المقدمة
إن الجمال مبثوث في كل أجزاء الوجود، والعبارة فن خاص له نصيب كبير من الجمال، وكلما صيغت العبارة بأسلوب بديع ووضعت في رونق باهر، أثرت في نفس المخاطب وتسللت إلى أعماقه لتستقر في قلبه.
يرصد الكاتب من خلال هذه الدراسة منهج الأستاذ كولن في توصيل أفكاره وأراءه عبر جمال الأسلوب المعبر عن عمق المعنى، فيسعى من خلال كتاباته المتنوعة إلى إيصال المعنى للقارئ بصور غاية في الإبداع والجمال، وهو ما يرسخ لدى القارئ أهمية مفهوم الجمال وتذوقه، فالفن ضرورة إنسانية، وحتى أجمل المعاني إن لم توضع في قوالب فنية بديعة فستستنكرها الأذواق السليمة لمخالفتها للطبيعة. ولكن من أين يستقي الأستاذ كولن جمال تعبيراته وعباراته؟ وما هي الاسقاطات للرمزية التي يستخدمها في أشعاره؟ وما هي لغة الروح التي يسعى إلى إحيائها؟ كل هذا وأكثر يتناوله البحث بالدراسة والتحليل.
انطلاقًا من رمزية الثنائي “البلبل، الوردة” وهما مظهران لمفهومي الحب والجمال، يؤكد “النورسي” على أن الحب مرتبط بالجمال ارتباط المعلول بالعلة.
******
الجمال ملمح أصيل من ملامح بنية الكون المادي والمعنوي، الجليّ والخفي مـقوم أساس من أهم مقومات العمران والحضارة، ولا ريب أن المتصدي للعمل التربوي والدعوي والعلمي والتعليمي يجب عليه “التماهي” مع هذا الجمال بكل أشكاله، وألا يغيب عن تكوينه الفكري والمعرفي والمنهجي والتطبيقي هذا الجانب الحيوي الهام. فالذائقة الجمالية تؤطر لوعي فكري خلاّق محوره “معرفة النفس”، وكيفية النظر للكون والحياة والأحياء.
و تفعل كذلك الحواس “المفطورة على حب الجمال” وتُربي الناس على تذوق الجمال الكوني المبثوث، وانتهاج سبل ومعاملات أكثر جمالاً؟. لذا يمكن القول بأن الجمال وتذوقه وتنميته وسيلة “هادية ودالة” على وجود الله تعالي، مصدر كل جمال. وينبغي ألا يُرى هذا الجمال المتغلغل في الكون دون رؤية مبدعه، ومن ثم حبه، “ولا يُتصور محبته محبة حقيقية إلا بعد معرفة وإدراك”. فكيف يمكن رصد ملامح ” الذائقة الجمالية” عند الأستاذ “فتح الله كولن”.. مفكرًا وفيلسوفًا، ومُنظرًا ومربيًا، وعالمًا ومُعلمًا؟
فعلى كثرة الدراسات والأطروحات والمقالات التي تناولت جوانب عديدة من شخصية “كولن” ومنهاجه وأساليبه التربوية والدعوية والعلمية والتعليمية إلا أن القليل منها ـ في ضوء علم الكاتب ـ قد تناول هذا الجانب الفاعل، لذا ستحاول هذه الدراسة الإجابة عن هذا السؤال المحوري.
الفن ضرورة إنسانية
الإحساس بالجمال شعور فطري أصيل، وعمر هذا الشعور يكاد يكون هو عمر الإنسان، “فلا إنسان بلا فن، ولا فن بلا إنسان” ويرفد هذا الشعور ويـُشبعه التأمل والتدبر في القرآن الكريم “كتاب الله المسطور”، وفي الكون “كتاب الله المنظور”، فالأول كلامه تعالي “آيات قرآنية”، والثاني خلقه وإبداعه “آيات كونية، وتكوينية.. ظاهرة وخفية” ولا تعارض بينهما. ولا شك أن الجمال والإسلام صنوان لا يفترقان، فالإسلام دين السلام والخير والرحمة، والجمال علامة السلام والخير والرحمة(1).
إن فتح الله كولن ينتصر للمحتوى على حساب الشكل، بغرض الدفاع عن حقيقة الوجود، وعن الإيمان برب الوجود.
لذا نجد رؤية معرفية أطّرها الأستاذان: “بديع الزمان سعيد النورسي”، و”محمد فتح الله كولن” وتستشرف الانفتاح على القرآن الكريم، والكون الفسيح، والعلم النافع، والفن الهادف بميزان الوجدان والعقل. حيث أشار النورسي “لتوجه البشرية في آخر الزمان إلى العلم والفن”. فالفن ضرورة مُلحة من ضرورات النفس الإنسانية في تحاورها المستمر مع الكون المحيط.
وتؤكد هذه الرؤية على أن: “كتاب الكون مفتوح على مصراعيه، يثبت كل ألوان الإبداع الرباني للخالق البارئ ، وفيه من الآيات البينات ما لا يُحصى عددًا، وينبغي على المختصين الإبحار في قراءته: آية آية، وسورة سورة.. من الذرة للمجرة، ومن الزهرة للشجرة، بدراية علمية، وبراعة لغوية، وإشرافات وجدانية، ومن قبل وبعد.. بلمسات إيمانية”.
لقد تعارف أهل العلم -قديمًا وحديثًا- فيما عُرف بـ”علم المحاسن” أو علم الجمال على أن: “الجمال أحد القيم الثلاث التي ترد إليها الأحكام التقويمية، وهذه القيم هي: الحق والخير والجمال”(2).
وأقسام الجمال ثلاثة: مادية كونية، ومعنوية نفسانية ومزيج بينهما. يقول الشيخ الرئيس ابن سينا: “وجمال كل شيء وبهاؤه هو أن يكون على ما يجب له”. وتعارف أكثرهم على أن الجمال في الكون أصيل وكلّي وغائي فلمسات التجميل والتحسين رحمة مُرادة”. كما وصفوا “الشيء المادي الجميل” بأنه: “ما كان سالمًا مِن النقائص والمعايب، ومُتقنًا، ومُتناسِقًا، ومُنتظمًا، ومتناسبًا، ومتماثلاً، ودقيقًا، وبسيطًا، ونافعًا، ومُبهرًا، ومبهجًا في آن معًا.. وهذه سمات ذاتية وموضوعية يمكن قياسها، وتكمن وراء مفردات هذا الجمال المبثوث في الجمادات قبل الأحياء. أما اللذات الجمالية فهي تتسم بالتنوع والشمول؛ فهناك لذات حسية سمعية وبصرية وشمية وذوقية، وهناك لذات جمالية فكرية وروحية وعاطفية تتذوقها العقول والأرواح والقلوب.
كولن والنورسي
يعتبر بديع الزمان سعيد النورسي (1877-1960) أحد أبرز رجالات العلم، وفطاحل الفكر، ورموز التجديد في العصر الحديث. له مكان ومكانة ورؤية متميزة -من وجهة نظر إستاطيقية- للكون والحياة. رؤية مطلوبة ليس للمسلمين وحسب بل للبشرية جمعاء، لذا فمعرفة رؤيته ورؤية ومن سار على دربه كالأستاذ المُعلم فتح الله كولن هامة من جانبين:
يقول الأستاذ كولن “ومن أمعن وعمَّق ودَقَّق النظر في القرآن رأى فيه تناغمًا وانسجامًا يستحيل أن تأتي به قرائح البشر”.
أولهما: تنامي مظاهر القبح والتشويه والفوضى والتخاصم والعداء والعنف، وشرعة غاب متفشية، لذا يهفو المرء عوضًا، أو قل إن شئت هروبًا من ذلك، بمقاربة الجانب الجمالي وتنمية الذائقة الجمالية عبر ترحال في آفاق الفكر والأنفس، ليستطيع تحمل وطأة هذا الواقع.
