سؤال: نعلم جميعًا أن الله تعالى يبتلي عباده بالسرّاء والضراء وبالشدة والرخاء؛ فما الموقف الحريّ بالمؤمن حتى لا يخسر في مثل هذه الابتلاءات؟
الجواب: لا بد أن نذكر بداية أن تعلُّقَ المؤمنِ بغاية سامية، وسعيَه دومًا إلى نسج حياته حولها بمثابة حصن حصين له أمام هذه الامتحانات التي تعترضه، فلو أن الإنسان شغل ذهنه دومًا بفكرة: “ما أجدر الحياة إن ازدانت بالخدمة! وإلا فلا وزن لها”، ولو أنه ربط بقاءَه في الدنيا بإمكانية قيامه بأشياء في سبيل قضيته التي نذر نفسه لها؛ فلن تغرّه النِّعَمُ حتى وإن أُمطِرَ بها، ولن تُسخطه الحوادث القاسية التي يصادفها.
إن التشوّف إلى ما عند الناس بدلًا من التوجه إليه سبحانه وتعالى إنما هو تنازلٌ وهبوطٌ بالمستوى، بمعنى استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ولكن من الصعوبة بمكانٍ أن يتقبّل الإنسانُ ذلك ويجعله جزءًا من طبيعته، حيث إن استشعار الإنسان بهيجانٍ نابعٍ من داخله، وإحساسَه بذلك في كل خلايا دماغه يستلزم نوعًا معيّنًا من التضحية والتفاني، والمؤمن الحقيقي هو الذي يحرص على تجاوز هذه الصعوبات، ويربط حياته بغاية إعلاء كلمة الله، ويعتبر أن الحياة إذا خلت من هذه الغاية فهي خواء لا معنى لها، ويُخشى أن يتحول إلى جثة هامدة إذا تخلى عن هذه الفكرة.
أجل، إن كل ما يأتي بعد رضا الله والسعيِ إلى تبليغ اسمه سبحانه إلى الصدور المحرومة؛ أمور ثانوية؛ الأمرُ سيان في وجودها أو عدمها، فلا فرق في أن توجد الراحة والسكن والأسرة والمقام والمنصب والمال والثروة أم لا يوجد كل ذلك، لكن لا يمكن قولُ هذا بالنسبة لإعلاء كلمة الله، لأننا وُجدِنا من أجل تبليغ هذه الغاية وإعلانها، فغايةُ الخلق الحقيقية هي إنعاش هذه الفكرة في الصدور وإحياؤها، ومن ثَمّ فعلى المؤمن أن يحرص على ذلك، ويستهدفه بالدرجة الأولى.
والواقع أن هناك الكثير من المؤهلين لاستشعار مثل هذه المسائل بعمق، فقد خلق الله تعالى كثيرًا من الناس مزودين بهذه الجاهزية، لكن مجرَّدَ وجودها فقط ليس كافيًا، فالمهمّ هو تطويرها وتحريكُها وإثارتُها باستيفاء الإرادة حقها، فبعد أن ينير الإنسان داخله يجب عليه أن يطوي الأرض لاهثًا، وعازمًا على إشعال كل شمعة قابلة للاشتعال، وهكذا يمكن النظر إلى كل عمل يؤدَّى في سبيل الله ويستهدِف خدمة الإنسانية على نحو إشعال الشمعة، وكما يقول مولانا جلال الدين الرومي: الشمعة لا تفقد شيئًا من نورها بإشعال غيرها.
إن تقدير الأشياء التي يحترمها الطرف الآخر هو أمارة مهمة للغاية على الاحترام الذي نبديه لقيمنا الذاتية؛ لأن عدم توخي الحذر في هذا الأمر يجعل الآخرين لا يبالون بكلامكم.
