ملخص
يُقدِّم الكاتب في هذه المقالة قرءاته الخاصة لكتاب النور الخالد، ويُتابع فيه المنهجية التي سلكها الأستاذ كولن في فهمه للسيرة النبوية، وكيف استفاد من هذا الفهم وأنزله إلى حيِّز التطبيق العملي.
ويؤكد الكاتب على أن قارئ هذا الكتاب سيتبيّن له كيف أكثر الأستاذ فتح الله كولن من الوقوف عند المنعطفات الكبرى في السيرة، وكيف زاد من تأملاته في أحداثها الخطيرة، وأشبعها فحصًا ودراسة، واستخلص منها العبر والعظات، واستنبط الدروس، ورتّب المهم لحياتنا الحاضرة وما هو أكثر أهمية، وما هو مُلح وأكثر إلحاحًا. ويقف الكاتب على نقطة جوهرية في هذا السفر العظيم وهي التوافق بين سنّته صلى الله عليه وسلم والسنة الكونية، حيث أكّدت السنة على الحيطة والحذر والأخذ بالأسباب في صغير الأمور وكبيرها، فالنجاح – كما تؤكد السنة- قمينٌ بمن يعقل ويتوكل، ولا بمَن يتوكل ولا يعقل.
المقال
الأستاذ “محمد فتح الله كولن” على رأس الدعاة الذين عاشوا أسرى محبة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فنذر وقته في البحث عن منـزلته، ومعرفة قدره ومكانته، وجعل أصول دعوته وقواعد منهجه فكر وسلوك وأخلاق سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم. فقد قدم كتابًا من أعظم ما كتب وأبدع حول شخصية الحبيب المحبوب › سماه “النور الخالد محمد صلى الله عليه وسلم مفخرة الإنسانية”.. وعنوان الكتاب على هذا النحو يعبر عن صدق حب الرجل لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وشخصيته. فالنور الذي لا يخبو ولا ينطفئ هو نوره صلى الله عليه وسلم، ومصدر فخر الإنسانية واعتزاز البشرية الراشدة الرشيدة(1).
إن تسليط الأضواء على شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم السامية، وشرحها وبيانها، وإظهار سيرتها بما هي أهل له كان رغبة ملحة لديّ، وهاجسًا من هواجس فكري ومشاعري.
مقدمة النور الخالد
وفي مقدمة هذا الكتاب عبَّر “كولن” عن سبب كتابته لهذا الكتاب فيقول: “إن تسليط الأضواء على شخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم السامية، وشرحها وبيانها، ثم تقديمها كمنقذ للبشرية، وكإكسير للمشاكل المستعصية على الحل، وللأمراض غير القابلة للشفاء، وإظهار هذه الشخصية السامقة وسيرتها بما هي أهل له كان رغبة ملحة لديّ -كما هي عند كثيرين- وهاجسًا من هواجس فكري ومشاعري، وموضوعًا مهمًّا من المواضيع التي لا سبيل للوقوف أمام سحرها وجاذبيتها أو الفكاك منها.
إنه صلى الله عليه وسلم فخر للبشرية جمعاء… فمنذ أربعة عشر قرنًا يقف وراءه أكبر الفلاسفة وأعظم المفكرين وأشهر العباقرة وأذكى رجال العلم الذين زينوا سماء الفكر عندنا.. يقفون وراءه خاشعين قد عقدوا أيديهم أمامهم وهم يخاطبونه ويقولون: “أنت الإنسان الذي نفخر بانتسابنا إليه”(2).
إننا أمام حب أقوى من أن تؤثر فيه الأقاويل أو تزعزعه الشكوك أو تضعف من جذوته المؤامرات. حاول أعداء الإسلام ومازالوا يحاولون، النيل من حبنا له وتوقيرنا لشخصه، إلا أن الله غالِب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون(3).
يرى الأستاذ كولن أن منزلة الحبيب صلى الله عليه وسلم عظيمة وجليلة، ولكن علينا أن نقدم شخصيته للعالم، كما يُقدّم العالم شخصياته، وعند ذلك سيحبّه الجميع إن عرفوه حقّ المعرفة.
وفي مقدمته لكتابه النور الخالد يقول: “ومنزلة الحبيب صلى الله عليه وسلم ومكانته وعظمته تظهر جلية واضحة، فنحن لا نزال إلى الآن نسمع أصداء “أشهد أن محمدًا رسول الله” ونستطيع أن نشير إلى دليل عظمته فنقول بأنه على الرغم من كل هذا العمل المتواصل لأعداء الله في الداخل والخارج في الإفساد والإضلال، فإننا نرى حتى في هذه الأيام كيف أن العديد من الشباب في عمر الزهور -رغم إحاطته التامة بالحقيقة الأحمدية التي ليس من اليسير معرفة مفاهيمها الدقيقة والصعبة- يتراكضون نحوه، ويحومون حوله مثلما تحوم الفراشات حول النور. وهذا أمر فريد لا نجد له مثيلاً في العالم.
فالزمن لم يستطع أن يمحو من قلوبنا ومن صدورنا أي حقيقة من الحقائق العائدة له صلى الله عليه وسلم، ولا يبليها… أجل، فهي حقائق غضة ندية ونضرة على الدوام. وكما قلت لإخواني مرارًا إنني عندما أذهب إلى المدينة المنورة أجد رائحته العطرة محيطة بي إلى درجة تشعرني وكأنني سأقابله بعد خطوة واحدة، وكأن صوته الشجي الذي يحيي القلوب يقول لي: “أهلاً وسهلاً.. ومرحبًا”. أجل، إنه حي ونضر في صدورنا إلى هذه الدرجة، فكلما تقادم الزمن ازداد نضارة وطراوة وحيوية في قلوبنا”(4).
النور الخالد كتبه الأستاذ بدموع عيونه وبنبضات قلبه. فالقارئ لهذا الكتاب يجده من المقدمة إلى الخاتمة صوتًا واحدًا، يرشح بالمعاناة والشوق والاحتراق؛ ومن ثم فإن فتح الله لم يؤلف “النور الخالد” بعقله ومحفوظاته فقط، وإن كان متحكمًا في تفاصيل السيرة النبوية تحكُّمًا لا نظير له؛ وإنما سبكَه قبل ذلك بقلبه ووجدانه، وأودعه عيونًا في أسرار روحه(5).
