قال سعيد بن سلم الباهلي: “صلى بنا الخليفة العباسي الهادي صلاة الغداة، فقرأ: سورة النبأ، فلما بلغ قوله تعالى: “أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ مِهَادًا” (سورة النبأ:6) أُرتجَ عليه فرددها، ولم يتجاسر أحد أن يفتح عليه لهيبته، وكان أهيب الناس، فعلم ذلك فقرأ: “أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ” (سورة هود: 11)، ففتحنا عليه”
أحيانًا تستوقفكم عبارة معينة فيذكرها لسانكم تكرارًا ومرارًا، وأما أنا فأكرر في هذه الأيام الآية التالية:
“أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ”
فبينما يهجمون على المؤسسات التعليمية، وينهبون أموال الناس الحلال، ويصفون المنح الدراسية والأضحيات التي قدمها رجال الخير من رأسمالهم لاستخدامها في أعمال الخير وبناء المؤسسات التعليمية بغية تربية أجيال المستقبل، والتي كان أصحاب السلطة الحاكمة يقدمونها أيضًا في الأيام الخوالي، إنهم يفعلون كل ذلك بوصمة “دعم الإرهاب!”، ويصرخ أحد مدرّسي “مادة الدين” الذي يبلغ من العمر 56 عامًا، والذي لم يؤذ في حياته حتى نملة قائلاً: “إنهم اعتقلوني بتهمة الإرهاب، رغم أنني لا أقدم حتى السكين لزوجتي في المنزل مبرزًا طرفه الحادّ خشية أن أثير لديها الخوفَ والهلع! بمعنى أنك تستيقظ يومًا فتجد نفسك قد أصبحت إرهابيًّا! لكك لا تعرف شيئًا عن الإرهاب.. لا يمكنني أن أكون إرهابيًّا، فأنا عاجز عن ممارسة الإرهاب بواقع فطرتي”.
وعندما ينتهكون حقوق الأيتام ويبعدون أناسًا عن وظائفهم رغم عيالهم، ويقتلون الأبرياء، ويداهمون المنازل منتصف الليل فإنهم بذلك يتركون الشيوخ الركع والأطفال الرضع بلا معيل ولا نصير..
أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يوصي بالحق والعدل؟!
طالما أننا متّفقون جميعًا على أن الذين لا يوصون بالحق في خسران وضلال مبين… ألن تقولوا في وجه هؤلاء الظلمة: “إن هذا كذبٌ وافتراء لا تقولوه”، هذا افتراء لا تقبلوا عليه”، “هذا ظلم لا ترتكبوه”، “لا تتعدّوا الحدود”.
طالما أننا متّفقون جميعًا على أن الذين لا يوصون بالحق في خسران وضلال مبين… ألن تقولوا في وجه هؤلاء الظلمة: “إن هذا كذبٌ وافتراء لا تقولوه”.
متى تخليتم عن توصية الظالم بالعدل، والعادلِ بالرحمة، فرُحْتم تقولون للمظلومين “الوضع ليس كما تعتقدون، أنكروا انتماءكم إلى حركة الخدمة، وإلا سيحِلّ الدور عليكم كذلك”!! واعتبرتم قول هذا من ضروب التوصية بالحق؟
تذكروا إذ يقول جلال الدين الرومي:
“إن لم ترَ الأفعى إنسانًا أربعين عامًا تنقلب تنّينًا”، بمعنى أن الأفعى إن لم تُخْرِج السمّ الكامن في جوفها من خلال لدغ شخصٍ ما لمدة طويلة ستتحول إلى وحشٍ”؛ وكذلك إذا لم يستطع الإنسان تزكية نفسه بالخير يتحول كيانه تمامًا إلى شرٍّ محض مثل هذه الأفعى، فهل أنتم تركتم من كانوا ينصحونكم بالخير فأصبحتم لا تنصحون بالخير أبدًا؟
يقول الإمام أبو حامد الغزالي (ت: 505هـ/1111م):
“وَقَالَ فتح الموصلي رحمه الله أَلَيْسَ الْمَرِيضُ إِذَا مُنِعَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ والدَّوَاءَ يَمُوتُ، قَالُوا: بَلَى! قَالَ: كَذَلِكَ الْقَلْبُ إِذَا مُنِعَ عَنْهُ الْحِكْمَةُ وَالْعِلْمُ ثَلاثَةُ أيِّامٍ يَمُوتُ، وَلَقَدْ صَدَقَ فَإِنَّ غِذَاءَ الْجَسَدِ الطَّعَامُ وَمَنْ فَقَدَ الْعِلْمَ فَقَلْبُهُ مَرِيضٌ وَمَوتُهُ لَازِمٌ وَلَكِنَّهُ لَا يشعر به إذ به حبّ الدنيا وشغلُه بها أبطل إحساسه..” هل سكوتكم عن هذا الكمّ الهائل من الجور والظلم نابعٌ عن خلوّكم حتى من خردل من هذا العلم والعرفان والحكمة؟
