تعيش تركيا “أردوغان” حاليًا أسوأ عصور الحريات منذ عقود مضت، وخاصة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016 الذي وصفته تقارير دولية بـ”بالمدبَّر”. وتزامنًا مع حلول الذكرى الثانية لهذه المحاولة وخاصة بعد تحول تركيا إلى النظام الرئاسي الذي يمنح الرئيس صلاحيات تنفيذية وتشريعية شبه مطلقة، يقدم التقرير صورة حقيقية عن طبيعة الوضع المزري الذي آلت إليه حرية التعبير في تركيا، ويسلط الأضواء على الانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيون من اعتقالات ومحاكمات وتهديد ونفي وتشريد إجباري من البلاد ومصادرة ممتلكات وأوضاع معيشية صعبة؛ وذلك من خلال المعلومات والبيانات الواقعية التي تتناقلها وسائل الإعلام المحلية والعالمية، والواردة في تقارير منظمات حقوق الإنسان.
مقدمة
تتعرض حرية التعبير في تركيا إلى هجوم مستمر ومتزايد، وخاصة منذ قرار الحكومة بالاستيلاء على مجموعتي “إيباك” و”فضاء” الإعلاميتين اللتين كانتا تضمّان عشرات القنوات التلفزيونية والصحف اليومية والمجلات الأسبوعية في الأول من مارس 2016؛ ومنذ محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو/تموز 2016، يواجه أكاديميون، وصحفيون، وكتاب ينتقدون الحكومة، إحالات إلى التحقيق الجنائي، وملاحقات قضائية، وألوانًا شتى من الترهيب والمضايقة والرقابة المستمرة.
وقد تزامن ذلك مع إغلاق السلطات 189 وسيلة إعلامية على الأقل، بموجب مرسوم تنفيذي أصدرته في إطار حالة الطوارئ المفروضة على البلاد. فالرسالة التي أرادت السلطات إيصالها وما ترتب عليها من تأثير على وسائل الإعلام واضحة ومقلقة؛ إذ إن شدة القمع الذي تمارسه الحكومة في حق وسائل الإعلام، جعلت البعض يصفون ما يحدث بأنه “موت الصحافة”.
لقد غدت تركيا من أسوأ دول العالم من حيث التعامل مع الصحفيين، حيث صنفها الاتحاد الدولي للصحفيين(IFJ) بأنها أكبر سجن للصحفيين في العالم للعام الثاني على التوالي، إذ يمثل الصحفيون المعتقلون في تركيا، نصف عدد الصحفيين المعتقلين على مستوى العالم. ويقبع وراء جدران سجونها بعض أشهر الصحفيين الذين يحظون بالاحترام في تركيا. كما جاءت طبقًا لمؤشر حرية الصحافة الصادر عن منظمة مراسلون بلا حدود(RSF) أبريل 2018 في الترتيب 157 (تراجعت نقطتين عن العام الماضي) من بين 180 دولة.
إن التقرير الذي بين أيدينا، يعطي صورة عن طبيعة الوضع المزري الذي آلت إليه حرية التعبير في تركيا، لا سيما بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو 2016، ويسلط الأضواء على الانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيون الأتراك من اعتقالات ومحاكمات وتهديد ونفي وتشريد إجباري من البلاد ومصادرة ممتلكات وأوضاع معيشية صعبة، وما يواجهونه من مضايقات عديدة، لا سيما من قبل الهيئة القضائية التي تسيطر عليها السلطة الحاكمة في تركيا.
وسيتم تناول هذا الموضوع من خلال المعلومات والبيانات الواقعية التي تتناقلها وسائل الإعلام المحلية والعالمية، والواردة في تقارير منظمات حقوق الإنسان، والتي تؤكد جميعها أن تركيا أصبحت دولة لا تحترم حرية مواطنيها، لا سيما ما يخص حرية الإعلام.
حقائق وأرقام
هناك تضارب في الإحصائيات المتعلقة بأعداد وأسماء المسجونين من الصحفيين بين ما تنشره المؤسسات الصحافية، ومنظمات حقوق الإنسان. وهذا يرجع لاختلاف طرق البحث التي يتم استخدامها، كما أن الوصول إلى بيانات دقيقة، أصبح من الصعوبة بمكان لما تتبعه الحكومة من إجراءات معرقلة؛ فالحكومة تمارس إجراءات ضغط شديدة على المراسلين والخبراء العاملين في هذا المجال، كما تمتنع السلطات عن الإدلاء بأي معلومات عن حملات المداهمة التي قامت بها ضد المؤسسات الإعلامية والإعلاميين في الشهور الأخيرة.
يشتمل هذا التقرير على معلومات حديثة ودقيقة عن عدد الصحفيين المسجونين والمقبوض عليهم، وذلك من خلال محادثات هاتفية ولقاءات خاصة أجريت مع عدد من المصادر الموثوقة، وكذلك عن طريق تحليل ومراجعة القوائم التي أعدتها المؤسسات الإعلامية المعتمدة ومنظمات حقوق الإنسان.
فمنذ صبيحة محاولة الانقلاب الفاشلة حتى الآن، يقبع في السجون 319 صحفيًّا معتقلاً، كما صدرت مذكرات اعتقال بحق 142 صحفيًّا آخرين مشردين في خارج البلاد، وخلال العام 2017 المنصرم حُوكِم قضائيًّا 839 صحفيًّا على خلفية تقارير صحفية أصدروها أو شاركوا في إعدادها، طبقًا لما أوردته مؤسسة الصحفيين الأتراك. وهذا الرقم يؤكد على خطورة وضع حرية الإعلام في تركيا، وعلى تدهور الحريات بوتيرة متسارعة وأسوأ مما يعتقد كثير من المحللين. هذه البيانات مرشحة للزيادة بسبب الحملات الأمنية المستمرة للقبض على الصحفيين، لذلك فالبيانات التي يحتويها هذا التقرير تقريبية وعرضة للزيادة أو النقصان.
