نشر الكاتب والباحث آدم ياوز أرسلان في ٢٩ نوفمبر ٢٠١٩ وثائق ومستندات رسمية تكشف أن “المصدر” الذي اعتمده أردوغان في عمليات الاعتقال والطرد بتهمة “الانقلاب” في المؤسسة العسكرية هو قوائم التصنيف للقادة والضباط التي أعدها بشكل مخالف للدستور والقوانين قبل سنة على الأقلّ بالتعاون مع مجموعة من الضباط المحكوم عليهم في إطار قضايا “أرجنكون” و”المطرقة” التي بدأت في عام ٢٠٠٧ وانتهت بالإفراج عن جميع المتهمين البالغ عددهم حوالي ٣٥٠ شخصًا، معظمهم من العسكريين المتقاعدين، وقليلهم من الموظفين، إلى جانب عدد محدود من المدنيين، في عام ٢٠١٤، عقب صفقة سياسية مع أردوغان، ثم عاد جميعهم إلى وظائفهم السابقة في الجيش بعد انقلاب ٢٠١٦ ليتولوا مهمة الإشراف على التحقيقات الخاصة بالمتهمين بالانقلاب الفاشل في ٢٠١٦!
وفيما يلي مقال الكاتب الذي تفضل بترجمته إلى العربية الأخ العزيز خالد عبد الله حسن، وقمت بتحريره وإضافة معلومات ضرورية يحتاجها القارئ العربي لفهم الموضوع بكل أبعاده.
خطأ بسيط يكشف تدبير أردوغان وحلفائه انقلاب ٢٠١٦
ما حقيقة الانقلاب الذي شهدته تركيا في عام ٢٠١٦؟ ومن أعدَّ قوائم أسماء القادة والضباط الذين قامت حكومة حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان بتصفيتهم بدعوى مشاركتهم فيما سمي بـ”الانقلاب الفاشل” الذي وقع في ١٥ يوليو ٢٠١٦؟
بما أن حملات الاعتقالات والتصفيات التاريخية، التي لم تقتصر على العسكريين بل طالت مئات الآلاف من الموظفين المدنيين في القطاع العام أيضًا، بدأت في صبيحة اليوم التالي للانقلاب مباشرة، فذلك يعزز أن قوائم الأسماء المطلوبة تصفيتهم كانت جاهزة سلفًا.
وفقًا لسجلات ووثائق المحكمة الرسمية المسؤولة عن النظر في تحقيقات الانقلاب، فإن “المصدر” المعتمد عليه في عمليات الاعتقال والطرد بتهمة “الانقلاب” في المؤسسة العسكرية هو قوائم التصنيف للقادة والضباط التي أعدها بشكل مخالف للدستور والقوانين قبل سنة على الأقلّ مجموعةٌ من الضباط المحكوم عليهم في إطار قضايا “الدولة العميقة” التي بدأت في عام ٢٠٠٧ وانتهت بالإفراج عن جميع المتهمين البالغ عددهم حوالي ٣٥٠ شخصًا، معظمهم من العسكريين المتقاعدين، وقليلهم من الموظفين، إلى جانب عدد محدود من المدنيين في عام ٢٠١٤، وذلك عقب صفقة سياسية مع أردوغان.
الضباط الذين أعدوا تلك القوائم التي تصنف القادة والضباط حسب انتماءاتهم الفكرية يتكونون من ثلاث مجموعات، تعرف المجموعة الأولى باسم “فريق إزمير”؛ في حين أن المجموعة الثانية هم الضباط المتقأرعدون، بينهم القاضي العسكري المتقاعد زكي أوتشوق. أما المجموعة الثالثة فيتألفون من أعضاء القضاء الأعلى العسكريين.
الاسم الأشهر بين فريق إزمير هو العقيد محمد يوزباشي أوغلو الذي عرفه الرأي العام من خلال قضية “التجسس العسكري لصالح دول أجنبية”، وعلى رأسها إسرائيل واليونان، والتي انطلقت في عام ٢٠٠٩، ثم أصدرت المحكمة في ٢٩ يناير ٢٠١٦ قرارًا بتبرئة ساحة جميع المتهمين البالغ عددهم ٥٦ شخصًا. وقد ذكر يوزباشي أوغلو أسماء فريقه فردًا فردًا، سواء في تصريحاته أو أقواله أمام المحكمة بصفته “شاهدًا”. ومن اللافت أن القاسم المشترك بين أعضاء فريق يوزباشي أوغلو هو أن جميعهم كانوا متهمين في قضية التجسس العسكري.