وكذلك يقول الإمام الرباني أحمد الفاروقي السرهندي (1564- 1624م):
“لا تدفعوا الجهلاء ليطيلوا ألسنتهم إلى العظماء والكبار”، هل باتت ألسنتكم لا تستطيع النطق بالخير والتعبيرَ عن الحق لأنكم حرّضتم الجهلاء على إطالة ألسنتهم إلى العظماء والكبار، فغدوتم تصفّقون وتجللون من يوصون بالشر وتضعونهم على رؤوسكم؟ بالله عليكم ماذا حدث وحلّ بكم
“أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ”
تعرفون الرجل المؤمنون من “آل فرعون” وهو نموذج لشخصية معينة.. إنه” “رجل عاقل حكيم” بين الذين تجاوزوا حدودهم…إنه بطل حقيقي استعاذ بالله وأوصى بالحق في أوساط من ركعوا وخضعوا لقوة السلطة وانبهرت عيونهم بسحرها الجذاب..
قصة هذا الرجل لا ترِدُ في التلمود ولا التوراة، وإنما هي هبة القرآن الكريم لتاريخ الإنسانية أخرجها من قبر التاريخ ليحفرها ويخلّدها في الأذهان.. وعلى وجه الخصوص في أذهاننا نحن المسلمين.. لذلك سأعيد ذكرها كي تكون ذكرى وعبرة لقلوبنا مرة أخرى”:
“وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ۖ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ*يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا ۚ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ” (سورة غافر: 28/ 29)
وبينما كان فرعون يخطط لقتل سيدنا موسى عليه السلام وقومه، أخرج الله أمامه ذلك البطل من قصره وعائلته ورجاله.. يبدو أن هذا البيان الذي يدعو الناس إلى الاعتدال والاتزان لم يؤثر في فرعون، غير أن رسالة الصدع بالحق والنطق بالصدق لهي تنطوي على قيمة كبرى عند الله سبحانه وتعالى بحيث سمى هذه السورة المباركة ب”سورة المؤمن/ غفر) إضافة إلى ذلك البطل المجهول.
اعتقلوني بتهمة الإرهاب، رغم أنني لا أقدم حتى السكين لزوجتي في المنزل مبرزًا طرفه الحادّ خشية أن أثير لديها الخوفَ والهلع.
إذا أمعنتم النظر وأعملتم الفكر فسترون أن هذا البطل يفضّل استخدام لغة محايدة بعيدًا عن العاطفية، فيؤكد ضرورة تفكير الناس في احتمالية نزول بعضٍ من المصائب التي يعد بها موسى عليه السلام لهم ويحذرهم منها، يخاطبهم قائلاً: “تتهمون إنسانًا بالكذب وأنتم تعلمون صدقه، فلا يمكن أن يجتمع هذان الوصفان المضادان في شخص واحد، نظرًا لاستحالة جمع الضدين، ولو كان موسى –حاشاه- كاذبًا، لما أيّده الله عز وجلّ بالآيات والبراهين، وإن يكُ كاذبًا حقًّا فلا موقع ولا مكانة له في المجتمع بلا شكّ، فلا داعي لخوفكم، وإن يكُ صادقًا فأنتم كذابون سفّاكون للدماء، ولن يوفقكم الله في تحقيق أهدافكم المشؤومة، بل ستعود كل مخططاتكم وبالاً عليكم”.. ثم يدعو قومه إلى الخير وإن اتفقوا على الشرّ قائلاً: “يا قوم”.
والآن أعود وأسائلكم مرة أخرى:
أليس بينكم رجل مؤمن مثل مؤمن آل فرعون ليقول هذه الجملة القرآنية من جديد:
“يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا ۚ”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