يأتي الصحفيون المحتجزون في السجون من خلفيات ثقافية مختلفة، ولكن الصفة المشتركة بينهم جميعًا أنهم معارضون للحكومة، وقد تم اتهامهم بانتمائهم لمنظمة إرهابية أو أكثر، فهناك 124 صحفيًّا معتقلاً ممن كانوا يعملون في المؤسسات الإعلامية لحركة الخدمة بتهم “العضوية في منظمة إرهابية” و”الترويج للإرهاب” و”محاولة الإطاحة بالحكومة التركية”.
كما يوجد 44 صحفيًا متهمين بانتمائهم لحزب العمال الكردستاني أو لاتحاد كردستان، و11 صحفيًّا يساريًّا من جريدة “جمهوريت” اعتقلوا واتهموا بالعمل لصالح كل من الخدمة وحزب العمال الكردستاني، كما تم اعتقال الصحفي “أحمد شيك” بدعوى قيامه بالترويج للإرهاب من خلال حزب الثوريين الليبرالي، كما حكم بالسجن المؤبد على الصحفية “ناظلي إلجاك” والصحفي “أحمد ألتان” وأخيه الصحفي “محمد ألتان” وثلاثة صحفيين آخرين في 16 فبراير 2018، كما قضت المحكمة في 8 يونيو 2018 بالسجن المؤبد على الصحفي “هدايت كاراجا” رئيس مجموعة “سمانيولو” الإعلامية والعضو للمجلس الأعلى للصحافة التركية.
كما يأتي الصحفيون العاملون في الصحف الوطنية في مقدمة المعتقلين، حيث يبلغ عددهم 77 صحفيًّا، يعقبهم العاملون في الراديو والتليفزيون الوطني أو ما يسمي بقنوات “تي أر تي” وعددهم 45 صحفيًّا، ويبلغ عدد العاملين في وكالات الأنباء الإخبارية 30 صحفيًّا، وكذلك يوجد 12 صحفيًّا من الصحفيين العاملين في المجلات الدورية. ويوجد 15 صحفِيَّة معتقلة في السجون التركية. ومن بين 319 صحفيًّا معتقلاً يوجد 20 من مديري الصحف أو وكالات الأنباء.
أما عن وسائل الإعلام التي أغلقت، فمجموعها حتى الآن 189 وسيلة إعلامية مختلفة، منها: 5 وكالات أنباء، 62 جريدة، 19 مجلة، 14 راديو، 29 قناة تليفزيونية، 29 دارًا للنشر تابعة لحركة الخدمة، هذا فضلاً عن كثير من القنوات والإذاعات الكردية واليسارية والعلوية المستقلة، هذا بخلاف حجب 127.000 موقعًا الكترونيًّا، 94.000 مدونة على شبكة الإنترنت منها موقع “ويكيبيديا” الموسوعي.
سيطرة الخوف على المشهد الإعلامي
إن 85% من الصحفيين والإعلاميين القابعين الآن في السجون التركية، قد تم اعتقالهم بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو/ تموز 2016، بتهم لا أساس لها من قبيل “جرائم الإرهاب” و”الانضمام لمنظمة إرهابية” و”الترويج للإرهاب” و”محاولة الإطاحة بالحكومة الحالية” أو “الخيانة العظمى”.. وهكذا تم تقييد الصحفيين من خلال الاستخدام التعسفي للنظام القضائي الجنائي، وتوسيع مفهوم الإرهاب ليدخل تحته المدافعون عن حقوق الإنسان؛ ولقد سجلت تقارير عديدة هذه الحقيقة، لا سيما تقارير منظمة حقوق الإنسان، ووثائق الاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، والمجلس الأوروبي، والمنظمات الأوروبية المراقبة للوضع في تركيا، ومنظمة العفو الدولية.
ففي ظل حالة الطوارئ المستمرة في تركيا -التي أُعلن أنها “إجراء استثنائي مؤقت” عقب الانقلاب الفاشل في يوليو -2016 تم إهدار حقوق الإنسان، وأُفرغ الإعلام المستقل من مضمونه تمامًا. ويتم استخدام قوانين مكافحة الإرهاب، والتهم الملفقة، لاستهداف المعارضة السلمية.
يقول حقي بولطن، عضو جمعية “مبادرة الصحفيين الأحرار” التي أغلقت في نوفمبر 2016: “بالنسبة للصحفيين أصبحت تركيا زنزانة. عندما أغلقت جمعيتنا كان لدينا 400 عضو: هناك 78 منهم اليوم في السجن”.
وفي تعبيره عن مناخ الرعب والخوف الذي يسيطر على البلاد قال تشاغداش كابلان، رئيس تحرير البوابة الإخبارية الإلكترونية “غازيته كارينجه: “العمل تحت التهديد المستمر بالاعتقال والإدانة يجعل الحياة في منتهى الصعوبة، ولكن الصحافة مهنتنا. وعلينا أن نواصل. ثمة حقيقة يمكن رؤيتها بسهولة في تركيا، ولكن هناك محاولة كذلك لإخفائها عن المجتمع. وعلى أحدهم أن يتحدث عنها، وهذا ما نحاول فعله”.
وفي هذا السياق، قالت غاوري فان غوليك، نائبة مدير برنامج أوروبا في منظمة العفو الدولية: “مع اقتراب موعد الانتخابات، تحتاج تركيا إلى وسائل الإعلام الحرة اليوم أكثر من أي وقت مضى. فما برح صحفيون شجعان يواصلون عملهم في مناخ من الخوف، ويتعين على العالم أن يبيِّن للسلطات التركية أننا لن ننسى هؤلاء، أو ننسى العشرات من الصحفيين الذين يقبعون وراء القضبان. فما نشهده اليوم في تركيا، ليس سوى محاولة لاستئصال شأفة الصحافة الحرة. وقد أصبحت تركيا أكبر سجّاني العالم للصحفيين، حيث وصلت الأحكام الصادرة بحق بعضهم إلى السجن المؤبد، لا لشيء إلا لأنهم يقومون بعملهم”.
وصرحت محامية حقوق الإنسان، إرين كسكين، لمنظمة العفو الدولية قائلة: “لقد خيم جو من الخوف على المشهد الإعلامي، وأحاول التعبير عن آرائي بحرية، لكنني أدرك تمامًا أن عليّ التفكير مرتين قبل التحدث أو الكتابة”.
كما تواجه حاليًّا ما يزيد عن 140 دعوى قضائية بسبب مقالات نشرتها عندما كانت رئيس التحرير الرمزي لصحيفة “أوزغور غوندم”، ونتيجة لذلك يضطر عدد كبير من الصحفيين في الداخل التركي أو خارجه، إلى كتابة مقالاتهم أو تقاريرهم بأسماء مستعارة خوفًا على أنفسهم أو أقاربهم.
ما سبق يصور مناخ الخوف الدائم الذي يعيشه الإعلاميون والمدافعون عن حقوق الإنسان داخل تركيا، فخلال ما يقارب السنتين على إعلان حالة الطوارئ تعرض هؤلاء للاعتقال أو الاضطهاد أو التهديد، أو عرفوا أشخاصًا عديدين غيرهم ممن تعرضوا لذلك. وهم حذرون فيما يقولون أو يكتبون أو يغردون. وحقائبهم جاهزة طوال الوقت حتى لا يفاجأوا عندما يُقرع على بابهم في ساعات الفجر، وتأتي الشرطة لاقتيادهم.
أما منظماتهم فتتعرض للضغوط هي الأخرى، وبعضها قد تم إغلاقها على عجل، ما ترك أعدادًا كبيرة من الأشخاص المحتاجين إلى دعمها بلا صوت. ولم يحدث شيء من هذا بالمصادفة، وإنما هو محاولة متعمدة لتفكيك المجتمع المدني المستقل. والهدف هو إدامة مناخ الخوف كما عبر عن ذلك عثمان إيشتشي أحد المدافعين عن حقوق الإنسان إذ يقول: “…عندما تكون في حجز الشرطة، تشعر بالخوف الشديد على أسرتك. نحن جميعًا خائفون”.
لقد واجه -منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو/تموز -2016 ما يزيد عن 203.518 شخصًا تحقيقات جنائية، وربما إجراءات للمقاضاة، بينما سجن ما يزيد على 75.000 شخص في انتظار محاكمتهم. وتضم تركيا الآن أكبر عدد من الصحفيين المسجونين، حيث يقبع أكثر من 190 صحفيًّا وراء القضبان، لا لشيء إلا لقيامهم بعملهم.
أما من يصرون على مواصلة الجهر بآرائهم، والتصدي لانتهاكات حقوق الإنسان في تركيا، فيدفعون أثمانًا باهظة، وغالبًا ما تكون البداية بالتعرض لحملة تشويه على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الموالية للحكومة.
ويمكن لهؤلاء أن يتعرضوا للاعتقال في أية لحظة، ليجدوا أنفسهم في السجن طيلة شهور بتهم لا أساس لها. ويفضي مناخ الخوف هذا إلى الرقابة الذاتية، فيبدأ الناشطون بالتفكير والتردد قبل أن يجهروا بأصواتهم، لمعرفتهم بأنهم يمكن أن يمسوا وراء القضبان بجريرة ما يقولون. ومن لا زال يعمل من الصحفيين فيما تبقى من مؤسسات صحفية مستقلة أو معارضة للحكومة، يواجهون تهديدًا مستمرًّا بالقتل، أو بالاعتقال، أو بالعنف الموجه، أو بخطابات الكراهية ضدهم، أو بالحبس الاحتياطي، أو بالوضع تحت المراقبة.. كما ترفع ضدهم قضايا جنائية.
معاناة الصحفيين داخل السجون التركية
يعاني المعتقلون بصورة عامة، أوضاعًا مزرية داخل السجون التركية، فبموجب حالة الطوارئ في تركيا:
- تفرض السلطات قيودًا صارمة على اتصال السجناء مع محاميهم؛ وفي أحسن الأحوال، يُسمح للسجناء بلقاء محاميهم تحت المراقبة.
- لا يسمح لبعض السجناء باستلام الرسائل أو الكتب الآتية من الخارج.
- يُسمح فقط لأقرب الأقارب مرة في الأسبوع بزيارة السجناء، من خلال نوافذ زجاجية وعن طريق الهاتف.
- لا يسمح بتواصل السجناء مع سجناء آخرين ما عدا السجناء المحتجزين في الزنزانة ذاتها.
- هذا بالإضافة إلى الشكاوى من طول فترة الحبس الاحتياطي، والحبس الانفرادي، والتعذيب النفسي والجسدي، وعدم المراعاة الطبية لذوي الاحتياج من المرضى، وتكديس المحتجزين في عنابر لا تسعهم.
ويتعرض المعتقلون من الصحفيين في هذه السجون، إلى أنواع متعددة من التنكيل والإساءة والتعذيب والانتهاك البدني والنفسي كُشف عن بعض حالاته، وهناك حالات كثيرة لم يكشف عنها بعد، فمن هذه الحالات التي تم الكشف عنها “عائشة نور باريلداك”، وهي صحفية شابة قبض عليها في 11 أغسطس 2016 بتهمة انتمائها لجماعة إرهابية، ونسب إليها تهمة العمل في جريدة “زمان” -الجريدة التي كانت أكثر توزيعًا في تركيا قبل أن يتم إغلاقها من قبل الحكومة في يوليو 2016، كما اتهمت أيضًا بأنها تمتلك حسابًا في بنك “آسيا”، ويتابع حسابها على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” شخصية صحفية مجهولة تُدْعَى “فؤاد عوني”.
لقد تداولت وسائل الإعلام التركية حالة “عائشة نور باريلداك” لأنها أرسلت رسالة من السجن لجريدة “الجمهورية” تَشْتكي فيها من معاناتها داخل السجن؛ فقد تعرضت للضرب والتعذيب، بالإضافة لتعرضها للتحرش الجنسي، حيث قالت: “لقد تم التحقيق معي لمدة ثمانية أيام، وكان التحقيق مستمرًّا على مدار الساعة، المحققون كانوا سُكارى، أخاف أن أُنْسَى داخل الحبس”.
