كان للدعاء والأوراد والأذكار أثر عميق على مدى العصور في التربية الروحية والقلبية للمسلمين. فقد كان الدعاء والذكر روحاً باعثة لحياة التقاليد الإسلامية في كل مرحلة من الزمن. فلهما دور مهم لدى جمهور المسلمين من وجهة التربية الروحية ومن وجهة الفهم الإسلامي للتوحيد ومدى توطده في مساحة الحياة اليومية للمسلمين.
كان الدعاء والذكر، وما زال، أهم مسألة في حاضر حياة المسلمين. فالمسلم يولد مع همهمة الدعاء، ويترعرع معها، وتبدأ أعماله اليومية بها، ويتوجه بها إلى باب كرم اللّٰه تعالى ورحمته الواسعة في المنشط والمكره. وبالدعاء والذكر يبدأ بأعمال الدنيا والأٰخرة وعلاقات الإنفاق والتجارة، وبهما يقوم ويقعد، ويَعُدّ كل عمل لم يبدأ بهما أبتر ولا ثمر له. وكما يلد معهما، فإنه يرحل إلى مولاه تعالى برفقة الدعاء والقرآن. فإن كانت حياته مرضية فإنه يُذكَر بالدعاء من بعد رحيله، ويقف في حضور الرحمة الإلهية المطلقة بالدعاء. الحاصل أن الدعاء والذكر يصاحب المؤمن منذ ولادته إلى مماته، ومن ثم إلى حياته الأبدية، فيكون خليله في هذه المسيرة الطويلة.
إن الطرق الموصلة إلى اللّٰه تعالى كثيرة بعدد أنفاس الخلائق. ومع كثرة الطرق، فزادها اللازم واحد، وهو الأذكار والأوراد، ولن يُؤمَن الطريق من غير زاد.
الدعاء والذكر يحيط بحياة المسلم كلها. يقول اللّٰه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ اٰمَنُوا اذْكُرُوا اللّٰهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ (الأحزاب: 41-42) ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ﴾ (الفرقان: 77) ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ (البقرة: 152) ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّٰهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ (آل عمران: 191). في هذه الأٰيات وأمثالها صورة مثالية للمسلم ولاِشتغاله الدائم -في معنى من المعاني- بالذكر والتسبيح، فدوامه على هذا الحال يخالطه ويوحده مع الأوراد والأذكار. فكما يقضي حاجة جوعه الجسماني بالطعام ثلاث مرات كل يوم، كذلك يشبع جوعه الروحي والمعنوي بذكر اللّٰه تعالى في كل أحواله وأفعاله.
إن راجعنا التاريخ لوجدنا رجالاً، أيما رجال، يُصلّون مائة نافلة مع الفرائض، ويصومون صيام النبي داود عليه السلام مع شهر رمضان، ويستقلّون الواحد في الأربعين من الزكاة فينفقون ما زاد عن حاجتهم، ويهجرون النوم مرددين الأذكار والأوراد حتى الصباح. فما الذي دفعهم إلى معايشة الدين بهذا الوجد والحرص؟ لعلهم فهموا الأوامر القرآنية بالصيام والصلاة والتسبيح والزكاة وغيرها عبوديةً مطلقة لا حدود لها. فلم يحبسوا أنفسهم في بُعدٍ مُقيدٍ لحدود العبادات والطاعات. فلا نهاية لأبعاد العبادات والطاعات، ولا الخير ولا الإنفاق. ومهما فعل الإنسان فلن يوفي بحق العبودية للّٰه حق الوفاء. وإن المقصد من العبادة والطاعة هو تربية مشاعر الخير في الإنسان، والارتقاء بلطائفه المعنوية، وتحفيز شوق العبادة والطاعة فيه، لتعميق مفهوم حيٍّ للعبودية في نفسه. وهكذا مَثَّلَ كبارُ السلف الصالح عبودية كهذه. فبلغ هؤلاء العظام ما بلغوا من الكمال واليقين والإخلاص بتلك العبودية وبها عظموا. لقد وُجد رجال كُمّلٌ في هذا الوادي الخصيب، وصار كل واحد منهم قمة وبطلا في مجال الأوراد كالإمام الغزالي والشيخ عبد القادر الگيلاني والشيخ أحمد الرفاعي والشيخ أحمد البدوي وأبي الحسن الشاذلي والشاه النقشبندي والإمام القشيري والشيخ محيي الدين ابن عربي والإمام الرباني السرهندي وبديع الزمان سعيد النورسي رضوان اللّٰه تعالى عليهم أجمعين.
