بدأ حديثَه -كعهدنا به على الدوام- حزينا مهموما متأثرا. كان يتحدث بهدوء وبجمل مفهومة وبأسلوب سَهْل وبصوت له وقعه في النفوس.
كان يعزف بمعزفه المكسور على أوتار القلب. فأحدث كل معزف فيه صدى عميقا، وكأنه قد حمل على عاتقه جميع هموم الإسلام والبشرية وألامهما. لا أعرف غير هذا، ولكن على الأقل هذا هو ما أُحسّ به، ولا أدري هل أسأتُ الأدب مع الله أم لا، لكنني أشارككم همومي الآنية. لقد قلت في نفسي: ألا تخلو التلال العالية من الثلوج والعواصف؟ أليس من حق مثل هؤلاء الناس أن يتنفّسوا الصعداء يا ربي؟! ألن تهبّ على مناخهم نسماتُ الربيع على الإطلاق؟
وبينما أنا في تلك الحالة الروحية إذا بالأستاذ يبدأ قراءة بعض مصاريع شاعر مهموم من أيام الهدنة (بعد الحرب العالمية الأولى):
“منذ عصور تعطّلتْ عضلات الإسلام وعقله،
يقولون لي: “ماذا رأيتَ وقد سحْتَ كثيراً في الشرق؟”
ما رأيتُه: مدُن خربة، بيوت مهجورة، أمّة دون زعامة
جسور مهدّمة، قنوات خربة، طرُق دون مسافرين
وجوه متغضنة، جِباه دون عرَق، أيدٍ مشلولة
ظهورٌ منْحنية، أعناق ضامرة، دِماء لا حرارة فيه
رؤوس لا تفكّر، قلوب لا تبالي، ظمائر صدئة
استبداد، أسر، طغيان، مذلَّة
رياء، ابتلاءات، أمراض وعلل
دُور لا تُوقد بها نار، قد عششت العناكب عليها ونسجت خيوط أعشاشها، وغابات محروقة.
حقول بلا زروع، وبيوت نَبت بها العشب، وحصاد عفن.
أئمّة دون جماعة، وجوه باسرة، جباه مستعصية على السجود
متديّنون عاجزون، يقتلون إخوانهم في الدين باسم “الغزو والجهاد”.
مساكن خاوية، قرى فارغة، أسطح مهدّمة
أيامٌ انعدم فيها الجهد والعمل، ومساءات لم يفكر فيها أحد”.
…
فهِم من يعرفون الأستاذ فتح الله كولن أنه يتحدث عن الشاعر محمد عاكف.
لقد انطلق الأستاذ كولن من سرد أبيات للشاعر عطاء الله بهاء الدين والتي يقول فيها:
“دخلت غرفتي، وأغلقتُ بابي، وأخذتُ أجْهش بالبكاء..
فبكيتُ حتى مساء ذلك اليوم، على غُربة الإسلام وانحطاط المسلمين..
فبكيت، وبكيتُ، وبكيت…”
…
ثم عرج على قصيدة “هل كنتَ تتوقَّع؟!” المشهورة للشاعر محمد عاكف، والتي يستهلها بقوله:
هل كنت تتوقع أن تثكل العبادة، وأن تُصبح العبادة يتيمة،
فينوح الآذانُ وتُرفع الصلاة على جيل بائس يائس؟!
…
لقد تقشعرّ العقولُ يا ربي، فما أفظعه من انقلاب حدث!
فما بقي لا دين ولا إيمان، لقد خرب الدين وتغبّر الايمان.”
…
يا ربّاه! أما هناك يدٌ كريمة ومؤيَّدة من لدنك؛ حتى تمتد نحو العالم الإسلامي وتأخذ بأيدينا، فتخرج الشرق من ظلامه، وتأتي به إلى الفجر المنشود؟!”.