ثانيهما: في وقت تحرص فيه الأمم على إدامة التذكر والتذكير برجالاتها الألمعيين المتميزين، فلم لا نكون مثلهم فلدينا العدد الهائل ممن يستحقون هذا التذكر والتذكير.
وبعد حيرة فكرية عن أي الطرق يسلك يقول النورسي: “إن بداية هذه الطرق جميعها، ومنبع هذه الجداول كلها، وشمس هذه الكواكب السيارة، إنما هو القرآن الكريم، فتوحيد القبلة الحقيقي -إذن- لا يكون إلا في القرآن الكريم؛ فالقرآن هو أسمى مرشد.. وأقدس أستاذ على الإطلاق.. ومنذ ذلك اليوم أقبلت على القرآن واعتصمت به واستمددت منه.. فاستعدادي الناقص قاصر من أن يرتشف حق الارتشاف فيض ذلك المرشد الحقيقي الذي هو كالنبع السلسبيل الباعث على الحياة، ولكن بفضل ذلك الفيض نفسه يمكننا أن نبين ذلك الفيض وذلك السلسبيل لأهل القلوب وأصحاب الأحوال، كلٌّ حسب درجته، فـالكلمات والأنوار المستقاة من القرآن الكريم (أي رسائل النور) إذن ليست مسائل علمية عقلية وحدها بل أيضاً مسائل قلبية، وروحية، وأحوال إيمانية.. فهي بمثابة علوم إلهية نفيسة ومعارف ربانية سامية”(3).
وفي هذا المضمار نرى الأستاذ كولن قد سار على درب النورسي فكان كتابه القيم: (القرآن الكريم، “البيان الخالد.. لسان الغيب في عالم الشهادة”(4)، وهو علامة بارزة في المكتبة القرآنية التليدة، حاول فيه الكاتب الاغتراف من مأدبة القرآن الكريم، وتذوق ثماره الغضة، والارتواء من نبعه الفياض المتدفق، وبديع أسلوبه، وروعة نسقه.
إن النورسي، وكولن كلاهما يولي اهتمامًا ملحوظًا بتذوق روضة الملامح والتشكيلات والقيم والمعاملات والمفردات الفنية والجمالية في الكتاب المسطور.
يقول الأستاذ كولن “أسلوب القرآن نسيج وحده، فما إن سمع آياته بلغاء العرب والعجم حتى خروا له ساجدين، وعندما رأى أهل النَّصَفة من الأدباء محاسنه ذلت أعناقهم خاضعين بأدب وتقدير جمّ لسلطانه المبين”. وسيلاحظ القارئ لهذا الكتاب كيف أنَّ مؤلفه يطوف حول عظمة البيان مرتحلاً عبر رحلات استكشاف جزالة النظم، وعمق الاختزان، وخلود البيان. وبينما يبحر في هذا الميدان مبينًا عظمة كتاب الله المسطور، وما فيه من جلال وجمال وكمال، نراه ينتقل ـ في رؤية استاطيقيةـ إلى الربط بين “المسطور والمنظور” فالكون دائم التغيّر سريع التطوّر، والتضافر بينهما كما بين جناحي الطائر. وحيثما تصل البشرية في نهاية رحلتها وخاتمة مطافها في استكشاف الكون والأنفس فستسمع كلّ شيء ينادي بلسان الحال والمقال أن: “لا إله إلا الله” مصداقاً لقوله تعالي: سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(فصلت: 53)(5).
ولقد أدلي النورسي بدلوه في بحر جماليات البيان القرآني، وهذا منطقي من رجل تدفقت “رسائله”(6) من نبع كتاب الله المترع عذوبة وسخاء، وجمالاً وبهاء، فضلاً عن أن خلفيات النورسي الإيمانية والفكرية تنبض بعشق الجمال، وتأمل الإبداع الإلهي، وهو حين يتحدث عن “البعد الجمالي” في أسلوب القرآن الكريم يحاول أن يوجزه بالإحالة إلى مصطلحات البلاغيين: كالنظم، والمعنى، والأسلوب، واللفظ، والبيان، والتكرار.. ذلك أن الإحساس بالجمال ورؤيته والتفاعل معه وتلقيه وتحليل أبعاده وعناصره -سواء في كتاب الكون المنظور أو الكتاب المقروء- يهيمن على كلمات النورسي ورسائله من بدئها إلي منتهاها(7)، ومن ثم فإن ما يقوله النورسي عن جماليات الأسلوب القرآني، قد ينتشر بالكلمة القرآنية نفسها، جنبًا إلى جنب مع الإبداع الإلهي في الكون والعالم.
هذا الجلال القرآني الذي ينبض بالجمال وبالتناظر والتناسب، والتوزيع المذهل للأبعاد والمساحات… هذا التدفق الموصول الذي لا يكف عن الخفقان لحظة واحدة، ولا عن الإيمان لحظة واحدة، ولا عن الوعد بالعجيب المدهش لحظة واحدة. أليس هذا من قبيل عطاء الله الجميل الذي يحب الجمال، والذي لا تنفد كلماته؟!(8).
التناغم الجمالي في البيان القرآني
ولذا نري المفكر كولن يخصص الفصل الأول من “البيان الخالد” ليتذوق براعة البيان القرآني، وجمال اللفظ، وعمق المعنى، ودقَّة الصياغة، وروعة التعبير، ولم لا.. فمنذ وقت باكر استحوذت براعة البيان القرآني على قدر كبير من اهتمام العلماء والدارسين وكانت الدافع وراء ما بذلوه من جهود مباركة، يرمون من ورائها إلى تحقيق هدف أصيل، جدير بأن يبذل في سبيله كل جهد، وتستنفد فيه كل طاقة.
إن الإحساس بالجمال ورؤيته والتفاعل معه وتلقيه، وتحليل أبعاده وعناصره، سواء في كتاب الكون المنظور أو الكتاب المقروء، يهيمن على كلمات النورسي ورسائله من بدئها إلي منتهاها.
يقول الأستاذ كولن “ومن أمعن وعمَّق ودَقَّق النظر في القرآن رأى فيه تناغمًا وانسجامًا يستحيل أن تأتي به قرائح البشر، فسوره متّسقة، ومتناسبة، وكل سورة كأنها صورة مصغّرة للقرآن، فيها كل ما فيه؛ فالانسجام مكين فيه وأصيل، ولقد اتفق المفسرون أن القرآن كلّه في سورة البقرة، وسورة البقرة في الفاتحة، والفاتحة في البسملة؛ إذًا القرآن من مبدئه إلى منتهاه في انسجام تام وكأنه جملة واحدة”(9).
كما نجده يقول: “من وجوه إعجاز القرآن: التنسيق والاتساق والتناغم والانسجام؛ ومنها أسلوبه البيانيّ الذي فاق مستوى البشر، وأعجز طاقتَهم، وبالمثال يتّضح المقال: لن تجد بين سور القرآن وآياته أو كلماته أسلوبًا أو جملة تخل بالتناغم والانسجام، فكأنه سبيكة ذهبية من قالب واحد، رغم أنَّه نزلَ منجّمًا في عقدَين ونيف، بمناسبات مختلفة، وحالات متنوعة، لمخاطبين شتى، وما ذلك إلا لأنه كلام الذات المنزهة عن الزمان والمكان، فالعقدان عنده تعالى كأنهما “آن” واحد، والماضي والحاضر والمستقبل سواء. لكل علم وفن مصطلحاته وأسلوبه، وله لغة وطريقة خاصة يعبر بهما عن مواضيعه ومباحثه، ولقد جمع القرآن الكريم كل هذه الأساليب في إعجاز وجمال”(10).