موقف المؤمن إزاء النجاحات
وكل نتيجة جميلة تترتب على سعي الإنسان وجهده لها قيمةٌ عظيمةٌ للغاية على اعتبار أنها ناشئة عن إحسان الله وكرمه وتوجهه، ولكن يجب ألا يكتفي الإنسان بهذا، بل عليه أن يطلب المزيد قائلًا: “كان من الممكن القيام بأعمال أكبر وأكثر بالإمكانيات التي زودني الله بها”.. ولو أن شخصًا استطاع تبليغ نصف الكرة الأرضية فعليه ألا تغيب عنه فكرة: “لم أستطع أن أستوفي إرادتي حقّها، فلقد كان من الممكن بفضل الإمكانيات التي منَّ الله علي بها أن أبلِّغ مشاعري وأفكاري إلى العالم كله”، كما يجب عليه في الوقت ذاته أن ينسب النجاحات التي حقّقها إلى الحق تبارك وتعالى، وأن يعتبر نفسه كالنملة التي سلكت طريق مكة لأداء فريضة الحج، وأن يكون على وعي بأنه لولا لطف الله تعالى وعنايته لما استطاع إتمام الرحلة أبدًا.
يجب بداية أن تكونوا بلا يد لمن ضربكم، وبلا لسان لمن سبكم، وبلا قلب لمن كسر خاطركم، فإن ناصبتم الآخرين العداء بسبب ما يظهرونه لكم من وحشية وغيظ وكره وحقد فستكونون قد شكلتم دائرة فاسدة من الحقد والكراهية.
يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: “مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ، لَمْ يَشْكُرِ الْكَثِير“[1]، من هنا وجب شكر ربنا سبحانه وتعالى حتى على أقل القليل طالما أنه قادمٌ منه، وإلا يكون الإنسان قد أساء الأدب مع ربه؛ لأن كل شيء يتحقق بيد الله سبحانه وتعالى وإرادته، فهو سبحانه الذي خلق كل ما في حوزتنا قليلَه وكثيرَه، والأشياء التي تبدو صغيرة هي في الحقيقة كبيرة على اعتبار مجيئها من قِبَل الحق سبحانه، لكن علينا أن نستصغر قدر المستطاع النجاحات الواقعة على أساس الجانب المتعلِّق بنا، فلو أنشأنا ألف جامعة فينبغي أن نعتبر هذا قليلًا، ونقول “لماذا لم نصل إلى عشرة آلاف”.
وقد يتراءى للبعض وجود نوعٍ من التناقض حينما نقول: يجب على المؤمن أن ينظر إلى الأعمال التي يقوم بها باستهانة واحتقار ويعتقد أنها تجلب له الخزي والخجل انطلاقًا من الجانب الذي يعود عليه منها؛ وأن يبجّل ويعظم نجاحاته القليلة جدًّا على اعتبار أنها ثمرة لتوجه الذات الإلهية سبحانه وتعالى له؛ غير أنه تناقضٌ لطيف يحفظ على المؤمن استقامة فكره، ويجعله يقيِّم الأحداثَ بشكل صحيح، أما أن ينسب الإنسانُ النجاحات التي أحرزها إلى نفسه، ويستعظم الأعمال الجميلة التي وُفِّق إليها على اعتبار رجوعها إلى شخصه؛ فهذا أمر يغذي وينمّي شعور الكبر والغرور لديه.
كما أن الراحة والنعم قد يُفسدان الإنسانَ أحيانًا فإن البلايا والمصائب قد يسوقانه إلى التمرد والعصيان أحيانًا أخرى، والحال أنه يقع على عاتق المؤمن ألا ينسى أن كل هذا بمثابة امتحان من الله له.
فلو أن الشخص الذي يسبح في بحر النعم ويحقق النجاحات الدائمة عَزَا كلَّ ذلك إلى نفسه فقد أشرك بالله دون وعي منه، ويمكن القول إنه لا يختلف من هذه الناحية عن فرعون الذي قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ (سورة النَّازِعَاتِ: 79/24)، وعلى ذلك فالأعمال الجميلة قد تدخِلُ الإنسانَ الجنان أحيانًا، وقد تهوي به إلى النيران أحيانًا أخرى؛ فمثلًا إذا قال الإنسان بعد أن بذل وسعَهُ لتكون دولتُه دوحةً من الجنة: “لقد تحقق هذا بفضل دهائي”؛ فهذا يعني أنه قد انغرز في مستنقع الشرك دون وعي منه، والحال أنه لو نسب هذه الجماليات إلى صاحبها الحقيقي جل وعلا من البداية بدلًا من أن ينسبها إلى نفسه، ثم اعتبر مساعيه لتحقيق هذه النتيجة مجرَّدَ طلبٍ مقدّم إلى الحق تعالى؛ فقد نصب فسطاطَه في جنات الفردوس.
