نقل الكاتب الصحفي التركي “أُورْخَانْ كَمَال جَنْكِيزْ (Orhan Kemal Cengiz)” قبل عدّة أيام حادثةً جميلةً تستوجب الوقوفَ أمامها وإمعان الفكر فيها، حيث تمّ استدعاء أحد المواطنين الأتراك للإدلاء بأقواله في محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، كان ذلك في تلك الأيام المظلمة التي شهدت الكثير من حوادث إحراق القرى في جنوب شرق تركيا.
وأخذ القضاة يسألون هذا المواطن البريء المظلوم: “هل تعاملوا معك بصورة سيئة؟” وأجابهم المواطن الذي شهد أنواع الظلم كافّة “حاشا! لم أر أيّ نوعٍ من أنواع الظلم؛ فأنا راضٍ عن تصرّفات دولتي”، إلا أن هيئة المحكمة اندهشت من ردّ المواطن، لكنها سرعان ما أدركت الحقيقة بمجرّد توجيه أسئلة تفصيلية أظهرت الصورة الواضحة للموضوع، وبعدها أخذ المواطن يروي كل شيء بالتفصيل بدءًا من ملابسات اعتقاله بدون محاكمته أو تقديم أيّة أدلّة ملموسة لإدانته وكيف تمّ احتجازه في غرفة مكسّرة نوافذها لعدة أيام في عزّ الشتاء، وحينئذ بدأت تنجلي وتتكشّف صورة مشهد الظلم الأليم.
إن حال بلدنا يشبه الواقعة التي ذكرناها آنفًا؛ إذ بات الناس يتعرّضون للظلم والغدر والخيانة إلا أنهم عاجزون في معظم الأوقات عن إدراك الأعمال الوحشيّة والفظيعة الممارسة عليهم بسبب مشاعر التقديس والتخويف والترهيب المغروسة في عقلهم الباطن منذ أمدٍ بعيدٍ، ويبدو أن القيَمَ المغروسةَ في اللاوعي التي تقدِّمُ الدولةَ كأبٍ يسوّغُ ويبرّرُ البعضُ شدّها للأذن وصفعَها للوجوه، وهذه العقلية تدفع المواطن ليفكّر على النحو الآتي: “أليست هي الدولة! إن تضربِ المواطن فمن فرط حبِّها له، وإن توبّخْه فمن فرطِ حنانِها عليه”.
غير أن علاقات الدولة والفرد والمجتمع في تركيا لم تستقرّ بعد في مسارٍ ديمقراطيٍّ وقانونيٍّ؛ وهو ما يستدعي بالضرورةِ السؤالَ: “ما الدولة، ما سبب وجودها، وبخدمة مَنْ هيَ مكلّفة، ومِن أين يبدأ وينتهي حدُّ تدخُّلها في حياتنا؟“ يرى بعض الأشخاص المعتوهين أن الدولةَ مثل الإله -حاشا لله- ولهذا قد نجد حِكمًا وأقوالًا مأثورة لم ينزل الله بها من سلطان من قبيل: “لا تشرك مع الحكومة أحدًا”، لدرجة أنه وصل الحدّ إلى لجوئهم للحصول على الفتاوى المسوّغة لـ”قتل الأخ”؛ تلك التي شاعت في عصر الأمراء والملوك فضلًا عن تدمير الديمقراطية في علاقة الفرد والمجتمع بالدولة، وما هي النتيجة بعد كلّ ذلك؟ طبعـًا ظلم مريع تتنوع ألوانه وأنواعه.
وفي الوقت الذي يشير فيه هذا الوضع المجانب للعقل والمنطق إلى عقلية الحكم أو الإدارة المعلولة بالتسمّم بالقوة والغطرسة من ناحية، من ناحية أخرى يكشف الغطاء عن الأفراد الذين لا يدركون حقوقهم الشخصية، ولهذا لا يتأسّس نظام شفاف عادل ونزيه، ولا تتسلم زمام الأمور في البلاد الحكوماتُ الخاضعة للمُساءلة والرقابة، وتُسدّ الأبواب على المؤسسات الرقابية الديمقراطية، كما أن المواطن لا يستطيع القول للذين يرتكبون جرائم الفساد والرشوة والاختلاس والتربح الفاحش وغيرها: “أنا زعيم هذه الدولة، إنك تزاول عملك بضرائبي، وأنت مضطر لاستخدام الموارد بصورة جيدة والانصياع لما ينصّ عليه الدستور والقوانين، ولا يمكنك تهميش أيّ شخص قطّ أو إحداث استقطاب بين أفراد المجتمع”.
لا يتسنى للمواطن أن يراقب ويحاسب أعمال دولته؛ لأنه يفتقر إلى الوعي الضريبي، ولأن المعارضة -المتمثلة في الأحزاب والمؤسسات الدستورية والمجتمع المدني ووسائل الإعلام- المنوط بها مهمّة متابعة ومحاسبة الدولة الطاغية تقفُ عاجزةً عن تفسير شرعيةِ وضرورة وجودها وإيضاح ثقافة وممارسات مساءلة الدولة بما فيه الكفاية، نجد أن حكوماتٍ منفلتةً تأتي إلى سدّة الحكم تباعًا.
وبالأمس كان بعضهم يكيلون المديح والثناء لـ”القادة العسكريين أصحاب الأمر والنهي في البلاد”؛ أما اليوم فنجد بعضهم يدافعون مستميتين عن نظام الاستبداد والقمع لمجرد أنه يستند إلى “صناديق الاقتراع” فضلًا عن أنهم يسوقون حججًا وذرائع “إسلامية” لإثبات صدق دعواهم.
بالله عليكم! انظروا حولكم وأصيخوا السمع لأصوات المظلومين قبل أن يأتي الدور عليكم؛ وعندها ستتّضح لكم الصورة الحقيقية وسترون أن الجميع قد تم تصنيفه حسب توجّهاته وانتماءاته السياسية والدينية، وتم إقصاؤه وتهميشه في المجتمع، ولعل الجنون المشهود في التصنيفات التي تمّ الكشف عنها الأسبوع الماضي يكفي -بل ويزيد- لتوضيح كيف أن القضية تحولت إلى حملة مطاردة الناس كمستشفى مجانين تضمّ جميع طوائف الشعب، أي إن الحكومة أصبحت تلصق التهم بكل من لا يتبنّى أفكارها ولا ينتمي إلى مذهبها مثل “القوميين واليساريين والعلويين… إلخ.
وأخيرًا أتحدى وأقول إن كان هناك من يزعم أنه شَهِدَ من قبلُ هذا القدرَ من الرقابة التعسّفية لموظفي الضرائب على المؤسسات والشركات فليخرج علينا بشجاعة وليقل ذلك أمام الجميع، فالحزب الحاكم بات يهدّد جميعَ الذين لا يبايعونه ولا يدخلون تحت لوائه وإمرته، ومن المستحيل ألا تتحوّل هذه المعاملة الشنيعة لقضيّة كبيرة يُحاكَم فيها العديدُ من البيروقراطيين أمام القانون وعلى رأسهم مسؤولو وزارة المالية.
“نحن أمام شكل من أشكال الإدارة يعتمد على التعسّفية وينقاد لرطانة البلطجة الجوفاء، فأين المعايير الديمقراطية؟ ألغي العمل بها منذ زمن بعيد، وأين المبادئ القانونية؟ وضعوها في الثلاجة“.