ويفصح الكاتب عن نظرته الشخصية فيقول “وأنا شخصيًّا أنظر إلى القرآن وكأنه صورة بلورية واعية رعت مستوى إدراك البشر، أو كأنَّه كائن حيٌّ يحيط بأحوالنا كلّها، ودليل هذا من البيان النوراني المحمدي: “وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لكَ أوَْ عَلَيْكَ” (11). كما يشير إلى “أن القرآن منبع هداية، فمن أراد الهداية في كل ميدان فعليه بالقرآن، يسترشد بهديه ويسير في نوره، وتحقيق هذا يقتضي الانسجام مع القرآن وتلاوته والاستماع إليه بتدبر”(12).
فجّروا ينابيع القرآن!
الحرائق تتسعَّر وتمتدّ،
واللهب يلسع الوجوه،
ويأكل القلوب..
ولا مغيث ولا معين..
والقرآن ينادي:
“إليَّ تعالَوا، ينابيع نورٍ أنا،
إذا تفجَّرتْ أَطفأتْ، وإذا انبجست سقَتْ،
والجحيمَ حوّلتْ، وجنَّات صارت،
والطمأنينةَ نشرتْ، والسكينة أشاعت..
فما بالكم لا تسمعون وإيّاي لا ترجون؟!(13)
وقد خلُص في رؤاه إلى أن: “القرآن الكريم كتاب صالح لكل زمان ومكان، لكل عصر ومصر” يتميز بأسلوبه الرائع، وبمفرداته المعدودات، وجُمله المختصرات الدالات على كثير من الحقائق الكونية.
وما أكثر الآيات التي تقف أمامها “خاشعاً في محراب جلالها وجمالها، متأمِّلاً دقّة بنائِها وإحكامها، وروعةَ أسلوبها وسحرها، ومتدبِّرًا دِلالاتها ومعانيها، ومتفكرًا في علومها وعجائبها ومعجزاتها” فوسط دعوات أعداء الإسلام للتشكيك في القرآن الكريم. تتجلى الآيات الكونية لتثبت -لهم ولغيرهم- صدق كلام الله تعالى، المُنزل على رسوله الخاتم ﷺ فهي وسيلة للتقرب إلي الله تعالى، وزيادة اليقين به، وسبيل للدعوة إليه. فأجمل لحظة يعيشها المؤمن عندما يتّخذ من العلم طريقًا للإيمان بالله تعالى، واليقين بعظمة كتابه الخالد، وبهذا يجني المرء الإيمان، ويدحض الشبهات، كما يفهم الكون والمادة و”سُننهما”، وقوانينهما، فيتطور حضاريًا وماديًا.
أجمل لحظة يعيشها المؤمن عندما يتّخذ من العلم طريقًا للإيمان بالله تعالى، واليقين بعظمة كتابه الخالد، وبهذا يجني المرء الإيمان، ويدحض الشبهات، كما يفهم الكون والمادة و”سُننهما”، وقوانينهما، فيتطور حضاريًا وماديًّا.
تضرع قلم
تكلَّمْ يا قلَم
واصرخ يا مداد:
“يا مَن بالقلم أقسَمْتَ!
أعوذ بك أن تلمسني يَدٌ جافية،
ويستخدمني عقل غبيّ،
وروح ضال…
وهَبْني -يا ربُّ- إلى مَن إليك يكتب،
وعليك يدُلّ..”(14).
الذائقة الجمالية في “النور الخالد”
كما تذوق العلامة المُجدد فتح الله كولن من أطايب ثمار القرآن الكريم نجده قد تخرج في مدرسة النبوة والرسالة. ومقوم الجمال والإحسان والذائقة الجمالية الإنسانية ركيزة من ركائز هذه المدرسة ونورها الرسالي فالسيرة عند مؤلف كتاب النور الخالد “حضور جمالي دائم لا يغيب، يعايش أحداثها المباركة في فكره وقلبه ووجدانه، ويمتلئ بها حسُّه وشعوره وإعماله، إنها نبض القلب، وخفق الجنان، إنها تشكل عقله، وتنظم فكره، وتروي وجدانه، فتنعكس عنه سلوكــًا محمديَّ البصمة، وسننًا تشكل واقعه وواقع الناس والإنسانية جمعاء(15). ويتجلي هذا في سفره “النور الخالد.. محمد صلي الله عليه وسلم، مفخرة الإنسانية”(16).
فهذا الكتاب المتميز الذي كتب “بقلم أديب، وريشة فنان، ولهجة عاشق، وتلمح فيه حبًّا للرسول الخاتم، رحمة للعالمين، حباً ليس عن عاطفة مجردة منفصلة عن الأسباب، بل هي عاطفة لها ما يبررها”. ومن ذلك أن الرسول ﷺ قام بتربية المؤمنين الذين اتبعوه تربية عالية، وكان حريصًا على السمو بنفوسهم إلى المعالي، ودعوه المسلمين إلى الحركة والعمل، ودفعهم لخوض مجالات التجارة والزراعة بالتوازي مع الجهاد، لهذا فقد حصلت البشرية على يده ﷺ على أفضل رجال الإدارة والاقتصاد، فقد كان أكثر المربّين تأثيرًا في طول التاريخ وعرضه وأكثرهم مصداقية”.
الفرسان
هؤلاء السالكون، فرسان سائحون
وبالطريق هائمون، قلبوهم بالإيمان مترعة
ونواصيهم بالفكر مشرقة..
إلى السماء يمدون يدًا، وإلى الأرض يدًا..
من هنا مرّوا، وآثارًا لهم تركوا
والآفاق نوروا، والطمأنينة نشروا!(17).
ثنائية “البلبل والوردة”
إن النورسي، وكولن كلاهما يولي اهتمامًا ملحوظًا بتذوق روضة الملامح والتشكيلات والقيم والمعاملات والمفردات الفنية والجمالية في الكتاب المسطور، وسيرة “النور الخالد”، الكون المنظور، ورمزية الروضة عند النورسي عبارة عن الجمال أو الحسن المجرد يلبسه الشعراء والبلغاء صوتًا “الحسن المجرد هو الروضة لأزاهير البلاغة التي تسمى لطائف ومزايا.. وتلك الجنة المزهرة هي التي تتجول وتتنـزه فيها البلابل المسماة بالبلغاء وعشاق الفطرة، وأولئك البلابل نغماتهم الحلوة اللطيفة إنما تتولد من تقطيع الصدى الروحاني المنتشر من أنابيب نظم المعاني”(18).
وانطلاقًا من رمزية الثنائي “البلبل، الوردة” -وهما مظهران ماديان لمفهومين مجردين: الحب والجمال- يؤكد النورسي على أن “الحب مرتبط بالجمال ارتباط المعلول بالعلة”، ويجد هو وكولن أن الجمال يمثل أحد المصادر الرئيسة واللانهائية للحب “أن يحب الشيء لذاته لا لحظ ينال منه وراء ذاته بل تكون ذاته عين حظه، وهذا هو الحب الحقيقي البالغ الذي يوثق بدوامه وذلك كحب الجمال والحسن، فإن كل جمال محبوب عند مدرك الجمال وذلك لعين الجمال؛ لأن إدراك الجمال فيه عين اللذة واللذة محبوبة لذاتها لا لغيرها، ولا تظنن أن حب الصور الجميلة لا يتصور إلا لأجل قضاء الشهوة فإن قضاء الشهوة لذة أخرى قد تحب الصور الجميلة لأجلها وإدراك نفس الجمال أيضًا لذيذ فيجوز أن يكون محبوبًا لذاته”(19).
ولعل هذه الفكرة قد تبلورت من هذا الحديث النبوي الشريف: قال النبي ﷺ: “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقالُ ذرة من كِبْر قال رجل إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة قال إن اللّٰه جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس”(20).