وكما أن الإنسان ينسب أحيانًا الألطاف الإلهية إلى نفسه صراحةً بلسانه كما قال قارون: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ (سورة القَصَصِ: 28/78) فقد يعبِّر عن هذه الحال أيضًا بأحواله وأطواره وإشاراته وإيماءاته؛ وكلها تعبيرات وأطوار تفوح منها رائحة الشرك في النهاية، أما السبيل للانتقال من الشرك إلى الشكر فهو أن ننسب إلى الله تعالى كل شيء صغيرًا كان أم كبيرًا، وأن نقدِّر ذلك كله على اعتبار رجوع كل شيء إليه سبحانه، ففتحُ إسطنبول مثلًا هو عملٌ صغير من حيث الجهة التي تتعلق بالنفس، في حين أن حمل نملة تعثرت على الأرض إلى عشِّها عملٌ عظيم باعتبار الجهة التي تتعلق بالله تعالى، ولذا لا بد من توخي الدقة والحساسية الكاملة إزاء حقوق الله تعالى.
فرغم أن أمنا السيدة عائشة الصديقة رضي الله عنها قد نشأت في بيت يتنزل عليه الوحي زخًّا زخًّا ورافقت النبي صلى الله عليه وسلم ما يقرب من عشر سنوات فإنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم يومًا قائلة: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ تَذْكُرُونَ أَهْلِيكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ كانت أمنا السيدة عائشة مظهرًا لكثير من الألطاف الإلهية، ومع ذلك لم تكن تثق بعملها ولا بقربها من النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت ترجو النجاة بشفاعته صلى الله عليه وسلم لها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم رادًّا على سؤالها: “أَمَّا فِي مَوَاطِنَ ثَلَاثَةٍ فَلَا: الْكِتَابُ، وَالْمِيزَانُ، وَالصِّرَاطُ“[2].
أن يقول الإنسان: “ماذا فعلتُ لتنزل بي هذه المصائب؟ لماذا تفجعني هذه البلايا؟”؛ فهذا ليس بكلام مؤمن، ولا يجدر أن ينطق به.
ولم تختلف أفكار ومشاعر سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر والعديد من سادتنا الصحابة رضوان الله عليهم جميعًا عن ذلك، فسيدنا عمر الذي قضى حياته في سبيل إعلاء كلمة الله كان يضع جبهته على الأرض ويقول: “اللهم لا تهلك أمة محمد بذنوبي”؛ لأن مسألة استصغار الأعمال من حيث الجهة التي تتعلق بالنفس واستعظامها من حيث الجهة التي تتعلق بالله كانت تتمثل لدى هؤلاء العظام بكل معناها.. فيا تُرَى كم شخصًا حمّل نفسه مسؤولية ما حلّ بالأمة من قحطٍ ومجاعات وزلازل وخلافات وفرقة وتناحر وتسلُّطٍ وظلم ونفاق، ثم ذهب ووضع جبهته على الأرض، خاضعًا متضرّعًا إلى ربه قائلًا: “اللهم لا تهلك أمة محمد بذنوبي”.
الرضا بالقدر
كما أن الراحة والنعم قد يُفسدان الإنسانَ أحيانًا فإن البلايا والمصائب قد يسوقانه إلى التمرد والعصيان أحيانًا أخرى، والحال أنه يقع على عاتق المؤمن ألا ينسى أن كل هذا بمثابة امتحان من الله له، وعليه أن يقضي حياته في دائرة الصبر والشكر والرضا، يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: “مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ لَهُ، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ سَخَطُهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ لَه“[3].
