “منِ المفعول به؟” أكثر من سؤال “ما الفعل ومنِ الفاعل؟”، أي يروق للناس تحديد مواقفهم بالنظر إلى الشخص الممارَس عليه الفعل ولو كان الأمر الممارس ظلمًا صريحًا، وترى هذه العقليةُ أن هناك من يستحقون الظلم ومن لا يستحقونه، فإذا كنتم لا تقفون معهم في الصف نفسه تجدونهم يروّجون لفكرة “يجب شنْق البعض حتى تتنفس البلاد وتتحوّل إلى حديقة غنّاء”، وعندما نختزل القضية في هذه النقطة ينتشر الظلم من مكان إلى آخر دون توقّف والجميع تحاصره الضغوطُ من كل جانب.

لا يمكن للموقف الديمقراطي التحرّري أن يكون بحاجة إلى البيانات الملتوية التي تبدأ بكلمة “ولكن، إلا، غير…”، كما لا يمكن إظهار أيّ ظلم بالمظهر الشرعي من خلال الاعتراضات التي تبدأ بعبارة “غير أن…”، وللأسف فإن الإعلام في تركيا يختبئ وراء حججٍ من قبيل “ولكن، غير أن” فيخفون خوفهم ويصنعون أقنعةً لأنفسهم، لكنهم في الحقيقة يختارون طريقًا للانتحار التدريجيّ، ذلك أن الظلم هو الحالة المتخطّية لنوبات الجنون ولا يمكن لأحد أن يتوقّع أين ستقف هذه النوبة، فهذا الحصار الظالم يبدأ من أبعد دائرة وسرعان ما يضيق نطاقه حتى يصل إلى أفراد العائلة الواحدة في أقرب دائرة ليقضي أصحابه على أنفسهم إن عاجلًا أو آجلًا.

تعاني تركيا اليوم مشكلة ضيق التنفّس حتى إن قلوب الناس تُضغَط وألسنتهم تنعقد، والسبب أن المناخ العام ملوّث، فمن يديرون البلاد يُسمّمون الحياة لأولئك الذين لا يُفكّرون مثلهم بالضبط، فنحن نشهد في تركيا اليوم شتى صنوف الإساءة والإهانة والضغوط، فإذا كنت تفكّر مثلهم فليس هناك من هو أفضل منك، ولكن إذا كانت لديك بعض الملاحظات في بعض القضايا حتى وإن كنت تفكر كما يُملى عليك فهذا يعني أنك في خطر، وإذا كانت لديك أفكار مختلفة تمامًا عنهم فلن يعترفوا لك حتى بحقّ الحياة، فترى فرق الرقابة المالية تهاجم مقرات عملك ويلصقون بك تهمًا غير منطقية ويستخدمون أشنع التعبيرات لوصفك، أضف إلى مداهمة فرق الشرطة لمنزلك لتنتظرك في النهاية قاعات المحاكم.

ورغم وضوح المسألة إلى هذا الحدّ تجد من يخرج علينا ويطلق الأحكام بكلّ صفاقة وكِبر من قبيل “ما خطبكم؟! ألا تكفي هذه الحرية الممنوحة لكم فتطلبون المزيد؟!”.

تتوالى أكاذيبهم الواحدة تلوَ الأخرى، فما أن تنتهي كذبة حتى تلحق بها الأخرى، كما أن أنصار الحزب الحاكم في تركيا احتلّوا العالم الافتراضي على شبكة الإنترنت كالجنود المرتزقة، وهناك زمرةٌ من الذين ظهروا حديثًا ووصفوا أنفسهم بالصحفيّين يعتقدون أن الوساوس التي تنفثها الوحدات الاستخباراتية في آذانهم أخبارًا وتعليقات فيُطلقون التهديدات هنا وهناك ويلجؤون إلى التعليقات الاستفزازية.

في الوقت الذي وصل فيه ضيق التنفس إلى ذروته في ظلّ هذا المناخ الصعب نجد البعض لا يزالون يُخرجون دفاتر الحسابات القديمة من حقائبهم ويسارعون إلى إيجاد الحجج والذرائع لأنفسهم، فليكن كما يحلو لهم إلا أننا مضطرون لأن نقول إن السيارة لم تعد بها حقيبة للأمتعة ولا محرك للدفع وقد جرى فكّ إطاراتها منذ زمن بعيد وعجلة قيادتها سُرقت منذ وقت طويل ولهذا فلا يمكن أن نقطع مسافة بهذه العربة المدمّرة.

اليوم هو أنسب وقت للتضامن وبناء “صروح” الحرية بردود الفعل الديمقراطية وتوحيد صفوفنا في سبيل إقرار الحقوق والحريات الأساسية، ويجب على الجميع أن يتغلّب على رغباته حتى تستطيع تركيا تخطّي هذه الأمواج العاتية.