ويرى الأستاذ أن منزلة الحبيب صلى الله عليه وسلم عظيمة وجليلة، ولكن علينا أن نقدم شخصيته للعالم -كما يقدم العالم شخصياته- عند ذلك سيحبه الجميع إن عرفوه حق المعرفة، فيقول: “إن الزمن يتقادم ويشيخ، وإن بعض المبادئ والأفكار تتعفن وتتهاوى، أما منزلة الرسول محمد › فستبقى متفتحة في الصدور كأكمام الورود العبقة أبد الدهر، وستبقى نضرة في القلوب على الدوام.
وأنا أرى لو أننا اهتممنا واعتنينا بتقديمه والاهتمام به مثلما فعل الآخرون في تقديم شخصياتهم، ولو أن المؤسسات العلمية والمؤسسات الأخرى المتعلقة بشؤون الحياة نذرت نفسها للاهتمام به وشرحه وتوضيحه وبيان جوانب شخصيته، لما ترَبّع على عرش القلوب غيره، ولما تخلل في الضلوع والصدور سواه.
إن هذا الكتاب يُعدُّ نمطًا فريدًا في فهم السيرة النبوية، والتعمق في وقائعها وأحداثها، وفي تحليل موضوعاتها ودروسها، وتقديمها إلى القارئ في أسلوب مقنع.
ولكن مع هذا، وعلى الرغم من كل شيء يهرع الكل من شرق الدنيا وغربها حاملين معهم دلاءهم، مسرعين نحو نبعه الصافي الفياض.. نحو المنهل العذب المورود، يحدوهم الوجد والهيام ليبلغوا قبته.. قبة الإنسان الذي يضع التيجان على هامات الشموس”(6).
دلالات تفوح من العنوان
الأستاذ جعل عنوان كتابه “النور الخالد محمد › مفخرة الإنسانية”. فإذا توقفنا عند هذا العنوان نجده عنوانًا ذا دلالات ومرجعيات يفترض أن نستحضرها ونحن نقرؤه ونطل منه على مضمون الكتاب وغاية المؤلف منه.
النور الخالد يذكرنا بوصف القرآن الكريم للرسول صلى الله عليه وسلم: “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا* وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا(الأحزاب:45-46) فالرسول صلى الله عليه وسلم سراج منير كالشمس التي وصفها القرآن الكريم بكونها سراجًا بقوله عن السماء: وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا(النبأ:13) وكما أن نور الشمس وضياءها وأثرها باق ما بقيت الحياة على الأرض ينتفع به الناس جميعًا في الأرض كلها، فكذلك نور رسول الله صلى الله عليه وسلم باق بكونه النبي الخاتم الذي لا نبي بعده، بل إن نوره لأشد سطوعًا وظهورًا في الآخرة بعد الدنيا، ويكفيه تجلي ذلك النور في المقام المحمود يوم القيامة. والشق الثاني من العنوان هو: محمد مفخرة الإنسانية، هذا الشق يشير إلى بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم كما أشار الشق السابق إلى رسالته، وهذا المعنى يجعلنا نستحضر قوله تعالى موجهًا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: “قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ(الكهف:110) فالشق البشري يتجلى في: محمد مفخرة الإنسانية، فهو من البشر بل هو مفخرة البشر بكونه الإنسان الكامل، بل إنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى منزلته في البشر بقوله: “أنا سيد الناس يوم القيامة” (رواه أبو داود)(7).
الأستاذ برغم حبه الشديد للحبيب صلى الله عليه وسلم إلا أنه يلوم نفسه ويتهمها بالتقصير بأنه لم يستطع توضيح جوانب عظمة هذا النبي صلى الله عليه وسلم؛ يتساءل قائلاً: “ولكن هل استطعنا أن نفهم الرسول › سلطان القلوب المتربع على عرش الأفئدة حق الفهم، وندركه حق الإدراك؟
إن كتاب النور الخالد لي كتاب “رواية”، بل هو دفع لهذا العصر وجهة خير الأعصار، فالمؤلف يسعى جاهدًا أن يوظف جميع ملكاته وقدراته، ليحمل الناس على “تجاوز الزمان والمكان”، حتى يمكنهم أن ينتصروا على “ضغط الآن”.
ولكن ما بالي أشير إليكم، أو أعنيكم؟ ما بالي أنا؟ هل استطعت أن أشرح جوانب عظمته كما يجب، وأكشف معالم شخصيته كما ينبغي؟ أما أنا الذي أضع جبهتي للصلاة منذ الخامسة من عمري، وأنا الذي أدّعي أنني وضعت الطوق حول عنقي لكي أكون “قطميرًا” له. هل استطعت أن أشعركم بما يجيش في صدري من عظمة النبي صلى الله عليه وسلم كما يليق بجوانب هذه العظمة؟ إنني أسائل نفسي وأسائل جميع الذين يتصدون للتبليغ والدعوة: هل استطعنا أن نشرح لإنسان هذا القرن حبه.. حب سيد السادات حبًّا تجيش به القلوب؟ هل استطعنا أن نبهر القلوب والأرواح بهذه العظمة، عظمته صلى الله عليه وسلم؟
كلا! فلو عرفته البشرية حق المعرفة، وفهمته حق الفهم لهامت به حبًّا ووجدًا.. ولو تغشت الأرواح ذكراه الجميلة، لثارت أشواقها وفاضت عيونها بالدموع، ولاقشعرّ جلدها وهي تخطو إلى عالمه.. عالم النبوة الطاهر، ولألقت بنفسها للريح كي تشعل جذوة قلوبها المتقدة بحبه بعدما صارت رمادًا، فتذروها الريح نحوه “(8).