أما “نيلس ميلزر” المتخصص في إعداد تقارير للأمم المتحدة بشأن التعذيب، فقد أعد تقريرًا برلمانيًّا متعلقًا بالتحقيق فيما حدث في تركيا في الفترة ما بين 7 نوفمبر إلى 2 ديسمبر 2016، وجاء في تقريره ملاحظته لانتشار استخدام العنف والتعذيب في تركيا. كما ذكر أن المحبوسين من حركة الخدمة خاصة، تم حرمانهم من تقديم الشكاوى، كما أنهم قلقون من تعرض عائلاتهم وأقاربهم للضرر إذا قاموا بتقديم شكاوى بشأن تعرضهم للعنف داخل السجون، فضلاً عن قلقهم من عدم قبول شكواهم.
كما تعرض “عدنان كوماك” المحقق الصحفي بوكالة “أزاديا والت الإخبارية” الذي اعتقل في 27 سبتمبر 2016، للتعذيب من قبل الشرطة في مكان مهجور لمدة يومين، وصرح أن ضباط الشرطة الذين اعتقلوه أشعلوا النار في بطاقته الصحفية، وصبوا البلاستيك المذاب منها على رجليه.
كما ظل “إبراهيم كارايغين” المحرر السابق لجريدة “زمان” وجريدة “يني حياة” الذي اعتقل في 16 يوليو 2016، محتجزًا في مكان مجهول لفترة طويلة، حتى اضطر زملاؤه إلى نشر رسالة في منصات التواصل الاجتماعي تتضمن قلقهم الشديد على سلامته، مما اضطر السلطات في 25 أغسطس 2016 إلى التصريح بأن “إبراهيم كارايغين” معتقل حاليًّا في سجن ” سيليوري” بإسطنبول.
وفي 11 أكتوبر 2016 قدم محامو قناة “فوكس” شكوى للمحكمة بأن موكلهم (مدير التحرير) متغيب منذ فترة ولم يعثروا عليه، وهم يطالبون السلطات بالبحث عنه، ثم تبين لاحقًا أنه كان مقبوضًا عليه بتهمة الخيانة العظمى، كما أعلنت السلطات أنه كان معاقبًا “بعدم استقبال زوار”، وبسبب تعرضه للتحرش الجنسي في أثناء عملية التحقيقات تقدم محاموه بشكوى، كما قدموا اعتراضًا على معاقبته بـ”عدم استقبال زوار”.
كما تعرضت حالات كثيرة للاحتجاز لـ 30 يومًا في ظل حالة الطوارئ، وقد تعرضت حقوق هؤلاء المحتجزين للإهدار؛ فكان يتم احتجاز الصحفيين في عنابر مكتظة في قسم الشرطة بلا رعاية صحية وبلا نظافة وتغذية كافية، وكانت تتم معاملتهم على نحو غير آدمي.
ورغم أن بعض الصحفيين قد سلموا أنفسهم للشرطة عندما علموا بإعلان القبض عليهم، فقد قامت الشرطة بتكبيلهم، مما يعد انتهاكًا لقانون الإجراءات الجنائية الذي ينص على أن تقييد الأيدي يتم في حالة القبض على المجرمين الجنائيين فقط، ومن ثم فإن تقييد الأيدي يعد تعذيبًا جسديًّا ونفسيًّا للصحفيين.
أما عن شروط الحياة داخل السجون، فقد ساءت بعدما وصل عدد المحتجزين لأرقام قياسية، وأصبحت العنابر مكتظة بعدد أكثر مما تحتمله؛ فالعنابر التي تحتمل اثنين يوضع فيها أربعة وهكذا.. وما يحكيه أقارب الصحفيين المحتجزين، والنواب الذين زاروا تلك السجون، يظهر بوضوح أن المحتجزين تُفرَض عليهم قيود تعد من قبيل التعذيب النفسي داخل السجون. هذه القيود تختلف في شدتها ودرجتها من سجن لآخر، إلا أنها اكتسبت القانونية بموجب مراسيم حالة الطوارئ المعلنة في تركيا. من هذه القيود تقليص فترات الزيارة المسموحة للمحبوسين من مرة كل شهر إلى مرة كل شهرين، بالإضافة إلى منع الصحفيين من حقهم في استقبال 3 زائرين أصدقاء من غير الأقارب المقربين.
كما فُرضت قيود أيضًا فيما يتعلق باجتماع الصحفيين بمحامي الدفاع الخاص بهم، فطبقًا لقانون الإجراءات الجنائية، هذه اللقاءات تكون غير محدودة، إلا أنه في ظل حالة الطوارئ تم تقليصها لتصبح ساعة واحدة فقط خلال الأسبوع. كما أن العلاقة السرية بين محامي الدفاع وموكله التي يكفلها له القانون، تم إلغاؤها باشتراط حضور شُرطي هذا اللقاء، ويتم تسجيله بالصوت والصورة. كما يشتكي المحتجزون من قلة الكتب الموجودة، وحرمانهم من استخدام الحاسب الآلي الذي يمكن من خلاله ممارسة عملهم الكتابي من داخل السجن، أو إعداد الدفاع الخاص بهم، ويضاف إلى ذلك عدم السماح لهم بإحضار كتب داخل السجن، وليس لهم حق اختيار الكتب التي تقدمها مكتبة السجن لهم. والأدهى من ذلك، أنهم وفي ظل حالة الطوارئ ممنوعون من تلقي أو إرسال رسائل لأقاربهم. ولقد صرح نائب رئيس حزب “الشعب الجمهوري” المعارض، بأن ما يتعرض له الصحفيون المسجونون لا يعد فقط انتهاكًا لحقوقهم الأساسية، بل هو تعذيب نفسي ممنهج يمارس عليهم، أضف إلى ذلك ما يعانيه الصحفيون ذوو الأمراض المزمنة من قلة الإمكانات الصحية والتجهيزات الطبية داخل السجون.