…
أجل، لقد عشنا مثل هذا الوقت مرة أخرى، كان من المفهوم أن الأستاذ المربّي فتح الله كولن سيتطرق في حديثه عن دواعي هذا المنظر المؤلم الذي صوره لنا محمد عاكف رحمه الله. فقد كان مجرى الحديث يدل على هذا. وحدث ما توقعتُه، فلقد أخذ بمجرّد أن أنهى آخر مصاريع ما تلاه من أشعار يعبر عن أفكاره وعيناه محتقنتان بالدموع بكلمات تشبه أنغام معزفة أو السهم الذي يخترق قلب إنسان حساس قائلا: “آه عليك يا إسلاماه آه! لم نعمل على سبر أغوارك، ولم نبذل قصارى جهدنا للغوص في أعماقك.. فاكتفينا بما عثرنا عليه، وتدنت همّتنا، أكلنا وشربنا وخلدنا إلى الراحة، واستلقينا على ظهورنا، لا أدري هل أجيالُ اليوم سيختلفون عن سابقيهم من أجيال الأمس، ولا يكتفون بما عثروا عليه، ويفركون أعينهم أم إنهم بدلا من ذلك سيسبرون أغوارك ويعملون كل ما في وسعهم للإبحار في أعماقك؟!”
بعد ذلك التفت حوله بهاتين العينين المحتقنتين بالدموع، وتفرس في وجوه جميع من حوله من أولهم إلى آخرهم، ثم قال: “نأمل أن تقوموا أنتم بهذا.. لقد عشنا طوال عمرنا وقلوبنا معلّقة بهذا الأمل… نسال الله ألا يخْجلنا ويخيب أمالنا.”. فأمّن جميع الحضور على دعائه هذا.
واصل الأستاذ كولن حديثه أيضا وقت الاستراحة وقال: “لَيْتَهم يحفّزون هممهم لتولي هذه المهمة!” وفي إشارة إلى النواميس الكونية التي وضعها الله في الطبيعة، قال: “لو كانوا جادّين في جهودهم ومساعيهم، لَمَنّ الله عليهم بما يفتّشون عنه..”
حسَنا، هل هناك مقياس للجدّية؟
لم يدَع الأستاذ كولن هذا السؤال الذي يرِد على كثير من العقول بلا إجابة، فقال: “ربما يثقل هذا الأمر على كثير منكم، إن الانسان يلازمه شعور البحث عن المفقود، ولذا لا بدّ من أن نفعِّل هذا الإحساس، فقد ضيّعنا قِيَمنا منذ خمسة أو عشرة عصور، فلا بدّ من العثور على هذه القيم مرة أخرى، والتضحية بكل غال ونفيس، بل بإفداء روحه في اليوم خمسين مرة حتى نفعِّل هذه القيم من جديد.. فاحْملوا على عواتقكم مهمّة البحث عما فقِدْتُموه، فمقياس الجدّية يكمن في إيجاده، ربما تأتي هذه الكلمات ثقيلة على مسامع الكثيرين منكم، إذا كان الأمر هكذا فانظروا إلى الأمر بأن المهموم عندما تنازعه الأحزان تتدفّق على لسانه، نعم من هذا المنظور قيّموا الوضع، فسامحوني.”
هل حدث قديما أن سُبرت أغوار الإسلام أم سيحدث مجددا؟ ما رأيه في هذه المسألة؟ فأجاب الأستاذ كولن على هذا السؤال؛ لأن له علاقة بسؤال طرح عليه وقت الاستراحة: “إن هذا السؤال يدور حول مفهوم التزكية والصفاء وعلاقتهما بالنفس والقلب، حيث إننا نستعمل كثيرا مفهومي: تزكية النفس وصفاء القلب”.
