ملخص

إن الأزمات التي واجهت المجتمع في كل عصر من العصور التي كانت الدافع الأهم لانطلاق مجموعة من العلماء والمجتهدين لبذل أقصى جهدهم في ما يمكن أن يكون تجديدًا حقيقيًّا للفكر الإسلامي وتجلياته التطبيقية على أرض الواقع، وهذه المحاولات جميعها كانت تهدف إلى استشراف المستقبل لخدمة الإنسانية ولبناء أجيال قادرة على خدمة البشرية بالصورة المطلوبة.

ولكن ما الملتقيات الفكرية التي جمعت بين هؤلاء المجددين، وما الأسس التي استند إليها كل منهم؟ هذا ما تحاول الدراسة التي بين أيدينا الإجابة عليه في صورة حلقات مسلسلة تمتد إلى خمسة أبحاث يعقد من خلالها الكاتب حوارات ومقاربات بين رواد التجديد من جهة وتجربة الخدمة من جهة أخرى باعتبارها امتدادًا لتاريخ حافل من محاولات الإصلاح والتجديد.

المقال

لدي ميلٌ دائم إلى المقارنات بين الأمكنة والأزمنة والأشخاص والأفكار، هذا الميل يساعدني في الإجابة على  أسئلة كثيرة حول الترابط بين الأفكار والشخصيات، غير أن هذه العادة الذهنية لا تصلح أن تكون منهجًا في ذاته للحكم على الأشخاص أو الأفكار، وذلك لأن المقارنة في جانبٍ ما بين شخصيتين مثلاً دون الأخذ في الاعتبار اختلاف الزمان والمكان والبيئات والطبائع وتطور الأفكار وغير ذلك من المؤثرات يجعل المقارنة المجرّدة تحمل كمًّا من المغالطات المنهجية، وهذا ما حدا بالدكتور عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- أن يرفض القضية الأكاديمية المعروفة بـ”دراسة التأثير والتأثر” باعتبارها دراسة مريحة لا تتطلب اجتهادًا وإبداعًا على حدّ وصفه.

ومن هنا فقد حاولتُ في هذه السلسلة من الدراسة أن أتحدث عن تجربة الأستاذ كولن باعتبارها امتدادًا لتاريخ حافل من محاولات الإصلاح والتجديد، محاولاً رسم صورة تقريبية لتاريخنا الثقافي والفكري من خلال هذه المدارس والشخصيات، لاسيما ما يتعلق منها بالجانب الحضاري والفكري، فهي إذن مقارباتٌ لا مقارنات.

وقد كان أستاذنا الشيخ محمد الغزالي –رحمه الله– يميل إلى تقسيم روَّاد الإصلاح ودعاته إلى فريقين: “فريق يتجه إلى الحكم  على أنه أداة سريعة لتغيير الأوضاع، وفريق يتجه إلى الجماهير يرى في ترشيدها الخير كله، ثم يقول إلى: “وهؤلاء الذين يسعون إلى السلطة لتحقيق رسالةٍ رفيعة، لابد أن يكونوا من الصدِّيقين والشهداء والصالحين أو من الحكماء المتجردين والفلاسفة المحلِّقين !! وأين هؤلاء وأولئك؟ إنهم لم ينعدمُوا، ولكنهم عملةٌ نادرة، ومع ذلك فإن أي حُكمٍ مهما كان رفيع القدر لن يبلغ غايته إلا إذا ظاهره شعب نفيس المعدن عالي الهمَّة!… إذن الأمة هي الأصل، أو هي المرجع الأخير! و على مريدي الخير أن يختلطوا بالجماهير، لا ليذوبوا فيها وإنما ليرفعوا مستواها ويفكُّوا قيودها النفسية والفكرية”.

إن تجربة الأستاذ فتح الله كولن ومشروعه الحضاري، تجربة لم تنشأ في الفراغ ولم تنبت من غير تعهد ورعاية، بل كان لها رصيد ضخم من التجارب الحيَّة تستضئ بها، وتستمدّ منها.