فعلى سبيل المثال” أحمد جوك” ممثل أنقرة لمجلة “الخبز والعدل” اعتقل بتهمة عضويته في حزب “الشعب الثوري الليبرالي”، ولم يتم إطلاق سراحه رغم أنه قدم شهادة طبية معتمدة تفيد بإصابته بـ”متلازمة كورساكوف”، إلا أن ما يثير الدهشة أن وزير العدل صرح بأن السيد “أحمد جوك” لم يتم القبض عليه بتهمة متعلقة بالصحافة، بل بمشاركته في أعمال إرهابية. والحقيقة أن القانون المنظم لإجراءات السجون التركية، ينص على الإخلاء الفوري لمن يقدم شهادة طبية متعلقة بهذا المرض المزمن. كذلك “إمره سونجان” اعتقل لأنه كان يعمل محققًا صحفيًّا في جريدة “زمان” وهو يعاني من مرض خطير في كليته، وأقاربه قلقون على وضعه الصحي. كما صرح نجل الصحفي “مصطفى أونال” بأن والده تقدم بطلب للسجن لنقله إلى العيادة الطبية، لكن هذا لم يحدث إلا بعد ستة أيام من إصابته بـ”الحزام الناري”، ولم يقدم له العلاج الطبي الذي وصفه الطبيب. وكذلك “شاهين ألباي” صاحب عمود صحفي في جريدة “زمان” الذي يعاني من 11 مرضًا مزمنًا، والصحفي “علي بولاج” المصاب بالقلب والسكر، كما صرح بعض من زار الكاتب “أحمد توران ألكان” بأنه مصاب بحالة شديدة جدًّا من النحافة.
أما الصحفي “حسني محلي” الذي يعاني من ” تصلب الشرايين المتعدد” والذي تم اعتقاله في 15 ديسمبر 2016 بتهمة إهانة الرئيس، وحكم عليه بالحبس لسبع سنوات، فقد ساءت حالته بشدة ونقل لمستشفى “جَرَّاح باشا”، ثم أطلق سراحه بتاريخ 20 يناير 2017.
وفي حالات عديدة أخرى يشتكي الصحفيون المحتجزون مما يعانونه عندما يطلبون النقل للعيادة الطبية، حيث ينقلون ثم يعودون للسجن دون أن يفحصهم طبيب مختص، ويتوجب عليهم أن يقدموا طلبًا جديدًا، وينتظرون دورهم للانتقال إلى المستشفى مرة أخرى، ويُتعمد تكبيلهم بالقيود أثناء نقلهم إلى المستشفى إمعانًا في إذلالهم، حتى إن بعض الصحفيين المرضى أصبحوا لا يطلبون نقلهم للمستشفى رغم مرضهم لئلا يتعرضوا لهذا التعذيب النفسي؛ فقد صرح الصحفي “شاهين ألباي” لوفد زاره من “حزب الشعب الجمهوري” قائلاً لهم: “لقد قاموا بتقييد يديّ واقتادني شرطيان في أثناء الذهاب إلى المستشفى وقاموا بذلك لإذلالي”، وبالحديث مع عائلات بعض الصحفيين المسجونين من الشباب، تبين أن كثيرًا منهم بدأ يتناول حبوبًا مضادة للاكتئاب.
لقد دأبت السلطات التركية على إنكار ما تورده التقارير من انتهاكات في حق الصحفيين المعتقلين، بل حتى في حقيقة أعدادهم، ففضلاً عن نفي وزير العدل التركي في بيان رسمي لرواية “عائشة نور باريلداك” السالف ذكرها، تصر الحكومة على إنكار اعتقالها لأي صحفي، فقد صرح الرئيس التركي في عدة مناسبات قائلاً: “إن كل المقبوض عليهم من الصحفيين إرهابيون، ولم يقبض عليهم لأمر يتعلق بالصحافة والإعلام”، بل يذهب بعيدًا حين يقول: “لا يوجد دولة أكثر تقدمًا من تركيا في مجال الحريات”، متجاهلاً بذلك كافة تقارير وبيانات المنظمات الدولية المعنية بهذا الشأن. ودفاعًا عن الانتهاكات الواردة في التقارير الدولية يصرح الدبلوماسي التركي “أموت دنيز” للأمم المتحدة في سبتمبر 2016 بأنه لم يقبض على أحد بسبب يتعلق بالصحافة والإعلام.
وقد تبين بعد البحث أن الحكومة تقوم بنزع صفة “الصحفي” عن الصحفيين المعتقلين، وذلك بإبطال تراخيص عملهم في الإعلام، ثم تأمر بالقبض عليهم باعتبار أنهم غير صحفيين، فوزير العدل يعتبر الصحفي: هو من لديه بطاقة إعلامية وتصريح عمل نافذ. وطبقًا لمنظمة الصحفيين الأتراك، فقد قام رئيس الوزراء بإلغاء البطاقات الإعلامية لـ 870 صحفيًّا، وطبقًا لما تم استحداثه من إجراءات، فقد أصبح من حق الحكومة وحدها إصدار بطاقات الإعلامية، ولم يعد لأي من المنظمات المتخصصة الحق في ذلك.
لقد قدم النائب البرلماني عن مدينة “أضنه” في مايو 2016 طلب إحاطة برلمانية لوزير العدل التركي “بكير بوزداغ” حول عدد الصحفيين في السجون التركية، وبعد سبعة أشهر كاملة أجاب الوزير بأنه لا يوجد إلا ثلاثة صحفيين محتجزين في السجون التركية، ولكنه عاد ليجادل في أنه من الصعب إحصاء عدد الصحفيين المحتجزين في السجون التركية، وذكر أن السجناء هم من يملؤون الاستمارات المتعلقة ببياناتهم الشخصية ومن المستحيل التأكد من صدق ما يدلون به من بيانات.
وهكذا يتبين مدى تخبط الحكومة في هذا الملف وحيلها في الدفاع عن نفسها أمام المجتمع الدولي والمنظمات العالمية، ومحاولاتها تبييض وجهها بإنكار اعتقال الصحفيين والقضاء على حرية التعبير المكفولة بمواد الدستور وبالمواثيق والأعراف الدولية.
لقد أعلنت “عائشة نور أرسلان” وهي كاتبة تركية مخضرمة عرفت بتوجهها العلماني، عن توقف برنامجها التلفزيوني لِتُلفِت الانتباه إلى اعتراضها على اعتقال الصحفيين والزج بهم في السجون، خاصة بعد حبس الصحفي المشهور “حسني محلي” بتهمة إهانة الرئيس. وقد علقت على ذلك بقولها: “بخصوص الوضع الراهن في تركيا، لن أتظاهر بأن كل شيء يسير بصورة طبيعية”، مضيفة: “في بعض الأحيان يكون الصمت هو أقوى رد فعل، وأنا سأصرخ بصمتي في مواجهة ما يحدث من انتهاكات”.
