انتابتني نشوة الحكي الملحماتي لبطولات وفخر وعزة فرساننا، وكدت أنسى تناول فطوري.. كان إبراهيم من حين لآخر يعيد انسياب مشاعري بإشعاع ضوء الصور التي كان يلتقطها لنا مع الحضور. ما أطيب معدن هذا الشاب الفتي الذي حولنا بدفء عواطفه، وطيبة معدنه، من غرباء المكان إلى أصحاب الأوطان، فجعل بصوره التي التقطها لنا من كل باقة حزن لوحة جمال، ومحبة ودفء وإخلاص…

كانت الساعة تشير إلى العاشرة والنصف، والبرنامج مكثف، لكن أشواقنا الممتدة نحو استلهام المزيد من لذة الوصال الروحي المشبع بعرفان المعرفة، أنستنا مرور الوقت كالبرق الخاطف.

في قاعة استقبال مكتب العميد السيد “محمد محيط”، كنا نتقدم أنا والأستاذ حنين عميد الكلية بالمغرب، وكأننا في سباق مع رائحة القهوة وهي تنتشر لتعطر بنسيمها مزاجي المثقل بالسفر عبر محطات قطار المعرفة التاريخية.

أدب وخلق السيد العميد “محمد محيط ” يجعلك تشعر فور السلام عليه، أنه إنسان طيب النفس، حسن الخلق، صافي السريرة. طريقة حديثه المتواضعة، ضحكته الفطرية ببراءة الأطفال، كل حركاته وسكناته توحي بأنه رجل متواضع ومن أهل الله، على غير عادة الكثير من المسؤولين الذين يتقمصون شخصية “الببع أو البوعو” (الشبح الذي يخيف الأطفال في الثقافة المغربية).

وبهذه الخصال الخلقية الحميدة، اجتمع كرم المحيط مع هدوء المتوسط، ليحملا معا همّ مسؤولية تلاقح المعارف بالخير والإحسان، فكلاهما يجمع بين عبء المسؤولية وحسن قيم أهل العلم والصلاح.

كان العميد حنين يتابع باهتمام طرق مناهج التسيير الإداري وبرامج البحث العلمي في هذه المؤسسة، بينما كنت أستمع وأنا أستنشق رائحة القهوة التركية التي أعشقها بولع وألتمس من ارتشاف كأسها الأول أن ينتشي مزاجي، ويهدّأ فيض خيوط أحلام يقظتي. استغربت مقاومة الأستاذ حنين لعبق نسيم رائحة القهوة التركية. ربما كانت رائحة طعم المعرفة أقوى تأثيرا على مزاجه، فارتشف منها كؤوس المعارف، ونسائم عطر مميزة من المحطات التاريخية، لهذا الصرح المعرفي الهام.

سألته بلطف أن يمد يده نحو الفنجان المغري، برائحة شرابه، وبعطر نكهة مذاق حبات قهوته التركية. انتهز انشغال السيد “محيط” بترتيب عدة عرض شريط وثائقي عن الجامعة، ليرتشف أخيرا رشفة من فنجانه البارد الذي ودع في صمت رائحة نسيم بهاراته الزكية. وبلغة غير منطوقة للسامعين حكت عيناه نشوة الاستمتاع بنكهات أخرى من نسائم التألق المعرفي والتربوي.. عطر الحديث عن المرافق والمختبرات العلمية.. نشوة الاستمتاع بمؤهلات الإمكانيات الضخمة التي جُهِّزت بها مرافق المؤسسة، خاصة قسم النانوتكنولوجي الذي استوقفه كثيرا بموارد ميزانية أبحاثه الضخمة التي تعود بالملايير على إدارة الجامعة.. وبلغة منطوقة تابع حديثه، قائلا:

خلق السيد العميد “محمد محيط ” يشعرك فور السلام عليه، أنه إنسان طيب النفس، حسن الخلق، صافي السريرة. طريقة حديثه المتواضعة، ضحكته الفطرية ببراءة الأطفال، كل حركاته وسكناته توحي بأنه رجل متواضع ومن أهل الله.

– أستاذة مريم.. دعيني أحكي لك قصة عن القهوة، وحكمة الاعتناء بالجوهر لا المظهر.. ذات يوم التقى أستاذ عجوز بتلاميذه، بعد مرور زمن طويل من تخرجهم وحصولهم على مناصب راقية، في مسارهم العملي والمادي والاجتماعي.. وبعد الاستمتاع بمقابلته من جديد، والإطراء على جهوده في التوجيه والترشيد المعرفي، بدأ العديد منهم يتأفف من ضغوط العمل، ومتاعب الحياة التي تسبب لهم الكثير من التوتر.. غاب الأستاذ عنهم قليلا، ثم عاد يحمل إبريقا كبيرا من القهوة ومعه أكواب من كل شكل ولون، أكواب صينية فاخرة.. أكواب بلاستيك.. أكواب زجاج عادي… دعاهم ليتفضلوا وليصب كل واحد منكم لنفسه القهوة.. عندما بات كل واحد من الخريجين ممسكا بكوبه، نطق الأستاذ مجددا بعد صمت طويل: “هل لاحظتم أن الأكواب الجميلة فقط، هي التي وقع عليها اختياركم، وأنكم تجنّبتم الأكواب العادية؟” انتبه كل إلى كوبه، فلاحظوا أنهم اختاروا الأجمل مظهرا، وكانوا يعلمون أن من وراء الاختبار حكمة، في الوقت الذي عقب فيه أحدهم قائلا: “طبيعي أن يتطلع الواحد منا إلى ما هو أفضل؟”، فأجاب الحكيم: “هذا -يا بني- ما يسبب لكم القلق والتوتر.. ما كنتم بحاجة إليه في هذه الجلسة، هو طعم القهوة، وليس الكوب. ولكنكم تهافتم على الأكواب الجميلة الثمينة، وفي لحظة تأمل كنت أراقب أنّ كل واحد منكم يتطلع إلى الأكواب التي في أيدي الآخرين. فلو كانت الحياة هي “القهوة” فإن الوظيفة والمال والمكانة الاجتماعية هي الأكواب.. بينما هي مجرد أدوات ومواعين تحوي الحياة ونوعية الحياة. القهوة تبقى بنكهة القهوة لا تتغير، وكذلك هو العلم والمعارف.. وعندما نركز فقط على الكوب، فإننا نضيع فرصة الاستمتاع بالقهوة”.. كذلك -أستاذة مريم- عندما نهتم بوعاء بناء الأقسام، دون العقول، فإننا نضيع الاستمتاع بنكهة توظيف المعارف.

ودّعتُ أساتذة جامعة الفاتح، وأنا أبحر بخيالي في سر حكمة الأستاذ حنين، وأحيي ملكة النحل التي جمعت هذه الطاقات من جموع فصائل نحل مختلفة، لتنسج خلايا متناسقة، تصب فيها لؤلؤة جواهر عسلها.

المصدر: مريم آيات أحمد، نداء الروح رحلة في عالم الفرسان، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة