أحيت الحكومة التركية يوم 15 يوليو 2021، الذكرى الخامسة لمحاولة الانقلاب العسكري الفاشل التي راح ضحيتها 250 شخصًا. وقد تميزت الاحتفالية هذا العام بأنها أكثر تعددية وتنوعًا وصخَبًا. حيث ألقى الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” كلمة أمام الجمعية الوطنية الكبرى، أكّد فيها على أن “من حاولوا التعتيم في 15 يوليو خانوا وطنهم وأمتهم ومن فقدهم، وأكّد أنّه يجب انتقاد محاولة الانقلاب العسكري في 15 يوليو، واتخاذ موقف حازم ضد هذه المحاولة الانقلابية”، وتعهد باستمرار محاربة التنظيمات الإرهابية ومنهم حركة “الخدمة” وعناصرها داخل وخارج تركيا، وجدد مطالبة واشنطن بتسليم الأستاذ “كولن”. الأمر الذي يوحي بأن الانقلاب مرّ عليه عام واحد وليس خمسة أعوام كاملة دأب فيها “أردوغان” على شن حرب بلا هوادة واستهداف كل ما يتعلق بالأستاذ “كولن” وحركة “الخدمة” داخل وخارج تركيا. وكذلك على كافة معارضيه على مختلف انتماءاتهم مما ينهي أي تهديدات آنية أو مستقبلية لحكمه من قبل هذه التنظيمات كما يدعي. إذن لماذا يعيد “أردوغان” استغلال الانقلاب مرة أخرى؟ ولماذا يعظم من قوة التنظيمات “الإرهابية” التي يروج لها، ولماذا يشن المزيد من حملات الاستهداف ضد الأستاذ “كولن” و”الخدمة”؟

أولا: صور الاستهداف الأخيرة:

كثفت الحكومة التركية منذ بداية العام حملة ملاحقة واستهداف حركة الخدمة وكل من له صلة بها وكانت أحدث صور الاستهداف كما يلي.

-استهداف الطلبة بمدارس “كولن”: منذ توليه الحكم كان “أردوغان” وحزبه “العدالة والتنمية” هم من يشجعون على الانتظام والتسجيل في المدارس التابعة لحركة الخدمة أو في المراكز التحضرية التي تمهد لدخول الجامعات. بيد أنه بعد الانقلاب أغلقت الحكومة 1069 مدرسة خاصة، وأغلقت الحكومة التركية أيضًا 15 جامعة، و301 مركزًا للدروس الخصوصية، و848 مهجعًا للطلاب و19 اتحادًا -بما في ذلك نقابات التعليم والمعلمين -بذريعة ارتباطها بحركة كولن. وتم تحويل معظم المدارس إلى المدارس المتوسطة والثانوية الدينية كجزء من حملة حكومة “أردوغان” لنشر الإسلام السياسي، بين جيل الشباب التركي الذي بدأ يبتعد عنه وعن حزبه. بل وصادر “أردوغان” كل المدارس وأصولها في عدد من دول العالم كان آخرها إثيوبيا التي سلمت مدارس “كولن” بأديس أبابا لوقف المعارف التركي لإدارتها، رغم كونها ملكية خاصة لحركة “الخدمة”. والأكثر من ذلك أن تقارير مخابراتية صدرت في 17 مايو 2021 كشفت عن أن الحكومة التركية قد أدرجت سرًّا ما يزيد عن 100.000 طالب من رياض الأطفال إلى الصف الثاني عشر لأنهم كانوا مسجلين في مدارس الخدمة. وقامت وزارة التعليم بتجميع قاعدة البيانات التي تحدد حوالي 138 ألف طالب من رياض الأطفال حتى الصف الثاني عشر، وتم تصنيف هؤلاء الأطفال كمعارضين للحكومة التركية ويجب متابعة أنشطتهم، وكذلك يتم متاعبة أولياء الأمور كمعارضين للرئيس “رجب طيب أردوغان”. وبهذا يصبح الطلبة بمختلف المستويات الدراسية هدفًا محتملا للإجراءات الأمنية التعسفية هم وعائلاتهم. دون تفويض صريح من القانون التركي وبدون مراجعة المحكمة مما يثير مخاوف من احتمال اضطهاد هؤلاء الأطفال مستقبلاً، وحرمانهم من الوظائف الحكومية في المستقبل بذرائع الحفاظ على الأمن القومي التركي.

