إن من شأن حياة الوحدة والتفرد، في كنف المسجد ذلك المبنى الطاهر، أن تهيئ النفس إلى أن تنشئ أواصر مع الفضاء الملابس لها، فضاء الأرشتكتور(فناء المسجد)، وأن تتروض على استيعاب مكوناته اللونية ومفرداته التشكيلية، وعناصره البنائية. فمن طبيعة الإنسان، لاسيما في مناخ العزلة، أن ينمّي صلته بالمكان، وربما عبَّرت مذكراتُ كثير من المساجين عن هذه العلاقة بالمكان، وكيف كانت رابطتهم تتعمق بمرور الأيام مع الجدران، والسقف، وكوة الباب، بل ومع الشقوق والثقوب؛ من حيث يتشوفون إلى نقطة ضوء، أو نسمة هواء. وكيف كانوا -تحت رهق الوحشة والانفراد- يستبينون في صفحة الجدران، أشكالاً وهيئات وتصاوير، بعضها وجوه بشر أو حيوانات، وبعضها الآخر رسوم نصف مكتملة لنباتات أو جمادات، وبعض ثالث خطوط تجريدية، يتسلى الذهن بأن يضفي عليها من الافتراضات التخيلية ما شاء.

إن إقامةكولن في المسجد خلال تلك المرحلة الحساسة من حياته، قدقرَّبت الصلة وجدانيًّا بينه وبين بيئة الحرم المعمارية

سياحة القلب في أرجاء المسجد

ومن غير شك أن كولن الذي آوى إلى المسجد في شبيبته كما آوى الفتية المؤمنون إلى الكهف، كان يجد في غنى المعمار، وجمالياته، وما ينبعث منه من قداسة وطهر، ما يهيئ قلبه للسياحة، وعقله للتدبر، وروحه للعروج. كانت الواجهات الأرشتكتورية من حوله، هي مكتبته من الألبومات، ومسرحه، والأوبرا التي يرتادها للتسرية، بل لقد كانت منتزهاته التي يقصدها للاستجمام. ومن الطبيعي أن يترك ذلك النظام التحنُّفي بكل أطواره وتفاصيله، أثره على النواحي النفسية والقلبية والفيزيكية، فضلاً عن المواجد والخطاب ، فقد نشأت رابطة قوية من الأنس والألفة والمفاعلة بين وجدان كولن والمسجد والمعمار بالتبعية وهو ما تكشف عنه كتابات كولن.

من غير شك أن كولن الذي آوى إلى المسجد في شبيبته ، كان يجد في غنى المعمار، وجمالياته، وما ينبعث منه من قداسة وطهر، ما يهيئ قلبه للسياحة، وعقله للتدبر، وروحه للعروج

لحظات التأمل المسجدية

ولما كانت توجهاتنا الروحية والفكرية تتغذى -وتزداد رسوخًا واستحكامًا- من سائر ما يقع لنا من تجربة، وما نحتك به أو يحيط بنا من فضاءات وأشياء وشروط حياتية وتكيفية، فلا ريب أن إقامة كولن في المسجد خلال تلك المرحلة الحساسة من حياته، قد قرَّبت الصلة وجدانيًّا بينه وبين بيئة الحرم المعمارية  . فبيئة الإقامة تتهيأ عادة لأن تكون موضوع تأمل، وبالتالي مادة استلهام وعقلنة، وهو ما يكون كولن عاشه في إقامته المسجدية؛ إذ طبيعة ذلك الاستقرار التنسُّكي كانت بواعثها موصولة بنوازع بعدُ جنينية في روحه، وكان الجو المشحون بالإيعازات التأملية وبالألفة الروحانية، يجعل من عناصر تلك البيئة (المسجد والمعمار وتوزيعاته) ، وما يعمرها من نسائم الخشوع والقنوت، إطار استقراء قلبي، تتبرعم من خلاله أفكارُ الإصلاح والخدمة والاستنفار التي كانت أعماق كولن مسكونة بها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: سليمان عشراتي، هندسة الحضارة تجليات العمران في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، الطبعة الأولى، ٢٠١2، ص:  69 // 74

ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.