كولن وعشق فخر الكائنات
هذا مع أنك لو شرّحت قلب الأستاذ لطفح منه رشح “النور الخالد”؛ ثم لو أنك لامست روح الأستاذ لأصابك لفح من شهاب “النور الخالد”؛ ثم لو أنك حللت “النور الخالد” تحليلاً دقيقًا للاح لك شبح الأستاذ، من هناك، من بعيد، وهو يذرف الدموع(9)، وهو يقول: “حاولت مستندًا إلى عون الله تعالى وكرمه وإحسانه أن أشير باختصار، وعلى نمط الفهارس إلى جوانب عظمة فخر الكائنات، وسيد الدنيا والآخرة. كل كلام في مدحه جميل، فإن وجدتم شيئًا نابيًا، فمني ومن أسلوبي، أما ما يتعلق بفخر الكائنات فكله مشرق وجميل”(10).
لقد ملأ عليه حب فخر الكائنات كل كيانه وكل أوقاته، وذات مرة رأى النبي صلى الله عليه وسلم في رؤيا فقال: ناولني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمًا، وفي قبالتي الهدف، فأخذت السهم ورميته، ولكني لم أصب الهدف، وصرت أبكي وأقول: هل يمكن لسهم رسول الله › أن لا يصيب. وبعد ذلك أعطاني سهمًا آخر فأصاب الهدف. وكان يقول لنا: ينبغي أن تؤمنوا أن سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخيب. وأن كل مشكلة لها حل في القرآن الكريم والسنة والسيرة(11).
مَن يُدقق في كتاب الأستاذ يجد أن هناك مجموعة من الظواهر الفكرية والأسلوبية في هذا الفصل وغيره تتفق مع الغاية من تأليف الكتاب وأولها هذه العقلية المنهجية المنظمة التي لا تمضي في الحديث بتدفق غير منضبط.
كيف لا يكون ذلك وهو الذي امتلأ قلبه بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدبًا في حديثه عن سيد الكائنات فيقول: “مع أنني أعد نفسي أكثر المؤمنين قصورًا وذنبًا، إلا أنني لا أملك نفسي من شرح إحدى مشاعري.. وغايتي من هذا الشرح هو لكي أبين إذا كنت أستطيع أن أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كل هذا الحب، فما بالك بالقلوب والأرواح الواصلة إلى مراتب عُليا في حبها لهذا الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم وكيف تشتعل هذه القلوب بعشقه ووجده؟ لذا، أودّ أن يتم تقييم شرح مشاعري من هذه الزاوية، وإلا فإن أدبي كان يمنعني من طرح مشاعري في حضوركم.
في رحاب الحبيب
وعندما مَنَّ عليَّ الله عزّ وجل بزيارة الأراضي المقدسة لكي أعفر وجهي بترابها بدت لي بلدة رسول الله صلى الله عليه وسلم مضيئة ونورانية، إلى درجة أنني ذقت معها سعادة روحية غامرة، وفرحًا لا يوصف، بحيث أني شعرت بأنه -على فرض المستحيل- لو فتحت لي حينذاك أبواب الجنة كلها، ودعيت للدخول إليها.. أجل، لو تم هذا، فصدقوني بأنني كنت سأرفض دخول أي باب من أبواب الجنة، بل كنت أختار وأفضل البقاء هناك”(12).
ثم يوضح سر اختيار البقاء في الروضة المباركة بكل تواضع بأنها مشاعر الكثيرين غيري قائلاً: “ولا يذهبن الظن بأحدهم بأنني أرى نفسي لائقًا لتلك المرتبة العليا، بل إنني أردت فقط إظهار مدى حبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فإنني قضيت حياتي أدعو الله أن ينيلني شرف الخدمة لأصغر صحابي من صحابة رسول الله عليه وسلم، وكان ابتهالي من الله تعالى أن لا يُبعد فكرنا لحظة واحدة من أمنية تعفير وجوهنا بتراب أرجلهم، وكان الكثير من الأوراد التي يكررها لساني على الدوام تحمل هذه المعاني.
وجاشت المشاعر نفسها عندي في بيت الله، وقد تكون هذه المشاعر مشاعر مشتركة لدينا جميعًا. ثم إن من يحمل هذه المشاعر غير محصور فيَّ وفي أفراد قلائل، فكم وكم من ذائب في عشق رسول الله صلى الله عليه وسلم تُعدّ هذه المشاعر بالنسبة له مشاعر بدائية وخشنة”(13).
محاولة لإسقاط السيرة النبوية على الواقع المعاصر
كيف لا يكتب الأستاذ بلغة الحب بعيدًا عن العرف العلمي الجاف، وقد نقل بعض طلبة الأستاذ أنَّه أوان إلقائه “النور الخالد” دروسًا في جامع “والدة السلطان” بحيّ “أُوسْكُودَار”، كان كلما تقدّم إلى درس اعتقد وآمن، وحضّر نفسه وقلبه، على أن يكون هو آخر مواعظه، وأنه سيلقى حتفه بعد ذلك، وقد يودع السجن، أو يصاب بمكروه؛ ومن ثمَّ جاءت هذه الخطبة النارية في منتهى الصدق، وهي بحقٍّ نصائح مودّع للخلق، ولآلئ مقبل على الحق(14).
الأستاذ في النور الخالد كثيرًا ما يخاطب ذاته ويوجه الحديث إلى نفسه، وبطبع ذلك في حديثه عن نعم الله علينا بأن جعلنا من أمة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ونحن لسنا أهلاً لذلك، فنحن نريد أن نتحدث وأن نعبر عن النعمة الكبرى المتميزة المهداة إلينا عندما أصبحنا من أمته، وأن نهتف من أعماق قلوبنا بالحمد لله رب العالمين والشكر له، لأنه رآنا أهلاً لإسباغ نعمته الكبرى علينا بأن جعلنا من أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم. فهذا فضل إلهي، وهو يسبغ فضله ونعمته على من يشاء وبالمقدار الذي يشاء، إلا أن هذا الفضل لا يمكن أن يزنه ميزان أو يحدّه قياس..