الامتداد المدني لفريق يوزباشي أوغلو يتضمن عضو حزب العدالة والتنمية الحاكم ورئيس البرلمان الحالي مصطفى شنطوب، والسكرتير العام لمجلس القضاة والمدعين العموم بيلكين باشاران، وعضو مجلس الدولة للرقابة متين قيراطلي، ومساعد السكرتير العام لرئاسة الجمهورية طالب أوزون.
قوائم تصفية معدة سلفًا
وإن أردنا ذكر خلاصة ما يرد في وثائق وسجلات المحكمة هذه، فإنه يمكن أن نقول بأن هذه المجموعات الثلاث قاموا قبل عام من الانقلاب بإعداد قوائم سوداء تصنّف الضباط على أساس انتماءاتهم الفكرية، ومن ثم قدموها لكل من المخابرات الوطنية والجهات الأمنية ورئاسة الجمهورية.
وقد أكد مصطفى شنطوب في أقواله بالنيابة العامة أنهم كانوا يتعاونون مع فريق إزمير سالف الذكر من أجل تحديد هوية المنتسبين إلى جماعة كولن -حركة الخدمة- داخل القوات المسلحة، وأنهم حصلوا منهم على “معلومات بالغة الأهمية” قبل الانقلاب وبعده.
وجاءت بعد ذلك أقوال محمد يوزباشي أوغلو مؤيدةً لأقوال شنطوب، إذ يقول بأنه تعرَّف على مصطفى شنطوب في نوفمبر ٢٠١٥، وعقد اجتماعات تشاورية بالتنسيق مع متين قيراطلي وطالب أوزون المذكورين.
وتظهر وثائق المحكمة هذه أن الامتدادات العسكرية لفريق إزمير حضرت أيضًا هذه الاجتماعات، وتكشف أن العميدين نور الدين ألقان وجوفين شعبان على وجه الخصوص عملا جنبًا إلى جنب مع مصطفى شنطوب ومتين قيراطلي في إعداد قوائم الأسماء التي يجب تصفيتها.
أريد أن أنوِّه مرة أخرى بأن عملية إعداد قوائم التصنيف التعسفي هذه شهدت زخمًا كبيرًا قبل عام واحد من الانقلاب.
أما المجموعة الثانية الذين اضطلعوا بدور خطير في عملية إعداد قوائم التصنيف التعسفي للعسكريين فهم “فريق المتقاعدين”، ويأتي كلٌّ من العميد المتقاعد زكي أوتشوق الذي يظهر بكثرة على شاشات القنوات التلفزيونية الموالية للحكومة، والقاضي المتقاعد الرائد محمد جليك، والقاضي المتقاعد عضو المحكمة العسكرية العليا العميد ياسين أصلان.
فعلى سبيل المثال، يقول ياسين أصلان في أقواله للمحكمة: “كنا قد قدمنا معلومات إلى رئاسة الجمهورية والجهات المسؤولة قبل انقلاب ١٥ يوليو ٢٠١٦، ثم استدعوْنا مرة ثانية بعد الانقلاب وطلبوا منا أن نزوّدهم بالمعلومات التي نحوزها عن بيان الأحكام العرفية وحالة الطوارئ الصادر ليلة الانقلاب من مجلس الصلح الوطني العسكري الانقلابي والقضاة العسكريين المكلفين بالعمل في المحاكم العسكرية في حال نجاح الانقلاب”.
أما الجهة الثالثة في عملية إعداد قوائم التصفية فهم “أعضاء القضاء الأعلى العسكريون”.
سبب ذكري هذه التفاصيل هو أن القوائم السوداء المصنِّفة للعسكريين حسب انتماءاتهم هي الأساس الذي اعتمد عليه نظام أردوغان في عملية مطاردة الساحرات المتواصلة منذ أكثر من ثلاث سنوات، بالإضافة إلى أن تحديد الجهة التي أعدت تلك القوائم سيكشف لنا في الوقت ذاته عن الفاعلين الحقيقيين الذين دبروا ونفذوا هذا الانقلاب.