ولهذا فمن الأهمية بمكان بالنسبة لمن آمن بالله صدقًا وحقًّا ألا يغيب عن باله فكرة “رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا”، وأن يلهج بها دومًا، فَمِنْ خلالها يعبّر المؤمن عن رضاه بربوبية ربه سبحانه الذي أوجده وأنشأه ورباه وقدَّره، وعن رضاه بالإسلام دينًا ومعتقدًا ومنهجًا، وعن رضاه بالتكاليف الشرعية التي ألزمه الله بها، وعن استعداده القيام بها عن طيب نفس، وعن رضاه بسيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا.
لكن أن يقول الإنسان: “ماذا فعلتُ لتنزل بي هذه المصائب؟ لماذا تفجعني هذه البلايا؟”؛ فهذا ليس بكلام مؤمن، ولا يجدر أن ينطق به.
يجب أن نعمل على تجاوز ما قد يعلق بنا أثناء سيرنا، وأن نشكر ربنا على أفضاله علينا؛ عسى أن تؤول النتيجة إلى خير بإذن الله تعالى.
وإن فكرة اعتبار الإنسان الحوادثَ السلبية تقديرٌ إلهي، وأن هذا التقدير ربما يرجع إلى أخطائه وذنوبه؛ فهذه الفكرة تخلصه من الأفكار والمشاعر السلبية المنافية للرضا بالقدر، ومن الدخول في جدالٍ داخلي عقيمٍ مع الله سبحانه وتعالى والعياذ بالله، وهذا هو ما يستلزمه المنطق القرآني؛ لأن القرآن الكريم في كثير من آياته يشير إلى أن ما يقع من مصيبة في الأرض والسماء فبما كسبت أيدي الناس، ولذلك يجب أن ينطلق فم المؤمن بهذه الكلمات: إن الله سلط علينا -بسبب ذنوبنا- بعض السيئين، ولأنهم يجهلون تقصيرنا وأخطاءنا الحقيقة فقد ذمّوا الجيِّدَ من أعمالنا وتوجهوا إليه بالنقد، بل إنهم -على حد وصف بديع الزمان النورسي- اتّهمونا بأمورٍ لم نفعلها، ولن نفعلها، ولا يمكن أن نفكر فيها أصلًا..
فلو أن الإنسان نظر إلى المصائب والمشاكل على هذا النحو فلربما ذاب ذلك الخفقان المتزايد في الداخل بانسكاب إكسير الرضا عليه. فبفضل هذا الإكسير يمكن التغلب على جميع الأفكار السلبية التي أربكت أذهاننا ونفذت إلى خلايا أدمغتنا ولوثت ما فيها من ملفات.
وقد يخطر ببالِ أصحابِ القلوب المضحِّية الصادقة التي لا تبتغي شيئًا سوى رضا الله تعالى بعضُ الأفكار السلبية من حين إلى آخر عند تعرضها للغدر والظلم والممارسات العدائية وسيِّئ الأخلاق، بل قد يقضّ هذا الأمرُ مضجعَها، ويمثّل عبئًا ثقيلًا عليها لدرجة تصل إلى حد الجنون، فإن قيل: من أين تعلم هذا؟ أقول: لأنني عشته كثيرًا من قبل، وفي مثل هذه المواقف ينبغي للإنسان أن يستأصل شأفة هذه السلبيات من ذهنه من خلال الاستعانة بالأفكار الإيجابية.
علاوة على ذلك فبسبب ضيق أفقنا وقصور أفكارنا فإننا غالبًا ما نجهل الجماليات التي تولِّدها الأزمات، ولقد قلتُ من قبل: “لو جرت حياتي وفق فكري وتخطيطي لظللتُ ابن السيد “رامز أفندي” في قرية “كوروجك”، ولكن عندما أرجع إلى الوراء وأنظر إلى ما مرّ بي في حياتي أستطيع أن أدرك -بجلاء أكبر- ألطافَ الله تعالى وأفضالَه عليّ”.
لو أنكم أشغلتم أنفسَكم بمن يُسيئون إليكم فستهدرون وقتكم، ولن تتقدموا في الطريق الذي رسمتموه لأنفسكم؛ وسيحاسبكم الله على هذا.
