كان من المفترض أن تنتهي مشاريع “إنقاذ الدولة” الخاصة بالجيل الأول من إسلاميي تركيا الذين ظهروا فيما بين عامي (1850-1924م) ومشاريع “تأسيس الدولة” للجيل الثاني منهم فيما بين عامي (1950-2000م) بحلول الألفية الثالثة لتنطلق بعدها فترة تنفيذ مشروعهم المسمى بـ”تحويل الدولة”، لكن شيئًا من هذا لم يحدث، لأن الجيل الثالث من الإسلاميين في تركيا انضموا إلى مسيرة الصراع من أجل الوصول إلى سدة الحكم؛ وقد تبنوا مفاهيم سياسية تقوم على القمعية الرجعية، نتيجة لعوامل عدة منها: الضغوط التي تعرضوا لها أثناء انقلاب ما بعد الحداثة الذي وقع في تركيا في 28 فبراير/ شباط عام (1997م)، وتدعيمهم من قبل فئة متدينة من المثقفين والكتَّاب الذين ليس لهم صلة وثيقة بالمصادر الإسلامية وليس لديهم معلومات كافية عن التاريخ الإسلامي، إضافة إلى ظهور فئة من السياسيين الذين يصفون أنفسهم بـ”المتدينين” على المسرح السياسي في تركيا وتوليهم زمام المبادرة بين الجيل الثالث من الإسلاميين وغايتهم الوحيدة هي الوصول إلى سدة الحكم بأي وسيلة ممكنة، وفي نهاية المطاف، وصلوا إلى السلطة في ظل الظروف الداخلية والخارجية في ذلك الوقت.
ومع أن هؤلاء اللإسلاميين القدامى وأقصد بذلك الشخصيات البارزة من الحزب الحاكم وعلى رأسهم السيد “رجب طيب أردوغان” أعلنوا تخليهم عن التيار الإسلامي الذي كان يتزعمه القائد الإسلامي الراحل السيد “أربكان” وتبنيهم الدستور العلماني في إدارة البلاد إلا أن سياساتهم الخاطئة سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي قد أدت إلى إلحاق الأضرار الجسيمة بالإسلام بسبب هويتهم المتدينة المحافظة.
الهيمنة في الداخل
إن السلطة المعاصرة في تركيا الآن تتبع سياسة “الهيمنة” في الداخل و”التوسع” في الخارج، وتتجسّد هيمنتها في ممارساتها الرامية إلى السيطرة على أجهزة الدولة بالكامل بتأييد من فئة معينة من المجتمع وجهودِها الساعية لتصفية معارضيها، في حين أن المجتمعات الغربية قد تمكنت بعد كفاح طويل وشاق من تشريع قوانين تضمن حرية الرأي والتعبير، كما شرعت القوانين التي تسمح للأحزاب المعارضة بالعمل السياسي بحرية، أما في الشرق فنجد أن مَن يضع القوانين ويطبقها هي الأحزاب التي تدعمها قبيلة أو عشيرة أو جماعة أو مذهب معين، وهذه القوانين مهمتها الأساسية هي حماية الأقوياء ورؤوس السلطة.
تعتبر السياسة الاحتكارية هي إحدى الوسائل الفعّالة للتحكم في السلطة، ولهذا فإن رؤوس السلطة الذين يقومون على سياسة الهيمنة يسعون دائمًا إلى إخضاع الآخرين تحت هيمنتهم، ولو كانت هذه السياسة منحصرة فقط في مجالات إدارة الدولة، لربما كان من الممكن أن نتحملها، غير أن السلطة، باعتبار طبيعتها الطاغية، تريد أن تهيمن كذلك على المجالات المدنية، وفي الغرب نجد أن المجتمعات المدنية قد تمكنت من الحصول على استقلاليتها من هيمنة السلطة الحاكمة من خلال خلقها مجالات مدنية مستقلة لا تسمح بتدخل النظام السياسي الحاكم فيها، هذا وقد تحولت المجتمعات المدنية في الغرب بغض النظر عن طابعها الديني أو العلماني إلى ساحة كفاح للاستقلالية، وإيجاد سبل للحرية مستقلة عن القوى الحاكمة، وأما في تركيا نجد السلطة الحاكمة تتبنى سياسة التحكم والتملك على كل شيء -وهي السياسة التي كان يمارسها “الاتحاديون” في الفترة الأخيرة من الدولة العثمانية- مما مكنهم من التدخل في المجالات المدنية بكل سهولة ويسر.
رفض كل أشكال المعارضة
إننا نواجه في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها تركيا نتائج وخيمة وهدامة بسبب السياسات الاحتكارية والتوسعية التي ينتهجها الحزب الحاكم، فهذه الحكومة التي لم تستوعب الأحكام الإلهية بشكل تام تعتبر كل حركة معارضة تشكلت في البلاد “حركة مؤامرة” تهدف إلى القضاء عليها، وعندما ندرس التاريخ البشري على مر العصور والأزمنة نجد أن هناك نماذج عدة من السلطات الحاكمة التي احتكرت زمام الأمور قد اعتبرت معارضيها الذين لم يعلنوا خضوعهم للسلطة على أنهم أعداء يخططون للتآمر ضدها.
إننا نجد في المجتمعات التي تحكم فيها السلطات التي تتبنى سياسات جائرة لا تحترم الدستور والقوانين، تنظر إلى بعض القوى المدنية على أنها تهديد لهذه السلطة، فعندما تُعتبر القوى المدنية أو الشخصيات المدنية الفعالة في المجتمع كيانات تهدد أمن البلاد ستظهر عندئذ في هذا البلد محاولات السلطة الحاكمة الرامية لبسط السيطرة على القوى المدنية بما في ذلك الأحزاب المعارضة تحت شعار “حماية الدولة”، ولكن في حقيقة الأمر إن الدولة ما هي إلا آلية بسيطة ليست لها أي قدسية أو علوية، كما أنها لا تنحصر على فئة معينة من المجتمع تخدم مصالحها الشخصية بل هي آلية تقوم على تسيير الأمور في البلاد وتقدم الخدمات لجميع فئات المجتمع دون تمييز بشكل عادل وتحترم الدستور والقوانين.
الدولة العميقة والإسلاميون
وقد تبين لنا أن العناصر العميقة في الدولة التركية قد هيمنت على الجيل الثالث من الإسلاميين، وجعلتهم متكبرين، متفاخرين، مولعين بالأبهة والعظمة، غير منصفين، لا يبالون بالآخرين ولا يراعون القيم الأخلاقية، بحيث إن هؤلاء الذين ينتهجون السياسة الاحتكارية لم يدركوا أن الدولة هي التي احتكرتهم.
وكانت السياسة التوسعية التي تبناها حزب العدالة والتنمية على الصعيد الخارجي وتعامله مع القضية السورية وغيرها من القضايا الإقليمية سببًا في ظهور ما يسمى بفكرة “العثمانيين الجدد”، وهذه الفكرة أو ما تسمى بـ”تركيا الحديثة” قد أظهرت النوايا الخفية لدى الحزب الحاكم المتمثلة في تبني الفكر الإمبريالي المعاصر الذي يطمح إلى الاستيلاء على المنطقة بأسرها، كما ظهرت في هذه المرحلة أن الحزب الحاكم لا يعمل من أجل توحيد الأمة والإعلاء من شأنها بل كان همه الوحيد هو فرض سيطرته وزعامته على المنطقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر هذا المقال لأول مرة في 12فبراير/شباط (2015م).
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.