لقد سمّى “دافيد كاي” الصحفي المتخصص في إعداد التقارير المتعلقة بحقوق الحريات وحرية النشر والتعبير، ما تقوم به الحكومة التركية من عمليات تطهير شامل بأنه: “انتهاك لكل معايير القانون الدولية لحقوق الإنسان”.
ولقد أعلنت الأحزاب المعارضة، أن محكمة الصلح الجزائية التي تم إنشاؤها بمشروع قانون ما هي إلا أداة تؤكد على عدم استقلالية القضاء، وتستخدمها الحكومة لتكميم أفواه المعارضين والتضييق عليهم. والحق أن كل القرارات المتعلقة بمعاقبة الصحفيين والتضييق عليهم، قد صدرت من تلك المحكمة.
ولم تقتصر الحكومة على ملاحقة الصحفيين فحسب، بل سعت خلف دور النشر والعاملين فيها، لحجب أي انتقاد قد يوجه للحكومة، فأغلب هذه المؤسسات الإعلامية ودور النشر صادرتها الحكومة واستولت عليها، واعتقلت أفرادًا من العاملين فيها ممن يمتهنون مهنًا غير إعلامية، فمن ذلك اعتقال “تحسين كوركلو” السائق ذي 60 عامًا أحد العاملين بوكالة “جيهان” الإخبارية بتهمة العمل في مؤسسة إرهابية، واتهامه بأنه السائق الخاص لـ”أكرم دومانلي” رئيس تحرير جريدة “زمان”، وفي إفادته ذكر “تحسين كوركلو” بأنه لم يعمل في حياته سائقًا لـ”أكرم دومانلي”، وكتب ذلك في صفحته على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”. كما تم اعتقال كل من “عرب توران” و”فريد توبراك” الموزعين للصحيفة، في أثناء مداهمة السلطات لـ”مؤسسة أزاديا والت” الإخبارية التي قامت السلطات بإغلاقها لاحقًا.
وكذلك تم اعتقال “شنول بوران” العامل في إدارة المقصف في جريدة “جمهوريت” في 24 ديسمبر 2016 بتهمة إهانة الرئيس، حيث وجهت له المحكمة عدة أسباب تدل على أنه قام بجريمة إهانة الرئيس، ولكن تم الإفراج عنه بعد أسبوع من تدخل محامي الجريدة اليومية.
وكذلك تم اعتقال “يعقوب شيمشاك” المشرف الفرعي على توزيع جريدة “زمان” في 6 أغسطس 2016 بتهمة “إيصال رسائل لا شعورية تشجع على القيام بالانقلاب” -والحقيقة أنه لا يوجد في القانون الجنائي التركي مادة تدل على وجود جريمة بهذا المسمى- وذلك لمشاركته في إعلان عن الجريدة أذيع في التلفاز قبل الانقلاب الفاشل بتسعة شهور، كما تم اتهام “شيمشاك” بـ”محاولته تغيير الدستور” و”إرسال رسائل للجناح العسكري لمنظمة مزعومة”.
أوضاع الصحفيين المعيشية خارج السجون
لا تقل حالة الصحفيين الذين ما زالوا خارج السجون سوءًا عن حالة نظرائهم داخلها، فقد وصل عدد المؤسسات الصحفية والإعلامية التي أغلقتها الحكومة إلى 189 مؤسسة، ومن ثم فقد لحقت البطالة كثيرًا من الصحفيين العاملين في هذه المؤسسات، حيث فَقَدَ أكثر من 30% من العاملين في مجال الصحافة والإعلام وظائفهم. بالإضافة إلى أن وضع أسمائهم في القوائم السوداء التي أعدتها الحكومة، يحرمهم من فرص العمل خارج مجال الصحافة والإعلام. والذين يتمكنون من الحصول على فرص عمل خارج مجالهم الإعلامي، فإنهم يعملون في مجالات بعيدة جدًّا عن مجال تخصصهم، ويحرمون بذلك من ممارسة عملهم الذي تمرسوا فيه لسنوات عديدة، كما تضطرهم الظروف إلى القبول بأعمال لا تحتاج إلى شهادات وخبرات، ومن ثم تصير شهاداتهم التي حصلوا عليها وخبراتهم التي يمتلكونها بلا أية قيمة.
ولم يقتصر الأمر على فقدهم وظائفهم وعملهم في مجالات بعيدة عن تخصصهم إن وجدوا عملاً، بل تعرضت ممتلكاتهم أيضًا للمصادرة، ففي الأول من ديسمبر 2016 أصدرت محكمة الصلح الجزائية قرارًا بمصادرة ممتلكات 54 شخصًا والاستيلاء على أموالهم من ضمنهم صحفيون معتقلون، وتم إعلان هذا القرار بعد أسبوع؛ أي بعد فوات فترة الطعن على القرار، وقد خرج هذا القرار قبل أن تُصدر المحكمة حكمًا نهائيًّا بحق التهم الموجهة إليهم بدعمهم الإرهاب ماليًّا، كما صدرت هذه القرارات أيضًا في حق صحفيين ما زالوا رهن التحقيقات، ولم توجه إليهم اتهامات بعد، بل إن بعضهم تمت مصادرة ممتلكاته رغم وفاته قبل صدور القرار بثلاثة أشهر ونصف؛ مثل الصحفي “زكي أونال” الكاتب صاحب العمود في جريدة زمان، وبعضهم لم تصدر بحقه أي اتهامات ومع ذلك طبقت عليه قرارات المصادرة، مثل الصحفي “إحسان داغ” الذي أطلق سراحه بعد مدة من الحبس الاحتياطي، ولم تثبت عليه أية اتهامات.
ومن المعلوم أن قرارات المصادرة هذه أثرت تأثيرًا ماديًّا ومعنويًّا كارثيًّا على حياة هؤلاء الصحفيين وحياة عائلاتهم.
الصحفيون المشردون في المنافي
خلال عام 2017 وصل عدد الصحفيين الذين يواجهون خطر القبض عليهم واحتجازهم إلى 142 صحفيًّا وإعلاميًّا، وبعضهم كان خارج البلاد بصورة طبيعية قبل 15 يوليو 2016، بينما اختبأ آخرون عند ذويهم، وقام البعض الآخر بالهرب من تركيا بطرق غير شرعية معرضين حياتهم للخطر في سبيل حريتهم. كما يوجد عدد غير قليل من هؤلاء الصحفيين ما زالوا مفقودين.