فهو بحر واسع لا يحده ساحل، ولا ينتهي بشاطئ. إلا أن للمسألة وجهة أخرى لا أستطيع إهمالها ولا الهرب من السؤال الذي تطرحه: أنملك قلبًا لائقًا بسلطان القلوب؟ هل هذا السلطان مستريح في مجلسه من القلوب؟ هل قلوبنا مفتوحة له على الدوام؟ أنلاحظه في قيامنا وقعودنا، في أكلنا وشربنا؟ أنلاحظ محمدًا صلى الله عليه وسلم بقلوبنا في جميع حركاتنا وسكناتنا؟ أنسير في جميع شؤون حياتنا على الخط الذي رسمه لنا؟ فإن كان جوابنا بالإيجاب فما أسعدنا! لأن هذا يعني أن خيالنا وأحلامنا مزيّنة بجمال صورته.. وإننا بذلك نكون جماعة محمدية، نتخلق بأخلاقه ونتأدب بآدابه.. وإن أيّ جماعة تتزين بمثل زينة أخلاقه، تكون عنصر توازن في هذا العالم. وأنا أعتقد أن هناك سببًا واحدًا فقط في عدم وصولنا إلى مثل هذا التوازن، وهو أننا لم نرتق بعد إلى المستوى اللائق للروح المحمدية(15).
بهذا تظهر لنا ميزة هذا الكتاب الذي ليس كالكتب التي في هذا الموضوع، سواء منها كتب التراث الإسلامي، أو الكتب التي أصدرها المؤلفون المحدثون من نهاية القرن التاسع عشر إلى اليوم. وجدته نمطًا فريدًا في فهم السيرة النبوية، والتعمق في وقائعها وأحداثها، وفي تحليل موضوعاتها ودروسها، وتقديمها إلى القارئ في أسلوب مقنع مبهج ينفذ إلى القلب والعقل بتلقائية(16).
إن هذه المنهجية المنظمة ترتبط بالغاية من التأليف لتكون شخصية الرسول في أبهى صورها وأوضح ملامحها بعيدًا عن السرد التاريخي الذي يبرز فيه الحدث أولاً ثم الشخصية ثانيًا.
فصلة الأستاذ بالنبي صلى الله عليه وسلم لا حدود لها، يتناول أمنياته وآماله والأمة في طريق محبة النبي صلى الله عليه وسلم. يقول الأستاذ: “كنت قد وضعت نفسي منه منذ مدة طويلة موضع “قطمير”، وأسري عن نفسي بهذا، غير أنني بدأت أفقد هذا الأمل بمرور الزمن. ثم تمنيت لو أنني خُلقت شعرة ببدنه، فأكون بهذا القرب من مثل هذا الشخص الذي كان مظهرًا لمثل هذه الدرجة من اللطف الإلهي الخاص. ومرّ زمن عليّ وأنا في مثل هذه الأمنية، إلا أنني كلما ازددت معرفة به، تأكدت أكثر بأنني لست أهلاً لتحقق هذه الأمنية، لذا فقد انحصرتْ كل رغبتي وأملي في أن أكون فردًا من أمته من شفاعته، فيقول وهو يدخلني بينهم: “هم القوم لا يَشْقَى بهم جَليسُهم” (رواه البخاري).
أجل قدح شرارة واحدة من حبه في قلب هذا الجيل! ولكن ما حيلتي، فمثلي في هذا مثل نملة نَوَت الحج، فهي تعلم أن أرجلها الضعيفة لا تقوى على قطع تلك المسافة الطويلة، ولكنها مسرورة لكونها ستموت وهي في الطريق إلى الحج.. فكل أملي أن أموت في هذا الدرب”(17).
كتاب النور الخالد ليس كتاب “رواية”؛ بل هو دفع لهذا العصر وجهة خير الأعصار؛ فالمؤلف يسعى جاهدًا أن يوظف جميع ملكاته وقدراته، ليحمل الناس على “تجاوز الزمان والمكان”، حتى يمكنهم أن ينتصروا على “ضغط الآن” وعلى “تفاصيل الحياة”(18).
ويصف الأستاذ ذلك الزمان المظلم الذي كان في أشد الحاجة إلى أن ينفخ فيه الروح وإلى من يقول للفساد كفى: “لقد كان المجتمع منحدرًا إلى هاوية مظلمة، إذ تغيرت فيه جميع القيم الإنسانية، وانقلبت رأسًا على عقب، فأصبحت الفضيلة عيبًا، والعيب والنقيصة فضيلةً وفخرًا.. الوحشية تُمجّد، والرحمة والإنسانية تُمتهن.. قد وضعت الذئاب نفسها موضع الرعاة، أما الأغنام التي لم يعد لها حول ولا قوة، فتئن في أيدي هؤلاء الرعاة القساة وتتوجع، وما لها من سامع.. وشاع الفحش والزنا والانحلال الأخلاقي، ولم يكن شرب الخمر ولعب القمار عيبًا، ولم يكن الاحتكار شيئًا غريبًا، بل أمرًا مألوفًا.. أما طرق النهب والسلب، وامتصاص دماء الناس، فكان يُعدّ ذكاء ومهارة وحذقًا.
ومن ثم، فقد كانت هناك حاجة لشخص ساحر البيان، مؤثر الكلام ليقول لكل هذا الفساد: “قف!” كانت الحاجة ملحة وشديدة إلى درجة اهتزت معها الرحمة الإلهية، واستجابت، فأرسلت فخر الكائنات رسولاً.. وبمجيئه تغير كل شيء وتبدل، وتحقق الانقلاب الأعظم. أجل، وصدق أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:
ولد الهدى فالكائنات ضياء ** وفم الزمان تبسم وثناء
وبعد أن كان الزمان والمكان غارقين في الظلام، إذا بثغريهما يفترّان عن بسمة وفرحة بالنور الذي جاء به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.. وبعد سنوات كان أهل المدينة ينشدون لمجيئه، ويهللون لقدومه، مرددين في استقباله:
طــلـع البــدر علـينا ** من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داع”(19)
كتاب ذو منهجية منظمة
ومن يدقق في كتاب الأستاذ يجد أن هناك مجموعة من الظواهر الفكرية والأسلوبية في هذا الفصل وغيره تتفق مع الغاية من تأليف الكتاب وأولها هذه العقلية المنهجية المنظمة التي لا تمضي في الحديث بتدفق غير منضبط أو استطراد غير منظم، بل نجده يجزئ القسم الأول إلى ثلاثة أبواب، ويجزئ الباب الثالث الذي هو أطول الأبواب في هذا القسم إلى خمسة فصول، ونجده يؤصل لفكرة القسم وهي الحديث عن “الأنبياء والرسل” بذكر الغاية من إرسالهم ثم بيان خصائصهم ثم يقف على خصائصهم وتجلياتها في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، هذه المنهجية المنظمة ترتبط بالغاية من التأليف لتكون شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في أبهى صورها وأوضح ملامحها بعيدًا عن السرد التاريخي الذي يبرز فيه الحدث أولاً ثم الشخصية ثانيًا(20).