هناك عديد من الوثائق والإفادات بالغة الأهمية وردت في المحاكمات الجارية بالمحاكم ١٧ و٢٣ و٢٥ لمحكمة الجنايات في العاصمة أنقرة، حيث تسلط الضوء على الآثار والبصمات التي تركها المخططون للانقلاب. إذ يُحاكم في هذه المحاكم الثلاث القضاة والمدعون العسكريون في القوات المسلحة.
التهمة المنسوبة إليهم هي “ورود أسمائهم في قائمة المعينين بالمحاكم العسكرية التي نشرها المجلس العسكري ليلة انقلاب ١٥ يوليو ٢٠١٦”. وبعبارة أبسط: هؤلاء القضاة العسكريون كانوا سيتوظفون في المحاكم العسكرية لو نجح الانقلاب.
وعلى الرغم من عدم معرفة هوية قائد المجلس العسكري الانقلابي وأعضائه، والأشخاص الذين أعدوا قائمة التعيينات والترقيات الجديدة في حال نجاح الانقلاب، وأصدروا القرارات الواردة في بيان الأحكام العرفية الذي نشره الانقلابيون، بحسب الرواية الرسمية، إلا أن مئات القضاة العسكريين قابعون في السجون منذ ٢٠١٦ ويخضعون للمحاكمة ويواجهون الحبس المؤبد لمجرد وجود أسمائهم في تلك القائمة ولو لم يكن لهم مشاركة فعلية في أحداث الانقلاب.
هذه القائمة المعدة من قبل “الانقلابيين” تحمل اسم “المرسوم – ب” (Direktif-B) بحسب سجلات المحكمة.
وقد حدث تطور مهم في الشهور الماضية بهذه المحاكم التي يخضع فيها أعضاء القضاء العسكري للمحاكمة. وبعبارة أصحّ، هناك وثيقة بين مئات الوثائق كشفت الغطاء عن “المصدر” أو “الطرف” الذي أعد المرسوم – ب ضمن قرارات المجلس العسكري.
نعم لقد ظهر بعد أربع سنواتٍ مَنْ أعد البيان الانقلابي المنشور ليلة الانقلاب!
قائد المجموعة المعروفة باسم فريق إزمير في القوات المسلحة العقيد محمد يوزباشي أوغلو يقول في أقواله للمحكمة: “لقد شاطرت معلوماتي حول استراتيجية استئصال كيان فتح الله كولن في القضاء العسكري. ولما كانت نتيجة هذه المعلومات والمعطيات مطابقةً تمامًا للمشهد الذي ظهر بعد الانقلاب والشخصيات التي لعبت فيه دورًا، حصلتُ على تقديرِ واحترامِ كلٍّ من وزارة الدفاع ورئاسة الوزراء ورئاسة الجمهورية، مما دفعها إلى تكليفي ببعض المهام الأخرى”.
لقد تم ترقية العقيد يوزباشي أوغلو بعد انقلاب ١٥ يوليو ٢٠١٦ ليتوظّف في النيابة العسكرية لرئاسة الأركان العامة؛ في حين أن طانر كوتشلو جرى تعيينه رئيسًا للشؤون العدلية العسكرية التابعة لوزارة الدفاع؛ أما أرين شان من “فريق إزمير” فتم تعيينه في الهيئة نفسها.
شاهد وحَكم وجلاد
ومن اللافت أن هؤلاء الأشخاص يؤدون دور “الادعاء” و”الشاهد” وكذلك “القاضي” في نفس الوقت، في قضية القضاة والمدعين العسكريين بعد تصفيتهم من المؤسسة العسكرية استنادًا إلى التقارير التي قدموها هم للسلطات!
تصوّروا أن هناك مَنْ يحددون الأشخاص الذين سترفع بحقهم دعاوى قضائية، هم أنفسهم من يقرّرون إقالتهم وطردهم من القوات المسلحة، وهم أيضا الشهود الذين يتم الاستماع إلى أقوالهم في القضية، وفوق كل ذلك فهم من يصدرون الأحكام القضائية عليهم، نظرًا لأنهم قادة القضاة الذين يشرفون على هذه المحكمة!
لا تنتهي الغرابة عند هذا الحد فحسب، بل إن كلًّا من يوزباشي أوغلو وكوتشلو سبق أن خضعا للمحاكمة على يد هؤلاء القضاة العسكريين في قضية التجسس والتخابر العسكري المذكور، مما يدل بشكل واضح على أن محاكمتهم “عملية قصاص وانتقام”. لا تكون هناك محاكمة كهذه في الظروف العادية، لكن مثل هذه الأمور غير العادية قد أصبحت روتينًا وأمرًا عاديًّا في تركيا أردوغان.
إن القادة والضباط الذين خضعوا للمحاكمة في إطار قضايا التجسس العسكري وأرجنكون والمطرقة الانقلابية التي استهدفت كلها حكومة أردوغان بين الفترة من ٢٠٠٣ إلى ٢٠٠٨، خرجوا من السجن بعد عام ٢٠١٤ بعد فضائح الفساد والرشوة في نهاية عام ٢٠١٣، ثم عاد جميعهم إلى وظائفهم السابقة بعد انقلاب ٢٠١٦ ليتولوا التحقيقات الخاصة بالمتهمين بالانقلاب الفاشل في ٢٠١٦!!
المحكمة طلبت في ٢٦ يناير ٢٠١٨ من مجلس القضاء العسكري التابع لوزارة الدفاع المعلومات والوثائق المتعلقة بالعسكريين المتهمين.
يوزباشي أوغلو أدلى في جلسة ٧ سبتمبر ٢٠١٨ في دعوى القضاة العسكريين بأقواله باعتباره “شاهدًا”، فقال: “لدينا ٦٠ ملفًا من المعلومات والوثائق عن هؤلاء المتهمين، أعتقد أن بعضًا منها لا توجد في ملفات المحكمة، ويمكننا أن نقدمها لكم وقتما تشاؤون، فالمجلس لديه كل المعلومات المتعلقة بالمتهمين”. وبناء على ذلك طلبت المحكمة هذه المعلومات، إلا أن أيًّا من الستين ملفًّا المذكورة لم تصل إلى المحكمة حتى ١٩ شهرًا بالضبط، والصادم هو أن عدد الملفات الذي وصل بعد ذلك إلى المحكمة ٣ ملفات فحسب!
وثيقة تكشف لغز الانقلاب
كانت الوثائق التي أرسلها مجلس القضاء العسكري إلى المحكمة تحتوي على قائمةٍ تصنّف الضباط وفقًا لانتماءاتهم الفكرية. وعند النظر إلى هذه القائمة يتبين أن عملية إعدادها بدأت قبل قرارات الترقية والتعيين في القوات المسلحة عام ٢٠١٥، وأخذت شكلها النهائي في الفترة بين ٢٦ مايو إلى ٧ يونيو ٢٠١٦. وقد اشتملت القائمة على اسم ٢٨٤ قاضيًا عسكريًا، بالإضافة إلى ٦٥ مرشحًا لمناصب القضاة العسكريين.
العقيد محرَّم كوسه المتهم بالمشاركة في الانقلاب طلب الكلام في جلسة ٢٢ أكتوبر ٢٠١٩ للدعوى المعروضة في المحكمة الـ٢٥ للجنايات العليا بالعاصمة أنقرة، فقال بأنه “عثر على الوثيقة التي تثبت المؤامرة المدبرة ضدهم وأنها ستغيّر مجرى القضية ومسارها بالكلية”.
أليس من الواجب على القاضي الذي يسمع مثل هذا الكلام الخطير أن يسمح له بالحديث ويتحرى حقيقة الأمر؟ إلا أن هيئة المحكمة أصرت على عدم إعطائه حق الكلام.
عندها تدخَّل المحامي محمد أقتشاي وقال لهيئة القضاة: “هؤلاء الرجال محكوم عليهم بالإعدام، فإذا لم تسمحوا لهم بالحديث هنا فأين سيتكلمون يا ترى؟ عليكم أن تسمحوا لهم بالحديث”، واستمرت الاعتراضات طوال الجلسة، وفي النهاية استطاع محرَّم كوسه أن يقول ببضع كلمات في صدد الدفاع عن نفسه.
كان محرَّم كوسه يلفت الأنظار إلى القائمة المصنفة للعسكريين التي أرسلها العقيد يوزباشي أوغلو إلى المحكمة كدليل إدانة.
