يتحفظ أولياءُ الأمور المسلمون في جنوب إفريقيا من تحرر المدارس العلمانية الخاصة وانفتاحها، وينتقد البعض النزعة الانتقائية في المدارس الإسلامية الخاصة. صحيح أن مدارس كولن علمانية، لكنها تحاول الموازنة بين احتياجات الفرد والمجتمع. فهي تركز على بناء الشخصية وغرس القيم الأخلاقية العالمية، وتوفر في ذات الوقت مستوى ممتازًا من التعليم يؤهل الطلاب ليكونوا مواطنين صالحين يفيدون المجتمع. تستقبل هذه المدارس كل الطلاب، بغض النظر عن قناعتهم الدينية، أو خلفيتهم الثقافية، أو حالتهم الاجتماعية الاقتصادية.

تتناول هذه الدراسة الفكر التعليمي لفتح الله كولن، وتطبيقه في إحدى المدارس في جنوب إفريقيا. ستحاول أن تبين مدى كفاءة المدرسة، من الناحية الأكاديمية وفي سعيها لنشر القيم الأخلاقية العالمية. تقدم مدارس كولن بديلاً للمدارس الإسلامية الخاصة والمدارس العلمانية الخاصة. فهي تختلف عن المدارس العلمانية في تركيزها على غرس القيم الأخلاقية، وتختلف عن المدارس الإسلامية في قبولها لكل الطلاب بغض النظر عن قناعاتهم الدينية. تقدم مدارس كولن خدمة للمجتمع من خلال نقل المعرفة إلى البشر، وغرس قيم أخلاقية مثل تحمل المسؤولية، والتسامح، والاحترام، والموثوقية، والتعاطف.

تنقسم هذه الدراسة إلى ثلاثة أجزاء رئيسية: أولاً، تتحدث عن مشكلة ثنائية التعليم في تركيا منذ عام 1924، وتوضح كيف حاول فتح الله كولن التوفيق بين العلم والدين. ثانيًا، تشرح النظرية التعليمية التي يتبعها فتح الله كولن، ولا سيما التعليم الأخلاقي، مع التركيز على دور المعلم بوصفه ناقلاً للعلم والقيم الأخلاقية للبشرية. ثالثًا، تناقش تطبيق نظرية كولن التعليمية، مع الإشارة إلى مدرسة ستار الدولية الثانوية في كيب تاون، وتتناول دوافع المعلمين، والمنهج الأخلاقي للمدرسة، والمشكلات التعليمية، والفرص المحتملة.

تأسست مدرسة ستار الدولية الثانوية -وهي أول مدرسة تركية- في كيب تاون عام 1999. ثم تأسست بعدها مدرستان، إحداهما في دربان (مدرسة ستار الدولية) والأخرى في جوهانسبرج (مدرسة هورايزون الدولية). وهي مدارس ثانوية علمانية خاصة، تدرِّس مناهج وزارة التربية الوطنية، وتقبل كل الأطفال، مسلمين كانوا أو غير مسلمين. قد يرجع أحد أسباب نجاحها الهائل في تركيا إلى رؤية التربويين المستمدة من رؤية فتح الله كولن. تعتزم الدراسة التعمق في استكشاف هذه الرؤية، وشرح طريقة تطبيقها في جنوب إفريقيا. تستقبل المدارس التي تتبع النظام التركي الطلاب من مختلف الأديان، والأعراق، والمستويات الاجتماعية، والخلفيات الثقافية. تشجع المدارس تنمية القيم الاجتماعية مثل الاحترام، والتعاون، والتسامح، وإعداد الطلاب للانضمام إلى مجتمع تعددي ديمقراطي. كما توفر المدارس للأقليات المسلمة فرصة غرس القيم الأخلاقية لدى الطلاب في بيئة غير دينية، وتيسير انضمامهم إلى مجتمع غالبيته مسيحية. يمكن محاكاة هذا النموذج في أي دولة أخرى حيث يشكّل المسلمون أقلية. فهو يؤكد على إمكانية حفاظ الشخص على هويته الإسلامية الخاصة، والاندماج في مجتمع واسع في الوقت ذاته.

لا تدرَّس القيم الأخلاقية في مواد مستقلة مثل “مبادئ الحياة الصحيحة” أو “الإرشاد”. فحصر الأخلاق في حدود مادة تدرَّس مرة واحدة في الأسبوع دليل كافٍ على الإخفاق الأخلاقي.
بل يجب أن ترسم الأخلاق معالم رؤية المدرسة ومنهجها، وأن تتكامل مع دروس الصف، بل أن يعيشها المعلمون ويمارسونها.

ثنائية التعليم في تركيا

أوضح نظام الفكر الكمالي منذ عام 1924 أن مشكلة تركيا تكمن في الدين، وأنه السبب في إهمال العلم وتأخر تركيا. وبالتالي، فقد شجع طلب العلم، لكن على حساب الدين والإنسانية. استطاعت الدولة العلمانية أن تُبعد الدين عن السياسة ونظام التعليم العام. فظل الدين شأنًا خاصًا، وأصبح النظام التعليمي علمانيًا، مع تخصيص حصة واحدة أسبوعيًا في المنهج الدراسي للتعليم الديني، وذلك في حال مطالبة أولياء الأمور بذلك.