لقد كان الأستاذ يخاطب الناس بلغة عصرهم وأسلوبهم ومن ذلك قوله: “من يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف الغيب مطلقًا يميل إلى التفريط. فهو لم يكن يعرف الغيب، إلا أن الله تعالى كان يطلعه على الغيب. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرح الأمور الأساسية للحوادث حتى يوم القيامة وكأنه جالس أمام شاشة تليفزيونية. وهذا هو ما نريد الوقوف عنده بكل عناية. فما قاله لم يكن من عنده بل مما أخبره الله تعالى به عن طريق الوحي”(21).
ألف الأستاذ في الروح والقلب ولم يؤلف في العقل والمنطق فقط، حيث عرضها قلبًا وروحًا، ولم يتوقف به المسير في محطة التنظير وإنما واصل رحلته نحو شباب الحداثة الإيمانية والقرآنية.
وكذلك يستخدم الوظائف والمهمات والمسلمات المعاصرة قائلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ووضع شبكة استخبارات لم يسمع بها أحد من قبل، بحيث أن الأخبار تصل إلى المركز في وقتها، حيث كانت تقيّم وتحلّل حالاً، ولم يسجل التاريخ أن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تصل إلى أعدائه”(22).
السيرة بروح إيمانية تفاعلية
والمألوف عند من يكتب في السيرة النبوية الشريفة أنه يعتمد على المصادر التاريخية، ويعرض الأحداث وفق تسلسلها التاريخي، وقد يتوقف الباحث عند قصة أو فكرة أو مسألة، ويوجه من خلالها رسالةً ودرسًا مستفادًا للقارئ، ولكن الأستاذ تمعن في فهم السيرة النبوية، بعيدًا عن السرد التاريخي المعروف، حيث استطاع أن يقدمها لنا بروح إيمانية حركية متميزة، لذلك أرى أنه قد جدد في فهم السيرة وقراءتها، فلم أجد عالمًا استطاع أن يعتصر السيرة النبوية كما اعتصرها الأستاذ، وكتابه “النور الخالد” شاهد حي على هذا.
لذا فهو في حديثه يستثمر الكثير من القضايا ليدحض فيها الشبهة التي يصفون بها الإسلام، ومن ذلك مسألة استعمال القوة، فيقول: “بينما قام الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرنًا بتمزيق حجب الظلام وبإزالة الاستبداد والظلم وبتقديم الحرية وإهدائها إلى الإنسانية. عليكم أن تعاونوا المظلوم والمغدور، لا يمكن أن تستريحوا أو يهدأ بالكم وأنتم تسمعون أنين المظلومين.
فإن كان لا بد من استعمال القوة لإحقاق الحق وإزالة الظلم والباطل فعليك باستعمالها. ولكننا لا نستطيع ذلك في هذه الأيام. ولكن الرسول › عندما جاء أوان استعمال القوة استعملها بعد حساب دقيق ومنطقي. ولكي تتصوروا هذا نقول إن مجموع من استشهد في جبهة الإسلام في العهد النبوي كان مائة ونيفًا من الشهداء فقط. بينما تجاوز عدد ضحايا الحرب العالمية الثانية أربعين مليونًا من القتلى نتيجة الصراع الوحشي بين الطرفين. ولكي يستقر نظام باطل في روسيا قُتل ما يقارب مائة مليون إنسان، كان من الممكن إبحار سفن على الدماء المراقة هناك وبناء بنايات من جماجمهم. كل هذه الوحشية التي لا مثيل لها كان من أجل توطيد نظام جديد اسمه “الشيوعية””(23).
ألف الأستاذ في الروح والقلب ولم يؤلف في العقل والمنطق فقط، لأن المألوف في السيرة أن تعرض عقلاً ولكنه هو عرضها قلبًا وروحًا. لذلك فالأستاذ لم يتوقف به المسير في محطة التنظير وإنما واصل رحلته نحو شباب الحداثة الإيمانية والقرآنية، فيخاطبهم ويوجههم فيبكي ويُبكيهم، فيقول: “ستقومون أنتم بإهداء حقائق الدين وإقامتها في الدنيا مرة أخرى. فأنتم باقة ضوء من منبع نور عظيم أضاء أطراف العالم الغارق في الظلام، وأنشأ شجرة إيمان وارفة الظلال كشجرة طوبى ظللت بأوراقها وأزهارها كل الأرجاء.
إن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وفقه أحداثها والبصر بمراحل تطورها ليست مجرد عمل من أعمال التاريخ وحسب، ولكنها فوق ذلك التطبيق الأمثل لحقائق الإسلام الكبرى والتمثيل الصحيح لمبادئه وقواعده المجردة.
كانت كل كلمة لأمتنا في المباحثات الدولية في تلك العهود الزاهرة بمثابة أمر. وستقومون أنتم -بإذن الله- باستعادة تلك العهود الزاهرة والتخلص سريعًا من هذا العهد المظلم الذي نعيشه. فهذا هو ما يأمله الجميع منكم… يأمله من يعيش فوق التراب ومن هو مدفون تحته. بل هذا ما يأمله منكم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وهو يتجول بروحانيته بينكم ويربت على أكتافكم ويبتسم لكم وإن كنتم لا ترونه أو تحسون به.
أنتم تستطيعون نشر الأمن والطمأنينة فيما حولكم إن بقيتم أمناء ولم تنحرفوا عن الاستقامة. أجل، إن استطعتم تحقيق هذا انفتح لكم قلب الإنسانية جمعاء على مصراعيه، وستتربعون في هذا القلب كما تربع أجدادكم من قبل. ولكن لا تنسوا أبدًا أن شرط الوصول إلى هذه النتيجة وإلى هذه الذروة مرتبط بكونكم أمناء للأمانة الملقاة على عاتقكم.
