الغربة إحساس مؤلم تتوق النفس للخلاص منه.. ويتصاغر الألم ها هنا إذا جمعتك الغربة مع آخرين يؤنسون وحشتك ويكونون لك عونًا.. ولكن ستبقى الغربة غربة؛ حتى يجعلك القدر مع الذين اغتربوا عن الدنيا ولهوها، وعن شهواتها وبريقها.. فعندها تخشع الروح ويسكن أوراد الاغتراب. فأنت مع الفئة المؤمنة الذين اغتربت أشواقهم عن الدنو وارتقوا التلال الزمردية، فانتصرت عندهم الروح وأشرقت، وسلكوا طريقًا ينشدون فيه: “لعلنا نبعث من جديد”.. فأقاموا صرح الروح المتهالكة، وشيّدوا حضارتهم المنسية بعد أن أرْسَوا لها الموازين ليثبت البنيان، وأناروا طرق الإرشاد وسبله بأضواء القرآن المنير وسنا النور الخالد، لتكون عودة الفرسان بداية الأمل لمنهج الغرباء في الإصلاح.. عندها إن كنت معهم -مع المصلحين- ولو للحظة، أو نظرة، أو دفعة، أو بسمة، فلن تكون غريبًا أبدًا.. فالغربة أن لا تكون مع المصلحين، وأن لا تعرفهم ولا يعرفونك.
فإذا عرفوك فليس بعد هذا الجمال جمال.. وأبهى الجمال أن يجعلك الله تعالى مع أهل جمال القلوب والأرواح، مع الأئمة الهداة المصلحين.
لماذا لا نعامل الناس ونخاطبهم بأخلاق ديننا، لا بأهوائنا ونفوسنا وسياستنا الرعناء السقيمة؟
لحظات ولا أجمل ولا أرقى ولا أحلى ولا أنقى، أن تكون على بساط واحد، وفي فضاء واحد مع المصلحين.. تختلط الأنفاس وتتشابك الألحاظ، وتتبادل القلوب الأدوار.. تدمع العيون.. تبسم الشفاه..ترجف الأفئدة.. ولكن، أنّى للأيام أن تتوقف ها هنا؟! وكم يتمنى المرء عندها أن يتوقف الزمان أو أن يتوقف القلب عن الخفقان.. فأنت مع المصلحين.
والمصلح هو من يتصدى لظاهرة خاطئة في المجتمع، ويقوم بإصلاحها وفقًا لنظرة شرعية أو علمية أو عقلية سليمة.. والمجتمعات لا ترتقي وتنمو، إلا بالمصلحين. والله سبحانه وتعالى يرفع العذاب عن أمة إذا كان أهلها مصلحين.
والإصلاح لا يكون في الأمور الدينية فقط، وإنما في المنظومة التعليمية والعلمية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية وغير ذلك.
ولقد جاء زمن الأنبياء وولّى، فلا نبي بعد خاتم الأنبياء عليهم السلام، فعندما نتكلم عن إمام أو مصلح، ونثني عليه وعلى جهده وفكره، فنحن جميعًا نعلم أنه لن يكون نبيًّا أو يجاريه، بل هو يفخر أن يكون شعرة على جسد نبي.والمدرسة الإصلاحية التي حث على تأسيسها الأستاذ فتح الله كولن، هي نموذج يحتذى في هذا العصر وما بعده. الأستاذ كولن، أعاد للمدرسة والعملية التربوية منهجها الإصلاحي، من خلال دورها الإيجابي والتربوي الاجتماعي والريادي، بعد أن غفل عنها المسلمون لقرون طويلة، وتوجهوا نحو المسجد الذي فقد دوره الحقيقي أيضًا أو كاد في أن يكون مدرسة وجامعة ودار رأي وقرار.
المجتمعات لا ترتقي وتنمو، إلا بالمصلحين. والله سبحانه وتعالى يرفع العذاب عن أمة إذا كان أهلها مصلحين.
وفي أسفارنا حيث حط بنا الرحال في الغرب، وتساءلنا عن السبب في إقبال الناس على مدارس الخدمة، أجابنا بعض المسلمين الذين أفنوا شبابهم وأعمارهم هناك بجواب كنت أعلمه في يقيني وقلبي وروحي، ولكن لم يسبق لي أن سمعته من أحد.. “عندما نرسل أبناءنا إلى المدارس العامة فإنهم يحصلون علمًا وخيرًا، ويجنون ثراء في المنظومة الدنيوية للعلوم المختلفة، ولكنهم بالتالي سيحصدون خسارة رهيبة مرعبة في دينهم وأخلاقهم. وإن نحن أرسلناهم إلى مدارس خاصة (إسلامية)، فإنهم سينهلون الكمّ الوفير من منظومة دينية وأخلاقية هي الأنقى والأرقى، ولكنهم سيفقدون علمًا وعلومًا على غاية من الأهمية والضرورة.. حتى كانت الخدمة بيننا بمدارسها ومراكزها”، تكوين علمي دقيق يواكب أعلى المستويات في أرقى المدارس العالمية، بل وينافسها من خلال النشاطات والمسابقات العالمية المعتبرة، إضافة إلى بذر بذرة الانتماء لمنظومة إيمانية نقية وأخلاقية راقية.. فكان نتاج هذا كله أن أسست لجيل سينبعث من جديد ليحمل الراية، ويسعى للهدف ويحقق الآمال.. هو جيل البعث والإشراق الذي عشنا معه أوقاتنا من السعادة والانبهار في أفريقيا وأدغالها، وأوروبا وسحرها، وأمريكا وحضارتها. لذلك هم شدوا الرحال لغاية سامية، وأعلنوا أنهم سيمضوا في مسيرتهم نحو عالمهم المنشود، ويسيرون على الدرب يعلنونها بصوت رخيم جميل.
