بدأ حديثه قائلا:
“سوف لا يصدِّقون!..
سوف لا يصدقون أننا نسعى لأمن وسلامة البشَرية!..
سوف لا يصدقون أننا نبذل قصارى جهدنا لإقامة جزيرة من السلام يعيش عليها كل الناس في أخوّة ووئام!..
سوف لا يصدقون أننا ليس لدينا أي تطلعات في الدنيا أو في الأخرة!..
سوف لا يصدقون أننا لا نبغي سوى رضا الله!..”.
ورغم أنه كان مرهقا ومنهكا، وصوته لا يصل بالكاد إلا إلى ثلاثة أو خمسة أشخاص ممن حوله، إلا أن منطقه وتقويمه للأحداث كان سليما لأقصى درجة؛ نظرا لأن المعنى الذي يقصده كان مفهوما في مجمله، وكان عزمه وثباته بالعمق الذي كان يتحلى به على الدوام، أما روحه وحماسته فكانتا كحماسة شاب مفعم بالمشاعر.
ثم التفت وسأل وكأنه يعقد محاكمة لنفسه:
“لماذا لا يصدّقون؟
لماذا يسلك مَن بالداخل والخارج مسلكا يمكن التعبير عنه بمرض البَارَانُويا (جنون الارتياب / جنون الاضطهاد) في علم النفس؟
لماذا لا يستطيعون التخلص من شكوكهم وشبهاتهم؟
إن كل ما قيل قد تم إنجازه على أرض الواقع، فلِم يصرّون على إنكارهم ونظراتهم المريبة رغم أنه لا يتوافر لديهم أي دليل يغذي شكوكهم وشبهاتهم؟!..”
ثم أجاب بنفسه قائلا:
“إنهم لا ينظرون إلى العالم من النافذة التي نطلُّ منها، ولا يؤمنون بالآخرة كما نؤمن، كما أن القيم التي تعبر عن معاني عظيمة بالنسبة لنا لا تعبر عن معنى مطلقا بالنسبة لهم. نحن نتحدث عن الآخرة والجنّة وجمال الله، وهم على النقيض تماما لا يتحدثون إلا عن الدنيا. نحن نضع المقام والمنصب والشرَف والجاه جانبا، وهم يضعون كل هذا في بؤرة حياتهم، إننا نقول: يجب أن نضبط كل أمر نقوم به في هذه الدنيا -الدنيا الفانية لا داعي للخداع- وفق الآخرة، وأن نفعِّله وفق توجه الله لنا في الآخرة. أما هم فيفكّرون في اتجاه مناقض لهذا تماما ، بل ويؤمنون به. إننا ننظر إلى الدنيا من نافذة أن ملذّات الدنيا تشبه العسل المسموم، بها ألام بقدر ما فيها من لذّة، وأن الملذات الدنيوية المشروعة وغير المشروعة جميعها من باب الابتلاء، أما هم فليس هناك مقياس هكذا في أيديهم..”.
بعدما ذكر هذه الجمل تنهّد تنهيدة عميقة، وأخبرنا بأنه قد تعِب، حقّا لقد تعب؛ لأنه منذ أيام يصارع المرض الذي يستلزم العلاج منه أن يكون في ظل ظروف صحّية مناسبة. لقد تأوّه؛ لأنه لم يُفهم أو كان من المتعذر أن يُفهم؛ ومن تعرض لهذه الأمور يعرف أن عدم الفهم أو التمكن من الفهم يأتي على قائمة الأشياء التي تحزن أناسا هكذا وتسوقهم إلى الهمّ والكدر.
عندما يكون الناس من بيئة قريبة ويتقاسمون نفس القيم والأجواء، فإن الهموم تتضاعف كما ذكر ضِيا كُوكْ آلْب عند تعبيره عن الجهل. لقد كان الأستاذ يلهج في مثل هذه الأمور بذكر هذه الأبيات:
“لو قلتَ إنّي مهموم فلا تتأوّهْ من همّك،
لا تتأوَّه، فتخبر غير المهمومين بهمّك، وتطلعهم عليه”
حسنا، لعلكم تقولون: إذن لماذا يبوح بكل هذا؟ في رأيي أن هذا السؤال يعبّر عن مستوى المرء ومكانته، وعن أي نافذة يطل منها على الحياة. إننا لا نتحدث عن إنسان عادي، بل عن شخص عاشق لهمّه، عن عالمه الروحي، ونافذته القلبية، ونظرته إلى الأحداث، وأفُق أهدافه. إن العاشقين لهمومهم، يتحدثون هكذا دائما. لا يعتبرون بالزمان ولا بالمكان، حتى إن أساليبهم ومناهجهم لتعبّر عن آلامهم وهمومهم في كل مكان، بل إنهم ليقدرون بأنفسهم الجرعة والنسبة التي يمكن أن يلقوها لمخاطبيهم. ثم بعد ذلك يوجّهون الناس إلى الأمور التي أجمعوا على أن تكون علاجا لهذه الآلام.