بعدما عرض الأستاذ أمثلة لاستخدام هذين المفهومين في مجالات اللغة والأدب قال: “إن تزكية النفس وصفاء القلب كانا من الأمور العادية بالنسبة لجميع الناس في العهود التي كان يطبّق الإسلام فيها بحق. ولكن الآن صارت المدارس الدينية خالية من طلابها، ودور العبادة فارغة من مصليها، والبيوت خاوية من ساكنيها، والشوارع عقيمة من المارّين بها. لقد بات من غير الممكن أن نجد أناسا يملأون مثل هذه الفراغات. ولكن هل معنى ذلك أن تنـزووا جانبا وتقولوا: لا يمكن ولن يمكن. كلا وألف كلا، واظِبوا على ما قمتم به حتى الآن، وربّوا أفرادا واعِين مسؤولين أحرارا، لهم أرواح متطلعة، ولا يهملون أي ناحية من نواحي الحياة إلا وملأوها. انظروا إلى شعبنا، لقد استطاع مع قلة الإمكانات المادية والتي حتى لا تصل إلى عشر إمكانات الغربيين أن يصل إلى هذا المستوى الرفيع. ورغم كثرة المضايقات والاضطهادات في الداخل والخارج وصل إلى هذه المكانة، مع قلة الإمكانات والرعاية صار له هذا القدر. ليتيحوا له كثيرا من الإمكانات وسترون حينذاك من الأسد ومن النمر.”
كان الكلام ينساب من فمه في تناغم غريب كانسياب الماء الجاري، ولكنه كان ينتقل من موضوع إلى آخر كالأمواج التي تضرب هنا وهنالك. ثم جاء الدور إلى العوائق التي تقف أمام عمليات الإحياء للأمة، والتي ستشكل النهاية لآهاته “آه يا إسلاماه، آه…”.
كان الأستاذ كولن ينظر إلى المسألة من نواح متعددة، بجمل قاطعة. فنراه يقول: “إن من لم تراعوا حق الله بحقٍّ لن تتمكنوا من مراعاة حقّ العباد، وإن الاعتداء على حقّ العباد وحقّ عامة الناس وحقّ الأمة، يُعدّ اعتداء على حق الله جل وعلا، وسيُحاسب الله المعتدين على ما اقترفت أيديهم يوم القيامة. وإنّ من يعمل على انقسام الأمة وتمزيقها، ويتحرك برؤية حِزبية، ويقف عائقا أمام المستقبل المشرق للأمة، فلن تشمله رحمة الله، ولن ينعم بريح الجنة أبدً”.
ثم أُجهد وتعب، والحق أن الاستماع إلى حديث هكذا مشحون عن آخره بالأحاسيس والأفكار قد أجهدنا نحن كذلك. فكيف به هو؟.. إلا أن عينيه هذه المرة لم تكن محتقنة أو مبللة بالدموع، ولكن الدموع كانت تنحدر منها على خده وكأنها حبات لؤلؤ أمام أنظار الجميع. ورغم ذلك يواصل كلامه قائلا: “ليت الله يقبض روحي وتنهض أمّتي، ليت الموت -أيًّا كان هو- ينقضّ عليّ بكل آلامه وشدائده ألف مرة في اليوم وتُخلّد روح أمتي!”.
لقد أدّت هاتان الجملتان الأخيرتان إلى انحدار الدموع من أعين بعض الأرواح الحسّاسة وحتّى القلوب الميّتة الحاضرة في القاعة. من المحتمل أن الأستاذ كولن قد أراد أن يجعل هذا الجو الإيماني خليقا بأن تتغمّده رحمة الله. ثم أنهى حديثه بهذه الجمل التي أمَّنَ عليها كلّ الحاضرين بالقاعة: “علينا مراعاة حق الله في كل لحظة في حياتنا، فحقّ الله واجبُنا نحن أيضا، وإنني أرى أن صَون هذا الحق لا بدّ وأن يكون أقصى الغايات التي يصبو إليها إنسان يشعر بالمسؤولية الملقاة على عاتقه. فاللّهم اجعلنا ممن يحظون ببلوغ هذا الهدف الأمثل! آمين…”
وكما بدأت بالشاعر محمّد عاكف، أختم به أيضا:
“لا يلتفتُ إلى الشرق، ولا يعرف الغرب، وليس عنده حظّ من الأداب والسلوك
فكلّ رأس ماله يتمثل في وجه وقِح وعينٍ جامدة لا تدمع”
…
إن من يدخل ضمن هذا الصنف الذي وصفه محمد عاكف، هل له حظّ من هذه الجلسة الإيمانية يا تُرى؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: جريدة زمان التركية، 31 مايو 2010م.