يحتل السفر مكانة مهمة في العقيدة والتقاليد الإسلامية فيما يتعلق بالتواصل مع الخالق. حتى إن أحد أركان الإسلام الخمسة تفرض على كل مسلم الحج إلى مكة إذا استطاع إليه سبيلاً. وبخلاف الحج، هناك مبدأ الهجرة، حيث يكون الشخص ملزمًا بالهجرة عند عدم القدرة على إقامة شعائر دينه بحرية، وهناك الزيارة أيضًا (عزيز، 2001: 153). طلب العلم من الغايات التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالسفر. يحث القرآن الكريم والسنة الشريفة المؤمن أن يرتحل في أرض الله ليزيد فهمه للخالق. وتضم آيات القرآن الكريم أمثلة عديدة تحض القارئ على الارتحال مثل: “فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ” (3: 137، 6: 11، 12: 109، 16: 36، 29: 20، 30: 9، 30: 2) (أوبن، 2006: 35)، وتُستخدم كلمة “رحلة” تحديدًا في سورة قريش (106: 2) في إشارة إلى رحلتي الشتاء والصيف اللتين قامت بهما قبيلة قريش شمالاً وجنوبًا، والخير الذي عادتا به (جيلينز، 1990: 53). وبالمثل، تأتي الأحاديث النبوية الشريفة لتدعم آيات القرآن، وتؤكد روايات كثيرة على ضرورة السفر وطلب العلم. قال النبي في حديث رواه الترمذي: “مَن خرَج في طَلَبِ العِلمِ، كان في سَبيلِ اللهِ حَتَّى يرجِعَ“. ومن الأقوال الأخرى المعروفة المنسوبة للنبي قول: “اطلبوا العلم ولو بالصين” (أوبن، 2006: 35، ونيتون، 1996: 7).
وهكذا، أدرك المسلم أهمية السفر بوصفه عبادة تقرب إلى مرضاة الله، وتأصلت هذه الفكرة في وعيه منذ وقت بعيد (جيلينز، 1990: 53). شهدت العصور الوسطى للإسلام ظهور نوع أدبي جديد مستوحى من كلمتي الرحلة والعلم هو أدب الرحلة في طلب العلم (نيتون، 2010). وسنبيّن كيف كانت هذه الكتابات مفيدة جدًا في فهم دوافع معلمي حركة كولن اليوم. تلقي هذه الدراسة الضوء على أوجه الشبه بين معلمي حركة الخدمة ونظرائهم في العصور الوسطى، استنادًا إلى 16 مقابلة أجريت مع معلمي الحركة المقيمين في الخارج. تناقش الدراسة مجموعة الأفكار المعقدة، المستمدة من تقاليد الرحلة، التي تدفع هؤلاء المرتحلين لأداء ما يقومون به.
تقاليد الرحلة
يُعتقد أن أدب الرحلات قد بدأ برحلة ابن جبير (1145-1217)، التي كانت نموذجًا لكل قصص الرحلات اللاحقة. صحيح أن السبب الرئيسي الذي دفع ابن جبير لبدء رحلته هو أداء فريضة الحج، تكفيرًا لذنبه بعد أن أجبره حاكم غرناطة الذي كان مساعدًا له على احتساء الخمر، لكن طلب العلم كان جزءًا مهمًا من رحلته الموثقة. توثق رحلته زياراته للمساجد والأضرحة والمجالس والقبور، ولقاءاته مع مختلف الشيوخ والعلماء. لهذا اختار الكثير من الرحالة الذين لحقوه أن يكون الهدف الأساسي لرحلاتهم أداء فريضة الحج. لكنها كانت في الأغلب ذريعة للانطلاق في رحلة تكشف عن عشق السفر ومجموعة أخرى من المساعي الدنيوية أو المبتذلة (نيتون، 1993: 46-47). ومن الأمثلة الكلاسيكية على ذلك رحلة ابن بطوطة (1304- 1368/9 أو 1377) خليفة ابن جبير. سافر لثلاثة أسباب: بوصفه حاجًا، وأستاذًا في القانون (الفقه والشريعة)، ومتصوفًا (مع إنه لم يلتزم كليًا بحياة الزهد الصوفية). ويرى روس دان (دان، 1993) أن رحلات ابن بطوطة ومشواره لا يختلف كثيرًا عن الروايات الموثقة جيدًا لرحالة آخرين من شمال إفريقيا، على غرار أبو محمد العبدري، ومحمد بن مرزوق، وابن خلدون.