إن الدعاء والذكر من ضرورات قبول التوحيد والإيمان والثقة باللّٰه والاعتماد عليه تعالى.
إن عليّاً رضي الله عنه لم يدع ما عاش أدعية الليل التي تعلمها من النبي صلى الله عليه وسلم. وحين سئل “حتى في ليلة النهروان؟” قال “حتى في ليلة النهروان!” وكان الإمام الرباني مولعاً بالنوافل والأوراد، لكنه كان لواما لنفسه حتى أنه قال: “لم أر المَلَكَ في يميني كاتباً لشيء منذ عشرين سنة!” وكان الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي يختم قراءة تمام المجلدات الثلاث من مجموعة الأحزاب مرة كل خمسة عشر يوما رغم مشاغله كلها، فيواظب على تأليف كليات رسائل النور وينشغل بالقرآن الكريم ويشغتل بالمحاكم والمدافعات وتصحيح الرسائل وأنواع المضايقات الروحية والمعنوية، لكنه يديم قراءة “مجموعة الأحزاب” بمجلداتها الثلاثة كالعاشق الولهان. فبشهادة طلابه وجيرانه أينما أقام كان يمضي لياليه بالعبادة والأذكار في أنين وبكاء. فكان يشق ظلمات الليل وصمتها بصوته الحزين والملتاع، فيهيج قلوب السامعين ورقائقهم. وكان في الوقت عينه بطلاً من أبطال الخدمة والإرشاد. فلم يتوان قط عن الدعاء والأذكار، كما لم يتوان عن الخدمة والإرشاد ألبتة طوال عمره.
جاء صحابي إلى سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني أصلي عليك كذا مرة في اليوم، فتفضل عليه حضرة فخر الكائنات صلى الله عليه وسلم بالجواب قائلاً بأنّ ذلك خير، وإن زدت لكان خيراً. فإن الصحابة الكرام وجدوا غاية وجودهم فيه صلى الله عليه وسلم. وهذه حقيقة لازمة لنا أيضا. فبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم اكتشفنا معنى الوجود، ومنه تعلمنا الكتاب والحق والحقيقة. ومن تلقينه وتربيته وجدنا الدعاء والعبادة والطاعة والأوراد والأذكار وكل شيء يتعلق بعبوديتنا للّٰه تعالى. فهو صلى الله عليه وسلم مصدر نور يضيء وجه الكائنات، وغاية علتها، وهو الأصل الأصيل لحواصل الكائنات، وأغلى ثمارها. فوجوده -من وجهةٍ- مبدأ الكائنات وتعيّنه الأول، ومن أجله تُنْشد قصيدة الوجود والكائنات. لذلك فإنه صلى الله عليه وسلم يليق بأفضل الصلاة والسلام عليه في كل يوم وساعة وأوان، بل هو الأليق بها على الإطلاق. فله علينا دين عظيم في كل شيء، عليه أكمل التحايا وأتم التسليمات.
إن واجب الإرشاد وإعلاء كلمة اللّٰه في هذا العصر مقدّم على الواجبات كلها. ولكن هذا الواجب لا يقوم من غير مداومة ذكر اللّٰه جل جلاله ودوام اللجوء إليه.