قد لا يستطيع الإنسانُ إذا انحشر بين تروس الحوادث الخانقة المملّة خاصة أن يقرأ الأحداث بشكل صحيح، فيقع في أخطاء عند تفسيره للأوامر التكوينية، ولكن عندما يتبدّى لنا كل شيء فيما بعد على نحو أكثر شفافيةً ولمعانًا ندرك أننا نحيا حياتنا بتوجيه الله لنا، وأنه سبحانه وتعالى قد اختصّنا ببعض الألطاف الإلهية وإن لم نكن على وعي بذلك، ولذلك إذا أراد الإنسان أن يحمي نفسه من الخجل والخزي أمام ربه فعليه ألا يتعجل في الحكم على الأحداث، وألا يبتعد عن الرضا أبدًا.
فقد تكون المنحةُ بعد المحنة، وقد يدفعنا الله تعالى إلى طريق مليئةٍ بالمطبات علوًّا وانخفاضًا، وأحيانًا يضطرنا إلى صعود المنحدرات، والعبور من بحور القيح والصديد، وقد لا نفهم حين نتجشم هذه المصاعب الأسرارَ الكامنة وراء كل هذا، ونجهل ما تؤول إليه الحوادث الجارية، ولكن بعد الصعود إلى القمة والنظر إلى الخلف ندرك خطأ ملاحظاتنا وأفكارنا السابقة، فنقول حينها: “ما أسلمَ الطريق الذي سرنا فيه! وما أصوبَ السَّوق الإلهي الذي دفعنا له!” ولهذا يجب أن نعمل على تجاوز ما قد يعلق بنا أثناء سيرنا، وأن نشكر ربنا على أفضاله علينا؛ عسى أن تؤول النتيجة إلى خير بإذن الله تعالى.
التحلّي بمكارم الأخلاق
ثمة أمراض تنبئ عن عدم الرضا بالقدر مثل الغيرة والحسد وعدم تقبّل الآخرين، ولقد سقط الكثير من الناس حتى الآن في الكفر والضلال بسبب هذه الأمراض.. فمثلًا عمرو بن هشام (أبو جهل) لم يرض أن يخص اللهُ تعالى مفخرةَ الإنسانية صلى الله عليه وسلم بالنبوة دون غيره، ورغم أنه اعترف بنبوة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم من وراء الأبواب المغلقة فإنه لم يصرّح بذلك خوفًا من أن يخسر بعض امتيازاته، ولا ريب أنه بهذا التصرف قد شاقّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكان على شاكلة أبي جهل كثيرٌ من المشركين الذين لم يرضَوا بالقدر، ولم يروا النبي صلى الله عليه وسلم حقيقًا بالنبوة -حاشاه-.
وفي الفترات التالية ظهر أناسٌ لا يتقبلون سادتنا أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا رضي الله عنهم جميعًا، وخصوصًا سيدنا عليًّا الحيدر الكرار والفارس المغوار الذي خرج عليه جماعة من الأجلاف لا يستسيغون وجوده، فقطّعوا أوصال العالم الإسلامي وشتتوا شمله. وهكذا فتحَ الشعورُ بعدم تقبّل الآخرين البابَ لظهور الكثير من الفتن في العالم الإسلامي، وعلى الشاكلة نفسها لم يستسغ الشيطانُ وجودَ سيدنا آدم عليه السلام بسبب غيرته وحسده، فَطُرِد من الحضرة الإلهية، وغدا العدوَّ الأبدي للإنسانية، وفي النهاية خسر الشيطانُ وفاز آدمُ عليه السلام. أجل، إن الغيرة والحسد وعدم التقبل هم سبب الخسارة في الدنيا والآخرة.
وفي أيامنا هذه انهزمت فرقةٌ من الناس إلى حسدها وغيرتها، فلم تتقبَّل رؤيةَ القلوب المضحّية العاملة في سبيل الله، فبذلت كلَّ ما بوسعها حتى تردّهم عن الطريق الذي يسيرون فيه، وهيَّأَت بعض المواقع والحصون وقامت بحملات سلبية تهدف إلى إفساد خططهم ومشاريعهم، بل لم تتورع عن اللجوء إلى المكائد والمؤامرات من أجل خداعهم والتغرير بهم، وعندما لم تنجح في ذلك عملت على كَبْتهم بممارسة الظلم والضغط عليهم.