-ملاحقة الجنود والعسكريين: أطلقت قوات الأمن التركية يوم 17 يوليو عملية أمنية متزامنة بـ 17 ولاية مقرها إسطنبول، لضبط 52 من الجنود الحاليين، وهم: 6 أشخاص برتب ضباط صف ورقباء لازالوا على رأس الخدمة، و46 طالبًا عسكريًا تم فصلهم من قبل الأكاديميات التي يدرسون بها، للاشتباه بانتمائهم لحركة “كولن” والعمل داخل القوات المسلحة.

-استهداف الحريات العامة: منذ الانقلاب الفاشل تشن الحكومات التركية المتعاقبة وبأوامر مباشرة من الرئيس “أردوغان” حملات على كافة وسائل الإعلام والصحف الخاصة، وتم مصادرتها أو بيعها لرجال أعمال موالين “لأردوغان” لتجنب أي انتقاد له. كما تم غلق عدد كبير من مواقع وسائل التواصل الاجتماعي الالكتروني (تويتر، فيسبوك، انستجرام)، فضلا عن اتهام الصحفيين والمواطنيين بإهانة الرئيس وهو ما يتوجب عليه محاكمتهم وسجنهم، وهذه الحملات مازالت مستمرة حتى وصفت تقارير حقوق الانسان تركيا بأنها أكبر سجن للصحفيين في العالم. كما ألقت السلطات التركية يوم 8 يوليو 2021 القبض على أربعة مواطنين ادعت أنهم من “أنصار فتح الله كولن” شمالي البلاد، أثناء محاولتهم الهرب إلى اليونان. عبر محاولتهم اجتياز الحدود بطرق غير قانونية، في منطقة “مريج” بولاية أدرنة، شمال غربي البلاد، بينما شككت مصادر في تلك الرواية ولا يعلم حقيقة القبض عليهم.

ومنذ محاولة الانقلاب الفاشل تم التحقيق مع أكثر من 500000 شخص، واعتقل ما يقرب من 100000 وتوفي العشرات في السجون التركية، بعضهم في ظروف مشبوهة، وتم استهداف وفصل تعسفيا قرابة مائة ألف من المعلمين والقضاة والمدعين العامين وأفراد الشرطة والعمال وأصحاب الحرف وأعضاء الجمعيات الخيرية والإعلاميين. مما أفقد الدولة التركية جزءًا كبيرًا من قوة العمل بها، كما أنه أدى لمضاعفة الاحتقان المجتمعي فيها.

-اختطاف عناصر “الخدمة” بالخارج: كشفت مصادر صحفية أن “أردوغان” كلف رئيس مخابراته “هاكان فيدان” بمطاردة عناصر حركة الخدمة في دول آسيا الوسطى والبلقان. وقد تم بالفعل اختطاف عشرات المدرسين الأتراك من دول آسيا الوسطى وأمريكا اللاتينية، وكان آخر هذه العمليات في نهاية يونيو 2021 حيث أعلنت أسرة المواطن التركي “أورهان إيناندي” المدير السابق لمؤسسة “سابات” التعليمية في قرغيستان والمحسوبة على حركة “الخدمة” اختطافه وإخفائه في السفارة التركية بالعاصمة (بيشيك) ثم تم ترحيله لتركيا.