والحقيقة أن الإنسان عاجز عن توسيع معنوياته والرقي بها بغير الانشغال الطويل بالدعاء والأذكار، إلا بمزيد لطف وفضل إلهي خاص. القرآن الكريم يدلنا إلى أن كل شيء في الكائنات يسبح للّٰه ويحمده: ﴿يُسَبِّحُ لِلّٰهِ مَا فِي السَّمٰوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ (الجمعة: 1) فهل يليق بالإنسان الذي هو أغلى وجود في الكائنات أن ينأٰى بعيداً وغريباً عن هذا الذكر العام في الأشياء المسبحة كلها؟ ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ (النور: 41) لكن الإنسان الذي شرف بحظوة تجليات الأسماء الحسنى والاستعداد للكمالات كثيراً ما يغفل عن هذه الحقيقة وينأٰى عنها.
إن ذهن الإنسان المعاصر واهتمامه متخم بالمشاغل الدنيوية والمشاكل المعيشية، وعلاقاته وتوجهاته مبعثرة في أرجاء الأرض كلها. ومما يدعو إلى الأسى أن أضعف ما يجذب اهتمامه هي ذاته وماهيته الإنسانية، فهو لا ينظر إلى مرأٰة قلبه وروحه ولطائفه بقدر ما ينظر إلى شعره وسيماه وهندامه. وتراه يعتني عناية فائقة بالجمال الذوقي واللوني حتى حين يشتري جوربا لنفسه، لكنه لا يأبه بالجمال واللطف والكمال في عبادته وطاعته وفي أوراده وأذكاره خاصة. فيكتفي بالفرائض وحدها في همة واطئة، ولا يتعهد التعمق والتكامل في العبودية. والله جل جلاله يعلمنا في الحديث القدسي: “وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه”.
وفي هذه السنين الأخيرة نشهد أفكارا منحرفة غريبة تتعلق بالأوراد والأذكار. فبعضهم يقترب من رفضها أصلاً. وبعضهم يزعم أنه مشغول بالإرشاد والتبليغ ولا يجد زماناً للأذكار والأوراد، فيتعلق بمعاذير واهية.
كان الدعاء والذكر، وما زال، أهم مسألة في حاضر حياة المسلمين. فالمسلم يولد مع همهمة الدعاء، ويترعرع معها، وتبدأ أعماله اليومية بها، ويتوجه بها إلى باب كرم اللّٰه تعالى ورحمته الواسعة في المنشط والمكره.
إن واجب الإرشاد وإعلاء كلمة اللّٰه في هذا العصر مقدّم على الواجبات كلها. ولكن هذا الواجب لا يقوم من غير مداومة ذكر اللّٰه جل جلاله ودوام اللجوء إليه والانشداد المعنوي في كل يوم جديد بالأذكار والأوراد. فإن السلف الصالح قد أفلحوا لأنهم عاشوا حياة دينية كاملة وانشغلت قلوبهم وعقولهم وأرواحهم بالأوراد والأذكار من غير فتور. ولا يستهين أحد بأثر الحياة المعنوية العميقة والسموّ الروحي والأخلاقي في تزكية النفس الإنسانية وتربيتها، حيث لا يفلح المسلمون بأي وجه من غير تزكية النفس وتربيتها. ونشهد منذ عصور طويلة الأثر الطيب للأوراد والأذكار والأحزاب في حياة المسلمين المعيشية والمعنوية. وإن التغافل عن هذه الحقيقة التاريخية يعني العمى عن رؤية المصادر المعنوية لحضارتنا أو الضحالة العقلية حيالها. فإن الدعاء والأوراد والأذكار من أهم المصادر للعرفان والمعنى في الإسلام.
