تُعدُّ أكثر إنجازات كولن تميزًا، أنه لم يحدث قط أن تخلَّى عن وظيفته الدعوية الخاصة في أنشطته كلها، وقيامه بمد يد العون إلى نشطاء كثيرين ممن نذروا أنفسهم لأعمال الخير المجتمعي والتنوير الثقافي؛ أما بعض الجماعات الدينية الأخرى فالظاهر أنها جماعات شعائر، تتجاهل مسؤولياتها تجاه المجتمع عمومًا وتجاه شركاء الوطن خصوصًا، وهذا يبين أن من أخطر مشكلات التفسير التقليدي للإسلام أنه يُعنَى بجوانب صوريّة للشعائر الإسلامية على حساب القيم الداخلية والأهداف التي من أجلها تقام هذه الشعائر؛ ويزعم منتقدو الإسلام أن المسلم الملتزم بدينه يفقد اهتمامه كليًّا ببناء مجتمع إنساني رحيم، ويرى آخرون نقيض ذلك، أي الفعالية الإسلامية عندهم تنتج راديكاليين في السياسية، وكلا الرأيين لا يصح إلا في بعض الصوفية اسمًا ممن لا يبالون بمعاناة الآخرين، وفي النشطاء السياسيين في عدة مجتمعات إسلامية تراهم مشغولين بقضايا الدين ولا يبالون باحتياجات غيرهم الاجتماعية والاقتصادية.

الجهود الجماعية المخلصة وحدها القادرة على أن تجعل من الإسهامات الفردية في أي مجال من مجالات العلوم والتربية إسهامات ثرية نافعة للآخرين ولكل الكيانات المحيطة بها.

الموازنة بين الروح والمادة

وهنا يوضح كولن مبادئ الإسلام بطريقة تبصر كل فرد بدوره في بناء مجتمع يسود فيه الحب ويتعايش فيه البشر لتحقيق غايات أكبر بالتضحية والإيثار، وهذه ليست مهمة سهلة في مجتمع يهتم كل فرد فيه بمكاسبه المادية فقط؛ فراح كولن يبين بلا كلل ولا ملل أن على المسلم أن يتبع أسلوبًا إسلاميًّا في حياته ولو في الرخاء المادي فقط، وأن المرء بحاجة إلى إشعال نور الإيمان في قلبه وروحه ليوازن بين طموحاته المادية وأهدافه الروحية؛ ورأى ياووز في دراسته لفكر كولن ما يلي:

“مما يوعَظ به المسلمون دائمًا أن البعد عن الذنوب وحده لا يكفي، وإنما على المسلم مخالطة المجتمع، والعمل على بناء عالم أكثر إنسانية، فالنجاة لا تعني “الخلاص” من الذنوب فحسب، بل أن تكون مشاركًا بشكل فعال في تطوير العالم للأفضل، ويرى كولن أن الوعي الأخلاقي بالثقافات الأخرى لا يمكن رقيه إلا المشاركة الفعلية، فلن يستطيع المرء بلوغ الكمالات الأخلاقية إلا بالسلوك الأخلاقي الواعي”.

بلور كولن أفكارًا ومفاهيم جديدة حول مبادئ الإسلام تدعو الناس عامّة والمسلمين خاصّة إلى استكشاف الفروق الدقيقة بين المادّية المتطرفة والروحانية المعطلة.

وترك المشاركة في المحرمات واجب على كل مسلم مكلف، ولكن هب أن النظام المجتمعي والرسمي لدولة ما يقوم على الرأسمالية الواسعة أو الشيوعية المتطرفة أو الاستهلاكية الموحشة، فمن الصعب أن يتجنب المرء المشاركة في الأنشطة المحرمة دائمًا، فالغالبية العظمى من المسلمين إما هجروا ما يسمى بالمبادئ والقيم الإسلامية المتزمتة، وإمّا تبنوا موقفًا تشاؤميًّا منها لشغفهم بعملية البناء القومي والأنشطة المبتكرة للسعي وراء الاكتشافات العلمية والاستخدام المبتكر للآفاق التكنولوجية الواسعة.

رؤية تجديدية

بلور كولن أفكارًا ومفاهيم جديدة حول مبادئ الإسلام تدعو الناس عامّة والمسلمين خاصّة إلى استكشاف الفروق الدقيقة بين المادّية المتطرفة والروحانية المعطلة؛ فالحياة الدنيا بتعريف الإسلام مزرعة للمسلم، يجمع فيها المسلم رأسماله الجديد ليستثمره في الدار الآخرة، وطريق النجاة الروحي ذاتيّ بطبعه، أمّا زراعة الأرض وإنفاق المال للآخرة فهو جهد جماعيّ يعزز الإيمان في كل مرحلة من مراحله.

بيَّن كولن أن المسلم بحاجة إلى إشعال نور الإيمان في قلبه وروحه ليوازن بين طموحاته المادية وأهدافه الروحية.

يرى كولن كذلك أن الكونَ كتاب مفتوح، ولكلِّ فرد أن يحدد ماهيته وفق إرادته وطاقته وظروفه، لكن لا أحدَ يقدِر أن يضيف بعدًا جديدًا لهذا دون مساعدة نشطة كريمة من الآخرين؛ فالجهود الجماعية المخلصة هي وحدها القادرة على أن تجعل من الإسهامات الفردية في أي مجال من مجالات العلوم والتربية إسهامات ثرية نافعة للآخرين ولكل الكيانات المحيطة بها.

وفي الوقت الذي تميل فيه قوى المؤسسات الإسلامية التقليدية إلى العمل على بقاء الوضع القائم كما هو، ويعد مثل هذا الموقف المحافظ خطرًا كبيرًا على شرائح مُعدمة وأقل حظًّا في أي مجتمع كان؛ صحيح أنه لا بدّ أن يكون المرء ثوريًّا ليعارض مثل هذه الأفكار الدينية الخاطئة الشائنة، غير أن كولن حافظ على وجوده في حظيرة الدوائر الدينية التقليدية، ونشر أفكاره عن التغيير الاجتماعي بالتفوق التربوي لبناء صرحٍ فكري جديد في الوعي الإسلامي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: مايمول أحسن خان، فتح اله كولن الرؤية والتأثير تجربة فاعلة في المجتمع المدني، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2015م، صـ143/ 144.

ملاحظة: العناوين الجانبية من تصرف محرر الموقع.