فالخالق سبحانه وتعالى وضع في كل كائناته شيئًا من الجمال كما غرس في ذات كل كائن بذرة حب الجمال “وقس على البلبل؛ بلابل النحل والعنكبوت والنمل والهوام والحيوانات الصغيرة. فلكل منها غايات كثيرة في أعماله، أدرج فيها ذوق خاص، ولذة مخصوصة، كمرتّب وكمكافئة جزئية، فهي تخدم غايات جليلة لصنعة ربانية بذلك الذوق. فكما إن لعامل بسيط في سفينة السلطان مرتّبهُ الجزئي، كذلك لهذه الحيوانات التي تخدم الخدمات السبحانية مرتّبها الجزئي”(21).
ولاشك من تتعدد مظاهر الجمال الزاخر، وجمال سُـّنن الله في الآفاق، والإبداع المبثوث في الكون المادي. ويؤكد “أينشتين” على أنه “لا علم من غير الاعتقاد بوجود تناسق وتناغم داخلي في الكون.. تناسق الأجزاء مع بعضها البعض ومع الكل الجامع”(22).
المبنى والمعنى
المجزءات، الفكر يجمع بينها..
والناشزات، في النغم الواحد تتعاشق…
والفراغات، يملؤها الخيال،
ويترعها الذهن بالمعني…
فالميزان عدل، والكتاب دستور، وللقاضي مطرقة..
والكل في النظر العميق عالم موزون ومطلوب..(23).
ولا يفوت الحديث عن الجمال والفن في الرؤية النهضوية للنورسي، وكولن؛ الإشارة إلى الذوق الرفيع، والحس والأدبي المرهف، والجمال الأخآذ، واللغة الشاعرية الرقيقة التي تصبغ كتاباتهما، وهي وإن وصلت إلينا مترجمة، إلا أن معانيها المتضمنة، تستنفر في داخل كل ذواق وفنان وشاعر تلك القيمة الكبيرة التي تميزهما.
الإحساس بالجمال شعور فطري أصيل، وعمر هذا الشعور يكاد يكون هو عمر الإنسان، فلا إنسان بلا فن، ولا فن بلا إنسان.
وفي هذا السياق يقول كولن “ولا بد من الاعتراف أن الأدب جمال وفن، ذلك أن الأديب كالفنّان، يبحث دومًا في ألوان الكون وخطوطه وأشكاله عن نفسه، وفي اللحظة التي يجد فيها ما يبحث ويعبّر عنه، يكسر قلمه ويرمي بفرشاته ويغيب بذهول وإعجاب عن نفسه.. والأدباء والشعراء “يدندنون” بالجمال الخفي والجلي، أي الجمال في الأنفس وفي الآفاق، يشبهون عازفي الناي”.
ألوان وظلال في مرايا الوجدان
ثمة علاقة وثيقة بين الصورةُ والنصَّ المرافق؛ فالصورة تجسيدًا للنص، والتصوير والرسم يجسد ما يقوله النص، وبدون ذلك فإنها تصبح صورة ملتبسة المعاني، غائمة المباني.
ولقد طبق هذا العلامة كولن -ببصيرته الفذة- ورأى أن هناك عناصر أخرى مساندة للغة المنطوقة؛ كالألوان والصور والرسوم.. تساعد هذه اللغة غير المنطوقة على التصوير بشكل دقيق وواضح وتمثل وعاء أخر الفكر، وتتيح للإنسان التفكير من خلال الأشكال والإشارات والأصوات والألوان.
وللرجل “الثمانيني” لطف الحضور وجمال الحيوية مما يجعله -على كثرة بكائه- من مصادر فرح العقول، وبهجة النفوس ولما لا فقد دأب على إطالة النظر فيما تقع عليه عيناه من صور ورسوم ولوحات.. ومن ثم يسبر غورها ويكشف خباياها ويصوغ -بشمولية وحيوية- أفكارها ومعانيها من جديد بالعبارات والكلمات. ويمكن مطالعة كتابه اللطيف “ألوان وظلال في مرايا الوجدان” لتقف على هذا المعنى وتستوضح “جدلية الصورة والمعني”.
الإنسان والجمال
أمعن -يا إنسان- النظر،
ومن سجن نفسك تحرر،
ولمحات الجمال تشرب..
ودع قلبك يطر فرحًا،
وروحك يرقص طربًا..
واستشرف جمال “الجميل” في كل جمال
تطمئن نفسك،
ويزدد إيمانك،
وإلى ربك تعد إنسانًا
خالصًا في إنسانيتك.
ولعل التجسيد الفني يتيح للعمليات العقلية المعرفية القيام بدورها في استقبال الرسالة الاتصالية وفهمها، فعند مشاهدة أو قراءة مضمون لفظي تسانده الألوان أو الأضواء أو الرسوم، سيتم تذكر خبرات سابقة، وتخيل صورًا جديدة مركبة، فيكون الإدراك والفهم أكثر دقة.
لقد كانت رؤية النورسي للعالم والأشياء والكلمات، رؤية مهندس يلمح ببصيرة ثاقبة وخبرة عميقة عناصر التوازن والتناظر في معمار الكون الكبير.
ويجب أن نتذكر أن انتقاء الكلمة والعبارة والرسالة والإشارة لا يعني مجرد اختيار مفردات، وصياغة علاقات، بحيث تصب في فكرة ينحاز إليها المربي، أو يرجحها وينتظرها من طلابه ومريديه، لكن الفن والجمال إكسير الأدب، و”العنصر الأساس في الأدب هو المعنى لذا يجب أن تكون الكلمات المذكورة قليلة وقصيرة وغنية بالمعاني”.
من هنا نجد كولن ينتصر للمحتوى على حساب الشكل، بغرض الدفاع عن حقيقة الوجود، وعن الإيمان برب الوجود، فالأدب لا يبحث عنه عند الأدباء واللغويين، بقدر ما يطلب عند المفكرين من ذوي القلوب الملهمة التي تحيط بالوجود، وتعرف كيف تتسع قلوبها للوجود كله.. وذوي الخيال الواسع الذين نجحوا في رؤية الدنيا والآخرة، وجهين لحقيقة واحدة.. والذين يملكون إيمانًا عميقًا، وفكرًا تركيبيًّا قويًّا.. أي إن مصدر الأدب، هو الرؤية الكونية الشاملة المتزنة، الكاملة المعاني والمعالم، اسمع له يقول:
حمامة الغيوب
بشرى.. بشرى..
يا آتية من سماء الغيب!
يا خفاقة الجناحين!
بالآمال تخفقين
مع خفق جناحيك
تخفق القلوب وتطري الأرواح
فيا للبشرى التي جئت تبشرين
ويا للرسالة التي إلينا تحملين..(25).
ولعل بحث الأستاذ الدائم عن الجمال ونشدانه وتذوقه بمثابة “الظل الذي يأوي إليه المكدود في وقت الظهيرة، وقطرة الماء التي ترطب جوف اللاهث الظمآن. إنه المسحة على رأس اليتيم، ولمسة الوفاء لمن أسدى إلينا معروفًا”.
و”كشدو عندليب” يترنم الأستاذ كولن دومًا بتأكيده على حشد كل الجهود التربوية لتنمية الوعي الجمالي بتوثيق صلته بعلم الجمال وفلسفة الفن، وإكسابه القيم الجمالية في الحياة، والتعويد على الترقي بالرؤى التشكيلية والمواهب الإبداعية والمشاعر الإنسانية، ولعل كولن “بكّاء الصالحين في العصر الحديث” وما بكى إلا ليسعد أهل الزمان، فهو “بكاء السعداء”، والمصباح الذي يحترق كي ينير دروب التائهين، والأمل الذي ينمو كي يعيد مجد الأمة الثمين، وذلك من خلال السعي وراء إحياء لغة أرواحنا قصد معالجتها بنسمات الإيمان الذي يحقق مفهوم الانبعاث الحضاري من جديد(26).
إن الأديب كالفنّان، يبحث دومًا في ألوان الكون وخطوطه وأشكاله عن نفسه، وفي اللحظة التي يجد فيها ما يبحث ويعبّر عنه، يكسر قلمه ويرمي بفرشاته ويغيب بذهول وإعجاب عن نفسه.