لطالما سمعنا منه هذه العبارات:
“لو كان بوسعي، لزَرعتُ بذورَ الهمّ والاضطراب والمعاناة في صدور الناس، كما تُدفن البذور النباتية في قلب التراب، وانتظرتُها حتى تنمو وتنضج. حيث إن أعظم هموم الدنيا في وقتنا الحاضر هو خلوّ البال من الهموم والأكدار!”..
لا أعرف، هل لاحظتُم أنني لم أقلْ إنه مهموم بالمعنى الجاف للكلمة، بل على العكس قلت: إنه عاشق لهمّه؛ لأن إطلاق لفظ المهمومين على العاشقين لهمومهم يعدّ في الوقت ذاته تحقيرا لهم وتهوينا من شأنهم. لطالما سمعناه أيضا يتلفظ بهذه الأبيات:
“اللهم آنِسْني بعشْق البلاء، ولا تحرمني منه لحظة”.
ولَمّا وصل إلى هذه النقطة نظر حوله مرة أخرى، وتفحص بدقة جميع الحضور بالقاعة. لا أحد يدري ما كان يدور بخلده حينذاك. من المحتمل أنه كان قلِقا أن تفسَّر كلماته خطأ، فاستأنف حديثه على الفور مرة أخرى قائلا:
“ولكن لا بد ألاّ نيأس. لا نيأس، فإن اليأس كما ورد بالقرآن الكريم صفةٌ من صفات الكفار. ولا تيأسوا من رَوح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. ولا يُستنبط من هذا أن المسلم إذا وقع في اليأس صار كافرا، بل المقصود هنا أن اليأس صفة تتعلّق بالكفر. ولذا عليكم ألا تيأسوا مهما كانت الظروف التي تمرّون بها، فلتخلصوا في نياتكم، ولتكن غايتكم هو القرب منه سبحانه وتعالى ونيل رضاه. لا داعي لليأس ولو ألقي بكم في غيابات الجبِّ مثل سيدنا يوسف عليه السلام، ألم تقرأوا السورة التي ذكرت فيها قصة سيدنا يوسف عليه السلام؟! لقد قصت علينا هذه السورة جميع ما جرى لسيدنا يوسف، وفصلت لنا بدقة ما وقع له من أحداث وما اعتراه من ملمات. ومع ذلك لم يتفوّه سيدنا يوسف في أول القصة أو في آخرها بجملة واحدة تنم عن الشكوى أو التذمر بسبب إلقائه في الجبّ. وهذا يعني أنه لم يتأثر، بل استمسك بالأمل والرجاء، ومضى في سبيله. زُجّ به في السجن، فلم يعبأ بذلك أيضا، بل قال: يا ربي، ولم يغير طريقه، وفي النهاية أصبح وزيرا يُشار إليه بالبنان”..
ثم عاد إلى بداية حديثه مرة أخرى، وقال: عليكم ألا تغيروا نهجكم حتى وإن لم يُصدِّقوا، أو داوموا على النظر إليكم بشكّ وريبة. استمروا في خططكم ومشاريعكم حتى يمكنكم أن تُحيوا القيم العالمية وتقيموها. لا تتخلّوا عن أن تبدوا بسلوكياتكم وتصرّفاتكم أنكم قد وطأتم المناصب والمقامات الدنيوية بأقدامكم. عبروا بقوة وبلغات مختلفة عن أنكم لا تفكرون في شيء سوى السلام وسلامة البشرية، ولا تعطوا مجالا لمرض البارانويا ليقضي عليكم. استغلوا كل مجالات الفنون (من رسم وموسيقى ورواية وشعر وسينما ورياضة) كلغة تصلون بها إلى الناس. ربما يظهر هناك من يعترّض، ليكن… وربما يظهر كذلك من يشك أو يتردد في صحة هذا الأمر، فليكن هذا أيضا.. لم لا تُوجه الوسائل الموضوعة للتدمير والتخريب في التعمير والتطوير. إنني وليد هذا الزمان، وإنني أعتقد أنه لن يعترض على هذا امرؤ عاقل خبر الدنيا جيدا. لا معنى لاعتراضهم لو اعترضوا، فاصبروا؛ لأنه لا يمكنكم أن تداووا الجراح التي أصيبت بالأكال، وبقيت على حالها منذ عصور”…
أتعرف أيها القارئ الكريم عمن أتحدث؟! طبعًا عن الأستاذ فتح الله كولن كما خمّنت.