لعل الهدف الأساسي لرحلاتهم، إلى جانب أداء الحج وطلب العلم، هو أن يكونوا “رجال الحدود”. كانوا روادًا مثقفين سافروا إلى أطراف العالم الإسلامي وعادوا بالعلم والمكانة العالية (دان، 1993: 63). كانت هناك مزايا عديدة للعب دور رجال الحدود؛ مثل 1- فرصة إيجاد عمل لم يكن متاحًا لهم من قبل في أوطانهم، 2- وفرصة اكتساب المنزلة العالية المرتبطة بطلب العلم من الخارج، 3- ونيل الاستحسان والتقدير لدى العودة للوطن، وبالتالي زيادة مراتب تقواهم، والتي تُترجم إلى منصب خاص بانتظارهم لدى عودتهم (وأغلب المسافرين يعودون). على سبيل المثال، مع أن ابن بطوطة كان عالمًا حياديًا، فقد طُلب منه العمل قاضيًا أثناء رحلاته، واحتفظوا له بمنصب كبير في مسقط رأسه المغرب ليشغله لدى عودته (دان، 1993: 32).
لعب رجال الحدود دورًا مهمًا في خدمة الإسلام، إلى جانب نيل بعض المزايا الشخصية. ففي فترة انتشار الإسلام، من القرن الثالث عشر حتى القرن الخامس عشر، حمل هؤلاء الرحالة “المتعلمون والمهذبون والعالميون إلى حد معقول” قيم الإسلام الأثري إلى أقاصي الأمة، وساعدوا في إضفاء طابع الصلاح الديني على الأنظمة الإسلامية حديثة التأسيس، مما أدى إلى تعميق الإحساس الجمعي بالهوية الإسلامية (جيلينز، 1990).
معلمو الخدمة بوصفهم ابن بطوطة العصري
يقتدي اليوم العديد من المعلمين أتباع حركة كولن بتقاليد الرحلة التي بدأها أجدادهم، فينطلقون إلى بلاد أخرى لإعلاء كلمة الله ورسوله، وليكونوا “رجال الحدود” الذين يخدمون إخوانهم. ويعتبرونه شكلاً آخر من أشكال الحج:
“أعلم أن الحج بمعنى التوجه إلى مكة أمر آخر. لكن النبي يقول في أحد أحاديثه إن خير الناس أنفعهم للناس. ربما شجعني هذا الحديث أن أذهب إلى هناك”. (أوزجور، معلم لغة إنجليزية، كازاخستان)
وبالمثل، يقول بولنت، الذي يعمل معلمًا للغة الإنجليزية في باكستان، إنه يتبع خطوات صحابة النبي، لينشر مهاراتهم ومعارفهم في جميع أنحاء العالم:
“قيل لنا فيما مضى، إن الناس في عصر الإمبراطورية العثمانية امتطوا خيولهم وسافروا إلى بلاد مختلفة، وهذا ما فعله صحابة النبي ؛ سافروا إلى بلاد مختلفة، وعلّموا أهلها الدين الجديد، وقضى أغلبهم نحبه هناك. مات آلاف الأشخاص في تلك البلاد. كان عملهم هذا لوجه الله، ليس لأي غرض آخر. عاشوا حياة فقيرة، في ظروف صعبة، وفعلوا كل ما بوسعهم، وبذلوا أقصى ما لديهم” (بولنت، معلم لغة إنجليزية، باكستان).
