لعل من قرأ كتاب “البيان الخالد” أو اطّلع عليه، سيلاحظ بدون شك، توسع اهتمامات المؤلف وتجواله عبر دروب عدد من المجالات العلمية.  لكن الذي يعرف كولن سيزداد تأكُّدًا من الرؤية الشمولية التي يتميز بها هذا الرجل. ومن درسوا فكره، أو قارنوه بغيره من العباقرة، كما فعلت الأكاديمية الأمريكية “جيل كارول”، يعلمون جيدًا أن للرجل قدرات نادرة في هذا الزمان. وإليكم شيئًا من ذلك.

 بعدما اطلعت على هذا الكتاب محل الدراسة، قررت أن أعمل على إحصاء عام لروّاد وأعلام العلوم من الغربيين والمسلمين، الذين تعرض لذكرهم في هذا الكتاب عبر الاستشهاد حينًا، ومن خلال المناقشة والتعليق حينًا آخر، وكذا الاهتمامات التي شغلت المؤلف وأخذت منه حيزًا مهمًّا من الدراسة والمناقشة والتحليل، من خلال المصطلحات التي استعملها؛ فحاولت أن أسجل بعضًا من ذلك عبر البيان أدناه.

قد يتساءل البعض عن الملاحظة المثيرة التي سجلناها في الحلقة السابقة، والمتعلقة بالحيّز الكبير الذي خصصه المؤلف للمجال العلمي في القرآن، وهنا وعبر رموز وروّاد عدد من المجالات العلمية، يتأكد لنا ما قلناه. وما هو مثبت بالبيان أعلاه، ليس عددًا أو رقمًا محصورًا، بل هي نماذج مقدرة للتمثيل لما ذكر من أعلام وقضايا وما بالكتاب أكثر من ذلك.

وأنا أتابع انبهار الكاتب، ويقينه من مسيرة العلم الحديث التي ستؤول بين أحضان القرآن، لأن العلوم كلّما تطوّرت وتقدّمت فسيقترب الإنسان من القرآن وسيحظى بالتعرف على آياته؛ وسيرى بجلاءٍ مدى تطابُق بعض الحقائق العلمية مع البيان القرآني[1]؛ وأنا أتابع ذلك، أثارني قول بن باديس رحمة الله عليه، في تفسيره القيم، وهو يتحدث عن مجال العلوم في القرآن: حيث بين أن “من أساليب الهداية القرآنية إلى العلوم الكونية، أن يعرض علينا القرآن صورا من العالم العلوي والسفلي، في بيان بديع جذاب، يشوقنا إلى التأمل فيها، والعمق في أسرارها. وهنا يذكر لنا  ما خبأه في السماوات والأرض لنشتاق إليه، وننبعث في البحث عنه،واستجلاء حقائقه، ومنافعه..”[2]

وقد وجدت أن ما قلناه سابقا، حول إيغال بعض العلماء في حديثهم عن المجال العلمي في القرآن الكريم، قد أثار ضدهم انتقادات واسعة، للتنبيه على أن القرآن كتاب هداية وإرشاد وليس كتاب علم، حتى لا يُكذّب القرآن نتيجة، أخطاء العلم وجهل الإنسان؛ وجدت أن ذلك لم يفُت مؤلف هذا الكتاب التنبيه عليه حين قال: (ونحن بهذا نكون قد أكّدنا على أن القرآن ليس كتاب علوم ولا فلسفة، كما نكون قد أشرنا إشارة صغيرة إلى ما عسى أن يدور بخَلد بعض من لا يعرف الحكمة من نزول القرآن، وإلى ما قد ينتابه من اعتراضٍ مفاده: لماذا لا يصرح القرآن عن كل شيء وكل حادثة بوجه صريح؟)[3]

إن القارئ حين يتأمل كلام المؤلف وهو يتحدث عن المجال العلمي في القرآن الكريم، سيفاجأ بالاطلاع الواسع للمؤلف على مختلف العلوم، وقد أيقظ ذلك في نفسي استحضار سير أعلام أمتنا الكبار من الموسوعيين، أمثال جابر بن حيان، وابن البناء المراكشي، وابن رشد، والخوارزمي، وابن سينا، وغيرهم ممن لم تبلى علومهم إلى اليوم. فالكاتب وهو يتحدث عن القرآن وهداياته التي لا تنتهي، وبعد ما يقطف شيئًا من عبق أقوال السلف في ذلك، يفاجئك بالوقوف على أقوال كبار المختصين في العلوم الإنسانية أو البحثية. فتأمل كلامه وهو يتحدث عن المنظومة الشمسية ونشوء الكرة الأرضية: ( وأول من قدَّم معلومات منظمة -ولو على مستوى النظرية- حول الكرة الأرضية والشمس هو “بوفون (Buffon)”؛ حيث افترض أن مذنّبًا ضخمًا اصطدم بالشمس،…ثم جاء الفيلسوف الألماني “كانْط (Kant)”  فأعاد صياغة هذه النظرية بشكل أكثر منهجية، …ثم جاء بعد “كانط” عالمُ الرياضيات الفرنسي “لابلاس (Laplace)”، فتناول الموضوع بطريقة أكثر إحكامًا، وطوَّر نظريته،… فتلقت نصيبها من انتقادات “ماكسويل (Maxwell)” الذي جاء بعده،…ولكن أفضل من انتقد نظرية “كانط” و”لابلاس” بطريقة علمية هو الفلكي الكبير السير “جيمس جينز (Sir James Jeans)”، فإنه قدَّم أفكاره مدعومة بالأدلة العلمية، وظلت نظريته تشغل الأوساط العلمية إلى أن برز على الساحة “نيلس بور” Niels Bohr” المتخصصُ في علم نشأة الكون، والذي لا تزال نظريته سائدة حتى في أيامنا هذه.  ويتحدث “آينشتاين” أيضًا عن نشوءِ كائنات جديدة في أمكنة مجهولة بالنسبة لنا، وقد يكون ما قاله تعبيرًا عن هذه النظرية الأخيرة…)[4]