ومن ثَمَّ كان التركيزُ على المدارس ذات التأثير المجتمعي والحضاري وليس السياسي، ذلك أن البعث الروحي والفكري هو الأبقى أمدًا والأقوى مددًا، وتجربة الأستاذ فتح الله كولن ومشروعه الحضاري، ليس إلا امتدادًا لهذه المدارس الحضارية العظيمة، فهي تجربة لم تنشأ في الفراغ ولم تنبت من غير تعهُّد ورعاية، بل كان لها رصيد ضخم من التجارب الحيَّة تستضيء بها، وتستمدُّ منها، فهي تجربة حديثة بالمعني الزمني، لكنها متجذَّرة في أعماق الأمة ومتَّحدة مع كيانها على الحقيقة مع تميُّزها عن غيرها، ومراعاتها لطبيعة زمانها.

مدارس التجديد والإصلاح

جاء في الحديث الشريف “إن الله يَبْعثُ لهذه الأمّة  على رأس كلِّ مائة سنة مَنْ يُجَدِّدُ لها دينها”(أبو داوود) ولا شك أننا اليوم بحاجة إلى فهم أعمق للحديث الشريف وبخاصة في هذه المرحلة بالذات من تاريخ الأمّة.

وفي إطار البحث عن مدلولات أعمق للحديث يرى د.فريد الانصاري -رحمه الله- أنّ التجديد إنّما يقع حيثُ تكون الحاجة إليه، لذلك كان القرن الرابع الهجري قرنَ حركة علمية مُجَدِّدة حيث كانت الحاجة ملحّة فظهر محدِّثون ومفسّرون، وكثير من العلماء في التربية وفي الدين وفي السلوك، حاولوا تجديد الدين لذلك القرن.. حتى جاء الإمام أبو حامد الغزالي القرن الخامس الهجري فحاول أن يَرجع بالعلوم الإسلامية إلى أصلها الأول. فالتجديد كما يرجحه الأنصاري هو تجديدٌ تكون الحاجة إليه مُلحَّة، وقد يكون هذا مرتبطًا بالعامل الزمني الذي يشير إليه الحديث “مائة سنة”.

وقد وُجد في الأمة مجدِّدون في مختلَف العصور والأزمان:”يشعرون بآلام أمتهم، ويدركون المخاطر المحيطة بها, ويفكِّرون التفكير العميق في أسباب الدَّاء ووصف الدواء، وكلُّ مصلحٍ ينظر إلى المرض من زاويته، ويدعوا إلى مداواته حسب خُطَّته، وكلٌّ قد أبلى بلاءً حسنًا، ولاقى من العناء ما لا يتحمَّله إلا أولو العزم، فمنهم من شُرِّد ومنهم من قُتِل، ومنهم من رُمِي بالخيانة العظمى، وهم على هذا صابرون مجاهدون، أحبوا مبدأهم في الإصلاح أكثر مما أحبُّوا الحياة، ولم يعبئوا بالعذاب في سبيل تحقيق فكرتهم، وظلَّت آراؤهم تعمل عملَها في حياتهم وبعد موتهم، حتى تحققَّ إصلاحهم ونفَذَت أفكارهم”(1) ففي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بالتقويم الميلادي (وهو ما يُوازي نهاية القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر بالتقويم الهجري) نشأتْ حركات تجديدية في العالَم الإسلامي في وقتٍ واحد.

كانت حركات التجديد تلك تعبيرًا عن التحدي الحضاري الذي واجهته الأمّة، فقد كانت شعوب المسلمين تقع تحت الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي جُملةً، ومازال الاستعمار آنئذ يَزيد ويَكتسح في كثير من دول العالم الإسلامي.. كان التحدَّي إذن هو تحدِّي التحرُّر من النفوذ الأجنبي، والتحرر من أغلال الفقر والجهل والمرض، التي مكَّنت لهذا الاستعمار من أن يعبث ببلاد المسلمين.

إن سبيل الخلاص هو إعداد أطبّاء الروح والمعنى، الذين يملؤون كل الفراغات في كياننا، ويزيلون نقاط الضعف في نفوسنا، ويقودوننا إلى مستوى الحياة القلبية والروحية.

والسؤال: هل مازال هذا التحدي قائمًا في صورته الاستعمارية الفجَّة التي تعني احتلال الأرض ونهب خيراتها، والسيطرة على عقول أبنائها؟

يقول الأنصاري: “إن هذه الظروف تغيّرتْ.. عندنا الآن ظروف عالَمية أخرى؛ عندنا ما يُسَمَّى بـ”العَولمة” في صورتها الثقافية والإعلامية والاقتصادية.. بهذا الوجه المكْتَسِح لكلّ العالَم الآن، ما ينْبغي أبدًا أن يكون المنهج القديم الذي نشأ تحت تأثير الاستعمار بصورته النمطية هو نفسه المنهج الذي يقوم بالتجديد في هذه المرحلة.. لأنّ التحدّيات اختلفت؛ الاستعمار القديم كان يحْتلّ الأوطان دون أن يحتلّ الإنسان، بينما الاستعمار الجديد يحتلّ الإنسان قبل أن يحتلّ الأوطان”(2).

البعد التجديدي والإحيائي في نموذج الخدمة

تنبع الأهمية الدعوية والحضارية لدعوة الأستاذ فتح الله كولن –التي هي نتاجٌ فكري وموروثٌ حضاري لما سبقها من تجارب ودعوات– مِنْ كونها هي الأقرب لوراثه حركة التجديد التي ينتظرها العالم الإسلامي اليوم.

يقول الأنصاري: “أزعم أن أبرَزَ دعوةٍ وأقْربَ حركةٍ لمعني الحديث أولاً، ثم للحاجة المطلوبة الآن حضاريًّا ثانيًا، هو هذا الاتّجاه الذي يمثّله الأستاذ فتح الله كولن.. لماذا؟ لأنّ الاستعمار سابقًا احتلّ الأوطان قبل أن يحتلّ الإنسان؛ فكانت الحركية التجديدية القديمة غالبًا ما تتجه إلي تحرير الأوطان، بينما هذا الاستعمار الجديد الذي استعمر الإنسان، استعمر فكرَه وأحلامَه، وعقلَه ودماغَه؛ ينبغي أن تكون هذه الحركية قائمةً أساسًا على تحرير الإنسان.. وما وجدتُ شخصًا أو دعوةً قامَ فكرُها فعلاً على تحرير الإنسان كما وجدتُ كتُبَ الأستاذ فتح الله كولن”(3).

نعم.. يمكن اعتبار هذه التجربة مدرسة إحيائية تجديدية بهذا المفهوم، لأنها تواجه تحدِّيًا من نوع جديد، إنها تواجه تحدي هدم إنسانية الإنسان بمحاولة بناء إنسان القرآن، وهو ما نلحظه في كتابات ومقالات ومواعظ الأستاذ فتح الله كولن، بل ما نراه في المؤسسات التربوية التي حثَّ على  إنشائها.

“فالمشروع الفكري والتطبيقي في تجربة الشيخ فتح الله قائمٌ أساسًا على “تجديد الإنسان” لأنه حينما يتجدّد الإنسان يتجدّد كلُّ شيء بالتّبع، فتكُون الشركات، وتكون المؤسسات بسبب أنّه صنَع “الإنسان” وهذه هي العبقرية الاستراتيجية التي يُمكنها أن تُواجه الاستعمار الجديد بتجلّياته الثقافية والعقَدية المدمِّرة للبنْية التحتية في العالَم الإسلامي”(4).

كانت حركات التجديد تلك تعبيرًا عن التحدي الحضاري الذي واجهته الأمّة، فقد كانت شعوب المسلمين تقع  تحت الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي جُملة، ومازال الاستعمار آنئذ يَزيد ويَكتسح في كثير من دول العالم الإسلامي.. كان التحدَّي إذن هو تحدِّي التحرُّر من النفوذ الأجنبي، والتحرر من أغلال الفقر والجهل والمرض، التي مكَّنت لهذا الاستعمار من أن يعبث ببلاد المسلمين.

يقول الأستاذ فتح الله كولن في موضوع بعنوان: نحو عالم الغد: “إن سبيل الخلاص من الاضمحلال، هو إعلان النفير العام لإعداد أطبّاء الروح والمعنى، الذين يملؤون كل الفراغات في كياننا، ويزيلون نقاط الضعف في نفوسنا، وينقذوننا من عبودية الجسم والبدن ويقودوننا إلى مستوى الحياة القلبية والروحية… أطباء تتسع قلوبهم لكل ساحات العلم والذكاء والعرفان والواردات والفيوضات… من الفيزياء إلى الميتافيزيقا، ومن الرياضيات إلى الأخلاق، ومن الفنون الجميلة إلى التصوف، ومن الكيمياء إلى الروحانية، ومن الحقوق إلى الفقه، ومن السياسة إلى السير والسلوك”(5).

لكن.. ماذا يفعل أمثال هؤلاء في مجتمع كبير وأمة مترامية الأطراف؟ مجتمع يعاني الكثير من الأمراض والأوجاع، وأمةٍ منهكة، وشعوب متفرقة؟

وكعادته في التشبيه والتمثيل، يشبه الأستاذ كولن هؤلاء القلة بـ”المخ” في جسم الإنسان، هذا العضو الصغير الذي يتحكم في حركات الجسم وسكناته من خلال شبكة الأعصاب المنتشرة في أنحائه.

إن التجديد كما يرجحه الأنصاري هو تجديد تكون الحاجة إليه ملحّة، وقد يكون هذا مرتبط بالعامل الزمني الذي يشير إليه الحديث “مائة سنة”.

فما أشد حاجة الأمة إلى مثل هذا: “المخ المدبر، فكما يرتبط العقل ويحاور كل جهة بعيدة وقريبة في البدن عبر الأعصاب، ويرسل الرسائل إلى أقصى نقاطه ويستلم منها، فإن هذا الفريق سيكون في تعاطٍ مع جميع خلايا جسم الأمة وجزيئاته وذراته وجُسيماته، ويصل إلى جميع الوحدات في المجتمع، ويمتد تأثيره إلى جميع أجزائه الحيوية، ويهمس في أذن كل شرائحه شيئًا من الروح ومن المعنى، مقبلاً من الماضي ومكتسبًا عمقًا أشد غورًا في الحاضر، وممتدًا إلى المستقبل”(6).

بين النظرية والتطبيق

الحقيقة أن الواقع خيرُ دليل، فميدان القول غير ميدان العمل بكل تأكيد، ذلك أن الأستاذ فتح الله كولن قد “تمكّن من تكوين أجيال و مؤسسات قادرة  على إعادة تشكيل صورة الإسلام عبر العالم، وقادرة على خلق الأسباب المناسبة لذلك، وقد يكون ما نراه فتوحات افتراضية كغايات تهدف إليها التجربة، في غير قصدٍ إليها، بمعني أنها لا يهمها كثيرًا أمر الفتح بمعناه السياسي والاقتصادي، بقدر ما يهمها تمثيل الإسلام خير تمثيل والسعي وراء تحقيق السلام العالمي”(7).

هذا ما نحاول إلقاء الضوء عليه، ولفت الأنظار إليه، في هذه السلسلة من الدراسة، لتتَّجِه الهممُ نحو نهضة منشودة تبدأ من “الإنسان” نحو بناء مجتمع سليم، وأمة راشدة.