وإن الدعاء والذكر من ضرورات قبول التوحيد والإيمان والثقة باللّٰه والاعتماد عليه تعالى. فالعبد يتوجه إلى الحق تعالى في المنشط والمكره والفرح والترح. ذلك لأن الدعاء مفتاح خزائن اللّٰه الواسعة التي لا يحيط أحد علماً بها. وإنه نفث وجداني في صورة رجاء يعرض على أعظم العظماء جل جلاله. فإذا توجه الداعي إلى اللّٰه تعالى بكل قلبه واستجدى منه، فإنه يطوي البعد الناشئ من البدن والجسمانية بينه وبين ربه الأقرب إليه من حبل الوريد، وينجو من وحشة البعد، ويُعَبّر عن توقيره للقرب والحضور الإلهي.
إن الطرق الموصلة إلى اللّٰه تعالى كثيرة بعدد أنفاس الخلائق. ومع كثرة الطرق، فزادها اللازم واحد، وهو الأذكار والأوراد، ولن يُؤمَن الطريق من غير زاد.
مما يدعو إلى الأسى أن أضعف ما يجذب اهتمام الإنسان هي ذاته وماهيته الإنسانية، فهو لا ينظر إلى مرأٰة قلبه وروحه ولطائفه بقدر ما ينظر إلى شعره وسيماه وهندامه.
وعلى الإنسان أن يستقلّ عمله مهما تعبّد ومهما ذكر وردد، وأن يقول: “لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك” و”ما عرفناك حق معرفتك يا معروف، ما عبدناك حق عبادتك يا معبود”.
ومن اللازم بيان مسألة مهمة هي أنّ لنفرٍ ممن يعرف بعضهم بعضاً أنْ يتفقوا على قراءة أجزاء من كتاب دعاءٍ، ويرتبوا قراءتها فيما بينهم زمراً. فإذا توزعت الواجبات بينهم، فعلى كل فرد منهم أن يقرأ الجزء المخصص له لزوماً، فإن من يَتَعهّد بذكر اللّٰه وبالدعاء بقدر معين عليه في مدة معلومة أو يوم فقد أوجب على نفسه عملاً وعليه أن يوفي به. وله أن يدعو أو يذكر بالقدر المطلوب كاملاً زيادة على حصته بعد ذلك إن شاء، أو أن يقرأ الأدعية والأذكار كلها وحده أصلاً. وإن توجيه نية الذكر والدعاء إلى إهداء الثواب الحاصل من القراءة لميزان أعمالهم جميعاً، يكون وسيلة لتشكل الشخصية الحقيقية – المعنوية، وأيضاً يُكتَبُ ثواب قراءة الكلِّ للجميع.
تعريف بمؤلف كتاب “مجموعة الأحزاب“
“مجموعة الأحزاب” هي كليات للأدعية في ثلاثة مجلدات جمعها واختارها الشيخ أحمد ضياء الدين الگومشخانوي، المولود سنة 1813 ميلادية في قرية “أميرلر” التابعة لمحافظة كومشخانه من حواضر تركيا. بدأ بتحصيل علوم الدين والعربية في المدارس التقليدية بطرابزون وأطرافها. ثم أكمل التحصيل في مدارس “بيازيد” و “محمود باشا” من أحياء استانبول التي كانت مركز العلوم. فارتقى في مدارج العلوم على يد أشهر المشايخ حتى بلغ “الدرس العام” وهي درجة رفيعة في العلوم حسب مصطلحات التعليم التقليدية. ونال “الإجازة” في علوم الظاهر، وكذلك في علوم الباطن. وقد مكث مدة في “مدرسة بيازيد” وامتاز بطول باعه في علوم الحديث والتصوف خاصة.
كما يقضي المسلم حاجة جوعه الجسماني بالطعام ثلاث مرات كل يوم، كذلك يشبع جوعه الروحي والمعنوي بذكر اللّٰه تعالى في كل أحواله وأفعاله.
شارك الشيخ “گومشخانوي” في حرب 93([1]) (الحرب العثمانية- الروسية) التي اشتهرت في التاريخ بوقائعها المأساوية، فشدّ من عزيمة العساكر والضباط ثم حج بيت اللّٰه الحرام بعد الحرب، وعرج إلى مصر في طريق عودته، فمكث فيها نيفاً وثلاث سنين يدرس مصنفه “راموز الأحاديث” في مدارس الناصرية و”الأزهر”، وأجاز خلقاً كثيراً هناك.
كان الشيخ “گومشخانوي” في زمانه الشيخ الرأس والمرجع الفرد لفرع الخالدية من الطريقة النقشبندية في استانبول وربى “خلفاء” كثيرين في الطريقة، ويروَى في سيرته أنه أدام الصيام ثمانية عشر عاماً إلاّ أياماً خاصة معدودة، وأنه كان ينـزوي إلى العزلة والخلوة مرتين في كل سنة، فكان عابداً وزاهداً ومشتغلاً بتربية الطلاب حتى توفاه اللّٰه تعالى واختتم عمره الفيّاض بالبركة في سنة 1893 ميلادية ودفن في الحاضرة الملحقة بمسجد “السليمانية” في استانبول، أفادنا اللّٰه تعالى من فيوضاته الزاهرة.
نفهم من مقدمة النسخة العثمانية التي كتبها المصنف الشيخ “گومشخانوي” (قدس اللّٰه تعالى سره) أنه تخير هذه المجموعة من كتب الأوراد والأحزاب المتنوعة وأنه نقل بعضها من نسخ مكتوبة أو مصححة بخط يد مصنفيها والمحفوظة عند أبنائهم أو أحفادهم الأحياء في ذلك الزمان. وكانت أوراداً وأحزاباً يواظب عليها المشايخ والمريدون في التكايا والزوايا في ذلك الزمان، فجمع المصنف الأوراد والأذكار المتنوعة للطرق والسلاسل والمشايخ. ومعلوم أن تكايا الطرق كافة وزواياها كانت في استانبول في ذلك العصر. وكان للشيخ رحمه اللّٰه تعالى وشائج متينة تربطه بها كلها، فيسّر اللّٰه تعالى له بذلك أن ينتقي كل ورد ودعاء من مصدره الرئيس، ويدقق في صحته، ويصحح متونه بيده. وقد ضم إلى المجموعة كثيراً من الأدعية المأثورة والمسنونة، كذلك تحرى عن المصادر المعتبرة عند أصحابها في الأوراد المشتهرة التي يداوم عليها الصوفية، فانتقاها بعد التمحيص والتدقيق والتصحيح.
تعريف بكتاب “القلوب الضارعة“
هذا الكتاب الذي بين أيديكم، مجموعة أدعية منتخبة من الكليات المشتهرة بـ”مجموعة الأحزاب” لمصنفه للشيخ “الگومشخانوي” رحمه اللّٰه تعالى، انتخبها واختارها الأستاذ الفاضل الشيخ محمد فتح اللّٰه گولن بعنوان “القلوب الضارعة”. ومعلوم أن الأستاذ الشيخ محمد فتح اللّٰه گولن من ألمع العلماء والمفكرين النابغين في العالم الإسلامي في زماننا الحاضر، ورجل ذو نمط فريد للإرشاد والخدمة بفعالياته الدينية والعلمية والاجتماعية والثقافية. وهو -كمن سلفوا من قبله– لم يبعد قط عن الأدعية والأوراد إلى جانب فعاليات الإرشاد والخدمة الدينية. ونحن نشكره جزيل الشكر على صرف همته ووقته في أثناء تجهيز هذا المختصر إلى انتخاب هذه الأوراد والأذكار من “مجموعة الأحزاب”. ومع اعتناء الشيخ “الگومشخانوي” عليه الرحمة في “مجموعة الأحزاب” وحرصه وتدقيقه، لم تخلُ من الحاجة إلى التصحيح الطفيف لأخطاء الكتابة والحركات والإعراب. وقد وجدت تصحيحات وشروح على متون الطبعات المختلفة التي طبعتها المطابع بتصوير النسخ المخطوطة. ومن المحتمل أن الشيخ المصنف عليه الرحمة قد خط شيئاً من هذه التصحيحات بيده حين حياته، لكن المجموعة لم تَخْلص من بعض الأخطاء التي لا نجاة منها بسبب تقنية الطباعة وصعوباتها في ذاك الزمان. فصُححت مثل هذه الأخطاء في المتون المنتخبة هذه ما أمكن. وإن بعضا من الأخطاء البارزة في “مجموعة الأحزاب” لم تكن مسألة توجب توقفاً في حينها، وذلك للعناية والجد في قراءتها في التكايا والزوايا قراءة سليمة من قبل المشايخ خاصة. لكن في أيامنا هذه، قلّت العناية بالعربية، وذوَى الجدّ في الأوراد والأذكار، حتى صارت الأجيال الجديدة غريبة عنها، وتعسّر عليها قراءة المجموعة بأصلها العربي ومتابعتها. فظهرت الحاجة إلى هذا المنتخب من أجل أن تنتشر في الناس ما وسع الأمر وتتيسر قراءتها ومتابعتها.
