أمس وعلى حين فجأة وردني خبر وفاة رجل أفنى حياته في سبيل خدمة الإنسانية، رغم كل الصعاب التي تحملها، إلا أنه كان مخلصا في دعوته التي آمن بها إلى آخر نفس.
هذه المقالة ليست نعيا، عزيزي القارئ، ولكن الحق سبحانه يقول: ” فاعتبروا يا أولي الأبصار”، وورد إلى خاطري أن أشاطركم معنى أن تكون مخلصا في خدمتك للإنسانية عبر النظر والتدبر في حياة هذه الشخصية التي عرفتها عن قرب، وشخصية الأستاذ على بيرام الذي عرفته أيضا عن قرب، كيف عاش هؤلاء الرجال وغيرهم ممن لا أعرفهم ولكن وردتني أخبارهم.
أن تؤمن بخدمة الإنسانية يعني أن تجعل من نفسك محركا للمشاعر النبيلة وسط الخلق.. أن تجعل نفسك شعلة متقدة تدفئ القلوب وسط عالم تجمدت فيه القلوب، أن لا تنتظر مدحا من أحد وتمضي في طريقك تقوم بما تراه يخدم الإنسانية،.. أن تشعر بألم الآخرين في أعماق قلبك، فتزرع الدموع، ولا تكتفي بذلك بل تسرع في نجدة الآخرين، وزرع الأمل في قلوبهم وعقولهم.. ألا تنهزم نفسيا، وأن تسير في طريق خدمة البشرية صابرا محتسبا لأنك تعرف أن الطريق ليس سهلا.. أن تترك الراحة والدعة، وقد تضحي بكل وقتك حبا للإنسانية، فتسعى دائما لخدمتهم باذلاً فكرك ووقتك وقلبك في ذلك السبيل، ولا ترجو من وراء ذلك منصبا تتعلق به أو مصلحة نفعية تتربح من ورائها، أو شهرة زائفة، بل إن كل ما ترجوه هو رضاء الحق سبحانه وتعالى فقط لا غير.
أُطلق عليهم رجال الحب، فلولا صدقهم في الحب ما فارقوا الأوطان والأهل وانطلقوا ليعيشوا متغربين شرقا وغربا، كان حبهم صادقا ومشاعرهم رقيقة، إذا حدثتهم عن مشكلتك اهتموا بها كأنها مشكلتهم، وحاولوا أن يبذلوا غاية وسعهم من أجل إيجاد حل لها. أن تخدم الإنسانية يعني أن تؤمن بأن التعليم ضرورة لا غنى عنها لكل إنسان، وأن تؤمن بأن الحوار هو السبيل الوحيد لحل المشكلات وتكوين الصداقات، وأن تؤمن بأن لا توجد مشكلة لا يحلها الحال، وأن الجهاد الحقيقي هو إحياء الخلق بالرحمة وليس التسلط عليهم بالعنف والقسوة.
رجال وصفهم المرحوم فريد الأنصاري بأنهم (رجال ولا كأي رجال)! رجال أرادوا أن يبارزوا الصحابة رضوان الله عليهم في ميدان خدمة الدين، فهاجروا إلى أصقاع الأرض شرقا وغربا متخذين كل أرض حلوا عليها وطنًا وكل إنسان أخًا، يؤمنون بحقيقة أن الناس سواسية، وأنه لا فضل لأحد على أحد إلا بمعايير قلبية لا سبيل لنا بالحكم عليها.. يؤمنون بأن التبليغ الحقيقي هو أن تتلبس الإيمان في أخلاقك وأطوارك وأحاديثك وكلماتك. يحاولون وسع قدرهم أن يكونوا نماذجَ قرآنية، فالراية التي يحملونها هي إعلاء كلمة الله عن طريق التمثيل الحقيقي لا مجرد ترديد كلمات وشعارات.. رجال انصبغت قلوبهم بالمحبة فلم تحمل بين جنباتها أي ضغينة على أحد ولو حتى على من ظلمهم ورماهم بشتى التهم عدوانا وظلما، بل شعروا بالشفقة عليهم من سوء العاقبة.. رجال نظروا إلى الدنيا على أنها مزرعة للآخرة فكانوا لا يملون استنبات البذور في تلك المزرعة موجهين أنظارهم نحو مواسم الحصاد الأخروية، الموت كان بالنسبة لهم تذكرة نحو عالم الوصال مع المحبوب الحقيقي.
نعم إننا وإن نفتقدهم إلا إننا نستطيع القول إنهم يعيشون في قلوب من التقى بهم عبر مواقفهم وعبر كلماتهم وعبر سيرتهم العطرة، وما زرعوه من حب في قلوب البشر. ليس هذا فحسب، إن المحبة هذه تقضي علينا أن نحيي ذكراهم عبر الاقتداء بهم وامتثال سيرتهم وحث الخطى في طريق الخير الذي مهدوه لخير البشر والإنسانية وامتثال الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره رحمة للعالمين.

المصدر: موقع زمان عربي