لحزنك نحزن!
يا مكبل الروح، يا جريح الفؤاد،
يا موشحاً بالحزن والألم!
قروناً أمضيت، والمُخلص انتظرت؟؟
حتى إذا المخلص جاء، وقيودك كسر
وروحك أطلق، وفؤادك ضمّد
عدت لسود أيامك، ولأوجاع أوصالك..
فإذا أنينك يعلو، وصراخك يشجو ودموعك تنهل
وأرواحنا لبكائك تبكي، ومع أناتك تئن..(27).
إحياء لغة الروح وجمالها
يُعد تشكيل “الوعي الجمالي” هدفًا تربويًّا أساسيًّا ويمر هذا التشكيل عبر الأسرة والمنابر الدعوية والثقافية والتعليمية والإعلامية التي عليها ترسيخ القيم الجمالية، كطاقة تدفع الملكات للعمل متناغمة ومتجددة دائمًا. يقول كولن “عندما لا يحترق القلب شوقًـا، والروح عذابًا، والذهن همًّا، فلا تتكلم، وإلا فلن تجد أحدًا يصغي إليك” حيث ارتباط التغيير والإصلاح والنهوض والتواصل الكوني عامة، بالروح من حيث الإرادة والصبر والمشاعر.
ولقد غاص الأستاذ بذائقته الجمالية ليستشرف “التصويرُ النفسيّ في القرآن الكريم”، ويعرض لأهم المميزات التي تَلفت الأنظار في تحليل القرآن (النفسي) للأفراد والجماعات، ومراعاة البيان القرآني لخلجات الأنفس، ودوافعها وأشواقها وسلبياتها، ومصالحها الفردية والاجتماعية، والتجرد والبعد عن “الشخصانية”، مع مراعاة مبدأ الإيجاز بأقصى قدْر ممكن، والتعبير عن القضايا بأساليب بناءة ومختصرة وبليغة، يقول كولن:
“ومن خصائص الأسلوب القرآني أنه حينما يُصوِّر القضايا ويعرضها يستخدم أسلوبًا يبعث في نفس المتلقي رغبة فيها أو رهبة منها، فإذا ذكر الذنوب مثلًا حمل النفس على أن تَعَافَها؛ فالسيئات والشرور في التعبير القرآني مستهجنات تَنفر منها النفوسُ وتَعافُها الأرواح”(28).
سُلّم الروح
علوّا تريد، وسموًّا! تروم
سلالم الأرض كلها لن تسعفك،
فاستنهض سلم الروح، وتشبث بأسباب السماء
تفتح لك الأبواب، وتتمه ذلك السبل..(29).
يترنم الأستاذ “كولن” دومًا بالتأكيد على حشد كل الجهود التربوية لتنمية الوعي الجمالي بتوثيق صلة الإنسان بعلم الجمال وفلسفة الفن، وإكسابه القيم الجمالية في الحياة.
لذا يحرص الأستاذ عبر تذوقه القرآن الكريم، وفي كافة مناشطه وكتاباته ودروسه إلى بعث “لغة الروح”(30) التي تلامس شغاف الوجدان، وتروي القلوب العطشى، فتنمي الوعي الجمالي. كما يؤكد دومًا على أهمية “بناء صرح الروح قبل صرح الحضارة”، فهل تتكون “أبجديات لغة الروح”، و”لـَبنات” بنائها إلا من الجمال وتذوقه، ونشر فلسفته، والارتواء منه؟
والروح التي يسعى إلى بعثها، هي الروح الفياضة المعطاءة، الوارفة الظلال، والدانية الثمار.. هي الروح التي تعني سمو القيم الأخلاقية وصفاء الأعماق الباطنية للإنسان، ورغبة القلب والروح في بلوغ مدارك الإنسانية الحقيقية، لتجاوز الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
هي الروح التي تعلن الهجرة لخالقها فتترك حياة الراحة والرفاهية، والخمول والكسل، لتسبح في فلك الوجود متأملة آيات الخالق ومتأثرة بمعاناة المستضعفين، وهذا منطلق تكوين التجربة الروحية التي لغتها التواضع وشراعها البحث وغايتها الهجرة والأنين؛ هجرة ما تذل له القلوب وهو متاع الحياة الدنيا وزينتها، للإقبال على ما يسمو بالأنفس إلى مراتب العفة ودرجات التعبد ومراتب الجزاء(31). وكما يحث النورسي “الإنسان المسلم على الانضباط بالضوابط الشرعية في التمتع بالجمال، لتتكامل لذته وتنفتح أمامه آفاق ملونة رحبة للحسن، ولتأمن لذته من ألم التكدير وألم خوف الزوال”(32).
كولن وذائقة الجمال الكوني
هل يرجع تذوق عمل فني ما، وما يصاحب ذلك من شعور بالمتعة والدهشة، إلى أسباب موضوعية يتحلى بها ذلك العمل؟ وهل الشيء الجميل سيكون جميلاً دائمًا عند جميع المتلقين في كل زمان ومكان؟ أم يرجع إلى أسباب ذاتية تخص المتلقي حين يضفي مشاعره وانطباعه الشخصي على العمل الفني، وفق مقولة “كن جميلاً ترى الوجود جميلاً”؟
في محاولة الإجابة عن الأسئلة السابقة انقسم المختصون والدارسون إلى فريقين، فحيث رأت المدرسة العلمية القديمة (من ألمع روادها نيوتن، وديكارت، ودارون) ومبناها “مادي” خالص حيث المادة أساسية، والعقل ثانوي، وهكذا فعدم الاعتراف بعنصر الجمال/الإبداع كمبدأ أساس من مبادئ العلوم وفلسفتها. فالجَمال ـ برأيها ـ لا يمكن قياسه أو وزنه أو اختباره، ولا يدل الجميل، ولا المُبهج على أكثر من موقفنا العقلي، أو تأثرنا الغريزي من الحكم على الشيء ذاته.
وهذا (الجمال) ليس إلا انعكاسًا من الشخص المراقب للظاهرة أو الشيء موضوع البحث، وليس صفة من صفاته الكامنة فيه. وأكدت نظرتهم على إنكار “مبدأ الغائية” فيه، فالكون ليس سوى “مادة”، و”الإحساس” ليس سوى تغير مادي، لذا فليس في الأشياء الطبيعية ثمة “هدف غائي” مقصود، بل هو تصرف بضرورات ميكانيكية داخلية فقط وبالتالي يلزم التفسيرات العلمية الاقتصار على تلك الأسباب المادية والميكانيكية فحسب(33).
لكن المدرسة العلمية الحديثة مطلع القرن العشرين وبعد مباحثها المذهلة في علوم الفيزياء والدماغ والأعصاب والوراثة وعلم النفس ومن روادها: “أينشتين”، و”هايزنبيرغ”، و”بور”، و”شرنجتون”، و”أكلس”، و”سبرى” أكدت على أن “الكون بما يمثله وما نلمسه، هو وحدة كلية واحدة، وأن المادة ليست أزلية، والكون في تمدد وتغير مستمرين. وهنا يبرز الجمال كوسيلة هادية لاكتشاف الحقيقة العلمية، ويعتبر مقياسًا لها”(34).
يحث النورسي الإنسان المسلم على الانضباط بالضوابط الشرعية في التمتع بالجمال، لتتكامل لذته وتنفتح أمامه آفاق ملونة رحبة للحسن، ولتأمن لذته من ألم التكدير وألم خوف الزوال.