فالكاتب كما هو بين في نصوص كثيرة، ليس مجرد ناقل واع، أو باحث مجد، بل إني أجده عالما مشاركا. فهو بعد الاستقصاء و الاطلاع، يفاجئك بالنقد، و الترجيح، والتصويب، في كثير مما يعرضه من الأمور العلمية البحثية. وذلك يشي باطلاعه الواسع ودرايته الكبيرة بعدد من العلوم البحثة، فضلا عن العلوم الإنسانية؛ وموسوعية المؤلف موضوع يستحق بحثا مستقلا، ليس هنا مكانه. أما كونه مبدعا وليس متبعا، فتعليقاته التي يختم بها عرضه لكثير من المسائل العلمية، هي تعليقات – كما رأينا في النص السابق- يصدرها بنوع من الاستقصاء للموضوع، وكأنك أمام بحث أكاديمي، يعمد فيه بعد النقد والتوجيه إلى طرح رأيه في الموضوع. كما فعل في هذه القضية –نشوء الكرة الأرضية- حين قال:  (وقد تبدو هذه النظرية في أول وهلة وكأنها معقولة ومنطقية، إذ من الممكن إذا أراد الله تعالى ذلك أن يُصدم مذنَّبًا بالشمس ثم يُحدث من ذلك قطرات، ثم تبتعد تلك القطرات بقوةِ الطرد المركزي، ثم تبدأُ بالدوران حولها بقوة الجذب المركزي، إلى أن تتشكل الكرات والأقمار التوابع على هيئتها الحالية، إلا أن نظرية “بوفون” هذه لم يمكن إثباتها حسب المبادئ الرياضية، كما أنها قوبِلَت بكمٍّ هائلٍ من الانتقادات).[5]

هكذا سيظهر لكل من تتبع إنتاجات وفكر المؤلف، رؤيته الشمولية التي ميزته عن كثير من رموز ورواد الدعوة والإصلاح في العصر الحديث. فالرجل لم يعتكف في محراب العلوم الدينية لينادي بالإصلاح والتجديد، عبر الدعوة إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة، التي نجدها شعار كل دعوة تجديدية. كما أنه لم ينادي بقطع الصلات بكل ما هو قديم ويرتمي في أحضان المشاريع أو النظريات المستوردة والمولودة ميتة. بل إنه لم يتألق بخطاباته الرنانة ليدعو إلى التجديد والإصلاح وترك التقليد. إن رؤية الكاتب المبثوثة بين سطور هذا الكتاب، نجدها مترامية الأطراف في كثير من أعماله وأفعاله، وعلى رأسها رؤيته وفلسفته للنهوض والتجديد.

لذلك أقدر أن الجدول الذي صدرت به هذا المقال يُعد خريطة تقريبية لهذه الرؤية من خلال جمع المؤلف بين الأصالة والمعاصرة من جهة، ثم عبر تحديده لأولويات العمل والبناء في العصر الحديث، وقبل هذا وذلك، العمل على “صناعة” وتقديم نموذج حي لما ينادي به في كل المجالات وبدون استثناء. وهكذا وجدنا صاحب الكتاب، وفق حصيلة التتبع المثبتة بالجدول أعلاه، أنه يمتاح من عيون المعارف الدينية والدنيوية. أما الدينية فقد وجدته مغرما بالقرآن الكريم، فمنه ينطلق وإليه يؤوب. وأما السنة النبوية فهي حديقته الخلفية التي يخرج إليها كلما أصابه غم، أو نزل به هم، أو التبس عليه أمر. ولا أحد قد يفهم علاقة المؤلف بالسنة النبوية الشريفة، مثل الذي عاش معه أو درس كتابه القيم في السيرة “النور الخالد”. وهو كتاب يحاكي في منهجه، ما قرأناه ورأيناه في هذا الكتاب”البيان الخالد”. وأما الشريحة الثالثة والأخيرة من الجدول البياني، فإني أعتبرها، وبكل تواضع، بمثابة قراءة سطحية لنفسية المؤلف وأولوياته في حياته. وبشكل مجمل يمكن فهم ذلك عبر نظرة عجلى إلى العناوين التي أثبتتها بناء على عدد ورودها في هذا الكتاب. وقد لا أكون مبالغا إن قلت بأنها تمثل أو تكاد، أولويات الكاتب بشكل عام. وهكذا نلاحظ وجود الإنسان على رأس أولويات واهتمامات الرجل. وهذا موضوع يستحق الدرس والتحليل. إذ بالرجوع إلى عالمنا المعاصر، سنجد بأن أحدث النظريات في مجال التنمية، تجعل الإنسان محورها وواسطة عقدها. أما إذا رجعنا إلى ديننا الحنيف فحدث ولا حرج. ألم يتخذ كل الدعاة والمصلحين قوله تعالى بسورة الرعد{إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}، محورا وشعارا لبرامجهم ودعواته؟

ألم يكن تغيير الإنسان محور الدعوة المحمدية المباركة ونهضة العرب وسيادة المسلمين؟

فماذا تغير بين الأمس واليوم ؟

(يتبع)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] : أنظر قول المؤلف بص: 356 من الكتاب.

[2] : أنظر تفسير ابن باديس، في مجالي التذكير من كلام الحكيم الخبير، ص276. ط 2،.دار الكتب العلمية ، بيروت.

[3] : ص: 356 من الكتاب.

[4] :ص369 من الكتاب.

[5] : ص 367 من الكتاب.