-استهداف أسرة “كولن”: طالب الادعاء العام بالعاصمة أنقرة في 20 يونيو 2021 محكمة الجنايات العليا بسجن نجل شقيق الأستاذ “فتح الله كولن”، لمدة 22 سنة و6 أشهر بدعوى مشاركته في محاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها تركيا في 15 يوليو 2016. وذلك بعدما اختطفت المخابرات التركية المتهم “صلاح الدين كولن” من كينيا رغم قرار قضائي يمنع تسليمه، ما فجر انتقادات حقوقية تدين العملية. وأصدر الأستاذ “كمال كولن” الأخ الأكبر للمتهم، بيانًا بشأن آخر تطورات قضية شقيقه، قال فيه إنه “أُجبر على التوقيع على بعض الإفادات تحت التعذيب وسوء المعاملة، وعندما ذهب إلى المحكمة لم يقبلوا أي محام من المحامين الذين وكلناهم للدفاع عنه” ومازال “صلاح الدين كولن” في السجن بتركيا وسط رفض الدفاع عنه.

-استهداف “كولن” بأمريكا: في مارس 2021 بدأ حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا حملة في ولاية نيويورك الأمريكية ضدّ الأستاذ “فتح الله كولن” بعنوان (قتل 251 شخصًا بريئًا. أوقفوا كولن). حيث كتب على اللوحة الإعلانية التي عرضت في أكثر الأماكن ازدحامًا في نيويورك وكتب عليها “يعيش في بنسلفانيا. قتل 251 شخصا بريئًا. أوقفوا كولن”. وهو أحدث تحرك ردا على حملة إعلانية أمريكية ضد الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” حملت عنوان (أوقفوا أردوغان). والأخيرة هي حملة قادها نشطاء أتراك في الولايات المتحدة تنديدًا بجرائم بحق النساء في تركيا، وبسياسات الرئيس “أردوغان” وبقراره للانسحاب من اتفاقية إسطنبول للمرأة، حيث نشرت إعلانات في أكثر شوارع نيويورك ازدحامًا، وكتب فيها إلى جانب ‘أوقفوا أردوغان’، ‘أوقفوا الجرائم بحق النساء في تركيا’ وحملت لوحة إعلانية ضخمة كذلك عبارات ‘5 آلاف امرأة و780 رضيعًا هم سجناء سياسيون في تركيا’. مما آثار الرأي العام التركي ضد “أردوغان”. وجدير بالذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي استهدف فيها “أردوغان” الأستاذ “كولن” حيث سعى منذ 4 سنوات لاختطافه من مقر إقامته في بنسلفانيا عبر تقديم رشى لعناصر في إدارة الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب”.

ورغم ذلك مازالت دلائل عدم تورط حركة الخدمة في الانقلاب مستمرة في الظهور وكان آخرها:

  • خبير المخابرات والمؤلف الألماني “إريك شميدت إنبوم” أوضح في برنامج على محطة التلفزيون الألمانية زد دي أف إن حركة “كولن” لم تكن وراء محاولة الانقلاب الفاشلة، لكن أردوغان قام بانقلاب مضاد. استند هذا إلى تقارير استخباراتية من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وجهاز المخابرات الفيدرالية الألمانية.
  • “واين مادسن” ضابط البحرية الأمريكية المتقاعد الذي يكتب على مدونات حول الأمن والشؤون الاستخباراتية اتهم “أردوغان” نفسه بتدبير الأحداث في 15 يوليو ووصف بأنه “انقلاب أردوغان الذاتي”.
  • لم يسمح حزب العدالة والتنمية قط بتشريح جثث الأشخاص الذين قتلوا ليلة الانقلاب وعددهم 250 شخصًا تقريبًا، مما يؤكد أن الحكومة التركية تخشى من نتائج التحقيق وكشف أسباب الوفاة التي ربما تكون مختلفة عما ذكر آنذاك.

هذه الدلائل تؤكد أن ما حدث ليلة 15 يوليو 2016، هو خطة محكمة تضمنت التعبئة المحدودة للغاية في الجيش على أنها مؤامرة انقلابية، وكل ذلك كان بأوامر “أردوغان” وتنفيذ رؤساء مخابراته وقياداته العسكرية لخلق ذريعة لتطبيق قانون الطوارئ ثم يتم اتهام الأستاذ “كولن” بالتحريض على الانقلاب، لكن أنقرة فشلت في تقديم أي دليل يثبت تلك الاتهامات ولذا ترفض واشنطن تسليم “كولن ” لتركيا لأنه لايوجد أي دليل قانوني ضده.