هذا، وقد أُورِدتْ ملاحظات وهوامش وتصحيحات كثيرة سجلت على حواف أصل المتون، لا تدل على محذورات في المعاني أو القواعد العربية. ولعلها أُورِدت لاختلاف في الملاحظة أو لترجيح أمرٍ على آخر. ففي هذه الأحوال وقع الاختيار على أصل النص كلما أمكن ذلك.
كان للدعاء والأوراد والأذكار أثر عميق على مدى العصور في التربية الروحية والقلبية للمسلمين.
وقد روعي في هذا المنتخب صرف النظر عن بعض أوراد المشايخ والعارفين وأدعيتهم، لتشتت أذهان الناس في زماننا وتفرق ميولهم وعلاقتهم وخشية الوقوع في فهم غير صحيح. ولا شك أن أرباب الذوق العالي والحال الفائض من أهل العرفان والمشايخ قد عكسوا بطبيعة الحال ملاحظاتهم الخاصة على أورادهم في كشوفاتهم ومشاهداتهم. فكان صرف النظر عن تلك الأوراد والأحزاب الحاوية على هذه الملاحظات الخاصة أولى وأحصن في الوقت الحاضر.
وبعد تصحيح أخطاء اللفظ والإعراب والخط في أصل متون الأوراد والأذكار التي يتضمنها هذا المنتخب، وُضِعَتْ لها عناوين وتسلسل لتيسير قراءتها ومتابعتها على الأجيال الجديدة، وقُسِّمَت المقاطع والفقرات بمراعاة تامة، وبُرِّزَت علامات الأدعية والأوراد اليومية والأسبوعية بجلاء، وميّزت الآيات الكريمة الجليلة عن متون الأدعية بحصرها بين علامات خاصة، وصُفّت المواضع المكررة في الأدعية في وسط الصفحة، وأدرجت في المنتخب أسماء الصحابة الذين لم ترد أسماؤهم في “مجموعة الأحزاب” ضمن بعض الأوراد، مثل أصحاب “بدر” بعد تقصيها في المصادر الأخرى.
الحاصل، صرفت العناية لإخراج هذا المنتخب ليكون مصدراً لطيفاً للعرفان، يربي رجال الإرشاد والخدمة روحياً، ويحفز معنوياتهم. يسّر الله جل جلاله لنا قراءة هذه الأوراد وملأ بها أركان القلب والوجدان. وندعوه تعالى أن تكون مجلبة للبركة والفيوضات اللانهائية للعقول السامقة التي نذرت أنفسها للحق سبحانه، ثم لخدمة البشرية، ورجاؤنا أن تكون زاداً وذخيرة للقلوب المتلهفة إلى المعاني والمعارف اللدنية في هذه المسيرة الطويلة.
الهوامش
[1] عرفت بهذا الاسم لوقوعها سنة 1393 التقويم الرومي.
الترجمة عن التركية: أورخان محمد علي