على الدرب سائرون، ونحو عالمنا المنشود بفضل الله ماضون.. والعلم كالإيمان عندنا، والعبادة قرينة الفكر، والأخذ بالأسباب أجنحة التوكل، والأمل طاقة للحركة، والصبر رفيق الدرب.
على الدرب سائرون، نبحث عن جيل مستنير مشرق يَعِدُ الدنيا بالجديد، نصطنعه لرسالتنا من بين عصر وهن أهله وصار غثاء.
نعم، هذا نداؤهم وشعارهم، وتلك هي رايتهم وأمانيهم يبثونها على لسان أستاذهم وكلماته.. “سنمضي في مسيرتنا نحو عالمنا المنشود”.
المصلح من يتصدى لظاهرة خاطئة في المجتمع، ويقوم بإصلاحها وفقًا لنظرة شرعية أو علمية أو عقلية سليمة.
عملوا بصمت.. وساروا بتؤدة.. فرسان النهار، رهبان الليل والعتمات. جهروا بهمس، وأسرعوا بتؤدة، وابتسموا بدمع، ونظروا بأدب.. حملوا لهم من غير أن يشتكوا.. وبذلوا أموالهم من غير أن يستجدوا..وعاشوا النعم والنعم سواء.. أُوذوا ولم يؤذوا.. أعطوا ولم يأخذوا.. سهروا وما ناموا.. عشقوا وطنهم ولأجل الرسالة تركوه.. ولأجل غيرهم تركوا أبناءهم وفلذات أكبادهم مع حبهم الدفين وشوقهم وحنينهم لهم في كل حين.. فلصلاح غيرهم كانوا مصلحين، فحفظ الله ذراريهم، وكانوا معهم من المحسنين.
هذا هو الطريق.. طريق الإصلاح والمصلحين.. فإذا وهن الناس في زمان وتكالبت عليهم أفكارهم ومصالحهم إلى جانب عدوهم، عليهم اتباع سبيل المصلحين الذين شهدت لهم أعمالهم وعرفناهم بثمارهم ونتاجهم.
وعلى المنصفين المؤمنين الذين يخشون يومًا سينادى فيه: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ)(الصافات:24)، أن يقفوا وقفة الإيمان والوفاء مع أهل الإيمان من المصلحين.. فإنهم مسؤولون عن كل مظلمة أو افتراء أو تعطيل أو حتى إعراض عن سبيلهم. فإلى المنصفين أوجّه النداء.. إلى الصادقين أرسل خطابي.. كونوا مع المصلحين لأجلكم ولأجل أبنائكم والآخرين.. فهذا طريق الإصلاح لا يحتاج إلى تكليف، وإنما يحتاج إلى الصدق.
آن الأوان أن يقف الجميع مع إيمانهم وضمائرهم، ويحكّموها قبل أن تحكم عليهم يومًا في محكمة قاضيها رب العالمين.
آن الأوان أن نتوجه بالخطاب نحو السفهاء والمستهزئين والمتجبرين، حتى لا يظلم الدين معهم.فلماذا يتكلم باسمنا اليوم وباسم ديننا أصحاب الرعونة الفارغة، وأصحاب البطولات الكاذبة؟
أبهى الجمال أن يجعلك الله تعالى مع أهل جمال القلوب والأرواح، مع الأئمة الهداة المصلحين.
لماذا لا نعامل الناس ونخاطبهم بأخلاق ديننا، لا بأهوائنا ونفوسنا وسياستنا الرعناء السقيمة؟
أليس هذا الذي يجمعنا؛ كتابنا؟ قرآننا؟ دستورنا؟ نورنا؟ ألا نخشى أن تعاتبنا الإنسانية جمعاء يومًا؟ ألا تغشانا الرهبة أن تشكونا البشرية يومًا إلى الله؟ لأننا ظلمناهم وأغمضنا عيوننا عن أنوار المصلحين وأشواقهم؟
آن الأوان أن ينتبه الدعاة والأئمة والمفكرون والمثقفون، ويتوجهوا مع المصلحين الصادقين العاملين يدًا بيد، لبناء ما هدمه الآخرون.