فليفعل هؤلاء الحساد ما بدا لهم طالما لم يتقبّلوا الأرواح المتفانية ولم يستسيغوا خدماتهم الخيّرة التي يقومون بها، لكن ينبغي للقلوب المتفانية ألا ترجع عن الطريق الذي تسير فيه ألبتة، ولا تتنازل عن أيِّ مبدإٍ من المبادئ التي تؤمن بها، ولا يسوقهم السوءُ الموجه إليهم إلى ارتكاب الأخطاء. أجل، يجب ألا يرد بخاطرهم حتى مقابلة السيئة بمثلها، لأن هذه فكرة غير إنسانية بالنسبة لممثلي الحق والحقيقة خاصة، فدستورهم في هذه المسألة هو ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ (سُورَةُ فُصِّلَتْ: 41/34).
وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: “اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ“[4]، فعلى المسلم أن يكون بأفعاله وتصرفاته ممثّلًا لمكارم الأخلاق على الدوام؛ حتى يثير فيمن ينظرون إليه الاشمئزازَ من قباحة ما يفعلون.
إن فكرة اعتبار الإنسان الحوادثَ السلبية تقديرٌ إلهي، وأن هذا التقدير ربما يرجع إلى أخطائه وذنوبه؛ فهذه الفكرة تخلصه من الأفكار والمشاعر السلبية المنافية للرضا بالقدر.
أما إذا فكرتم في مقابلة السيئة بمثلها فهذا يعني أنكم سلكتم الطريق نفسه وارتكبتم الخطأ عينه، وكما سيحاسب الله تعالى هؤلاء على الظلم والجور الذي أوقعوه عليكم فسيحاسبكم أيضًا على الخطأ الذي ارتكبتموه في حقهم؛ لأن أخطاء الآخرين وذنوبهم لا تبرِّر ما تقومون به من أخطاء، وظُلمَهم لكم لا يسوّغ ولا يبرِّر ظلمَكم لهم أبدًا. أما فكرة “لقد قابلناهم بتصرفاتهم، وعاملناهم بعملهم”؛ فلا تكفي لإنقاذكم، ومن ثَمّ لو تجاوز البعضُ حدَّه فظلم واضطهد وأفسد النظام القائم فعلى المؤمن الواعي بإيمانه ألا يقابل ذلك بأي فعل غير مشروع، أما ما يقع على عاتقه فهو التعامل بما هو جدير بإسلامه وإنسانيته.
أجل، علينا أن نتوخى الحيطة والحذر الكامل حتى لا تسوقنا الطرق والمناهج التي يتبناها الآخرون إلى ارتكاب بعض الأخطاء، فليس علينا أن نقابل الذين يضمرون لنا الحسد والغيرة بنفس مشاعرهم السلبية أو نحاول رفع الظلم عنا بظلم مشابه، بل على العكس لا بد أن نقوِّي من جهازنا الهضمي إزاء كل هذه السلبيات، وأن نضاعف صبرنا، ونقابل ما يجري بصدر رحب وتوكل تام قائلين:
ما أعذب البلاء إن كان من جلالِهْ!
وما أحلى الوفاء إن كان من جمالِهْ!
فكلاهما صفاء للروح،
فما أحلى لطفه! وما أعذب قهره!
السبيل للانتقال من الشرك إلى الشكر فهو أن ننسب إلى الله تعالى كل شيء صغيرًا كان أم كبيرًا.
وثمة فائدة من التأكيد على أن كل هذا لا يمنع من إنزال العقاب اللازم بالمجرمين في حدود القانون، واسترداد الحقوق المغتصبة.