وتؤكد هذه الرؤية العلمية على أن الكون بمجموعه “حدث” قد وقع في وقت واحد، وله بداية محددة، لذلك فلابد له من مُوجد، كما تؤكد أن هناك سمات “موضوعية” وليست من قبيل “الصدفة” تكمن وراء هذا الجمال والإبداع الكوني المتنوع، وليس “انعكاسًا في عين الناظر المراقب له”، ويشير الفيزيائي لويس دي بروي (1892-1987): “كان الإحساس بالجمال في كل عصر من تاريخ العلوم دليلاً يهدي العلماء في أبحاثهم”، أما الفيزيائي ريتشارد فينمان (1918–1988) والحائز على جائزة “نوبل” عام 1965 فيقول “إن المرء يمكن أن يستبين الحقيقة بفضل جمالها، وبساطتها وروعتها، ففي الطبيعة بساطة ومن ثم جمال عظيم”، ويؤكد رائد “ميكانيكا الكم” العالم الفيزيائي الألماني “فيرنر كارل هايزنبيرغ (1901–1976) والحائز على جائزة “نوبل” (1932) أن “النظرية مقنعة بفضل كمالها، وجمالها التجريدي.. وأن الفيزياء الذرية المعاصرة قد نأت بالعلم عما كان يتسم به من اتجاه مادي خالص في القرن التاسع عشر”(35).
ولعل النورسي وكولن يميلان إلى هذه الرؤية العلمية الأخيرة، فلقد كانت رؤية “النورسي” للعالم والأشياء والكلمات، رؤية “مهندس” يلمح ببصيرة ثاقبة وخبرة عميقة عناصر التوازن والتناظر في معمار الكون الكبير. كما نشاهد الأستاذ كولن وهو يدعو إلى إتباع النهج القرآني بضوابطه في النظر والتأمل في الآيات الكونية، فهي وسيلة من وسائل إظهار عظمة القرآن الكريم وأنه كتاب الله تعالي المُنزل على النبي “الأمي” محمد ﷺ. وأنه يحوي جميع العلوم، مما يثمر عن زيادة الإيمان وترسيخه لدى المؤمن، وسبيل لتوسيع مداركه وزيادة معرفته العلمية، وهو وسيلة ناجعة وناجحة للدعوة إلى الله تعالى، فالتوافق بين العلم والقرآن هو دليل وبرهان مادي ملموس في عصر العلم على أن القرآن لم يُحرّف، وأن الله سبجانه وتعالى قد تعهد بحفظه حيث يقول في كتابه الكريم: “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ”(الحجر:9).
إن الأستاذ كولن يدعو إلي إتباع النهج القرآني بضوابطه في نظر وتأمل الآيات الكونية، ويراها وسيلة من وسائل إظهار عظمة القرآن الكريم المُنزل على النبي الأمي محمد ﷺ.
في مهرجان الألوان والصور
في السماء زرقة، وفي الأرض خضرة،
وفي الآفاق تتواثب الألوان وتتراقص،
وتتماوج الصور، ويتعالي الخيال،
وترتسم الرؤى،
والقلب المبتهج إلى السمو يصبو،
وإلى العلا يثب،
وإلى نداء السماء يصغي،
وعلى التراب جبين يتمرغ،
وخدّ بالأرض لاصق..(36).
الذائقة الجمالية في المعلم والمتعلم
هل فعالية القلب ونور البصيرة في استشعار حقيقة الفن وتذوق سحر الجمال مرتبطان بالكسبي أم بالتربوي والتوجيهي؟ يجيب كولن بأن الأمر كسبي جهادي تربوي، إذ “لا بد أن تكون التربية التي تسمو به من درجة إنسان بالقوّة إلى إنسان بالفعل، تربية ذات أفق لاهوتي ومحور وهبي. ولكي يكون الإنسان إنسانًا فهذا أمر مرتبط بخضوعه لأوامر قلبه واستماعه إلى روحه، فعلى الإنسان النظر إلى كل شيء وكل أحد بعين القلب، لأن البناء القلبي والرحابة الروحية للفرد، وتحول إيمانه ومعتقداته إلى جزء من طبيعته، هو الأنموذج المعول عليه في البناء والتشييد، وهو أنموذج للنظام والرقي”ويؤكد الأستاذ في البيان الخالد “لم يمكن إلى يومنا هذا تنشئةُ فرد كامل، وأسرة متماسكة، ومجتمع منضبط إلا في ظل إرشاد القرآن الكريم، ولذلك فليس من الممكن أن تكون كلمات هذا القرآن الكريم المعجز البيان الذي أرشد إلى تربية الفرد الكامل والأسرة والمجتمع المنضبطين، صادرةً من قريحة شخص نشأ في مجتمع أمي؛ فليس القرآن إلا كلام الله فقط”(38).
ولذلك ينبغي أن تتغذى “ثقافتنا الذاتية” بورود حدائقنا وعصارات جذور معانينا وأرواحنا، حتى نبلغ مبتغانا من الفن والذوق الرفيع في كل شأن من شؤون حياتنا، وهذه الحقيقة الهامة كفيلة بدعم ذاتيتنا وخصوصيتنا الدينية والاجتماعية والثقافية، وبخاصة أن الفن لا يستورد مع البضائع والأفكار، وإنما هو ذاتي ملّي، والمصدر الوحيد للفن في هذا النموذج هو مخافة الله تعالى، والنظر إلى بديع صنعه”.
ونجد الأستاذ كولن ينبه إلى ضرورة تلمس طرائق الفن والجمال إذ “ليست الحياة بعدد السنين بل بعدد المشاعر الجميلة، لأن الحياة ليست شيئًا آخر سوي شعور الإنسان بها” ولقد اعتبر أن أبرز صفات “ورثة الأرض” تتمثل في وعيهم بـ”الفكر الفني” فالفن والجمال في تعاليمه من أهم الطرق المؤدية إلى سمو الروح والمشاعر، ومفتاح سحري يفتح الكنوز “فوراء الأبواب التي يفتحها تكتسي الأفكار صورها، وتكتسب الخيالات أجسامها”، ويريد الرجل من تلامذته أن يكونوا “سفراء إيمان، ومعرفة، ورسالة، وجمال” يجمعون بين الهوية الذاتية والمقومات الحضارية، كي تختفي الثنائية المُصطنعة (المادة/ الروح) وتعود المادة لوزنها بجوار النفس، ويوضع العقل والأخلاق في المادة، وتتناغم الروح مع الجسد، وتفعل سُبل التناسق والتناغم مع الكون، لفائدة الإنسان والإنسانية.
ويريد المفكر الألمعي فتح الله كولن صياغة جيدة وجديدة للفن وإبداعاته، وللثقافة وسبلها حيث إن “وارثو الأرض، مثاليو الفكر والعمل، ونافذو البصر والبصيرة، متوقدو العزائم، ومفورو المكارم”، أو كما يعبر عنهم المرحوم فريد الأنصاري “رجال ولا كأي رجال” يمارسون وظائفهم الأساسية العبادة والإعمار والإنقاذ والتعارف “يقيموا صروح الروح لعلنا نبعث من جديد”(39).
ينبغي أن تتغذى ثقافتنا الذاتية بورود حدائقنا وعصارات جذور معانينا وأرواحنا، حتى نبلغ مبتغانا من الفن والذوق الرفيع في كل شأن من شؤون حياتنا.
ونراه يغرس في نفوس تلامذة “الخدمة” حب تذوق الجمال المعنوي والمادي، الشعري والفني… فقد ترسخ لديه أهمية البناء الجمالي والفني للفرد والمجتمع والأمة والحضارة، ولا ريب أن الاهتمام بالبشر أفرادًا ومجتمعات، وتغذية قلوبهم وعقولهم على قيم وأفكار وفعال جميلة، لا بد سيؤتي ثماره بإحسان -والإحسان صورة نفسية من صور الجمال- في رسالتهم وأخلاقهم وأعمالهم وحضارتهم. ويلخص رؤيته لفلسفة الحياة التي يريدها بقوله “والحال أن نظام الفكر وفلسفة الحياة عندنا رحيبة، تتناول عوالم الوجود، وما عدا الوجود، وما قبل الوجود، فتقيّم الأشياء وما عدا الأشياء في كلية، وتعيّن معالم نمط الحياة في تكامل وإحاطة، فهو نظام يحقق العدالة الكونية المرتقبة في الأرض كلها بتحويل السلوك الأخلاقي إلى حال السيولة في المجتمع وأجزائه الأفراد، ويستجيب للمتطلبات الإنسانية، فيصل المجتمع في ظل ذلك إلى القدرة على تجديد نفسه ذاتيًّا بالتربية على الروح والأخلاق والفضيلة والتفكر. ثم يكون فكرنا الحضاري وغنانا الثقافي كسلعة رائجة في كل أقطار الأرض، فنغدو اليد المعطاء التي تقدم في ارتياح هبات فكرنا الإنساني وفلسفتنا الأخلاقية وفهمنا للفضيلة، وبفضل هذا الوضع والمستوى أيضًا تنبجس المنهجيات الإدارية والأصول الاجتماعية والاقتصادية من الروح الذاتية للأمة”(40).