واصل بولنت حديثه، مشيرًا إلى أن التمثيل (ضرب المثل) في الخارج أهم وأعلى قيمة منه في الداخل، فمن الجيد السفر و”ضرب أفضل مثل ممكن” للأشخاص في الخارج، ونشر رسالة الحركة. ترجع الأهمية الكبرى لضرب مثل جيد في الخارج إلى أن البديل أسهل بكثير؛ وهو البقاء في تركيا. أو كما يقول: “شعرتُ أنها ستكون حياة رتيبة ومملة وروتينية، أعني العمل المريح في مدرسة حكومية”. لهذا اتبع بولنت خطوات أسلافه، مدفوعًا بالرغبة في المغامرة واختبار صلابته في وجه الصعاب:
يحتاج الأمر إلى قدر كبير من التفاني لأنها بيئة مختلفة. من الصعب التواجد في بيئة مع أشخاص أغراب، بعيدًا عن عائلتك وأصدقائك. هناك أصدقاء كثر هنا، وهي ميزة قيمة حقًا.
يَعتبر المعلمون الصعوبات والتضحيات جزءًا مهمًا من الرحلة. تحدث الكثيرون منهم عن المحن المختلفة التي واجهوها خلال إقامتهم بالخارج. داغستان معلم أحياء تركي قضى ثماني سنوات في قيرغيزستان. تحدث بالتفصيل عن الفقر والظروف الصعبة التي واجهها، وكيف تغلب على التحديات. حكى كيف كان من الضروري استخدام ثلاثة أجهزة تدفئة بسبب برودة الغرفة، وانقطاع الكهرباء عن المدينة بأكملها بعد الثامنة مساء. وبالرغم من كل الصعوبات التي واجهها، وصف هذه الفترة من حياته بأنها “أيام جيدة جدًا”، وقال إنه كان “فخورًا جدًا بالإقامة هناك.” كما تحدث آخرون عن العقبات اللغوية والثقافية، أو العمل بمقابل ضئيل أو دون مقابل لفترات طويلة:
“بالطبع كان الأمر صعبًا. كانت الطبيعة الجغرافية مختلفة، و[نظام] التعليم مختلفًا… على سبيل المثال، احتجنا إلى مترجم لنشرح لهم. وكانت هناك صعوبات أيضًا مرتبطة بعدم إتقان اللغة… ومشكلة التكيف مع البيئة والثقافة” (شتين، معلم أدب تركي، تتارستان).
“لم يحصل العديد من المعلمين هناك على أجر لعدة أشهر. عملنا هناك مقابل ثلاثمئة دولار أمريكي [شهريًّا] في تلك الفترة، ولم نتقاض الأجر في موعده ربما بعد مرور عشرة أشهر أو نحو ذلك” (أنيل، معلم لغة إنجليزية، كازاخستان وقيرغيزستان).
لم يكن نقص الأموال مستغربًا، خاصة في مدارس التعليم الأساسي التي كانت مجانية في الأغلب. حصل كل الطلاب في أول دُفعة صغيرة على منح دراسية، شملت رسوم الدراسة والمستلزمات، في حين انتظر المعلمون أن تأتي التبرعات من رجال الأعمال ليتقاضوا أجورهم. كان هذا هو الحال في أفغانستان وكازاخستان، وجاءت كل الأموال من شركات صغيرة مرتبطة بالحركة سواء محليًا أو من الخارج، وخاصة الشركات القائمة في تركيا وألمانيا. علاوة على ذلك، حتى عندما تقاضى المعلمون أجورهم، كثيرًا ما اضطروا للتخلي عنها لمصلحة طلابهم. على سبيل المثال، أعربت إحدى الخريجات في قيرغيزستان عن امتنانها لمعلمتها التي أعطتها كل مدخراتها لتتمكن من إكمال دراستها في تركيا: “عندما حضرتُ إلى تركيا… لم يتمكن والدي من دعمي ماديًا، وعرفت أن إحدى معلماتي دفعت كل [نفقاتي]، أعني نقود السفر، والتذكرة، ومصروفي. لم يتمكن والدي من فعل ذلك، وأعرف أنها في ذلك العام أعطتني النقود ولم تحضر إلى تركيا لأنها لم تمتلك أي نقود أخرى”. والأكثر غرابة قصة معلم تركي في مدرسة أفغانية تبرّع للمدرسة بأجره لمدة عشرة أشهر.