يتبوأ اسم محرَّم كوسه صدارة تلك القائمة وقد كتبت رتبته “مستشار الطب الشرعي في هيئة لأركان العامة”، إلا أن الواقع أن رئيس أركان ذلك الوقت خلوصي أكار كان عينه مستشارًا قانونيًّا للأركان العامة في تاريخ ٣ مارس ٢٠١٦! وهذا يعني أن إعداد هذه القائمة بدأ قبل ١٤ أبريل ٢٠١٦. بمعنى أن الأوراق أو المستندات المعروضة على المحكمة على أنها أدلة إدانة الانقلابيين هي في الحقيقة قائمة أسماء تم إعدادها بشكل مخالف للقانون والدستور قبل الانقلاب بكثير، حيث إن الدستور يحظر بشكل قاطع تصنيف الموظفين حسب انتمائاتهم الفكرية.
المفاجئة الكبيرة أو الصدمة الحقيقية تكمن في تفاصيل هذه القائمة حيث تزيح الستار عن مركز القوة الذي يقف وراء انقلاب ١٥ يوليو ٢٠١٦.
قبل كل شيء، يظهر أنه تم إزالة بعض الأسماء من قائمة التصنيف التعسفي التي تتضمن ٢٢٤ شخصًا، إذ تم الكشط على خمسة أسماء في الوثيقة المكونة من ٧ ورقات، مما يدل على إجراء تعديلات على القائمة فيما بعد، وتدخُّل الأهواء الشخصية في تحديد الأسماء.
قائمة التصنيف التعسفي للعسكريين تتضمن أخطاء في رتب القضاة العسكريين المتهمين ووظائفهم والقوات التي يعملون ضمنها. ولكن المفاجأة الكبرى هي: كيف يمكن أن تكون الجهة التي أعدت قائمة التصنيف التعسفي المذكورة نفس الجهة التي أعدت القائمة التي تتضمن مرسوم – ب ضمن قرارات المجلس العسكري؟!
كيف تخرج قائمة التصنيف التعسفي وقائمة مرسوم – ب للانقلابيين من يد واحدة؟
هذه القائمة المصنفة للعسكريين تكاد تكون مطابقة تمامًا للقائمة التي نشرها الانقلابيون ليلة الانقلاب والتي تضم مرسوم -ب المتعلق بالتعيينات في المحاكم العسكرية بعد نجاح الانقلاب، طبقًا للرواية الرسمية. فلو دققنا النظر في القائمتين وعقدنا مقارنة بينهما لرأينا من دون أدنى شك أن الذين أعدوا القائمتين هم نفس الأشخاص.
كيف هذا؟!
ومن المثير أن ١٩٤ من أصل ١٩٥ قاضيًا عسكريًّا وردت أسماؤهم في قائمة التصنيف السوداء المعدة قبل سنةٍ من الانقلاب تم توظيفهم وتعيينهم في قائمة الانقلابيين الموسومة بـ”مرسوم – ب. ليس هناك أي فرق بين القائمتين، فهما متماثلتان فردًا فردًا واسمًا اسمًا، ما عدا عضو في مجلس القضاء العسكري الأعلى.
فقد كان هناك ٦٦ شخصًا مرشحين لمناصب القضاة العسكريين في ١٥ يوليو ٢٠١٦، لكن في نهاية قائمة التصنيف توجد عبارة تقول: “ملحوظة: ٦٥ مرشحًا لمناصب القضاة العسكريين جميعهم منتسبون إلى الكيان الموازي للدولة”، الاسم الذي كانت الحكومة تطلق حينها على حركة الخدمة.
ولكن الغريب أن قائمة التصنيف التعسفي تقول بأن “جميع المرشحين البالغ عددهم ٦٥ شخصًا”، بينما عددهم الحقيقي هو ٦٦ مرشحًا! والأغرب من ذلك أن قائمة “الانقلابيين” قامت بتعيين ٦٥ مرشحًا لمناصب القضاة في المحاكم العسكرية المزمع تأسيسها بعد الانقلاب، رغم أن عددهم الحقيقي هو ٦٦ مرشحًا.
فمع أن الذين أعدوا القائمتين أشخاص مختلفون بحسب الرواية الرسمية إلا أن الخطأ نفسه وارد في القائمتين معًا!