فضلًا عن ذلك لو أنكم أشغلتم أنفسَكم بمن يُسيئون إليكم فستهدرون وقتكم، ولن تتقدموا في الطريق الذي رسمتموه لأنفسكم؛ وسيحاسبكم الله على هذا، ولذلك عليكم أن تحرصوا على الاستمرار في طريقكم، بوضع خطط ومناهج بديلة على الدوام، دون أن تبادروا إلى إيقافِ حملةٍ أو عرقلةِ سعيٍ وحركةٍ، وحتى وإن أحالوا الطريقَ الذي تسيرون فيه إلى طريقٍ وعرٍ يصعب السير فيه فعليكم البحث عن طرق جديدة لمواصلة سيركم.
إن هذه الدنيا ليست محلًّا للاستياء والامتعاض، ولذا فليس لكم أن تستاؤوا أو تمتعضوا من الظلم والجور الواقع عليكم؛ لأنه إن لم يتكفّل البعضُ بتعليم الآداب والأخلاق للإنسانية في عهدٍ بات الناس فيه يلتهم بعضُهم بعضًا كالذئاب الضارية فستكون العاقبة وخيمة، وكأن مستقبل العالم قد استُؤمن عليه وحوشٌ لا يعالجون الأمور إلا بعنفٍ وهمجية، فثمة حاجة إذًا إلى كيانٍ أصيل ذي تفكير مختلف ومساراتٍ أخرى. أجل، يجب السعي إلى إنشاء هذا الكيان وإرغام الإنسانية على الاعتراف به، وليس هذا بالطبع بممارسة القمع والاستبداد والشدة والعنف والتفجيرات، بل بالمحبة والسماحة، والالتزام بالقيم الإنسانية والأخلاقية.
من أجل هذا يجب بداية أن تكونوا بلا يد لمن ضربكم، وبلا لسان لمن سبكم، وبلا قلب لمن كسر خاطركم، فإن ناصبتم الآخرين العداء بسبب ما يظهرونه لكم من وحشية وغيظ وكره وحقد فستكونون قد شكلتم دائرة فاسدة من الحقد والكراهية، ودفعتم الذين يناصبونكم العداء إلى مزيد من الوحشية والهمجية، أما لو أردتم أن تنتشر روائح زهرة التوليب في الأجواء فعليكم أن تغرسوا هذه الزهرة في قلوبكم أولًا؛ ثم إن أطواركم وأفعالكم ستتشكّل وفقًا لها، وبذلك سيفوح كل مكان تسيرون فيه برائحة الزهور وكأنه خانُ العطور.
الاحتراز من خطأ الأسلوب
فإن كان ولا بد من قول شيء للمعتدين بهدف النصيحة أو تصحيح الكلام فليكن ذلك بعد إعادة التفكير والاستشارة مرات ومرات، إذ لا بد من الرجوع إلى العقلاء من الناس، واستشارتهم فيما يقال من قبيل: “هلا تنظرون إلى ما سطرناه! هل فيه ما يسبب الأذى؟ أثمةَ داعٍ إلى تخفيف الأسلوب أكثر؟”؛ لأن شأن الحق عالٍ لا يُضحّى به بأيِّ مقابل، وعند الدفاع عن الحق لا بد ألا نقحِم مشاعرنا في الأمر.
لو أن الشخص الذي يسبح في بحر النعم ويحقق النجاحات الدائمة عَزَا كلَّ ذلك إلى نفسه فقد أشرك بالله دون وعي منه
وإذا أردتم النفوذ إلى القلوب فعليكم أن تتعرفوا جيدًا على مشاعر مخاطبيكم العامة، وبيئاتهم الثقافية التي نشؤوا فيها، والقيم التي يؤمنون بها، ثم تقدمون الوصفة العلاجية وفقًا لهذا؛ لأن نفس العلاج لا يُقدَّم إلى كل مريض، فالعلاج الذي يُقدّم يتحدد وفقًا لحالة المريض، فلو لم تتعرفوا من البداية على ماهية مخاطبكم وعالمه الفكري، ولم تقدّروا الكيفية التي ستردون عليه بها، وعلى ماذا سيكون ردّ فعلكم؛ فقد تحصدون نتيجةً على عكس مقصدِكم ومبتغاكم.