بالرغم من كل هذه الصعاب والتضحيات والحرمان، جاءت آراء المعلمين إيجابية بوجه عام حول قرار ترك الحياة المريحة في تركيا. أكد أنيل، ومن قبله داغستان، مرارًا وتكرارًا أنه بالرغم من الفقر والظروف الصعبة، فإن الثلاثة عشر عامًا التي قضاها في الخارج كانت “تجربة جيدة”.
ينبع هذا التأكيد واستعظام التضحيات من الركائز الصوفية للحركة. يحاول كولن بأفكاره المجددة أن يجد طريقًا وسطًا بين الإسلام التقليدي والصوفية التقليدية باستخدام فكرة “رجل الأفعال”. يتخلى رجل الأفعال من منظور كولن عن الزهد والإغراق فيه ليتبع رغبة روحانية داخلية تدفعه للعمل والاختلاط بالمجتمع. وتستند هذه الصورة إلى تأويلات منقّحة لمبدأين أساسيين متشابكين من مبادئ الصوفية هما: الخلوة والزهد. يجب عادة على سالك طريق التصوف الاختلاء لمدة 40 يومًا للتدريب على التحكم في النفس، التي تضم الغرائز الجسدية الدنيا (شيميل، 1975: 112). يستطيع الشخص في هذه الفترة تهذيب جسده، وكبح رغباته، وتركيز انتباهه على التأمل والصلاة في بيئة “تعتبر بوابة للتقرب إلى الله” (كولن، 1993: 2007أ). كما يجب على الشخص في فترة الخلوة أن يزهد في مأكله ومشربه ليتحكم في نفسه ويهذب احتياجاته الجسدية.
غير أن كولن يرى أن مبدأ الاختلاء قد تغير بمرور الوقت، ولم يعد من الضروري قضاء فترات اختلاء طويلة كنبي الله إبراهيم ، أو أربعين يومًا كما فعل محمد . ويستند في هذا الرأي إلى ما فعله الرومي، الذي اختلى مرات عديدة في بداية حياته لمدة أربعين يومًا، ثم توقف عن ذلك وبدأ في مخالطة الناس بمجرد أن عثر على معلم حقيقي (كولن، 2007أ: 17).
بدلاً من الخلوة، ينادي كولن بالزهد في الحياة اليومية، وهي وسيلة أخرى لنيل رضا الله. فالزهد بمعنى كبح الرغبات الجسدية كالجوع والعطش والنوم يساعد الشخص على “اكتساب التقوى والصلاح والقرب من الله” (كولن، 1994: 2007ب). علاوة على ذلك، يتحدث كولن في مقال الزهد الذي نُشر بمجلة “فاونتن” عن حاجة الأفراد الزاهدين إلى تحرير أنفسهم من الأطماع الدنيوية والرغبات الجسدية (كولن، 1994: 2007ب). وهذه الإشارة إلى الأطماع الدنيوية تعني على الأرجح الرغبة في جمع الثروة والمقتنيات المادية. يجب على الشخص ألا يشتهي هذه الأشياء ويجعلها محور حياته. قد تكون هذه الأفكار مذكورة بصورة ضمنية هنا، لكنه يتحدث عنها بوضوح في إحدى خطبه عن الشخص المثالي:
التضحية واحدة من أهم سمات الشخص الذي يعلّم الآخرين. إن الأشخاص الذين لا يضحون أو لا يستطيعون المخاطرة بالتضحية من البداية ليسوا أصحاب قضية. ولا يمكن أن ينجح الشخص الذي لا يتبنى قضية. إنهم الأشخاص المستعدون للرحيل بمجرد أن تستدعي الحاجة، وترك ثروتهم وحياتهم وأسرتهم ومنصبهم ومكانتهم وكل الأشياء التي يشتهيها الآخرون ويتخذونها هدفًا لحياتهم؛ لهذا فإن نجاح مساعيهم أمر حتمي وأكيد (كولن، كما جاء في إرجين، 2008: 179).
وبالتالي، فإن الهجرة إلى أرض غريبة، وتخلي المعلمين عن حياتهم المريحة وعائلاتهم وأصدقائهم ونقودهم، تشبه “شعائر العبور” الصوفية القديمة. يواجهون التحديات والصعاب عن طيب خاطر لأنها تمنحهم وسام الشرف الروحاني الذي يقربهم إلى الله، ويرفع مكانتهم ويزيد مراتب تقواهم في الحركة. أثبت كل مَن سافروا إلى الخارج تفانيهم للقضية، لهذا يمكن مكافأتهم مثل ابن بطوطة بمنصب جيد لدى عودتهم إلى الوطن (وأغلب معلمي الحركة يعودون). غالبية أولئك الذين يسافرون إلى الخارج خريجون جامعيون جدد، يعودون إلى وطنهم لشغل مناصب عليا في المدارس وغيرها من مؤسسات الحركة الكثيرة. على سبيل المثال، يشغل عدد كبير من المعلمين الذين قابلتهم منصب نائب المدير أو المدير في مدارس الحركة في تركيا، أو يعملون في دور نشر أو في مؤسسة الصحفيين والكتّاب. بعبارة أخرى، تساعد فترة التضحية المحدودة زمنيًا على دفع الأعضاء إلى الأمام، سواء على الصعيد الروحاني أو المهني. من الضروري أن أوضح أنني لا ألمح إلى أن هذه الدفعة المهنية هدفهم الأساسي، بل إنها ميزة إضافية أو نتيجة ثانوية لمساعيهم الروحية في رحلة طلب العلم ونشره.
بعد قول ذلك، أؤكد أن مكانة هؤلاء الرحالة الجدد في الحركة محفوظة. فقد أخبرني أحد المعلمين أنهم يحصلون على احترام وتقدير الجميع:
إنهم أشخاص مميزون، يُنظر إليهم باعتبارهم مميزين، ويتم تقديمهم باعتبارهم مميزين لأنها وظيفة صعبة. يقبل الجميع هذا الجانب من السفر، وظروف بعض البلاد التي يسافرون إليها تكون صعبة جدًا بالنسبة للأتراك، وأي شخص بوجه عام (لم تكن السنغال التي سافرتُ إليها كذلك). ربما تنحدر من عائلة من الطبقة المتوسطة أو أمامك فرص مختلفة متاحة في بلدك، لكنك تواجه الصعاب في تلك البلاد، لهذا فإن الأشخاص الذين يسافرون إلى هناك أرفع مكانة منا. هذا رأيي. يقدمون قدوة حسنة، فهم أشخاص مميزون ومقدرون (ميرف، معلم لغة إنجليزية، السنغال).
هناك عضو آخر في الحركة قضى سنوات طويلة في الخارج، ويشغل الآن منصبًا كبيرًا في جريدة زمان التركية. وهو يرى أن أولئك الذين لا يسافرون عبر البحار لأداء هذا الواجب يشعرون بالخزي، لأنهم أخفقوا في أداء واجبهم تجاه القضية. وبالتالي هناك نوع من المنافسة داخل الحركة لشغل هذه الوظائف في الخارج. تحدث الكثيرون عن مدى إعجابهم بالمدارس والدور الذي تقوم به، وكيف أرادوا أن يكونوا ضمن معلمي حركة الخدمة. بسبب هذه الرغبة القوية في أداء الخدمة في الخارج، يتم عقد مؤتمرات لكل مادة، والاقتراع لاختيار المعلم والبلد الذي سيذهب إليه. هذا ما حدث مع داغستان. بعد أن أتم دراسته الجامعية، حضر مؤتمرًا ضم جميع معلمي الأحياء للاقتراع على وظائف شاغرة في أمريكا الجنوبية ووسط آسيا. وكما يخبرنا: “يكون هناك اقتراع، سحبتُ ورقة ونظرت فيها [فوجدت] قيرغيزستان. فسافرت إلى قيرغيزستان… بهذه البساطة”. من خلال المشاركة في القرعة، نفذ داغستان نصائح قائد الحركة بيقين مطلق، واختار الخدمة قبل عائلته وأصدقائه وثروته، وهناك عدد كبير من المعلمين الذين ينتظرون بحماسة فرصة أداء هذا الواجب. على سبيل المثال، إبراهيم معلم محنك يعمل منذ تسع سنوات في مدارس الخدمة التركية في أنقرة، وما زال يأمل أن يحتذي بزملائه: “أتابع وضع المدارس هناك [أوروبا وروسيا]، لكنني لم أعمل معلمًا للغة الإنجليزية هناك… كم أود ذلك… إنه أمر مهم في رأيي، ولدى أصدقاء كثر عملوا في الخارج”.