ولقد شهد رجال مشروع الخدمة، أن كولن “لم يدع إلى الجمال والفن بقلمه وحبره فقط، بل عاشه في كل نبرة، ومع كل زفرة، وعند كل نظرة.. حتى إنه غالبًا ما أرهقهم برهافة حسه، وأورثهم شعورًا متوتّرًا تجاه كل كلمة ينطق بها، أو سكتة يسكتها، أو يومئ بها.. ولا يزال هؤلاء الشباب يذكرون يوم اقترحوا على الأستاذ -وهو في أمريكا- تغيير أثاث صالون الاستقبال، فقبل الأستاذ المقترح على مضض، لكن أمارات الحزن بدت في تقاسيم وجهه، فلما سئل عن السبب، قال: ألفتُ هذا الأثاث، وإني معترف له بخدمة كبيرة، ويحزنني أن يغادرني أو أستبدل به غيره، بيني وبينه إلف وحب، وحظ من الذوق والجمال لا ينكر”.
ولهذه الحال أمثلة كثيرة لا تعلن إلا على حقيقة واحدة، هي أن الفن والجمال إكسير الحياة(41)، ومفتاح سحري، وطائر فكري، لا غنى عنه في مشروع، أو فكرة، أو حركة؛ وهو في “البراديم كولن” كما عبر عنه بابا عمي، سبب من أسباب الرشد والنضج الفكري والحضاري والحركي.
ولعل الهدف الأساس من غرس “التذوق الجمالي” وتنميته هو مواجهة آفة “الأمية الجمالية” التي تحول دون وعي الفرد وإحساسه بالجانب الجمالي، المادي والمعنوي، وإن لم يسع المعلمون والمربون والمصلحون والمهتمون إلى محو هذه “الأمية” فستفتقد المجتمعات قيمة هامة من قيم بنائها القيمي والمعرفي والحضاري، ولابد أن ينال كل فرد نصيبه المعقول من “الثقافة الجمالية” بشتى أشكالها من خلال التدريب والممارسة، مما يكسبه “الخبرة الجمالية” التي تكونه تكوينًا “ذوقيًا” يستطيع من خلاله تفسير وترجمة ما يحيط به ترجمة فنية ليكون “أعدل” مع البيئة والمجتمع الذي ينتمي إليه، كما يُحسن استثمار ما سخره الله تعالي في الكون.
إن الهدف الأساس من غرس التذوق الجمالي وتنميته، هو مواجهة آفة الأمية الجمالية التي تحول دون وعي الفرد وإحساسه بالجانب الجمالي المادي والمعنوي.
والمجتمعات التي ضيعت الذائقة الفنية والجمالية، لا يمكن -بحال من الأحوال- أن تنعم بحضور وشهود متكامل؛ ويقول “الذين ضيعوا فرصة استعمال هذا الطريق من أصحاب القابليات والحظ السيئ، يعيشون طول حياتهم كأشخاص أصابهم الشلل النصفي” بل يرى أن الإنسان المجرد من الحس الفني والشعور بقيمة الجمال يستوي في ميزان الإنسانية وجوده وعدمه، ذلك أنه لا يستطيع أن ينفع نفسه ولا أن ينفع أمته فالأرواح الخالية من الفن والمنغلقة دونه، يستوي وجودهم وعدم وجودهم، لأنهم ليسوا إلا أفرادًا لا يستطيعون تقديم أي نفع لا لأنفسهم ولا لعوائلهم ولا لأمتهم، بل قد يكونون ضارّين أيضًا”.
تأمل واعتبر..!
شجرة تبدو هنا في ركوع وسجود،
وزهرة تبدو هناك في ضراعة وخشوع..
والكون إبداع وإعجاز كل ما فيه:
عجبًا يثير، وفكرًا يستثير،
عيوننا في الألفة غارقة، لا ترى غير الغريب،
ولا تفكر إلا في الشاذ العجيب،
فورثنا كسلاً وهمودًا، وذهنًا خمودًا(42).
وتبقي الإشارة إلى أن “هذا الكون الباهر الجميل الرائع لا يسير وحده ميكانيكًا، ولا يقوم بذاته فيستغني عن إله” كما يدعي الماديون، بل إن الله تعالى بقيوميته، وجلاله، وجماله، وكماله يفعل ما يشاء بقوله كن فيكون. يقول الفيزيائي الفرنسي “لوانكازي” (1854ـ1912م) “اكتشفنا بعضًا من أسرار الطبيعة، وسنكتشف أخرى كل يوم، ونحن لا نطالب الطبيعة بمخالفة قوانينها، فهي لا تستطيع ذلك، وليس بمقدورها ذلك، بل نخضع ونرضخ لها ولقوانينها بكل رضا، ويمكننا أن نتعامل مع الطبيعة بالرضوخ لقوانينها الجميلة”(43).
نحن مأمورون ألا نقف عند جمال الظاهر، بل نغوص -عميقاً- لنتفكر، ونتدبر، ونتذوق ما وراء الظاهر، فما أجمل الغوص، وما أبهي التفكر، وما أجلّ التدبر، وما أشهي التذوق لـ”وَحْدة العلاقات الشّكليّة بين الأشياء التي تدركها حواسّنا”، كذلك مأمورون بالترحال عبر آفاق الكون امتثالاً لأمره تعالى: “قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”(العنكبوت:20) وهذا الترحال الذي يحث عليه القران الكريم، ويؤكده العلم الحديث يـُثري نعمة الذائقة الجمالية التي وهبنا الله تعالى إياها ووجدت “مادتها” في “وحدة وتنوعات الكون الجميلة”، بل يـُزيد الإيمان بما يثمره من معرفة بتجليات اسمه تعالى “البديع” يقول تعالي: “بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ”(الأنعام:101) ويقول ﷺ: “إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطرُ الحق وغمطُ الناس”(44) والجَمَال والإبداع صفتان متلازمتان.
الأستاذ كولن ينبه إلى ضرورة تلمس طرائق الفن والجمال إذ “الحياة ليست بعدد السنين بل بعدد المشاعر الجميلة، لأن الحياة ليست سوي شعور الإنسان بها”.
ولقد عـُنيّ الإسلام كثيرًا بالتربية الروحية وتنمية “الإحساس الجمالي” لدى المسلم، ليلتفت بنظره إلى نواحي الجمال والإبداع الإلهي في خلق هذا الكون وما فيه من منافع مادية وجمالية تُوصله إلى الحياة الإنسانية الصحيحة، حياة لا تقوم فقط بتلبية المنافع والماديات من مأكل ومشرب وملبس بل تتعداه إلى ما هو أسمى بتنمية الناحية الوجدانية التي تحقق للحياة سموها الإنساني، يقول تعالي: “وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ”(النحل:5-8).
