كلما تحدث أحد عن الدعوة الإصلاحية للأستاذ فتح الله كولن، حلا لبعضهم أن ينتقد التصوف!
فدَعونا ننظر أيّهم الأولى بأن يُنتقد بالأخطاء المنسوبة للتصوف:
أولا: نحن نعلم أن توحيد الله تعالى باعتقاد انفراده بحق تعظيم الرب (حبا ورجاء وخوفا)، والذي يتجلى في إفراده تعالى بالعبادة الظاهرة والباطنة، من تمام التوكل وكمال الاعتماد وعدم غياب معنى الخضوع الكامل لكل ذرات الكون له عز وجل، هذا هو التوحيد الذي دعا إليه الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام)، وهو حقيقة الإيمان، وأهم ما تتميز به الدعوة الشرعية عن الدعوات القبورية الخرافية.
وهذا المعنى حاضرٌ أشد حضورا في دعوة الأستاذ فتح الله كولن، حتى أن من أسس هذه الدعوة حول النظرة إلى كلمة الشهادة (والتي ذكرها الأستاذ في بعض كتبه): أن (لا إله إلا الله) غاية، و(محمد رسول الله) وسيلة! ومع أن هذا الإطلاق قد يتعسف بعضهم بنقده، بكون الكلمتين كلْتَيهما غاية؛ ومع سهولة ووضوح الجواب عن هذا النقد المتعسف، فإنها من وجه آخر عبارةٌ تُبيّنُ البعدَ الكامل لهذه الدعوة عن الغلو في الخلق، وأنه لا خوف عليها في أن يصل بها الغلو حد رفع مخلوق (ولو كان هذا المخلوق هو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم) إلى منزلة الخالق عز وجل.
أخذت حركة الخدمة من الأسباب بأكبر نصيب: تخطيطا، وإتقانا، وطموحا. حتى فاقت عَبَدةَ الأسباب، في شدة الحرص عليها، لكن فارقوهم في النظر إليها على أنها مجرد أسباب، لا تغني شيئا.
وأنّى لدعوة تقوم على فناء الذات في فضل الله تعالى وإحسانه، وإيكال كل خير إليه، والتبرّي من كل حول وقوة إلا بالله، أن يكون لديها خلل في التوحيد.
وتعالوا ننظر في حال كثير من المنتقدين: من غرور وتعالٍ، يظهر في غلو في الوثوقية بالعلم والمنهج الذي يعتقده بكل تفاصيله (كبيرها وصغيرها، أصوليها وفروعيها)، حتى أنه ليعتقد أنه هو السنة والإسلام! أن مثل هذا الغرور لا يصدر إلا ممن عظمت ذاته في نفسه، حتى غاب حضور عظمة الله في قلبه، فأيهم هنا أحق تحقيقا للتوحيد؟!
ثانيا: من أشد ما يُنتقد به غلو بعض المنتسبين للتصوف أيضا: الخرافة، من اعتقاد كرامات وبركات لا يقبل بعضها شرع ولا عقل. ومن أظهر صور هذه الخرافة هو التواكل باسم التوكل، وهي ترك الأسباب تحت شعار الاعتماد على الله.
فهل دعوة الأستاذ فتح الله كولن كذلك؟!
الحقيقة: أنه لا يستطيع أن يتّهمها بذلك حتى خصومها، فهي قد أخذت من الأسباب بأكبر نصيب: تخطيطا، وإتقانا، وطموحا. حتى فاقت في ذلك عَبَدةَ الأسباب، في شدة الحرص عليها، لكن فارقوهم في النظر إليها على أنها مجرد أسباب، لا تغني شيئا بغير اعتماد واستناد إلى مسبب الأسباب، وهو الله تعالى.
فهل منتقدوهم بالتصوف كانوا كذلك؟
انظروا إلى خرافة أكثر أدعياء الجهاد ومن كانوا وما زالوا يدعمونهم فكريا ويدافعون عنهم من وعاظ ودعاة وأدعياء علم: في ترك الأسباب على أوضح صور ترك الأسباب، والمتمثل في ترك الإعداد الذي أوجبه الله تعالى، وفي التحرش بمن لا تتيح لهم الأسباب الانتصار عليه، بدعوى الثقة بنصر الله تعالى، وينتظرون بعد قرار خوض المعركة الفاشلة بكل مقاييس الأسباب أن تُخرق لهم العادات وأن تتحقق لهم الكرامات لكي تغيّر لهم عالم الأسباب، حتى غرروا بالشباب بدعاوى تلك الكرامات (آيات الرحمن في جهاد الأفغان)! ما الفرق بين هؤلاء في خرافتهم وتواكلهم واعتمادهم على خرق العادات عن خرافة بعض المنتسبين للتصوف؟!
وأنّى لدعوة تقوم على فناء الذات في فضل الله تعالى وإحسانه، وإيكال كل خير إليه، والتبرّي من كل حول وقوة إلا بالله، أن يكون لديها خلل في التوحيد.
ثالثا: من فساد التصور لدى بعض المنتسبين للتصوف الخطأ في فهم علاقة إعمار الأرض بالزهد، فتركوا إعمارها بحجة الزهد فيها.
فهل كانت دعوة فتح الله كولن كذلك؟ أم سعت بكل وضوح إلى نشر العلوم الدنيوية، وإلى منافسة دول العالم المتقدم في ذلك أعظم منافسة؟
وازنوا ذلك بمن عدوا الحرص على إعمار الأرض بالتقدم العلمي والتقني سقوطا في خطيئة تقديم الدنيا على الآخرة، وأن هذه الخطيئة من مآلات الخطاب المدني، من أدعياء السلفية المعاصرة.
فأي الفريقين ألصق بفساد التصور الذي وقع لغلاة وجهلة المنتسبين للتصوف؟!
وهناك جوانب أخرى تبين أي الفريقين أولى بالنقد بأخطاء المنتسبين للتصوف:
- غلوا في الشيوخ.
- خلط بين الورع والتشديد والتزمت.
- وفي سطحية فهم النص دون عمق الفقه فيه.
كل ذلك وغيره يبين أن منتقد دعوة فتح الله كولن بأخطاء المنتسبين إلى التصوف هو الأولى بالنقد منها، بل ما أبعد دعوة كولن عن تلك الأخطاء؛ إلا إذا كان الحديث عن تزكية النفس وأعمال القلوب هو التصوف المنتقد! فإن كان، فحيهلا بهذا العيب الذي هو كمال!