على الجانب الآخر، لم يثق أنصار الدين في نظام التعليم العلماني الجديد، وتجنبوه تمامًا، وواصلوا تأييد التعليم الديني. لكن خريجيهم تعرضوا للتهميش، ولم تُتح لهم فرصة تقديم إسهامات مهمة في المجتمع المدني. أدرك الفيلسوف الإسلامي التركي سعيد النورسي (المتوفى عام 1960) مشكلة ثنائية العلماني والديني، وحاول حلها من خلال التوفيق بين الدين والعلم. لا يوجد ما يمنع المسلم المتدين من الاهتمام الشديد بالعلم، فالإسلام يحث على التدبر والتفكر في الطبيعة. فكرّس النورسي رسائل النور للتوفيق بين العلم والدين، وعارض فلسفة الوضعية العمياء للعلم، وشجع المسلمين عوضًا عن ذلك على محاولة الفهم الحقيقي للعلم. رأى النورسي أن العلم هو دراسة قوانين الطبيعة، وبالتالي إبداع الخالق.

تأثر فتح الله كولن بأفكار معاصره الأكبر سنًا سعيد النورسي في رسائل النور، وشجع مثله التوفيق بين العلم والدين. فهو يرى أن تعليم العلوم وتعليم الدين أمران متوافقان يكمل أحدهما الآخر. صحيح أنه درس في مؤسسات تعليمية تقليدية، فقد شجع أتباعه على افتتاح مدارس عصرية بدلاً من المدارس الدينية والمساجد التقليدية. فهو يرى، كالنورسي، أن التعليم المثالي يجمع بين العلم الحديث والمعرفة الإسلامية. العلم في غياب الدين قد يقود المرء إلى الإلحاد، والدين في غياب العلم قد يقوده إلى التعصب والتطرف. والجمع بينهما يحفز الطالب على إجراء مزيد من البحث، وتعميق معتقداته ومعارفه (كورو، 2003: 120، ويلماز، 2005: 204).

ويضيف أن العلم والتكنولوجيا لا يمكنهما شرح معنى الحياة ومغزاها، وقد يضرّان بالبشرية إذا تلاعب بهما أشخاص متحيزون غير مسؤولين. لا يستطيع العلم أن يوفر السعادة الحقيقية، أو أن يحل محل الدين. كما يؤكد أن تطور الفيزياء في القرن العشرين قضى على فلسفة وضعية العلم (كورو، 2003: 120).

غير أن كولن، خلافًا للنورسي، شجع هذا التصالح من خلال تشييد المدارس في جميع أنحاء العالم. ولم يعن ذلك حينها أسلمة المعرفة بالصورة التي نراها اليوم. لم تكن هناك أي محاولة لبث عناصر إسلامية في المناهج العلمانية. بل اقتصر هدفه على إعداد معلمين مسلمين ملتزمين يتقنون العلوم المختلفة. يساعدهم التعليم على “تربية جيل تترسخ فيه تعاليم الإسلام، قادر على تقديم إسهاماته في عالم العلوم المعاصر. إنه يطمح لبناء نخبة مثقفة في الأمة الإسلامية بوجه عام، وفي البيئة التركية بوجه خاص” (أجاي، 2003: 50). يؤهل التعليم عالي المستوى المسلمين المتدينين لشغل مناصب اقتصرت في السابق على أتباع النظام الكمالي. بالطبع أوقع ذلك كولن في مشكلة مع الدولة. كيف يستطيع رجل متدين التوفيق بين العلم والدين؟ كان هذا تحديًا للدولة التركية العلمانية التي حاولت تقويض دور الدين في الشؤون العامة على مدار ما يقرب من قرن.

يرى كولن أن المدارس العلمانية الحديثة لم تنجح في تحرير نفسها من التحيزات والأعراف الخاصة بالأيديولوجية الحديثة، في حين أبدت المدارس الدينية اهتمامًا ضئيلاً أو قدرة محدودة على مواجهة تحديات التكنولوجيا والفكر العلمي. تفتقر المدارس الدينية إلى المرونة والرؤية والقدرة على التخلي عن الماضي، وإدخال التغيير، وتقديم تعليم يلائم العصر الحالي. يكمن التحدي الآن في الجمع بين نقاط قوة التعليم التقليدي والتعليم الحديث. يجدر بالشباب أن يسمو فوق نظام التعليم الحالي الذي يصرف انتباهه عن المعرفة واستخدام العقل. كذلك شجع كولن تعليم النساء واتباع المعايير العالية في تعليمهن (مايكل، 2003: 72، ويلماز، 2005: 203-204).

يستطيع المتعلمون، بمساعدة التعليم المتوازن، أن يصبحوا رواد التغيير الإيجابي، لكن إذا افتقروا إلى المثل العليا والمهارات المطلوبة، فسيكونون عبئًا إضافيًا يزيد أزمة المجتمع. يبدو أن المثقفين يفضلون “الثقافة الحديثة المهووسة بالتكنولوجيا التي تفتقر إلى الروحانيات، على الأسس الثقافية التقليدية التي تطورت على مر القرون بمهارة ودقة” (مايكل، 2003: 74). لا شك أن تدريب المعلمين أمر ضروري؛ ليس فقط على مناهج التدريس، بل على تربية الطفل بكل جوانبه. يجب أن يكون المعلم قدوة، أو لن يكون لديه أمل في إصلاح الآخرين. يقول كولن: “حتى تجذب الآخرين للسير في الطريق إلى عالم أفضل، يجب أن يطهروا عالمهم الداخلي من الكره والضغائن والغيرة، ويزينوا عالمهم الخارجي بكل أنواع الفضائل” (مايكل، 2003: 78). وبالتالي يجدر بالمعلمين أن يجمعوا بين دراسة العلم وتنمية الشخصية. يجب أن يُقاس النجاح بالتقدم المحرز في الجانبين العلمي والأخلاقي، لأن التقدم المادي وحده في غياب الأخلاق كفيل بالقضاء على البشرية.

لعل الهدف الأسمى للقضاء على ثنائية التعليم هو بناء “الجيل الذهبي” المسلح بأدوات العلم والدين. سيكون هذا الجيل الجديد، الذي يجمع بين المعرفة والقيم الإنسانية، قادرًا على حل مشكلات المستقبل (أجاي، 2003: 57). يعلمنا الإيمان كل ما هو طيب ومفيد، وبالتعاون مع العلم، يمكنه أن يفيد البشرية. لاقت هذه الفكرة التأييد بعد عام 1980، واعتُبر هذا النهج المتكامل (أجاي، 2003: 57) بديلاً أفضل من التعليم الكمالي، الذي يميل إلى تقويض الدين، وإبعاد النخبة العصرية عن أصولها التقليدية (أجاي، 2003: 58).

يشير يلماز إلى نسخة الدولة الرسمية من الإسلام ويطلق عليها “إسلام لوزان”، والتي تعني فصل الدين عن الدولة، غير أن النسخة التركية من “إسلام لوزان” متناقضة إلى حد ما، في محاولتها إبعاد الدين عن الحياة العامة عن طريق وضعه تحت إشراف الدولة. وبناء على ذلك، بالرغم من جواز التعليم الديني بموجب الدستور، فإنه يتحكم في تقديمه للمتعلمين (يلماز، 2005: 389). وهكذا لا يتخلص النظام الكمالي من مادة الدين من المنهج كليًا فحسب، بل يتحكم فيها بما يحقق مصلحته. على النقيض من ذلك، تزاول مدارس كولن عملها بصورة مستقلة عن الدولة؛ فتتحداها بطريقة غير مباشرة، عندنا تبين أن التقدم ليس حكرًا على العلمانيين، وأن المعلمين المتدينين متقدمون أيضًا.

قد تكون النظرية التعليمية مأخوذة من فتح الله كولن، لكن وضع المنهج وإدارة المدارس متروك للتربويين. كذلك لا يلعب التجار الأتراك أي دور في إدارة المدارس، ويتركون اتخاذ كل القرارات التعليمية للمديرين والمعلمين. يأتي التمويل من تركيا؛ من التجار الأتراك المحليين الذي يقيمون في جنوب إفريقيا، وبعض الشركات في جنوب إفريقيا (مقابلة مع كمال الدين أوزدمير، مايو 2006). يرى كولن أن دور التعليم إعداد المتعلمين ليكونوا مواطنين وأشخاصًا صالحين. تحرص المدارس الجيدة على غرس الفضائل في الطلاب، ومساعدتهم على الارتقاء بعقولهم وأرواحهم. المعلم الحقيقي هو الذي يغرس البذور ويتعهدها بالرعاية. ومن واجبه أن ينشغل بالأشياء الطيبة والمفيدة، وأن يرشد الطفل إليها.

نظرًا للتوجه العلمي لمدارس كولن، فإنها تحرص دائمًا أن تكون مجهزة بأفضل المختبرات وغرف الكمبيوتر. فهدفها أن يبرع الطلاب في هذه المجالات، لتحسين مستوى المدارس العلمي. غير أن الإنسانيات والأدب لا تلقى نفس القدر من الاهتمام.

لا يرى كولن أي تعارض بين القرآن والكون؛ فالكون يعكس دلائل وجود الله. لا يتعارض الدين مع العلم والبحث العلمي أو يحد منهما؛ بل إنه يوجّه العلوم، ويحدد أهدافها، ويكسوها بالقيم الإنسانية (كولن، 2002: 80-81). وبالتالي فإن السعي لطلب العلم متوافق مع تعاليم القرآن، ويزيد الإيمان، شريطة أن يوجهه الدين. غير أن الدين أسمى من العلم، لأنه يعد الفرد للعالم الأبدي، في حين يعده العلم لعالم زائل. حتى يفيد العلم الإنسانية يجب أن يوجهه الإيمان. الحقائق الدينية أسمى لأنها مطلقة، لكن الحقائق العلمية نسبية ومتغيرة على الدوام. والحقائق العلمية المذكورة في القرآن لا يُفترض أن تكون غايات في ذاتها، بل أن تخدم هدفًا أكبر وهو الدين، الذي يعد مصدر الإرشاد الروحي والأخلاقي للبشرية. إذا تعارضت إحدى الحقائق العلمية مع حقيقة دينية وفشلت كل جهود التوفيق بينهما، فعلينا أن نقف في صف الحقيقة الدينية. حقائق الدين المطلقة هي الفيصل عند الحكم على الحقائق العلمية (باكار، 2005: 362-363).

فلسفة فتح الله كولن التعليمية

يركز كولن على بناء الشخصية بوصفه جزءًا لا يتجزأ من فلسفته التعليمية، ويستند تعريفه للشخصية إلى الفكرة الإنسانية الكلاسيكية عن الروح.

سيكولوجية الروح

معرفة الروح هي مفتاح بناء شخصية تتحلى بالأخلاق والفضيلة. يتبنى كولن فكرة ثلاثية الروح لأفلاطون، ويعتبرها الأساس لشرح سيكولوجية الإنسان، والأصل الذي يستند إليه منهجه في تعليم الأخلاق. يتحدث كولن عن الجوانب الثلاثة للروح، متأثرًا بمسكويه (المتوفى عام 1030)، ويوضح أنها العاقل والنزق والشهواني، وتمثّل الحكمة والغضب والشهوة. عند إدارة هذه الجوانب الثلاثة بحكمة، فإنها تجلب الشجاعة والحكمة والعفة بالترتيب. وعند إدارتها بحكمة، فإنها تجلب العدالة. وهذه الفضائل الأربع هي جوهر المبادئ الأخلاقية للروح. يتحكم الجانب العاقل في الجانبين الأقل منه. وإذا تلقّى التربية الملائمة، فسينجح في إدارة (وليس القضاء على) الشهوة والغضب، لأنهما مهمان ومفيدان. يقول كولن، استكمالاً لهذه الرؤية المتفائلة للطبيعة البشرية:

“يجب ألا نسعى للقضاء على غرائزنا، بل أن نستخدم إرادتنا الحرة لاحتوائها وتطهيرها، لتوجيهها وإرشادها إلى طريق الفضيلة. على سبيل المثال، لا يُفترض بنا التخلص من شهوتنا، بل أن نشبعها بطريقة مشروعة من خلال التكاثر. تكمن السعادة في اتباع القيود الشرعية للياقة والعفة، وليس الانغماس في الملذات والفجور. وبالمثل، يمكن تحويل الغيرة إلى منافسة خالية من البغض تلهمنا أن نقتدي بالأشخاص الذين يُكثرون من الفضائل وفعل الخير. يساعدنا تأديب وتهذيب عقولنا على اكتساب المعرفة، والفهم أو الحكمة في النهاية. إن تدريب النفس على السيطرة على الغضب يولّد الشجاعة وقوة التحمل. وتهذيب الشهوات والرغبات يولّد العفة” (كولن، 2002: 60، وكولن، 2006: 203-204).

تقع على عاتق المعلم مسؤولية تربية الطفل، عقلاً وروحًا. عندما نسمو فوق رغباتنا الحيوانية بمساعدة العقل، نرتقي إلى مرتبة البشر. يحتل الإنسان مكانة متوسطة بين الحيوانات والملائكة، فهو ليس حيوانًا بالكامل لأنه يتمتع بالعقل، وليس ملاكًا بالكامل لأن لديه رغبات، وهذا ما يمنحه السعادة في الحياة الدنيا والآخرة. ولهذا فإنه يحتاج المعرفة، وهي رغبة متأصلة فيه. بخلاف الحيوانات التي تتعلم بالغريزة، لا ينضج الإنسان إلا باكتساب المعرفة بمرور الوقت. يقول كولن:

“نحن نولد عاجزين، وجاهلين بقوانين الحياة، ولا بد أن نصرخ طلبًا للمساعدة التي نحتاجها. وبعد مرور عام أو أكثر، نستطيع الوقوف على أقدامنا والمشي قليلاً. وعندما نبلغ 15 عامًا، من المفترض بنا أن ندرك الفرق بين الخير والشر، والنافع والضار. لكننا نستغرق حياتنا بأكملها لنحقق الكمال الفكري والروحي. مهمتنا الرئيسية في الحياة الوصول إلى الكمال والنقاء في تفكيرنا ومفاهيمنا ومعتقداتنا. من خلال الوفاء بمقتضيات عبوديتنا للخالق الرازق الحفيظ، ومن خلال سبر أغوار معجزة الخلق بمساعدة قدراتنا ومداركنا، نسعى للوصول إلى مرتبة البشر بحق، واستحقاق حياة النعيم الأبدي في الآخرة” (كولن، 2002: 58، وكولن، 2006: 202).

قد نحتاج إلى 20 عامًا لتعلم ما يتعلمه عصفور في 20 يومًا. لا يولد الحيوان ليتعلم، على عكس البشر. وقد يقضي الشخص حياته بأكملها “للوصول إلى نقاء الفكر والمخيلة والعقيدة” (كولن، 2002: 79، وكولن، 2006: 195). وكما أشرنا سابقًا، فإن تهذيب غرائزنا الدنيا مفتاح إنسانيتنا. وهو ما يتطلب كمال الروح للهرب من “سجن” غرائزنا الدنيا. ولا يتحقق كمال الروح إلا بالتعليم، الذي يشمل العقيدة والعبادة.

نحن مخلوقات لا يقتصر تركيبها على الجسم، أو العقل، أو المشاعر، أو الروح، بل نحن مزيج متناغم من كل هذه الجوانب. يمتلك كل شخص منا الجسم باحتياجاته المختلفة، والعقل باحتياجاته الأكثر دقة وأهمية، تدفعه مخاوف الماضي والمستقبل للبحث عن إجابات أسئلة مثل: “من أنا؟ ما هذا العالم؟ ماذا تريد الحياة والموت مني؟ من الذي أوجدني في هذا العالم ولماذا؟ ما مصيري وما الهدف من الحياة؟ من دليلي ومرشدي في هذه الرحلة الدنيوية؟” أضف إلى ذلك أن كل شخص لديه المشاعر، التي لا يشبعها العقل، والروح التي تمنحه هويته الإنسانية الأساسية. كل فرد منا هو مجموع هذه الجوانب. إذا نظرنا إلى أي رجل أو امرأة، هو محور كل الأنظمة والجهود، وسعينا إلى تقييمه كمخلوق يمتلك كل هذه الجوانب، فإنه عند تلبية كل احتياجاته، سيصل إلى السعادة الحقيقية. وبالتالي، لن يتحقق التقدم الإنساني وتطور الذات إلا بالتعليم” (كولن، 2002/ 78، وكولن، 2006: 194).

التعليم المنزلي

يبدأ التعليم في المنزل، وما المدرسة إلا امتداد للمنزل. لا يقتصر دور المعلم على تقديم المعلومات فحسب، بل إنه يربي الشخصية بجانبيها العقلي والانفعالي. والشخصيات القويمة هي التي تبني مجتمعات قويمة، لهذا يجب أن يكون الآباء والمعلمون قدوة للأطفال. تبدأ كل الجهود بالمعرفة.

يعتمد مستقبل الأمة على شبابها. وإذا أراد أي شعب أن يؤمّن مستقبله، فعليه تسخير كل جهد ممكن لتربية أطفاله كما يفعل مع مشكلاته الأخرى. …إن ظهور الرذائل في الجيل الجديد، إلى جانب عدم كفاءة بعض المسؤولين وانتشار مشكلات أخرى على نطاق الأمة، راجع إلى الظروف السائدة والصفوة الحاكمة على مدار الـ 25 عامًا الماضية. وبالمثل، فإن الأشخاص المكلّفين بتعليم الصغار حاليًا سيكونون مسؤولين عن الرذائل التي ستظهر بعد 25 عامًا. إذا أردنا التنبؤ بمستقبل أمة، فيمكننا النجاح في ذلك بالتعمق في دراسة نظامي التربية والتعليم للصغار. لا تُعتبر الحياة “حقيقية” إلا بالمعرفة. لهذا يمكن اعتبار أولئك الذين يهملون التعليم والتدريس “أمواتًا” برغم حياتهم، لأننا خُلقنا لنتعلم ونتبادل المعارف مع الآخرين. يعتمد اتخاذ قرارات صائبة على سلامة العقل والقدرة على التفكير. ينير العلم والمعرفة العقل ويساعدانه على النمو والتطور. لهذا فإن العقل المحروم من المعرفة لا يستطيع اتخاذ قرارات صائبة، ومُعرض دائمًا للخداع، ويسهل تضليله” (كولن، 2002: 62، وكولن، 2006: 205).

الآباء مسؤولون عن تنمية عقول أطفالهم. لهذا من الضروري اختيار شريك الحياة المناسب بحكمة. ويجب تقديم الأخلاق على الثراء والجمال.

يمكن أن يتلقى الأطفال التعليم الجيد في المنزل، شريطة أن يحظوا بحياة أسرية صحية. لهذا فإن الزواج يجب أن يهدف إلى تأسيس أسرة صحية، تسهم في بقاء الأمة بوجه خاص، والجنس البشري بوجه عام. إرساء السلام والأمان والسعادة في المنزل اتفاق مشترك بين الأزواج المتوافقين في الأفكار والأخلاق والمعتقدات. إذا أقدم اثنان على الزواج، فيجب أن يعرف أحدهما الآخر حق المعرفة، وأن يقدّم نقاء المشاعر والعفة والأخلاق والفضيلة على الثراء المادي وجمال الشكل. تكشف وقاحة الأطفال وتصرفاتهم السيئة حقيقة البيئة التي تربوا فيها. تنعكس الحياة الأسرية المختلّة على روح الطفل بشكل متزايد، وبالتالي على حياة المجتمع. يجب أن يملأ الآباء عقول أطفالهم بالمعارف والعلوم قبل أن تمتلئ بأشياء غير نافعة، لأن الأرواح التي تفتقر إلى الحقيقة والمعرفة بيئة خصبة للأفكار الشريرة (كولن، 2002: 72، وكولن، 2006: 207).

المعلم: أخلاقياته ومهنته

لا بد أن يتحلى المعلم برؤية متكاملة ليتمكن من تهذيب قلوب وعقول الطلاب بطريقة متوازنة. ليس الهدف إجراء تغيير جذري في تقاليد الماضي، لأن هذا من شأنه تنشئة جيل عصري بدون أخلاق. لا يكفي النجاح المادي وحده في السوق العالمية، بل لا بد من وجود بعض القيم المعنوية مثل وضوح الفكر والتعاليم الأخلاقية. يجب ألا يكون هدف المدرسة تخريج أشخاص جشعين، بل أشخاص كرماء. لا بأس بتقاضي الأجر، لكن الهدف الرئيسي يجب أن يظل خدمة البشرية.

انصب تركيز المناهج الدراسية في الدول الغربية مثل الولايات المتحدة الأمريكية على إعداد الطلاب لحياة مهنية تعود عليهم بالنقود، لا ليكونوا أشخاصًا متدينين أو ذوي مبادئ أخلاقية. جمع المال في ذاته هدف خاطئ. يجب ألا يكون طلب العلم والمعرفة مدفوعًا بأهداف نفعية، بل بهدف إثراء الشخصية. ينبغي ألا تكون المدرسة مكانًا لتدريس القيم الأخلاقية في حصة واحدة في الأسبوع، بل أن تكون الأخلاق جزءًا من منهج المدرسة، وأن يحرص المعلمون على غرسها في طلابهم.

يؤكد كولن في جميع كتاباته أن المعرفة يجب أن تكون مقترنة بالحب. تقع المعرفة في نطاق العلوم، وتوفر للطلاب القدرات الفكرية اللازمة لنفع الآخرين؛ لكنها لن تفيد البشرية إلا إذا اقترنت بالحب، وهو “أسمى عناصر الإنسان” (كولن، 2002: 41). يعني كولن بالحب هنا الاستعداد للتضحية بالنفس، والعمل من منطلق طاعة الله المطلقة وحرصًا على الآخرين وليس طمعًا في منفعة. يستتبع هذا الحب نكران الذات والرغبة في تغيير الحياة على الأرض (يافوز، 2003: 34). هذا الحب هو أساس التعليم. لهذا فليس كل المعلمين مربّين. يؤكد كولن (2004) أن “التعليم مختلف عن التدريس. يستطيع أغلب الأشخاص القيام بالتدريس، لكن قلة تستطيع التعليم” (ص. 208). يقتصر التدريس على نقل المعلومات، لكن التعليم يشمل تقديم المعرفة والتوجيه الأخلاقي. ينشغل المعلم الحقيقي بالأشياء الطيبة والمفيدة (كولن، 2004: 208).
التعليم مهمة “مقدسة” تحقق نتائج إيجابية. ينقل المعلمون المعرفة بحكمتهم ويقدمون التوجيه الأخلاقي بضرب المثل. والهدف من ذلك تنشئة “جيل ذهبي” تتكامل فيه الروحانية والمعرفة، القلب والعقل (كولن، 1998، وكولن، 1996).

تتم عملية اختيار المعلمين بعناية، ويُفضَّل خريجو مدارس كولن لأنهم أكثر استعدادًا لبذل الوقت والجهد. تجذب بعض الدول المعلمين من أجزاء معينة في تركيا. على سبيل المثال، تجذب مدارس تركمانستان المعلمين من خريجي مدرسة تورجوت أوزال الثانوية العريقة في تركيا.

يجب أن ينصب التركيز على ضرب المثل، لا الوعظ. ينفّر الوعظ الأشخاص ولا يجذبهم (بالجي، 2003: 10-16). ينجذب الأشخاص إلى المثل الحي، لا إلى السرد. لا بد أن يكون المعلم تجسيدًا للقيم العالمية، وأن يعرف طلابه جيدًا، ويتمتع بالقدرة على إثارة عقولهم وقلوبهم (أصلان دوغان وشيتين، 2006: 37).

قال أحد الطلاب من قيرغيزيا إنه يحب المدرسة لأنها تغرس فيه القيم الأخلاقية والنظرة الإيجابية للدين. يريد المعلمون الأتراك خدمة تركمانستان وقيرغيزستان، وسرعان ما يعتادون لغة الطلاب وثقافتهم. يدعم الآباء المدرسة بفضل مستواها الأكاديمي العالي، وتفاني المعلمين الذي يشاركونهم الثقافة العامة (بالجي، 2003: 10).

لابد أن يصقل المعلمون عقولهم وقلوبهم ليتمكنوا من مساعدة الطلاب على تكوين رؤية واضحة لحقيقة الأمور. يجب أن تقود المعرفة الطلاب إلى تقدير الخلق، ومن ثم تقدير الخالق.

تأسست هذه المدارس وفقًا لنموذج المدارس الثانوية الأناضولية، وهي مجهزة بأحدث المعدات التكنولوجية والمختبرات، وتدرّس مناهج وزارة التربية الوطنية. ولا تقدم أي مواد دينية للطلاب. وتُطبَّق جميع الأنشطة في إطار القوانين السارية والفلسفة التعليمية لكل دولة. على سبيل المثال في أوزبكستان، بعد أن يتعلم الطلاب اللغتين التركية والإنجليزية في المرحلة الابتدائية، يدرسون العلوم باللغة الإنجليزية على يد معلمين أتراك، والمواد الاجتماعية باللغة الأوزبكية على يد معلمين أوزبك. ولا يدرسون المواد الدينية لأنها ليست ضمن الأهداف (كولن، 2002: 87).

يرى كولن أن المعلم يؤدي عملاً مقدسًا، وهو شخص مُبارك حتى إن كان يدرّس مواد دنيوية. العالم مكان مقدس؛ حتى المدرسة التي تدرّس ما يُطلق عليه العلوم الدنيوية (كولن، 1998ب: 17). يؤدي المعلم واحدة من أسمى الواجبات في الإسلام؛ الخدمة، التي تنطوي على الخدمة الدينية والوطنية (أجاي، 2003: 59). تنفع هذه الخدمة المقدمة للآخرين المرء في الحياة الآخرة. غير أنه يجب مراعاة الحذر عند تقديم هذه الخدمة بدافع ديني. يجب عدم الخلط بين تطبيق القيم الأخلاقية وتطبيق الدين. يجدر بالمعلمين التحلي بحسن التقدير والحكمة أثناء التدريس. لا تلزم الحكمة عند تعليم المناهج فحسب، بل أيضًا عند نشر القيم الأخلاقية. ففي غيابها، قد يأخذ الأشخاص الانطباع الخاطئ، ويعتقدون أن المعلم يحاول الدعوة إلى الإسلام.

أغلب الطلاب في جوهانسبرج من الأفارقة المسيحيين، وفي دربان أغلبهم من الهنود الهندوس، وفي كيب تاون نصف الطلاب من المسيحيين الملونين ونصفهم من المسلمين. لن يكون من الحكمة محاولة الدعوة إلى الإسلام علانية في مدرسة علمانية تضم طلابًا من مختلف الخلفيات الدينية. قد يؤدي ذلك إلى تنفير الطلاب والآباء غير المسلمين، وقد تفقد المدرسة دعم غير المسلمين. القيم الأخلاقية مشتركة بين جميع الأديان، ولن تنفّر الطلاب غير المسلمين. لهذا فإن المنهج الأخلاقي أحد أهم مزايا المدرسة.

يستمد المعلمون الإلهام من نظرية كولن التعليمية برغم عدم وجود علاقة تربطهم به مباشرة، نظرًا لخضوع كل مدرسة لإدارة مستقلة. بالطبع يُطلب رأي المربّين الأتـراك على المستوى الوطني، بهدف رفع الكفاءة الإدارية ومستوى التفوق الأكاديمي.

تنطبق فكرة الهجرة على المعلمين. المؤمن الحقيقي مستعد دائمًا للهجرة. فقد يُطلب من المعلم بعد عدة سنوات من الخدمة أن ينتقل إلى مدرسة في منطقة أو دولة أخرى، لسبب أكاديمي أو عملي. قد يُطلب من معلم الفيزياء الانتقال إلى مدرسة أخرى أكثر احتياجًا إليه، أو قد يُنقل إلى مدرسة تواجه الكثير من التحديات لشعوره بالسأم والملل في مدرسته الحالية. تتوافق هذه الدواعي مع مفهوم الهجرة. إذا عمل معلم في مدرسة لمدة عقد كامل، فسيزيد تعلقه المادي بالمدرسة والمنزل والأصدقاء. وإذا طُلب منه الانتقال إلى مدرسة أخرى فسيشعر بالتردد. لكن إذا عمل لمدة خمسة أعوام فقط، فسيكون من السهل عليه الإقدام على خطوة الهجرة.