الخطأ لا يقتصر على فرق واحد في عدد المرشحين فقط، بل هناك أخطاء كثيرة. منها أن قائمة التصنيف التعسفي ذكرت القاضية في ديار بكر أثناء الانقلاب طوبا أوزقان أنها تابعة للقوات البرية، أما الحقيقة فهي تابعة للقوات الجوية! قد تعتبرون هذا خطأ بسيطًا وهينًا، لكن إذا رأيتم الخطأ ذاته في قائمة قرارات المجلس العسكري فعندها سوف يتغير رأيكم! أي أن الذين أعدُّوا قائمة التصنيف التعسفي التي تتضمن أسماء “النواب العامين والقضاة المنتمين إلى منظمة فتح الله كولن” وقعوا في الخطأ ذاته الذي وقع فيه مَنْ أعدوا قائمة قرارات المجلس العسكري الانقلابي!
ليس هذا فحسب، إذ نجد كذلك أن هناك خطأ مشتركًا بين قائمتي التصنيف التعسفي والمجلس العسكري، فكل من “النقيبين” القاضيين أرهان ألب ومصطفى كايا ألب كُتبت رتبتهما في القائمتين “ملازم أول”. فمن المحتمل أن رتبتهما أثناء إعداد قائمة التصنيف التعسفي كانت “ملازم أول”. ومع أنهما قد تم ترقيتهما إلى رتبة “نقيب” إلا أن قائمة قرارات الانقلابيين أبقتهما على رتبتهما القديمة عند “ملازم أول” مثلما ورد في قائمة التصنيف التعسفي دون إجراء التعديل اللازم في رتبتهما!
فضلاً عن ذلك، فإن رتبة القاضيين العسكريين وردت بصورة صحيحة (نقيب) في قرارات حالة الطوارئ التي أصدرها نظام أردوغان بعد محاولة الانقلاب. فلو كانت قائمة قرارات المجلس العسكري تم إعدادها في تاريخ قريب من ١٥ يوليو ٢٠١٦ من قِبل بعض العسكريين في رئاسة الأركان العامة لما سجلوا رتبة النقيبين بنفس الرتبة التي كانا عليها قبل الترقية والتي كانت مذكورة في قائمة التصنيف التعسفي المجهزة قبل عام واحد.
فمن الغريب حقًّا أن يقع أصحاب قائمة التصنيف التعسفي في نفس الخطأ الذي وقع فيه مدبرو الانقلاب!
من المعلوم أن بيانات القضاة العسكريين مدونة في سجلات القوات المسلحة بشكل خاص ولها اختصارات خاصة بالجيش، ولكن هذه الاختصارات الخاصة بسجلات القوات المسلحة لم تكن مستخدمة في قائمة قرارات المجلس العسكري. وكذلك الأمر تمامًا في قائمة التصنيف التعسفي، كما توقعتم.
فبينما يُسجَّل القضاة العسكريون التابعون للقوات البحرية في سجلات القوات المسلحة على شكل (As.Hak)، نرى أن قائمة التصنيف التعسفي قد سجلتهم على شكل (Dz Hak) دون مراعاة لقواعد الكتابة والاختصارات العسكرية.
ومن المثير أيضًا أن نفس الخطأ وقع فيه العسكريون الذين أعدوا قائمة قرارات المجلس العسكري المسمى بـ”مرسوم – ب”.
ليس هذا فقط، فإن العميد محرَّم كوسه يتبوأ “رقم واحد” في تسلسل الأسماء بقائمة التصنيف التعسفي، ثم تأتي أسماء شخصيات أعلى رتبة وأقدم منه، وهذا الخطأ نفسه قد تكرر في قائمة قرارات المجلس العسكري أيضًا، فترتيب الأسماء في كلا القائمتين متماثل تمامًا. أي أن الانقلابيين لم يأخذوا بنظر الاعتبار ترتيب الأقدمية وعلوّ الرتبة في قوائمهم تمامًا مثل أصحاب قائمة التصنيف التعسفي، ليقع الطرفان في الخطأ ذاته!
كيف يمكن أن يحدث مثل هذا التطابق الكامل بين قائمة الانقلابيين وقوائم التصنيف التعسفي التي يتفاخر الضباط المتقاعدون من أمثال محمد زكي أوتشوق، ويوزباشي أغلو، بأنهم من أعدوها قبل سنة من الانقلاب على أقل تقدير؟
والمعلومة الأخرى التي كشفتها قائمة التصنيف التعسفي هي أن الأسماء الواردة في القائمة الخاصة بدفعة عام ٢٠١٠ هي نفس الأسماء التي وردت في قائمة قرارات “الانقلابيين”، وليس هناك أي فرق إلا في اسم واحد فقط، وهو أرين شَانْ، وهو الشخص الذي اعترف في المحكمة أثناء إدلائه بإفادته بصفته “شاهدًا” بأنه قدم للسلطات المعنية في وقت سابق “المعلومات التي يحوزها عن أعضاء حركة الخدمة”.