ومن يدري، لعل أمتنا التي تتعثر اليوم في خطاها، والتي تنكَّبت الطريق نحو غايتها المنشودة، تكون عما قريب السراج المنير للشرق والغرب على السواء.

يقول الأستاذ فتح الله كولن: “لقد كان لكل عصرٍ كرامة، فوُلدت الإنسانية من جديـد بالإسلام في القرن السادس الميلادي، وعاد الأتراك إلى الحياة بالإسلام في القرن العاشر الميلادي، وأظن أن كرامة القرن الحادي والعشرين ستظهر بملء شعبنا والشعوب المرتبطة به مكانه اللائق في الموازنات الدولية. نعم، نؤمن أننا بهذا الجهاد المعنوي الذي يمكن تسميته بكفاح العلم والأخلاق والحق والعدل، سنلُمُّ شعث أشلاء أمتنا المباركة الممزَّعة البئيسة والمشرَّدة في أرجاء الأرض المختلفة، لتجتمع الأجيال التي ظلت بلا راعٍ ولا غاية حتي اليوم في ظل الفكر، فتعيش “الانبعاث بعد الموت” من جديد”(8).

إن الأستاذ فتح الله كولن قد تمكّن من تكوين أجيال ومؤسسات قادرة على إعادة تشكيل صورة الإسلام عبر العالم، وقادرة على خلق الأسباب المناسبة لذلك.

أليست هذه في الأصل هي رسالة الإسلام؟، أليست هذه هي وظيفة المسلمين الأولى؟ وهل أرسل الله سبحانه وتعالى الرسول صلى الله عليه وسلم إلا رحمة للعالمين؟ أليست البشرية اليوم في أمس الحاجة إلى هذا الدور الحضاري؟

ولقد أصدرت منظمة المؤتمر الإسلاميِّ ما عُرف بـ”إعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام”، وأكَّدت فيه على أنَّ دور المسلمين اليوم هو هداية البشرية الحائرة، حيث ورد في ديباجة الوثيقة: “التأكيدُ  على  الدور الحضاري والتاريخيِّ للأمَّة الإسلامية، التي جعلها الله أمَّة وسطًا، أورثت البشرية حضارة عالمية متوازنة، وصلت الأرض بالسماء، وربطت الدنيا بالآخرة، وجمعت بين العلم والإيمان، والذي يُؤمَّل هو أن تقوم هذه الأمَّة اليومَ بهداية البشرية الحائرة، بين التيارات والمذاهب المتنافسة، وتقديم الحلول لمشكلات الحضارة المادية المزمنة”(9).

التجربة والسياق التاريخي

إنها إذن تجربة لا نستطيع فهمها إلا في سياقها التاريخي والحضاري، ضمن حركات البعث والتجديد الإسلامي، وهل يمكن أن نفهم مثلاً، عزوف الأستاذ كولن وتلاميذه عن الدخول في المعترك السياسي  على الرغم من سِعة انتشار التجربة وتأثيرها مجتمعيًّا، إلا في ضوءٍ من تجربة الأساتذة الأعلام الغزالي والنورسي وعبده؟