العمل واجب ديني (الخدمة) نظرًا لأن الشخص يعيل عائلته ويتصدق على فقراء مجتمعه. إنها خدمة ومهمة مقدسة، لأن الله وحده ييسر الشخص لما خُلق له. لكن يجب تجنب إهدار النقود التي كسبها الشخص من عمله وتبذيرها.

تنتفع المدرسة من هذه الأخلاقيات في العمل بطريقتين. يقدم التجار الدعم للمدرسة من الخارج والمعلمين من الداخل. ينظر المعلمون المتفانون إلى مهنتهم بوصفها واجبًا دينيًا (أجاي، 2003: 59-61).

من خلال تقديم المعرفة، ولو لغير المسلمين، فإن هؤلاء المعلمين يخدمون الإسلام لأنهم يفيدون البشرية. يستطيع الطلاب أن يتعلموا من المعلمين الأتراك وسائل تطبيق المعرفة بطريقة صحيحة ومفيدة. يثق الآباء في المعلمين لأنهم مسلمون أتقياء يعلّمون أبناءهم بأسلوب يتوافق مع مبادئ الإسلام. يشعر الآباء بالرضا عن المدرسة لسمعتها الطيبة، بصرف النظر عن مزاياها التقنية والأخلاقية. يقدّر الآباء المعلمين الذين يمتنعون عن التدخين والخمر، المستعدين للتضحية من أجل الآخرين.

مدارس كولن في جنوب إفريقيا

أصبحت مدارس كولن الثانوية اختيار الصفوة في تركيا، وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وإفريقيا. إنها مدارس علمانية خاصة تحت إشراف هيئات الدولة، يرعاها الآباء ورواد الأعمال. تتبع هذه المدارس مناهج علمية علمانية تضعها الدولة، وبرامج معترف بها دوليًا. نطلق عليها اسم “مدارس كولن”، وقد يكون ذلك مضللاً لأنه لا يوجد أي رابط حقيقي بين كولن وهذه المدارس، باستثناء الرابط الروحاني. يستمد المربّون إلهامهم من نظرية كولن التعليمية التي تلقى قبولاً عالميًا واسعًا. ينبهر الآباء بإنجازات المدارس في مجال العلوم، وتركيزها على أن يضرب المعلمون المثل في الأخلاق الحميدة (أصلان دوغان وشيتين، 2006: 32-33).

في حين استند نظام التعليم في جنوب إفريقيا خلال فترة الفصل العنصري إلى نظرة مسيحية أحادية، كانت هناك مدارس خاصة تتبع نهجًا علمانيًا أو إسلاميًا أو يهوديًا صريحًا. التزمت هذه المدارس بوجه عام بالمنهج الوطني، حتى إذا استتبع ذلك تدريس اللغة العربية أو العبرية أو الألمانية، التي كانت جزءًا من المنهج الوطني، لكنها درّستها إما لأنها من متطلبات الدراسة في المدرسة أو بناء على طلب الآباء. أما بعد انتهاء الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، فقد قضى الدستور الديمقراطي الجديد على الطابع المسيحي للمنهج الوطني، وأصبحت المدارس تتبع منهجًا علمانيًا لا يميل إلى أي دين. تُجيز الديمقراطية الجديدة إنشاء مدارس دينية خاصة، شريطة أن تتبع المنهج المحلي. وبالطبع يحق لها إضافة مواد أخرى إلى المنهج المعتمد؛ إذا كانت المدرسة إسلامية فيحق لها تدريس العربية بوصفها مادة اختيارية أو إجبارية، وإذا كانت المدرسة يهودية فيحق لها تدريس العبرية إجباريًا.

انتشرت المدارس الإسلامية الخاصة في البلاد على مدار الخمسة عشر عامًا الماضية. كانت ظروف مدارس حكومية كثيرة غير مستقرة خلال فترة الفصل العنصري بسبب مقاطعة المدارس والاضطرابات السياسية. مما دفع الآباء إلى إرسال أطفالهم إلى مدارس علمانية ومسيحية خاصة. ولاح في الأفق بديل جديد مع تأسيس المدارس الإسلامية الخاصة.

تأسست مدرسة ستار الدولية الثانوية عام 1999، وكانت أول مدرسة تركية ثانوية خاصة في كيب تاون تقدم التعليم العلماني وتتبع المنهج الوطني، مع التركيز على القيم الأخلاقية. فأصبحت بديلاً متاحًا للمسلمين، والمسيحيين، والأفارقة، والهندوس. كانت المدرسة التركية بالنسبة للمسلمين بديلاً عن المدارس الإسلامية، لاهتمامها بغرس القيم الأخلاقية ومراعاتها للدين. توفر المدارس للطلاب المسلمين فرصة تلقي التعليم الحديث بتوجه أخلاقي.

تتيح مدرسة كولن للطفل المسلم أن يحتفظ بهويته الإسلامية في بيئة علمانية، وهو أمر غير متاح في مدارس الدولة الليبرالية التي لا تراعي الدين أو القيم الأخلاقية، وغير متاح في المدارس الإسلامية الخاصة التي تُدار بعقلية المعسكرات الإسلامية، مما يجعل من الصعب على الطلاب التكيف مع الثقافة العلمانية والتعايش في السياق التعددي. وبالتالي كان هذا التوازن بين الحفاظ على القيم الأخلاقية للهوية الإسلامية (التي يشترك فيها أيضًا الطلاب من الأديان الأخرى) والتعايش في سياق المدرسة العلمانية ما دفع العديد من الآباء لإرسال أطفالهم إلى هذه المدارس.