من الواضح أن كلاً من مرسوم – ب ضمن قرارات المجلس العسكري وقائمة التصنيف التعسفي أعدهما “الجهات المناهضة والمعادية لمنظمة فتح الله كولن”؛ لأن الصفحة الأولى من القائمة تبتدئ بعبارة : “ملحوظة: ٦٥ مرشحًا لمناصب القضاة العسكريين جميعهم منتسبون إلى الكيان الموازي للدولة”. فضلًا عن أن المتهمين في دعوى التجسس العسكري وقضية المطرقة الانقلابية يعترفون بأنهم جهزوا قوائم تضم أسماء الأشخاص الذين يعتقدون أنهم منتمون إلى الكيان الموازي وقدموها للجهات المختصة، ومن ثم أدلى هؤلاء بأقوالهم في إطار قضية الانقلاب الفاشل المنظورة في الدائرة الـ١٧ والـ٢٣ والـ٢٥ لمحكمة الجنايات العليا في أنقرة باعتبارهم “شهودًا” و”مشتكين” و”قضاة” في آن واحد.
أعلم أنه مقال طويل، إلا أننا أمام فاجعة خطيرة مثل انقلاب ١٥ يوليو ٢٠١٦؛ فقد تعرض مئات الآلاف من الأبرياء للظلم والغدر في دوامة هذه المؤامرة، وهناك عشرات الآلاف من المعتقلين الأبرياء، ولا تزال عمليات الاعتقال والطرد والتشريد مستمرة بالسرعة نفسها التي بدأت. وبينما تجنّب كبار المسؤولين في المؤسسة العسكرية، وعلى رأسهم خلوصي أكار، والمخابرات الوطنية، وفي مقدمتهم هاكان فيدان حتى الإدلاء بإفادتهم في لجنة التحقيق البرلمانية في الانقلاب تم الحكم بالسجن المؤبد على طلبة المدرسة والأكاديمية العسكرية دون رحمة. أما أردوغان وحلفاؤه من أعدائه القدماء أعضاء أرجنكون فيتفيأون في ظلال النظام الرئاسي الذي أسسوه على حساب الدماء الزكية المراقة أثناء هذه المؤامرة الكبيرة التي وصفوها بـ”لطف كبير من الله” ويتلذذون بنتائجه.
لهذا السبب البحث عن الحقيقة أمر حياتي في غاية الأهمية.
إن الجهة التي أعدت قائمة التصنيف التعسفي هي نفس الجهة التي دبرت انقلاب ١٥ يوليو ٢٠١٦، حيث إن قائمة كل من الطرفين تتطابق تمامًا حتى في الأخطاء.
“خطأ بسيط” يقلب الحكاية كلها رأسًا على عقب ويكشف عن الفاعلين الحقيقيين الذين يقفون وراء أحد أكبر مؤامرات العالم على الإطلاق.
فضلاً عن ذلك فإن هناك كثيرًا من القادة تم إلقاء القبض عليهم وهم في منازلهم أو في منتجع صيفي يقضون عطلتهم مع عائلاتهم بتهمة الانقلاب، على الرغم من أنهم لم يشاركوا فيه فعلاً، وذلك لأن أسمائهم وردت في قائمة “الانقلابيين” هذه دون علمهم، وقد أصدرت المحاكم في نهاية التحقيقات الطويلة قرارات بتبرئة ساحة كثير من المتهمين، بينهم قائد الفيلق الثالث الفريق أردال أوزتورك، والقائد الإقليمي لقوات الدرك في مدينة توكات العميد عدنان أرسلان. وهذا الأخير رغم أنه صدر بحقه قرار بالبراءة عن الانقلاب، إلا أن المحكمة قضت بحبسه ٦ سنوات وثلاثة أشهر بتهمة “الانتماء إلى منظمة فتح الله كولن” !!
وهذا يدل على أن أعضاء أرجنكون أدرجوا في القائمة الأسماء التي يرغبون في تصفيتها بعد الانقلاب الذي دبروه ليكون ذريعة لهذه التصفية.
منقول من كتاب (قصة تركيا بين أردوغان الأول والثاني)