وبالحديث مع بعض هؤلاء الصحفيين، وجد أنهم يواجهون معاناة من نوع آخر، ويعانون كثيرًا من الصعاب، فهم يخاطرون بسلامتهم الشخصية، كما أن الإعلام الموالي للدولة يستهدفهم، ويوجه لهم الاتهامات المختلفة فيتعرضون للتهديد، لا سيما من قبل المؤسسات الموالية للحكومة وللحزب الحاكم.
أما الذين استطاعوا الهروب خارج تركيا من الصحفيين فيؤكدون أن الدولة التركية تجمع عنهم معلومات وتجهز بحقهم ملفات، وتحرض عليهم مجموعات من الموالين لها في الخارج؛ فمن ذلك ما تعرض له الصحفي “جان دوندار” الذي صدر بحقه مذكرة اعتقال إجباري، خلال مشاركته في ندوة عقدت في زيورخ بسويسرا، حيث هاجم “مراد شاهين” رئيس منظمة “الاتحاد الأوروبي التركي الديمقراطي” وهي منظمة موالية لأردوغان، “جان دوندار” في هذه الندوة قائلاً: “الأتراك يعرفون من أنت، أنت خائن حقير”، وتلا ذلك اضطراب وشغب مما دعا الحراس إلى تأمين خروج “دوندار” سالمًا. وكان “دوندار” قد تعرض لتهديدات كثيرة حتى من الرئيس أردوغان شخصيًّا، حين صرح الأخير موجهًا خطابه لـ”دوندار” قائلاً: “سوف يدفع ثمن التحقيقات الصحفية التي كتبها غاليًا، ولن أتركه يفلت دون عقاب”. والتحقيق الصحفي الذي يتحدث عنه هنا أردوغان، هو تحقيق أثبت فيه “دوندار” أن الحكومة التركية تُسلِّح الجماعات الإرهابية في سوريا. وفي السياق ذاته صرَّح في برنامج تلفزيوني “جام كوجوك” أحد أبرز الصحفيين الموالين لأردوغان قائلاً: “على المخابرات العامة أن تقوم بقتل وتصفية دوندار”، ثم عقب لاحقًا على استقبال الرئيس الألماني لـ”دوندار” بالقول: “هو كلب ألمانيا”، وقبل إجباره على مغادرة البلاد، كان “دوندار” قد تعرض لمحاولة اغتيال أمام “محكمة تشاغلايان” وذلك في 6 مايو 2016.
والشيء ذاته حدث مع “عبد الله بوزكورت” الذي كان يعمل صحفيًّا بجريدة ” تودايز زمان”، فقد تم استهدافه من قبل الإعلام الموالي لأردوغان صبيحة اغتيال السفير الروسي في أنقرة 19 ديسمبر 2016، حيث ادعى الإعلام الموالي للحكومة أن من قام باغتيال السفير الروسي كان متواجدًا مع “بوزكورت” في شقته، وهو ما نفاه بشدة مؤكدًا أنه لا تربطه أية علاقة لا بالشخص ولا بالمكان الذي يدَّعي الإعلام الموالي لأردوغان أنه التقى فيه بالقاتل، ولكن دون جدوى، فقد ظل الإعلام الموالي لأردوغان يؤكد على ربط قاتل السفير بـ”بوزكورت”، ثم داهمت الشرطة في 23 ديسمبر بيت والدته في مدينة “بانديرما” واعتقلوا والدته السيدة ذات 79 عامًا ليتم التحقيق معها.
ولقد أكد “بوزكورت” في حوار صحفي له، بأن سبب استهداف الحكومة له بالذات، هو اشتغاله على تقارير وتحقيقات صحفية تثبت أن الحكومة تتعامل بتساهل مع الجماعات المتشددة والإرهابية.
وفي سبتمبر 2016 نشرت جريدة “صباح” الموالية لأردوغان، تقريرًا عن أماكن تواجد الصحفيين في الخارج مع التوثيق بالصور لحياتهم الخاصة، وعقب نشر ذلك التقرير تلقى هؤلاء الصحفيون تهديدات بالقتل، ومنهم الصحفي “آدم ياووز أرسلان”، الذي صرح بأنه لم يصدر بشأنه مذكرة اعتقال، وأن مكان تواجده في أمريكا تعرفه السفارة التركية منذ سنتين ونصف، لكن هجوم جريدة “صباح” لم يتوقف لا سيما ضد الصحفي “آدم ياووز أرسلان”، فقد هاجمته الجريدة في مقال لها صدر في فبراير 2018.
كما اعتقلت الشرطة ربة المنزل “هاجر كوروجو” دون أن يصدر بحقها مذكرة اعتقال، بدلاً من زوجها الذي كان يعمل رئيسًا لتحرير جريدة “يارينا باكيش”، وذلك بعدما داهموا المنزل ولم يعثروا عليه فيه، وعندما طالبوها بالاتصال به وأبلغتهم أنها لا تعرف شيئًا عنه، تم تحويل مذكرة الاعتقال باسمها بقرار من وكيل النيابة الذي أجبر الشرطة على اعتقالها.
ويروي شهود الحادث ما قالته الشرطة لنجل “كوروجو”، حيث قالوا له: “في المرة القادمة سنعتقلك أنت”، كما تم تحديد إقامتها لـعشرة أيام قبل عملية القبض عليها في 9 أغسطس 2016.
أما “بولنت كنش” الذي كان يعمل رئيسًا لتحرير جريدة “تودايز زمان”، فقد صدرت بحقه مذكرات اعتقال عديدة، وعندما لم تعثر عليه الشرطة في منزله قبضت على أخيه “لونت كنش” مدرس الفيزياء الذي كان متواجدًا في المنزل أثناء عملية المداهمة. وقد صرحت الصحافة الموالية للحكومة -وكالة الأناضول المملوكة للدولة- بأن السلطات وجدت “لونت كنش” في بيت أخيه فقبضت عليه، وقد كان هذا في شهر أغسطس، إلا أن مذكرة الاتهام بحقه لم تصدر إلا في شهر ديسمبر 2016، ولا زال ينتظر أن تحال قضيته إلى المحكمة.