إن كانت تهمّكم سمعة تركيا حقًّا…

ظهر أمامنا مشهدٌ عقب الحملة التي شنّتها الشرطة على مقرّي صحيفة “زمان” ومؤسسة “سامان يولو” الإعلاميتين في إسطنبول يوم 14 ديسمبر/كانون الأول (2014م)، حيثُ يرجّح الإعلام التركيُّ الصمتَ في مواجهة “الانقلاب” الذي قامت به السلطات ضدّ حرّيّة الصحافة لأسبابٍ مفهومة  حتى إن بعضَ وسائل الإعلام يفضّل أن يبدي موقفًا محبّبًا للعقليّة التي شنّت حملة الدهم على المؤسّستين الإعلاميّتين سالفتي الذكر.

كان هذا هو الخيار الأول في صباح ذلك اليوم وكانت أبعاد القضية مقلقة، بيد أن خبر الحملة ما إن أذيع في العالم حتى أفضى إلى ردود فعل كبيرة، وبدأت القنوات والصحف ومواقع الإنترنت ووكالات الأنباء العالمية تتابع هذا الحدث وتنقل إلى قرّائها ومشاهديها مدى ما وصلت إليه شراسة أولئك الذين احتموا بصلاحيات الدولة وسلطانها، ولا تزال وسائل الإعلام هذه تنقل الصورة إلى متابعيها.

لقد قلنا صباح ذلك اليوم: “لا تقدِموا على هذه الخطوة فهذا الظلم سيفضح تركيا أمام العالم”، ولكن هيهات! فالغضب يأسر العقل وإذا بدأ الظلم يلبس تاج العدل نشهد فضيحة لا مثيل لها…

لا يمرّ يوم إلا ونتلقى طلبات مقابلة تلفزيونية أو كتابة مقال من أكبر الصحف والقنوات التليفزيونية حول العالم، فنحن أمام شغف وتضامن مهنيٍّ في كلّ دول العالم من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى ومن أوروبا إلى أمريكا، ولقد تأثرنا كثيرًا بالتضامن المهني الغربي والاجتهاد العربي، وإذا كان الوضع كذلك فنحن من جانبنا (جميع المسؤولين بصحيفة زمان) بدأْنا نرحّب بالعروض كافّة، وهناك من لا يعجبهم هذا الوضع، فما هي حجتهم؟ حجتهم هي أننا نشتكي تركيا إلى الخارج حسب رأيهم؟

أرى أن هناك فائدةً في أن نذكّر الذين يعتقدون أن تركيا ستبقى حبيسة الدهاليز بسبب ضيق الأفق ببعض الأمور:

أولًا: لم يعد هناك شيء اسمه “الداخل والخارج” في العالم المعاصر اليوم، إذا شننتم حملة على المؤسسات الإعلامية في عصر الاتصالات ستقوم الدنيا ولن تقعد.

ثانيًا: إننا نكتب ونقول في أيّ مكان ونتحدّث عمّا نقوم به في تركيا، وأكبر مطالبنا هو إزالة المخاوف التي أعربنا عنها بصدقٍ إزاء الأخطاء التي تستهدف الحريات.

ثالثًا: يظهِر العالم تضامنًا مع حرّيّة الصحافة دون أن ينسحق تحت أحكام مسبقة أو تُهَم لا أساس لها، فبدلًا من أن نشعر بالامتعاض جرّاء ذلك علينا أن نسأل أنفسنا لماذا نصير دائمًا أسرى للهواجس؟

رابعًا: هل خرجت صحيفة في تركيا لتقول: “تعالوا اكتبوا ما شهدتموه في هذه العملية لدينا في صحيفتنا” ولم نستجب نحن لدعوتها؟ أو أن أحدهم خرج علينا ليقول “تعالوا عبّروا عن هذا الظلم الذي مررتم به على شاشاتنا”، ونحن قلنا “إننا عازمون على الحديث حول هذه القضية مع زملائنا من خارج تركيا فقط”؟ لم يحدث شيء من ذلك.

وأريد أن أقول شيئًا أخيرًا إلى أولئك الذين لا يعرفون أن الفصل بين الصحافة الداخلية والصحافة الخارجية يعتبر مصطلحًا قد عفا عليه الزمن: لا يمكن لأحد أن يدير دولة عن طريق غلق أبوابها في وجه العالم الخارجي وتحويلها إلى سجنٍ جماعيّ، ولو خرج علينا أحدهم ليقول “أنا أستطيع إدارة دولة كهذه” فلن يصدّق أحدٌ حولَ العالم مثل هذا الهراء، فمَن يخرج عن نطاق القانون العالمي سيكون قد فضح نفسه في الداخل والخارج، وحينها اقرؤوا على هذه الدولة السلام.

وإذا كنا نريد ألا نعيش مصيبة كهذه مرةً أخرى، فعلينا أن نتّجه إلى مبادئ سيادة القانون وحقوق الإنسان والديمقراطية التعدّدية القائمة على المشاركة لا إلى الفساد والظلم والاضطهاد والقمع.

 

إن علاقات الدولة والفرد والمجتمع في تركيا لم تستقرّ بعد في مسارٍ ديمقراطيٍّ وقانونيٍّ؛ وهو ما يستدعي بالضرورةِ السؤالَ: ما الدولة، ما سبب وجودها، وبخدمة مَنْ هيَ مكلّفة، ومِن أين يبدأ وينتهي حدُّ تدخُّلها في حياتنا؟.

فهرس الكتاب