ولعل منهجية الأستاذ كولن دعت لتحقيق الأهداف الجمالية عبر:
أولاً: أن يكون لكل فرد “المعيار الجمالي” المُساعد في التفريق بين “الجميل والقبيح” من الأقوال والأفعال والأشياء، وهذا لا يكون إلّا من خلال تكثيف الاهتمام بالنشأة الجمالية للفرد والسعي إلى إيجاد الظروف الملائمة لذلك، ولكي يكون ذلك فلابد من أن نخطو عدة خطوات أولها تنمية الإحساس الجمالي من خلال إيجاد البيئة الجمالية التي يترعرع فيها النشء ليتفاعل معها ثم يكبر ليتعرف على مسببات جمالها الذي لازمه منذ الصغر وهناك سيصبح الفرد أحد رواد البيئة الجمالية وتصبح عينه لا ترى إلّا الجمال ولا يدرك عقله غيره.
ثانيًا: التعامل مع الجمال تعاملاً مباشرًا وجعله منهاجًا وجزءًا من الكيان والعقل والوجدان والروح وسمة عامة من سمات شخصية المسلم، مما ينعكس على سلوكه وتعامله مع الآخر، وكي يتحول الجمال إلى سلوك إنساني عام يستمد ثوابته من كتاب الله والدعوة إليه في آياته الكريمة.
ثالثًا: التأمل والتفكر والتدبر في مظاهر الجمال التي أبدعها الله سبجانه وتعالى في الكون تأمّلاً إيمانيًا واعيًا لمحاولة الوقوف على سر ذلك الجمال، وما يتجلى في الكون صغيره وكبيره من تكوين محكم وتنسيق بديع يسر الحواس وتبهج له النفوس.
لقد عـُني الإسلام كثيرًا بالتربية الروحية وتنمية “الإحساس الجمالي” لدى المسلم، ليلتفت بنظره إلى نواحي الجمال والإبداع الإلهي في خلق هذا الكون وما فيه من منافع مادية وجمالية تُوصله إلى الحياة الإنسانية الصحيحة.
ويجمل محمد باباعمي(45) “شيفرات” الفن التي تجسدت في أفكار فتح الله كولن فيقول: “لقد تتبعت أوصاف الفنّ في هذه اللوحات والرسائل المشفّرة، فاكتمل عندي عقد به صدف، أنتقي منها أمثلة، وهي:
- الفن من أهم الطرق المؤدية إلى سمو الروح والمشاعر.
- الفن مثل مفتاح سحريّ، يفتح الكنوز السرية المكتشفة.
- الفن طائر فكري يأخذ الإنسان في سياحة إلى فسيح بديع خلق الله سبحانه وتعالى.
- الفن هو من أهم العوامل التي تحافظ على المشاعر الإنسانية.
- الفن هو الذي جعل الأرض معبدًا للجمال الإلهي.
- يُظهر العمل الحقيقي نفسه بالفن.
- من لا فن له شبه حي، وشبه ميت.
- الأرواح الخالية من الفن والمنغلقة دونه يستوي وجودها وعدمه.
ويؤكد كولن دومًا على أن الانطلاقة الحضارية تبدأ من إيجاد الرؤية الكونية الصحيحة المتكاملة لتحقيق مهمة خلافة الله تعالى في الأرض، وهي الرؤية الغائبة إلى الآن في العالم الإسلامي بسبب غياب النظرة التكاملية والفهم الصحيح للإسلام وحقيقة الوجود في كل أبعاده(46).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(1) رؤية فلسفية لفنون إسلامية، بركات محمد مراد، مكتبة مدبولي 2009.
(2) انظر: المعجم الفلسفي، تأليف “مراد وهبة”، مكتبة الأسرة 2016، ص: 278.
(3) المكتوبات، بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة إحسان قاسم الصالحي 1992، ص:457-459.
(4) القرآن الكريم “البيان الخالد” لسان الغيب في عالم الشهادة، محمد فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، الطبعة الأولي، 2017.
(5) المصدر السابق، ص: 27.
(6) التنوير برسائل النور وصاحبها بديع الزمان سعيد النورسي، ناصر أحمد سنه، عدة مواقع على الشبكة الدولية للمعلومات.
(7) الكلمات رؤية جمالية، عماد الدين خليل، المجلد الخاص ببحوث الندوة العالمية الثانية حول فكر النورسي، إستانبول، دار سوزلر 1993.
(8) الأستاذ النورْسيّ والبعد الجمالي في أسلوبيات القرآن الكريم، عماد الدين خليل، مجلة حراء، العدد 9.
(9) البيان الخالد، مصدر سابق، ص:90.
(10) البيان الخالد، الفصل الثاني: الإعجاز الأسلوبي في القرآن الكريم، مصدر سابق، ص:93.
(11) صحيح مسلم، كتاب الطهارة، 223.
(12) البيان الخالد، مصدر سابق، ص:47.
(13) ألوان وظلال في مرايا الوجدان، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر 2010، ص: 90.
(14) ألوان وظلال، المصدر السابق، ص:10.
(15) أسس تشكيل الوعي الجمعي في ضوء النور الخالد، محمد جكيب إصدارة نسمات 5، ص: 11-34.
(16) النور الخالد.. محمد صلي الله عليه وسلم، مفخرة الإنسانية، محمد فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، الطبعة الخامسة، 2013.
(17) ألوان وظلال، مرجع سابق، ص:22.
(18) الثنائي البلبل والوردة تعبيرًا عن الحب القائم بين الخالق والمخلوقات في كتابات النورسي، جورج غرغوري، موقع النور للدراسات الحضارية والفكرية.
(19) إحياء علوم الدين، الإمام الغزالي، مكتبة ومطبعة كرياطة فوترا، سماراغ، المجلد الرابع ص:250
(20) صحيح مسلم.
(21) الكلمات، بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة إحسان قاسم الصالحي 1992، القاهرة، ص:407.
(22) العلم في منظوره الجديد، روبرت م. أغروس، وجورج ن. بستانسيو، ضمن سلسة عالم المعرفة العدد 134، فبراير 1989م، ص:49-50.
(23) ألوان وظلال، مرجع سابق، ص:124.
(24) ألوان وظلال، مرجع سابق، ص: 84.
(25) المرجع السابق، ص:9.
(26) محمد فتح الله كولن: “ونحن نقيم صرح الروح”، ترجمة: عوني عمر لطفي أوغلو، دار النيل للطباعة والنشر، ط6، القاهرة، 2010.
(27) ألوان وظلال، مصدر سابق، ص: 36.
(28) البيان الخالد، مصدر سابق، الفصل الثالث، ص:122.
(29) ألوان وظلال، مصدر سابق،ص:30.
(30) إحياء لغة الروح عند فتح الله كولن، ميمون قرمون، إصدارة نسمات الأولى، ص:75-79.
(31) ونحن نقيم صرح الروح، مصدر سابق.
(32) ملامح تربوية في رسائل النور، عماد الدين رشيد، مجلة حراء، العدد 20.
(33) العلم في منظوره الجديد، مصدر سابق.
(34) المصدر السابق، ص: 46 وما بعدها.
(35) المصدر السابق، ص: 46 وما بعدها.
(36) ألوان وظلال، مصدر سابق،ص:37.
(37) البيان الخالد، مصدر سابق، ص:335، 336.
(38) البيان الخالد، مرجع سابق، الفصل الثامن ص:459.
(39) راجع مقالات، ومقولات، وكتب الأستاذ فتح الله كولن.
(40) فلسفة الحياة عندنا، فتح الله كولن، الموقع الرسمي عام 2017.
(41) الفن والإنسان، عز الدين إسماعيل، مكتبة الأسرة 2003.
(42) ألوان وظلال ، مرجع سابق، ص:38.
(43) مسيرة الفيزياء على الحبل المشدود بين النظرية والتجربة، محمد على العمر، ص 29-128.
(44) رواه مسلم.
(45) فتح الله كولن ومشروع الخدمة على ضوء نموذج الرشد، محمد باباعمي، ط1، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، 2011.
(46) فلسفة الفن والجمال عند فتح الله كولن، محمد البشير بن طبة، مجلة حراء، العدد 52.