يقوم الجميع بالاستعداد الروحي والبدني للصلاة قبل رفع الأذان في معظم الأحيان، ثم يأخذون أماكنهم من الصفوف أو ينتظرون في المكان الذي جلسوا فيه. ولأنه ليس هناك مكبّر صوت، فلا يزعج الأذان أحداً من المستمعين؛ فالمؤذّن يرفعه بصوته الحي الطبيعي في منتهى الخلوص والنقاء، قائمًا بضبط وتعديل نبرات صوته وأوتاره ليبلّغ الرسالة الإلهية للحاضرين.
تستحوذ حرارةُ شعورٍ مختلف على قلوب الجماعة قبل أخذ أماكنهم في الصفوف. والشخص الذي سيؤمّهم يتقدّم نحو السجّاد المبسوط أمامه بتؤدة ووقار، وكأنه ينظّم ويرتّب المكان والجدران والأشياء من حوله، حين يقوم بتسوية صفوفهم وتنظيمها بيديه. ثم تَعْرُج الجماعة وتسمو إلى الحضرة الإلهية خلف إمام واحد بمسافة قدم أو قدمين منه؛ فتطأ أقدامهم على دنىً جديدة وعوالَمَ بِكْر بحيث تثير الحيرة والدهشة؛ إذ لكل واحد منهم -في عالمه الروحي- سهول منبسطة، وأودية عميقة، وصخور وعرة، ومراتع هادئة خضرة، وجنان مزدانة بأنواع من الزهور، وجبال شاهقة.
حقًّا إن الإنسان عالم صغير، ولم أدرك هذه الحقيقة يوماً من الأيام مثلما أدركتُها في تلك الصلوات التي أقمناها بذلك المكان خلف هذا الأستاذ الفاضل، وأنا مستمع للآيات المرتّلة وخائض في دلالاتها العميقة. نعم، أنا على علم نظريّ منذ القدم بكل ما فهمتُ من تلك الدلالات، أي إنني لست غافلاً عن أبعاد علم اليقين لهذه العبادة التي اشتركت فيها بكلّ كياني وروحي، حتى يمكنني القول: إنني أعرف أبعاد عين اليقين لها من وجه، وقد عشتُها ومارستُها فعلاً في بعض تجاربي الروحية. إلا أنني ربما لأول مرة أحظى بمثل هذه التجربة الروحية وبهذا المستوى الرفيع. لا شكّ أن العبادة واجب ضروري كلّف اللهُ بها الإنسانَ، أما أدائها بهذا المستوى وبهذا المقام الرفيع من الذوق واللذّة، فذلك تطوّع. ولولا تلك الحالة الروحية من الاطمئنان والبسط، لما جعلني شيء غيرها أواظب على الرواتب والنوافل جميعاً، على الرغم من كوني بعيداً عن وطني بثمانية آلاف كيلومتر، وتابعاً لأحكام السفر.
ترتيل القرآن ترتيلاً غير متعجّل، وقراءة الآيات برويّة وتمهّل بحيث يفتح المجال للتفكّر في معانيها، يجعلان ذهن الإنسان يفيض فرحاً وحبوراً؛ وذلك لأن بين الذهن والقلب قناة مباشرة تعبّر عن المعاني الطالعة في سماء الذهن طلوعًا أسرع من سرعة الإشعاع من خلالها إلى أعماق القلب.
أما قراءتنا للقرآن قراءة متعجّلة دون الوقوف على معاني الآيات في الأوقات الأخرى، فما هي إلا ترداد لبعض الكلمات والألفاظ التي نتُمْتم بها بين شفتينا، فلا تجتاز حناجرنا لتتمكّن من الوصول إلى أعماق قلوبنا، ولا تفتح نوافذَ جديدة، وأبواباً مباركة في آفاق التفكير، لنستطيع من النفوذ منها إلى العوالم العلوية/السامية المتفتّحة أبوابها دائماً لمن جدّ في الطلب. وكما قال الشاعر:
فأكثر هذه الصلوات لكبيرة علينا،
وكأنها ضريبة نقدّمها للمحصّل لنتخلص منها
وأما الذين يستمعون للأذان بهذا المكان المبارك، في سكوت وتفكير عميق، ومراقبة نفسية هادئة، وبإدراك تام للدلالات والمقاصد التي ينطوي عليها، فهم خاشعون للرحمن، فلا تسمع منهم إلا همسًا. لا يرفعون أصواتهم ولا يصطرخون، وإنما هم يتدارسون ويتذاكرون، وهم يستمعون أكثر مما يتكلمون.