ثانيا: أهداف “أردوغان”:

إن استمرار استهداف حركة “الخدمة” والأستاذ “كولن” بعد مرور خمس سنوات على الانقلاب الفاشل يؤكد أن “أردوغان” يرغب في “إعادة إنتاج” الانقلاب مرة أخرى واستخدامه كذريعة لإرهاب المعارضة واستهدافها تمهيدا لفوزه في الانتخابات المقبلة. لأن حملات القمع والاستهداف والاعتقالات ومصادرة المؤسسات المالية والاقتصادية والاعلامية والتعليمية لرجال أعمال متعاطفون مع الخدمة، ومنع كافة أشكال الحريات العامة التي نفذتها الحكومات التركية في السنوات الخمس الماضية لم تبق أي نشاط لحركة الخدمة داخل تركيا، كما أنه لم يبق متعاطفين مع الحركة خارج السجون والمعتقلات. لذا فإن هدف “أردوغان” من تلك الحملات ليس ملاحقة الخدمة بل إرهاب وتخويف الشعب التركي والترويج لحدوث انقلاب في أي وقت ليجد لنفسه ذريعة لاستمرار حملات الاعتقال والقمع، حيث إنه:

– “أردوغان” يتعامل بصفته رئيس حزب وليس رئيس دولة فهو يحيى ذكرى محاولة الانقلاب الفاشلة كل عام في 15 يوليو، وأعلنه “يوم الديمقراطية والوحدة الوطنية” وإجازة رسمية، ولكنه يتجاهل ذكرى مئات المواطنين الذين فقدوا حياتهم في محاولات انقلاب مماثلة أعوام 1980 و1997، لأنهم ليسوا من حزبه أو تياره السياسي وغالبيتهم كانوا اشتراكيون، شيوعيون، يساريون، ديمقراطيون؟!. وهذا التوصيف في حد ذاته يمثل اضطهاد وديكتاتورية من قبله ضد معارضيه.

شخصية “أردوغان” حاليا تتميز “بالاستبدادية”، فهو اليوم وفق الدستور الجديد رئيس الدولة ورئيس الحكومة، ورئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم، ورئيس جهاز الشرطة، والقائد الفعلي للجيش (بوصفه قائدًا عامًّا للقوات المسلحة). وبناءً على ذلك ومن الناحية السياسية فإن “أردوغان” يسيطر على السلطتين التشريعية والتنفيذية، ويتعامل على أنه “زعيم تركيا المطلق”، ورغم ذلك فإنه شعبيته بدأت تتراجع وربما يلجأ لتدبير “مسرحية انقلاب جديد” لاستقطاب الناخبين إليه مرة أخرى.

– يسعى “أردوغان” لشن الهجمات والاعتقالات ضد المعارضين للتغطية على المشكلات الداخلية، ويرى مراقبون أن السلطات التركية التي تعاني مصاعب اقتصادية وتدنت شعبيتها تعيد دائما ملف الانقلاب الفاشل لتبرير إخفاقاتها في الكثير من المجالات. كما تتبادل الاتهامات بين “أردوغان” وأحزاب المعارضة بالانضمام للحركة “كشماعة” لتبرير أخطاء الطرفين ـ هذا فضلا عن اتهام المعارضة التركية “لأردوغان” بتدبير الانقلاب.

مما سبق، نرى أنه إذا كانت حركة “الخدمة” مازالت مؤثرة في المجتمع فهذا دليل علي أن الحكومات والأحزاب التركية منذ 2016 فاشلة، ولم تستطيع الوصول للمواطنين وتحقيق مطالبهم. بيد أن “أردوغان” يرغب في استخدام الانقلاب “كفزاعة” لرفع شعبيته، لأن الانقلاب الحقيقي هو سيطرته على كافة السلطات بالدولة منذ 15 يونيو 2016 وهو “انقلاب مدني” لتكريس السلطة بيد “أردوغان”.