الخاتمة
يمكن أن نرى أن هذا الواجب، الذي يشبه أداء فريضة الحج، يحقق لصاحبه نفس النتيجة التي حققها لرحالة مثل ابن جبير وابن بطوطة. فهو يشبع رغبتهم في المغامرة، ويمنحهم فرصة التعلم ومشاركة معارفهم، فضلاً عن تحقيق النمو الروحاني والمهني. ينمو المسافر روحانيًا من خلال تضحياته؛ بعد ترك عائلته وأصدقائه وحياته المريحة ونبذ السعي وراء الثروات المادية لمشاركة مهاراته ومعارفه وخدمة البشرية. ومن المزايا الثانوية لاختيار هذا الطريق المليء بالتضحية والصعاب نيل وسام الشرف الروحاني الذي يميز الشخص عمن سواه، ويجعله نموذجًا يحتذي به باقي أعضاء الحركة. فيحصل لدى عودته على التقدير والاحترام بفضل مكانته الجديدة، وتزداد مسؤولياته في حركة الخدمة في وطنه. من الضروري أن أوضح أنني لا ألمح إلى أن المكسب المهني هو الدافع الأساسي لتقديم الخدمة. بل تأتي المكانة العالية والوظيفة المريحة في مرتبة لاحقة بعد أداء الخدمة أو تقديم التعليم الجيد لباقي البشر.
قائمة المراجع
اتش عزيز (2001)، “الرحلة: نظرة عامة على السياحة والسفر في السياق العربي/الإسلامي”، في دي هاريسون (محرر)، “السياحة والعالم الأقل نموًا: قضايا ودراسات حالة”، المملكة المتحدة: دار نشر كابي.
آر إي دان (1993)، “الهجرات الدولية للمسلمين المثقفين في أواخر الفترة المتوسطة: حالة ابن بطوطة”، في آي آر نيتون (محرر)، “الطرق الذهبية: الهجرة والحج والسفر في إسلام العصور الوسطى والحديثة”، المملكة المتحدة: دار نشر كورزون المحدودة.
إم إيه إرجين (2008)، “شهادة التقليد على العصر الجديد”، نيو جيرسي: دار نشر توغرا بوكس.
آر إل أوبن (2006)، “رحلات إلى الضفة الأخرى: الرحالة المسلمون والغربيون في بحثهم عن المعرفة”، برينستون، نيويورك: دار نشر جامعة برنستون.
جيلينز (1990)، “البحث عن المعرفة في المجتمعات الإسلامية في العصور الوسطى: نهج مقارن”، في دي إف إيكلمان وجيه بيسكاتوري (محرران)، “الرحالة المسلمون: الحج والهجرة والخيال الديني”، لوس أنجلوس: مطبعة جامعة كاليفورنيا.