فإن كنا نريد أن نكون أمة لها وزنها وكلمتها في الشؤون الدولية المهمة وتلعب دورًا بارزًا في تأسيس التوازن الدولي -حيث إننا مضطرون أن نكون كذلك- فيجب أن نكون ممثلين للحق وللعدالة وللاستقامة وللأمن”(24).
هذا هو المقصد والمطلوب من دراسة السيرة، فليست سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وفقه أحداثها والبصر بمراحل تطورها مجرد عمل من أعمال التاريخ وحسب، شأنها شأن سواها من سير العظماء والنابغين في الميادين المختلفة للعظمة والنبوغ، ولكنها فوق ذلك التطبيق الأمثل لحقائق الإسلام الكبرى والتمثيل الصحيح لمبادئه وقواعده المجردة، بحيث لا يستقيم لأحد من طلاب الحق والمعرفة أن يفهم الإسلام فهمًا راشدًا ويقف على مواطن عظمته دون الوقوف على سيرة نبي الإسلام وتأمل شخصيته، واستكناه نواحي العظمة فيها، للتأكد من أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن مجرد عبقري فذ سمت به عبقريته بين قومه، ولكنه قبل ذلك رسول مؤيد بوحي من عند الله، ونبي كريم شاءت الحكمة الإلهية أن يكون خاتم النبيين، وأن تكون رسالته كلمة الله الأخيرة إلى خلقه(25).
شهادات المنصفين من غير المسلمين
ويتوقف الأستاذ في كتابه مع شهادات غير المسلمين في شأن وعظمة ومكانة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وثمرات دعوته بعد أن كانوا يشربون الخمر ويلعبون القمار علنًا، وما بينهم من المشاكل والمنازعات لأسباب تافهة وسادت الفرقة في أرجاء البلاد، فيقول: “أجل، فما من سوء إلا وجدته هناك. ولم يكن من الممكن أبدًا لمثل هذا القوم الاستماع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه استطاع أن يسل هذه العادات السيئة منهم واحدة بعد واحدة، ثم زينهم بمزايا وأخلاق عالية بحيث سبقوا الأمم كلها وأصبحوا لها أساتذة ومعلمين.
لا يستقيم لأحد من طلاب الحق والمعرفة أن يفهم الإسلام فهمًا راشدًا ويقف على مواطن عظمته دون الوقوف على سيرة نبي الإسلام وتأمل شخصيته، واستكناه نواحي العظمة فيها، وأن رسالته كلمة الله الأخيرة إلى خلقه.
من هذه الأمة البدوية المتوحشة أنشأ مدنية لا تستطيع الأمم المدنية حتى في عصرنا الحالي بلوغ كعبها، لذا يقول موليير (Moliere) “بحقٍّ يستحيل أن توجد جماعة أخرى مستعصية على العلاج مثل جماعة نبي الإسلام. والاستحالة الثانية هي القيام بإصلاح مثل هذه الجماعة في وقت قصير جدًّا لا يتجاوز 23 عامًا ورفعها إلى مصاف الإنسانية، ولم يتيسر هذا إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم”.
ويقول الباحث وِهل (Wihl) وهو من المنصفين: “لقد ترك كل رجل عظيم أثرًا وراءه.. أثر للنبي، وأثر للمصلح وأثر للمجدد وأثر لرجل الدولة العظيم. وقد ترك محمد › أيضًا أثرًا بعده. وهذا الأثر عظيم إلى درجة أننا إن ذكرنا “الأثر” تبادر للذهن أثره هو وحده، وهو أثر عظيم إلى درجة لا يمكن مقارنته مع الآخرين”. وهذا الباحث رجل علم أيضًا وقد حصل على جوائز علمية، إذن، فالصديق يعترف، والعدو يعترف أيضًا، ولا أدري ماذا يقول بعض الجهلاء عندنا”(26).
إحياء عصر السعادة
الأستاذ محمد فتح الله كولن يعلم علم اليقين أن العصر الوحيد الذي ليس فيه أي شائبة هو عصر السعادة “عصر النبوة”. كل العصور الأخرى مهما بلغت لا بد أن يكون فيها بعض الشوائب فيؤخذ منها ويرد عليها إلا عصر السعادة، فماذا فعل الأستاذ؟ حمل الخدمة مباشرة إلى عصر السعادة وعرضها عليه، فهو يحاول أن تعيش الخدمة عصر الصحبة والصحابة.
لذلك أنا أعتقد أن كثيرًا من المؤلفين عندما يقومون بكتابة السيرة ينتقلون عبر التاريخ إلى الماضي ويبقوننا في الماضي؛ لكن الأستاذ فتح الله يحاول أن يذهب إلى الماضي فيأتي بأنواره إلى الحاضر. فهو يعتقد أن عصر السعادة هو عصر حي لم يمت وبأن كل ما وقع هنالك ليس أعيانًا وذواتًا وإنما أوصاف وأعماق. فأي صحابي من الصحابة الكرام رضي الله عنهم ليس المراد شخصه بشكله وهيئته، وإنما المقصود بروحه وفكره، فإذا أعدنا نفس المعاني فسيعود إلى زماننا من هو كالصحابي.
وبهذا جعل الأستاذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام هو المحور، فقارن بين أحداث عصرنا والسيرة النبوية الشريفة: “لقد كان صلى الله عليه وسلم يمامة الأنبياء -إن صح التعبير- لا يفتر في البحث عن القلوب النقية المنفتحة على الحقيقة، وعن الوجوه المقبلة على الهداية، وعندما يجدها يتسرب إلى هذه القلوب ويهمس فيها إلهام روحه. وهكذا كلما زادت الحلقات والهالات حوله وتوسعت، جُنّ جنون أصحاب الكفر والضلالة.
