إن سيرة أهل الكهف إيعاز للأتباع بما ينبغي أن يكونوا عليه من استعداد روحي وتجرد من الحياة في سبيل خدمة الإيمان ، وللكهف في شعور المسلم معنى الهجرة؛ إذ إن الباعث إلى مساكنة الكهف هو الرفضُ والإدانة، واختيار المبدأ، وعدم المساومة عليه، والإعلان الصريح عن الانتماء إلى الحق. وإن رمزية الكهف تعكس موقف الاعتراض والإشاحة عن حياةٍ اختلت فيها موازين الروح، واهتزت روابط الإعلاء، نتيجة تَحَوُّل وازع العبادة -الذي جُبلت عليه النفوس السوية- من تقديس الله الأوحد وتعظيمه، إلى تقديس البشر والخضوع إليهم، مع ما يستتبع ذلك من خسران للحرية، وضياع للكرامة، وتسفل في القيم، وبهيمية في الأخلاق. والكهف في معناه الفيزيكي هو وعاء مكاني، وسقف من نحت الطبيعة ورسْمها وتَهْيِئتها. ولقد شكل الكهف الخطوة الأولى على طريق ابتكار فن التخطيط المعماري.
دأب كولن على حياة التكهف، وذلك بالإقامة في ما اصطلح على تسميته الطابق الخامس.
مفهوم الكهفية في القرآن
إن التكهف هو أن تعيش الآخرة في الدنيا، من أجل أن لا تكون لك من غايات إزاء الغاية الإيمانية الكبرى. وإن مفهوم الكهفية في القرآن يتقاطع مع معنى الاستتار والمعتزل. ومن المؤكد أن ثقافة التصوف في منزعها الاختلائي، تعود بجذورها إلى ما يقرّ في الذاكرة الجمعية من أصداء تركتها فيها قصة أهل الكهف بطابعها الاحتسابي الباهر، بل إن سُنة الاعتزال والتحنُّف ظلت قاسمًا مشتركًا بين سائر الأنبياء والرسل، ولقد تعقبهم في تلك السيرة، وعلى مدى العصور، أهل الله وعباده الصالحون. فلكأن اصطفائية السماء اقتضت أن يمحّص الله عباده المرشحين لنيل الفلاح الأخروي، فكان عليهم من ثمة أن يعيشوا مرحلة الكهفية، وأن يستغرقهم الانقطاع والتواري، ما شاء الله لهم أن ينقطعوا ويتواروا.
لقد هَدَّ كولن الجسرَ المادي الذي يصله بالحياة الفاتنة، وتخطى إلى العدوة الأخرى من نهر التجرد ، وبات على هدي السلف، يلقي بأطواق النجاة إلى السالكين.
مراحل التكهف عند كولن
لقد ترابطت في مشاعر كولن صورة الكهف مع صورة الغار(حراء) ، وتلابست في روحه الوظيفة اللجوئية التحنفية التي يتقاسمها المرفقان (الكهف، وحراء ) ولقد تدرجت سيرته في الترقي صُعُدًا؛ إذ عاش مرحلة التكهف المسجدي يوم كان نزيل النافذة، وقبلها نزيل فناء مسجد، ثم عاش مرحلة تكهفية أخرى بالإيواء إلى سقف خشبي يوم عُيِّن قيمًا في أول مدرسة عمل بها، ثم دأب على حياة التكهف، وذلك بالإقامة في ما اصطلح على تسميته الطابق الخامس، وآل الأمر به في نهاية المطاف إلى أن يستقر من مقام الكهفية الروحية في الذروة؛ إذ اختار العيش التبتلي، جاعلاً بينه وبين الحياة مسافة من التقوى، من حيث مضى يفاعل المدنية المعاصرة بفكره وروحه وقلبه، مقلّصًا من مطالب الجسد إلى حد أدنى من الضروري؛ ليتأتى له التسديد الحاسم.
لقد ترابطت في مشاعر كولن صورة الكهف مع صورة الغار(حراء) ، وتلابست في روحه الوظيفة اللجوئية التحنفية التي يتقاسمها المرفقان (الكهف، وحراء ).
كولن وأطواق النجاة
لقد هَدَّ الجسرَ المادي الذي يصله بالحياة الفاتنة، وتخطى إلى العدوة الأخرى من النهر (نهر التجرد) ، وبات على هدي السلف، يلقي بأطواق النجاة إلى السالكين، يستنقذهم ويصمم لهم معابر إلى النهضة تقلهم بأقل التكاليف، إنه من موقعه ذاك، يقف متأملاً الجموع وهي تدور في الحلقة المفرغة، يبطش السيل الجارف بها، فتهلك النفوس، وتضيع النفائس، ولا يفتأ هو يحدو الجموع لما يصلحها، ويكفل لها النهوض والسعادات.
المصدر: سليمان عشراتي، هندسة الحضارة تجليات العمران في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، طـ، ٢٠١2، ص: 85 / 92
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.