ولكلّ أحد هنا أن يسأل ما يريد، غير أن أسلوب السؤال المحلّى باللياقة والأدب الكامل هو الذي يلفت الانتباه أكثر من مضمون السؤال، حتى من الجواب نفسه؛ إذ الأسلوب مرآة يتجلى فيها أدب الإنسان. ولا يستطيع أحد أن يتوقّع ويخرص مسبقًا ماذا سيكون الردّ على سؤاله. وكذلك لا يتوجّه أحد بسؤال شخصي ليحصل على جواب يؤيِّد أفكاره الثابتة وآرائه المسبقة. وإن كان هناك من يتقدّم بهذه الغاية، فكأنه لا سبيل له للحصول على جواب يلبّي حاجته؛ حيث لا مجال هنا للجدل والجدال والادعاء والتحدي، الأمر الذي سيعكِّر صفوه، ويقضي على جوّه الروحاني. لا يمكن أن يعلو عليه إلا البيان والإيضاح والشرح والمذاكرة، بل تلك الأمور من الميزات الأساسية لهذا المكان.
إنّ المهمّة الأساسية لهذا المكان المبارك هي العبادة، أما التفكّر فهو لبّ العبادة ومخّها. وكلّ شيء فيه، سواء كان ماديًّا أو معنويًّا، في موضعه المناسب والملائم له. وذلك لا يقوم إلا على أساس العدالة والموازنة والانسجام والتكامل في التفكير: الدنيا والآخرة، الحال والماضي والمستقبل، الظاهر والباطن، العالم السفلي والعالم العلوي، العلم وقضايا الساعة، التاريخ والجغرافيا، الزمان والكون..إلخ، كلٌّ يحتضن صاحبه، وينسجم مع أخيه، ولا يطغى شيء على آخَر أبدًا، فكأنها أبعاد مختلفة لحقيقة واحدة، أو وجهان لعملة واحدة. وكذلك لا مكان للطيش والفوضى هنا على الإطلاق؛ إذ لكل مقام مقال، فلا يجري أي حديث إلا مطابقًا في مقامه، ومناسبًا في زمانه، وبحسب مستويات المخاطبين.
إن هذا المكان المبارك كالنهر الجاري، لا يخلو من الغادين والرائحين؛ كلُّ من يغدو يغتسل فيه، فيتطهّر من أدرانه النفسية؛ وينال ما لا يحتسب، فتربح تجارته.. كلٌّ على حسب استعداده وقدرته.
كان هناك مئات من الأسئلة تدور في بالي، أسئلة كنتُ عزمت على التوجه بها إلى الأستاذ الفاضل، ولكنّني لم أتمكّن إلا من قليل منها. ما كان في كلامه صيغة أمرٍ قطّ، غير أن الذي يحفّ كلامه كان شيئاً آخر فوق الأدب واللياقة؛ حيث كان أدب المسؤول/المجيب ولياقته يفوقان أدب السائل ولياقته بكثير. أنا الذي حاولت أن أعيش وفق مبادئ الإسلام طوال حياتي على الصعيد الشخصي، وأتمتّع بفكر حرّ وروح منطلقة من القيود، ولا أستحيي من طرح الأسئلة، وكذلك لم أجعل قضيةَ التعلّم سبب تكبّر، ولم تأخذني في سبيل العلم عزة، فما الذي منعني من طرح جميع أسئلتي يا تُرى؟ يبدو لي أن الجواب يكمن في قول عبد الله بن المبارك؛ إذ يقول: قد يكون الاستماع للدرس اشتراكاً فيه.
إنه كان ممتعًا جدًّا أن أستمع للدرس وأشترك فيه بالمكان الذي يعيش فيه العالِم الفاضل، والداعية الكبير، الشيخ محمد فتح الله كولن المحترم، الذي توّج هجرته على أتم وجه، ولاح في أفقه أملُ ورسالةُ إنشاء مدن على ضوء المدينة المنوّرة لتلد من بطونها مدَنية عظيمة عالمية.