فتح الله كولن (1993)، HalvetveUzlet، مجلة “فاونتن”، العدد 14 (168). تم الوصول عبر http://www.kalbinzumruttepeleri.com/fethullah-gulen-kalbin-zumrut-tepeleri-1/1865-fethullah-gulen-kalbin-zumrut-tepeleri-halvet-ve-uzlet.html
فتح الله كولن (1994)، Riyazet، مجلة “فاونتن”، العدد 16 (190). تم الوصول عبر http://www.kalbinzumruttepeleri.com/fethullah-gulen-kalbin-zumrut-tepeleri-2/1909-fethullah-gulen-kalbin-zumrut-tepeleri-riyazet.html
فتح الله كولن (2007أ)، “مفاهيم أساسية في ممارسة الصوفية: التلال الزمردية نحو حياة القلب” (المجلد 1)، نيو جيرسي: دار نشر لايت.
فتح الله كولن (2007ب)، “مفاهيم أساسية في ممارسة الصوفية: التلال الزمردية نحو حياة القلب” (المجلد 2)، نيو جيرسي: دار نشر لايت.
آي آر نيتون (1993)، “التراكيب والإشارات الأساسية للغربة في رحلة ابن جبير”، في آي آر نيتون (محرر)، “الطرق الذهبية: الهجرة والحج والسفر في إسلام العصور الوسطى والحديثة”، المملكة المتحدة: دار نشر كورزون المحدودة.
آي آر نيتون (1996)، “طلب العلم: الفكرة والسفر في دار الإسلام”، أبينجدون: دار نشر كورزون في روتليدج.
آي آر نيتون (محرر) (2010)، “موسوعة الإسلام” (الإصدار الثاني)، ليدن: دار نشر بريل.
إيه شيميل (1975)، “الأبعاد الخفية للإسلام”، الولايات المتحدة الأمريكية: مطبعة جامعة نورث كارولينا.
الحاشية السفلية [1] من الأفكار الأخرى التي ربما أثرت في كولن في هذه النقطة هي ممارسة “الخلوة في الجلوة”، التي تتبعها الطريقة النقشبندية (شيميل، 1975).
الهوامش
أجريت هذه الدراسة قبل محاولة انقلاب 2016 المزعوم، والآن يتعرض هؤلاء المهاجرون لكل أنواع الاضطهاد والتنكيل، حيث لا يستطيعون العودة إلى بلادهم، وتطاردهم حكومة العدالة والتنمية وتطالب الدول التي يقيمون فيها بتسليمهم بدون أي سند قانوني، وتمارس أنواعًا مختلفة من الضغوط ضد الدول التي ترفض تسليمهم، وأحيانا تلجأ إلى إغراء بعض هذه الدول بمجموعة من الحوافز المغرية إذا وافقوا على تسليمهم وإغلاق مدارسهم ومؤسساتهم أو تسليم هذه المؤسسات لهيئات تابعة لهم بعد مصادرتها، وقد استجابت بعض الدولة ذات الأنظمة الهشة لهذه الضغوط والحوافز، ورفضت الأغلبية من الدول التعاطي مع النظام التركي في هذا الموضوع، نظرا للتاريخ المشرف لهؤلاء المعلمين في بلادهم، وكذلك الإسهامات التي قامت بها المدارس والمؤسسات الإغاثية والإنسانية والتربوية في المجتمع. ومن ثم لجأ النظام التركي إلى لون آخر من الاضطهاد حيث رفض تجديد جوازات سفرهم المنتهية صلاحيتها، ورفض أيضا تقييد مواليدهم الجديدة، وعاملتهم القنصليات في مختلف البلاد على أنهم مواطنون منبوذون، وصادرت الجوازات السارية عند أي تعامل لهؤلاء المواطنين الأتراك في القنصليات. راجع التقارير التي توثق كل هذه المعلومات على صفحة نسمات في الإنترنت من خلال هذا الرابط https://nesemat.com/reports/ (المحرر)، ومع ذلك ما زال هؤلاء المعلمون والمهاجرون من أجل خدمة الإنسانية ابتغاء مرضاة الله يؤدون أعمالهم بكل همة ونشاط رغم هذه المضايقات، ويعتبرون هذا فصلا من فصول المحنة التي تضاعف أجرهم، وتعلي قدرهم عند الله في الآخرة.