وكما جُنّ الكفر في الوقت الحالي أمام الصحوة الإسلامية في شرق العالم وغربه وأصبح يهذي، كان الكفر أيضًا قد جن وهو يرى حلقات الأتباع وهي تزداد حول الرسول صلى الله عليه وسلم. وأدى هذا الجنون الذي أصاب الكفر إلى توهم أنهم يستطيعون إطفاء نور الله… ولكن هيهات… فمحاولاتهم تلك كانت أشبه بمن يحاول إطفاء نور الشمس بأفواههم… والشمس هنا تأتي من باب التمثيل وإلا فإن النور الذي أتى به كان يفوق نور الشموس، لأنه كان من نور الله عزّ وجل. والقرآن الكريم يصور حالتهم المضحكة هذه فيقول: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(التوبة:32).
الأستاذ فتح الله يحاول أن يذهب إلى الماضي فيأتي بأنواره إلى الحاضر، فهو يعتقد أن عصر السعادة هو عصر حي لم يمت، وبأن كل ما وقع هنالك ليس أعيانًا وذواتًا وإنما أوصافًا وأعماقًا.
وفي القرن العشرين… في أيامنا الحالية هذه انقدحت الشرارات في نفوسنا من المشعل الذي أشعله نبينا ، فسارت مئات الآلاف في طريقه وهم يحملون أرواحهم في أكفهم من أجله ومن أجل إعلاء دعوته. إذن، فالله – شاء أن تتجدد الآن تلك الهالة المحمدية، وأن تتكرر تلك السلسلة الذهبية، أما حقد الكفر وغيظه وشدته وحدّته ومكره وخديعته فلن تستطيع الوقوف أمامها أو إيقاف سيرها… أجل، فإن هذه البذور التي زرعها الإخلاص ستنبت عاجلاً أم آجلاً إن لم يكن اليوم فغدًا؛ فالنور الذي نشره رسول الله › لن ينطفئ أبدًا”(27).
الأستاذ فتح الله حينما بدأ الخدمة أراد أن يستفيد من هذا النور الذي نشره رسول الله أعظم استفادة، لذلك استوعب السيرة لأجل أن يعرض ذاته على الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم لذلك نلاحظه لا يتحدث في النور الخالد عن السيرة وإنما يتحدث عن ذاته في وجهة السيرة مثلاً: “يا رسول الله كيف السبيل إلى مقامك السامق؟ فأنت كنت في لحظة واحدة تغير كل هؤلاء البشر، أما أنا فلم أستطع أن أغير إنسانًا واحدًا طول حياتي”، فيعرض نفسه على السيرة ويعرض أصحابه -شباب الخدمة- على السيرة وعلى الصحابة رضي الله عنهم.
لا يشك الأستاذ بأن المستقبل للإسلام. فهو ينشر الأمل بكثرة بين ثنايا كتابه “النور الخالد”، مثلاً نقرأ فيه: “وحسبما نقرأ في الصحف، فإن آلافًا من الأوروبيين يسلمون، والدنيا بأجمعها مقبلة على الإسلام. أجل، إن أوروبا حامل بالإسلام وستلد يومًا ما، وأما العالم الإسلامي فهو في آلام المخاض وسيلد قريبًا. ثم انظر إلى شرق العالم حيث كان الفكر المنافق والملحد متحكمًا وسائدًا؛ فعلى الرغم من مرور أكثر من نصف قرن على سياسة التذويب ومسخ الشخصية فإن البلدان الإسلامية مثل تركستان وكازاخستان وأذربيجان وأوزبكستان وداغستان وقرغيزستان لم تفقد شيئًا يذكر من روحها ومن فكرها، وهي مقبلة بتلهف على عالمها الروحي والفكري الخاص بها. وفي القريب سيرتفع الأذان المحمدي في كافة أطراف الأرض وسيقبل الناس أفواجًا على الإسلام، فلن يدع ممثلو دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أي بقعة من بقاع الدنيا دون إيصال صوت الدعوة إليها، وهم إذ يفعلون هذا يتخذون المحبة لهم أسلوبًا والحنان صفة”(28).
النور الخالد.. وخلاص الإنسانية
يرى الأستاذ أن مدرسة النبوة آثارها باقية بعد النبوة من خلال أتباع مدرسة النبوة وأثرهم في نشر الإيمان بأفعالهم وحركتهم فنقرأ في كتابه: “ومن ثم فإن التبليغ والدعوة هما من أهم واجباتنا نحن الذين ننتسب إلى أمته. ويجب ألا ننسى أن خلاص البشرية لا يتم أبدًا إلا بدعوته وبأنفاسه ثم بأنفاس متبعيه والسائرين في دربه”(29).
من أراد أن يسير على دربه لا بد أن يعرفه حق المعرفة لئلا يخطئ بحقه، أو يضل الطريق الصحيح في التبليغ والدعوة، فيقول أحمد العبادي عن “النور الخالد”: “إن الأستاذ كتبه لنفسه قبل أن يكتبه لغيره؛ ولذا كانت محتوياته أبحاثًا فيها كدح ومكابدة من قِبل الأستاذ؛ لكي يتعرف أكثر على محبوبه، فلا يخطئ في حقِّه، ويستطيع أن يوفيه بعد ذلك مستحقَّه…”؛ أمّا الأستاذ جمال تُرك، فيردد دائمًا مقولته الموحية: “من أراد أن يعرف الأستاذ، فليقرأ النور الخالد؛ ذلك أنه مرآة لحقيقة الأستاذ وكشف لمكنوناته”(30).
ويقارن الأستاذ بين أثر الدعوة المحمدية -التي انتشرت انتشارًا كبيرًا وبفترة وجيزة- وبين عجز الحكومات والدول في مكافحة ظاهرة من ظواهر العصر، فيقول: “فقد استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يربي أمثال هؤلاء الرجال من بين أولئك البدو الملتزمين بعاداتهم وعنجهياتهم بتعصب لا مثيل له. والآن لنشرح هذا الموضوع بمثال صغير شرحًا مختصرًا، تحاول الدولة بكل وسائلها ووسائطها وإمكانياتها مكافحة عادة التدخين -التي تعد عادة بسيطة- فلا تستطيع ذلك، بل لا تستطيع مجرد خفض نسبة التدخين -المستمر في التصاعد- إلى نسبة غير معقولة.