إن تقدير الأشياء التي يحترمها الطرف الآخر هو أمارة مهمة للغاية على الاحترام الذي نبديه لقيمنا الذاتية؛ لأن عدم توخي الحذر في هذا الأمر يجعل الآخرين لا يبالون بكلامكم، حتى إنهم يعملون على الاعتراض على قيمكم محاولين التهوين من شأنها، ومثل هذا الخطأ يحبط كل خطوة تخطونها فيما بعد. أجل، إذا أهمَلْنا القيمَ التي عايشها الناسُ منذ القدم، وجعلوها جزءًا من طبيعتهم، وبعدًا من فطرتهم؛ فإننا لن نحظى بالقبول حتى وإن قدّمنا رسائلَنا على أنها من الجنة، ولذلك فإن هذا الأمر هو مسؤولية مهمة للغاية تقع على عاتق المرشدين.
إن كل ما يأتي بعد رضا الله والسعيِ إلى تبليغ اسمه سبحانه إلى الصدور المحرومة؛ أمور ثانوية؛ الأمرُ سيان في وجودها أو عدمها
فينبغي لوارثي دعوة النبوة أن يكونوا -من جانبٍ- على صلة وثيقة بربهم، وأن يتعرفوا -من جانب آخر- على مشاعر مخاطبيهم وأفكارهم من خلال معاشرة بالناس ومؤاكلتهم ومشاربتهم. أجل، يجب عليهم أن يخالطوا الناس ويطلعوا على مشاعرهم وأفكارهم ومعتقداتهم، ويتحروا طرق النفوذ إلى قلوبهم، حتى يُكتبَ للرسائل التي يقدمونها حسنُ القبول.
الإخلاص والصدق
ورغم أن كل ما ذكرناه على جانب كبير من الأهمية فلا بد من الصدق حتى يكون للانتفاض والاهتياج في سبيل الخدمة قيمةٌ عند الله، فبقدر إخلاصكم وصدقكم في هذا الموضوع تكونون مظهرًا لتوجه الله لكم، وبقدر توجهكم لله تكونون محطّ نظره وعنايته تعالى، وعندها تُفتح الأبواب المغلقة في وجوهكم على مصاريعها عندما يحين الأوان؛ لأن الحنان المنان ذا الرحمة والغفران حاشاه أن يرد الصادقين الملتجئين إلى بابه خائبين صفر اليدين.
إن تعلُّقَ المؤمنِ بغاية سامية، وسعيَه دومًا إلى نسج حياته حولها بمثابة حصن حصين له أمام الامتحانات التي تعترضه
لهذا السبب علينا أن نرصِّعَ أعمالنا كلها بالإخلاص، وإلا نكون قد تدنّينا بقيمة الخدمات التي نقوم بها إلى مستوى الصفر.. وقد يسأل سائلٌ: لماذا ينحدر المستوى على جناح السرعة إلى الصفر وصاحب الأزل والأبد موجود؟!
والجوابُ أنه لا يوجد وسط في هذه المسألة، ولا منزلةَ بين هاتين المنزلتين؛ فإما أن نربط كل شيء به سبحانه فننعم بالنسائم الوافدة منه، وإما أن نتدنى بقيمة ما نفعله إلى مستوى الصفر دون وعي منا.
والله تعالى لا يدع الأبواب مغلقةً إلى الأبد. وما أجمل ما قاله أحد أولياء الحق:
لو أغلق الله بابًا فتح ألف باب
فالله -سيدي- هو مفتِّح الأبواب
وهذا منوطٌ بأن تكون في قلوبنا قناةٌ دائمة الاتصال به سبحانه وتعالى، وأن يشغل هذا الأمر عقولنا وأفكارنا على الدوام، يجب أن يُرجَع كل شيء إليه، فلا قيمة لتقدير الناس وتصفيقهم، فما القيمة التي سيعطيها لكم الناس مقابل توجهه سبحانه لكم؟! إن التشوّف إلى ما عند الناس بدلًا من التوجه إليه سبحانه وتعالى إنما هو تنازلٌ وهبوطٌ بالمستوى، بمعنى استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.
[1] مسند الإمام أحمد، 30/390.