أَوَ ليست هي تهمةٌ واحدةٌ اتُّهِم بها الإمام أبو حامد الغزالي بسلبيته في مواجهة الاحتلال الصليبي، واتُّهِم بها الإمام محمد عبده بموالاته للإنجليز واحتفائه باللورد كرومر، لمجرد أن كلَّاً منهما كان له مشروعه الهادف إلي البناء من القاعدة، ومواجهة المرض الحقيقي دون الاشتغال بالعرض الزائل الذي لا ينبغي التقليل من أثره أو العزوف عن مواجهته، وهل زعم أحدٌ منهما أنه سياسي قدير؟ أو عسكري فذَّ؟ وماذا فعل الإمام الغزالي حين وجد من يقود حركة الإصلاح السياسي – يوسف بن تاشفين- مثلاً؟ ألم يعزم أن يرحل إليه؟ وماذا فعل محمد عبده حين رأي في الثورة العرابية وسيلة إنقاذٍ للشعب من الظلم؟ ألم يكن أحد قادتها ودعاتها؟ وهل يُتهم مثل النورسي –وهو الذي قضي حياته في السجون والمنافي– بأنه لم يكن مشغولا بقضايا الأمة، لأنه لم يحرض تلاميذه على الثورة ضد العلمانية؟ ولم يقُد تمردًا ضد نظام أتاتورك مثلاً؟

إن الهدف عرض هذه التجربة بموضوعية، بعد قراءة متأنية لمرتكزاتها والأسس التي قامت عليها، من خلال النظر في تاريخ التجارب الماثلة بين أيدينا ثم من خلال الواقع الذي تمثله تطبيقًا وعملاً.

في ظل هذا كله يمكن أن يفهم الدارسُ تجربة الأستاذ فتح الله كولن والاتهامات الموجهة له ولتلاميذه بأنهم مشغولون عن قضايا الأمة وهمومها بمدارسهم الخاصة ومشاريعهم التعليمية، لأنه لم يصدر بيانًا في حادثة كذا! ولم ينتقد النظام العلماني في أمر كذا!، ولأنه استطاع التعايش في ظل الحكومات العلمانية والحفاظ على مؤسساته التربوية!

إلى غير ذلك من الاتهامات التي سوف تكون لنا وقفة مع بعضها في هذه السلسلة ذلك أن القصد –في الأساس- ليس الدفاع عن شخص الشيخ فتح الله كولن أو حركة الخدمة، وإنما الهدف هو عرض هذه التجربة أمام الناظرين، بموضوعية، بعد قراءة متأنية لمرتكزاتها والأسس التي قامت عليها، من خلال النظر في تاريخ التجارب الماثلة بين أيدينا، ثم من خلال الواقع الذي تمثله تطبيقًا وعملاً.

وستكون السلسلة كالتالي:

أولاً: مدرسة الإمام الغزالي وتجربة الأستاذ كولن: “إحياء جيل جديد”.

ثانيًا: مدرسة الإمام عبد القادر الجيلاني وتجربة الأستاذ كولن: “تجربة المدارس الروحية”.

ثالثًا: مولانا جلال الدين الرومي والأستاذ كولن: “صوت الرومي في عصر العولمة”.

رابعًا: الإمام محمد عبده وتجربة الأستاذ كولن: “من التعليم نبدأ”.

خامسًا: الإمام النورسي والأستاذ كولن “نحو النور”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

(1)  أحمد أمين، زعماء الإصلاح في العصر الحديث، المكتبة المصرية، المقدمة، 2007، ص9.

(2)  فريد الأنصارى، رجالٌ ولا كأىِّ رجال، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، 2013، بتصرف، ص71.

(3)  المرجع السابق، بتصرف، ص72.

(4)  المرجع السابق، بتصرف، ص86.

(5)  فتح الله كولن، ونحن نقيم صرح الروح، صـ 26، ط6، دار النيل، القاهرة، 2012.

(6)  المرجع السابق، ص27.

(7) هشام الرَّاس، (الخطاب الإسلامي بين مقتضيات العصر ومشروع الحداثة نموذج: تجربة فتح الله كولن)، بحوث جامعية “ملخص” موقع مجلة “حراء”.

(8)  فتح الله كولن، ونحن نقيم صرح الروح، دار النيل القاهرة، ص94، ط6، 2012.

(9) د.طه جابر العلوانى، إصلاح الفكر الإسلامى بين القدرات والعقبات، سلسلة إسلامية المعرفة، الدار العالمية للكتاب الإسلامى، الرياض، ص33، ط1، 1994.