وفي مشهد آخر من المعاناة يتم حرمان هؤلاء من حقوقهم كمواطنين أتراك، حيث تقوم القنصليات والسفارات التركية العاملة في تلك البلاد التي فروا إليها بإلغاء جوازاتهم أو مصادرتها، كما تحرمهم من حق تجديد جوازات سفرهم المنتهية، ولا تسجل مواليدهم الجديدة، ولا تجري معهم أية معاملة. ومن ناحية أخرى فإنهم يعانون من عدم استقرار وضعهم القانوني في البلاد المضيفة، وأغلبهم ينتظرون قرارًا بقبول الالتجاء وليس لديهم تصريح عمل، وعليهم أن يسكنوا في المخيمات. وبعض هؤلاء الصحفيين مضطرون أن يخفوا أنفسهم حتى في البلاد التي لجأوا إليها خوفًا على سلامتهم، وبعضهم تركوا أفرادًا من عائلاتهم في تركيا، ويعيشون حالة يرثى لها من التشتت الأسري. أما أحوالهم المعيشية فقد رصد التقرير من خلال حوارات مباشرة أجريت مع بعضهم أنهم يعانون من ضائقة مالية، ويعيشون على المساعدات المادية التي يتلقونها من أقاربهم وأصدقائهم، إذ إنهم يجدون صعوبة في إيجاد عمل في البلاد التي لجأوا إليها، بسبب عدم استطاعتهم الحصول على رخصة للعمل فضلاً عن أن يجدوا أعمالاً تناسب تخصصاتهم.
هذه نماذج من الضغوط والتهديدات التي يتعرض لها الصحفيون الذين اضطرتهم ظروف القمع والاضطهاد إلى السفر للخارج في أنفسهم وعائلاتهم، وهم كذلك في الوقت ذاته محرومون من إيصال صوتهم لمن يهمه الأمر في تركيا، حيث قامت الحكومة بحجب كل حساباتهم الشخصية على “تويتر” و”فيس بوك” و”اليوتيوب”، وهكذا منعوا من حق الرد على الاتهامات الموجهة ضدهم.
الخاتمة
إن الدستور التركي يكفل حرية التعبير؛ حيث تنص المادة 25 منه على الآتي: “كل شخص له كامل الحرية في التعبير عن آرائه واعتقاداته، ولا يجب على أي أحد أن يخفي آراءه لأي سبب كان، كما لا يصح أن يُلام الشخص أو يوجه له اتهام بسبب رأيه”. ونص المادة 26 يأتي في نفس السياق أيضًا، حيث تنص على أن: “لكل شخص الحرية الكاملة في التعبير عن فكره ورأيه سواء بالخطاب أو بالكتابة أو بالتصوير أو بأي وسيلة إعلام أخرى. وهذا الحق يشمل أيضًا حرية تلقي ونشر المعلومات دون وصاية من السلطات، ولا يجوز تقييد الأمر بأي نوع من أنواع التصريحات الحكومية سواء للراديو أو للتلفاز أو للسينما أو أي نظام إعلامي آخر، بل يكفي الإعلان عنها لتصبح قانونية”. هذا ما أكده وصدق عليه كل من المؤتمر الأوروبي لحقوق الإنسان والميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وتركيا كدولة تعهدت بتقديم ضمانات بشأن حرية الاعتقاد وحرية التعبير.
لقد عبر المجتمع الدولي في أكثر من مناسبة ومن خلال منظمات دولية عديدة، عن قلقه من تردي وضع الحريات الأساسية في تركيا، لا سيما ما يتعلق بحرية الصحافة والنشر، مثل تقرير الأمم المتحدة الصادر مؤخرًا في مارس 2018 بعنوان: “التأثير السلبي لاستمرار حالة الطوارئ على وضع حقوق الإنسان في تركيا خلال عام 2017″، وكذلك تقرير الاتحاد الأوروبي عن تركيا الصادر في أبريل 2018، وتقرير منظمة العفو الدولية المتعلق بحقوق الإنسان وحريات التعبير في تركيا 2017/2018 والموقع عليه من قبل المنظمات الآتية: هيومن رايتس ووتش(HRW)، ومنظمة القلم العالمية(PEN International)، وجمعية الصحافيين الأوروبيين(EJA)، والصحافيون الكنديون من أجل حرية التعبير(CJFE)، ولجنة حماية الصحافيين(CPJ)، ومنظمة القلم الدانماركية(Danish PE)، ومنظمة القلم الإنجليزية(English PEN)، وشبكة الصحافة الأخلاقية(EJN)، والمركز الأوروبي لحرية الصحافة والإعلام(ECPMF)، والفيدرالية الأوروبية للصحافيين والمحاكمات العادلة(IFJ/EFJ)، ومنظمة القلم الألمانية(PEN Centre Germany)، وشبكة المحررين العالمية(GEN)، ومؤشر الرقابة ودعم الإعلام الدولي(Indexoncensorship).
على المجتمع الدولي أن يظل يناشد حكومة أردوغان الالتزام بالمواثيق والعهود الدولية التي وقعت عليها، وأن تحترم الدستور التركي وتتمسك بالقانون وبتأمين الحريات الأساسية للمواطنين مثل حرية التعبير والنشر، وأن تقوم بإطلاق سراح المسجونين من الصحفيين. وعلى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والكيانات الدولية الصديقة، أن تتدخل بجهود ملموسة لإطلاق سراح الصحفيين المسجونين. وعلى المنظمات الدولية المحلية والعالمية المهتمة بالحقوق والحريات -وانطلاقًا من مسؤولياتها- أن توحد صفوفها لتمارس نوعًا من الضغط على الحكومة التركية والإعلام الموالي لها.
كما يناشد معدو التقرير الدول التي لجأ إليها هؤلاء الصحفيون، بأن يوفروا لهم تصاريح عمل ليستطيعوا من خلالها ممارسة عملهم الصحفي والتعبير عن هذه التجاوزات، وكذلك على هذه الدول حمايتهم من التهديدات التي يتعرضون لها.