ولا تعجز دولتنا فقط في هذا الموضوع، بل تعجز كل دول العالم، هذا بالرغم من كل المحاضرات والمقالات وكل الندوات التي تعقدها لمكافحة هذه العادة. ومع أن العلم وعالم الطب يصرحان بأن التدخين يؤدي إلى الإصابة بسرطان الحنجرة والرئة وسقف الفم، ومع أن الإحصاءات تقول إن نسبة الإصابة بهذه الأمراض نسبة كبيرة قد تبلغ 95% إلا أن أهل ذلك العهد كانت لهم عشرات العادات الضارة التي تشربتها نفوسهم واختلطت مع دمائهم فأصبحت أقوى بكثير من عادة التدخين، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم استطاع بنفخة واحدة أن يزيل هذه العادات الضارة. وأن يزينهم بدلاً منها بعادات جميلة وبخلق حسن وبخصال حميدة إلى درجة كانت ملائكة السماء تغبطهم عليها وتتعجب فتقول: “عجبًا! هؤلاء ليسوا ملائكة.. ولكنهم أفضل منها”. وفي يوم الحشر عندما تكاد أنوار هؤلاء تطفئ نار جهنم ستذهل الملائكة وتقول: من هؤلاء؟ أهم من الأنبياء أم من الملائكة..؟ إنهم ليسوا بأنبياء ولا ملائكة ولكنهم أفراد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم نشأوا على تربيته وتربوا على مبادئه”(31).
وهذا شيء يسير من منهج الأستاذ في دراسة السيرة النبوية في كتابه “النور الخالد”. واستحضرت في هذا المقام عنوان الكتاب ويلوح لي مثل حال النبي صلى الله عليه وسلم مع البشرية، فهو النور الخالد، ومن نوره اقتبس الصحابة أقصى ما يمكن أن يُقتبس من النور في الجهد البشري، وقام من بعدهم من التابعين باقتباس النور منهم، وهكذا مضى الناس جيلاً بعد جيل يقتبس اللاحق من الجيل السابق أنوارًا تتفاوت قوتها على قدر طاقة المقتبسين، وما منّ الله تعالى عليهم من نور. وفي كل عصر لا بد من ذوي أنوار ساطعة يكونون هم القادة في ذلك العصر. ويكون نورهم الأسطع فيه، ويقتبس الناس من أنوارهم ليمتد النور إلى يوم القيامة(32).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت
الهوامش
(1) سعيد مراد: منـزلة الرسول› في فكر المفكر الإسلامي محمد فتح الله كولن، مقال منشور في مجلة التصوف الإسلامي، يوليو 2005م.
(2) محمد فتح الله كولن: النور الخالد محمد › مفخرة الإنسانية، دار النيل، القاهرة، ط1، 2007، ص: 13.
(3) سعيد مراد: منـزلة الرسول › في فكر المفكر الإسلامي محمد فتح الله كولن، مقال منشور في مجلة التصوف الإسلامي، يوليو 2005م.
(4) محمد فتح الله كولن: النور الخالد محمد › مفخرة الإنسانية، ص: 13-14.
(5) محمد باباعمي: أرباب المستوى، ص: 43.
(6) محمد فتح الله كولن: النور الخالد محمد › مفخرة الإنسانية، ص: 14.
(7) مأمون فريز جرار: النور الخالد منهج في قراءة السيرة النبوية، مقال منشور في جريدة الدستور الأردنية، بتاريخ 6/5/2011م.
(8) محمد فتح الله كولن: النور الخالد محمد › مفخرة الإنسانية، ص: 15.
(9) محمد باباعمي: أرباب المستوى، ص: 44.
(10) محمد فتح الله كولن: النور الخالد محمد › مفخرة الإنسانية، ص: 21.
(11) لقاء خاص مع الأستاذ نوزاد صواش.
(12) محمد فتح الله كولن: النور الخالد محمد › مفخرة الإنسانية، ص: 17.
(13) محمد فتح الله كولن: المرجع السابق، ص: 17-18.
(14) محمد باباعمي: أرباب المستوى، ص: 44.
(15) محمد فتح الله كولن: النور الخالد محمد › مفخرة الإنسانية، ص: 49-50.
(16) عبدالقادر الإدريسي: نفحات قرآنية من نسمات تركية، مقال منشور في جريدة “العَلَم” المغربية، 29 أغسطس 2009م.
(17) محمد فتح الله كولن: النور الخالد محمد › مفخرة الإنسانية، ص: 50.
(18) محمد باباعمي: أرباب المستوى، ص: 47.
(19) محمد فتح الله كولن: النور الخالد محمد › مفخرة الإنسانية، ص: 30-31.
(20) مأمون فريز جرار: النور الخالد منهج في قراءة السيرة النبوية، مقال منشور في جريدة الدستور الأردنية، بتاريخ 6/5/2011.
(21) محمد فتح الله كولن: النور الخالد محمد › مفخرة الإنسانية، ص: 87.
(22) محمد فتح الله كولن: المرجع السابق، ص: 407.
(23) محمد فتح الله كولن: النور الخالد محمد › مفخرة الإنسانية، ص: 398.
(24) محمد فتح الله كولن: المرجع السابق، ص: 137.
(25) عبدالحليم عويس: فتح الله كولن، إمام النهضة الإسلامية في تركيا المعاصرة، ص: 99-100.
(26) محمد فتح الله كولن: النور الخالد محمد › مفخرة الإنسانية، ص: 311-312.
(27) محمد فتح الله كولن: النور الخالد محمد › مفخرة الإنسانية، ص: 59-60.
(28) محمد فتح الله كولن: المرجع السابق، ص: 167.
(29) محمد فتح الله كولن: المرجع السابق، ص: 169.
(30) محمد باباعمي: أرباب المستوى، ص: 42.
(31) محمد فتح الله كولن: النور الخالد محمد › مفخرة الإنسانية، ص: 313.
(32) مأمون فريز جرار: النور الخالد منهج في قراءة السيرة النبوية، مقال منشور في جريدة الدستور الأردنية بتاريخ 6/5/2011.