رأى مسلمون كثر في جنوب إفريقيا أن المدارس الإسلامية الخاصة ذات نزعة انتقائية. صحيح أنها تدرّس المواد الإسلامية مثل اللغة العربية والدراسات الإسلامية، لكنها تشجع التوجه المادي دون أي أخلاق أو روحانيات. كذلك اتُهمت مدارس كولن بنزعتها الانتقائية، لكننا سنناقش هذه النقطة لاحقًا.

يدير صندوق هورايزون التعليمي (HET) ثلاثة مدارس ستار ثانوية دولية؛ واحدة في كيب تاون والثانية في دربان والثالثة في جوهانسبرج. تتبع كلها المنهج الوطني، لكنها تدرّس اللغة التركية حتى الصف 11. كذلك يتبع صندوق فاونتن التعليمي (FET) -المستوحى أيضًا من نظرية كولن- المنهج الحكومي (مقابلة مع كمال الدين أوزدمير، 31 مايو 2006)، لكنه مسؤول عن مدارس “سما” الإسلامية. تقتصر هذه الدراسة على مناقشة المدارس التي يديرها صندوق هورايزون التعليمي.

تتميز مدارس ستار بتركيزها على تدريس العلوم، والفيزياء، والأحياء، والتكنولوجيا. يحرص الصندوق على توفير أحدث الأجهزة في مختبرات العلوم وغرف الكمبيوتر. يتعلم الطلاب المواد العلمية من معلمين أتراك، واللغات الإنجليزية والأفريقية والجغرافيا والتاريخ من معلمين أفارقة.

تستقبل المدرسة الطلاب من مختلف المعتقدات الدينية، خلافًا لمدارس الدولة التركية. تقدم مدارس الدولة التركية التعليم الديني لكنه لا يحظى باهتمام كبير، في حين لا تقدم مدارس كولن التعليم الديني، الذي يحظى بالاهتمام والاحترام.

تضم مدرسة ستار الدولية الثانوية في كيب تاون عددًا مساويًا من الطلاب المسلمين والمسيحيين، وبالتالي يستحيل على المدرسة الدعوة إلى دين معين. لكنها لا تجد غضاضة في تعليم القيم الأخلاقية المشتركة بين مختلف الأديان. يشرح المعلمون للطلاب القيم الأخلاقية مثل السلام والتآلف، ويشيرون أحيانًا إلى نموذج نيلسون مانديلا ومهاتما غاندي. تشجع المدرسة العلاقات الجيدة بين المسلمين والمسيحيين، وتعد الطلاب ليكونوا مواطنين في مجتمع تعددي. تؤيد المدرسة التحلي بالإيمان، ما دام يراعي الاحترام والتسامح تجاه كل الأديان.

الخلفية التعليمية للمعلمين

المعلمون الأتراك مسلمون ملتزمون، يتشاركون الفلسفة التعليمية مع أستاذهم فتح الله كولن. لكنهم لا يفرضون القيم والممارسات الإسلامية على الطلاب. فهم يؤمنون أن القدوة الحسنة أبلغ من أي وعظ وأكثر تأثيرًا في نفوس الطلاب. وكما أشرنا سابقًا، فإنهم لا يدرّسون الدين، غير أن القيم الأخلاقية متأصلة في منهج المدرسة. ويقع الاختيار كل شهر على قيمة أخلاقية واحدة لتكون موضوع الشهر.

درس جميع المعلمين الأتراك في مدارس بلادهم وتخرجوا في كليات العلوم. وسرعان ما يتكيف المعلمون الجدد مع نظام المدرسة لأنهم يتشاركون الرؤية والمهمة مع أستاذهم فتح الله كولن. يعلمون أنهم يجب أن يتفانوا في خدمة المدرسة، ويندمجون بسهولة مع زملائهم الأتراك الذين يشاركونهم القيم الدينية والأخلاقية. يدركون أن خدمتهم في المدرسة نوع من أنواع التضحية؛ التضحية بترك الوطن، وبذل الوقت والجهد، والتدريس مقابل أجر متوسط.

يضحي المعلمون بوقتهم في نهاية الأسبوع بإعطاء دروس إضافية للطلاب، وخاصة المرشحين للالتحاق بالجامعة. ويشاركون في الورش الوطنية مرتين سنويًا، ويتشاركون خبراتهم في التعليم بهدف تحسين أساليبهم (مقابلة مع كمال الدين أوزدمير، 31 مايو 2006).

يُتوقع من المعلمين الاقتصاد في حياتهم، فلا يُسمح لهم بالإقامة في شقق باهظة الثمن، أو قيادة سيارات فارهة، أو ارتداء ملابس غالية، ولا يُشجعون على ذلك. يُعتقد أن هذا النوع من التبذير قد يؤثر على صورة المدرسة، ويزعزع ثقة الممولين. لكن هذا لا يعني أن المعلمين يعيشون حياة فقيرة، بل إنهم يتلقون راتبًا يغطي احتياجاتهم الأصلية. يقيم أغلب المعلمين الأتراك العاملين في كيب تاون في منطقة ويستفيل، وهي أحد أحياء الطبقة المتوسطة. لا يعني هذا أنهم يقيمون في منازل فاخرة، أو أن مبنى المدرسة في المنطقة أنيق. بل إن مبنى المدرسة قائم على هياكل سابقة الصنع، ومظهره أقل جاذبية من مدرسة كيب تاون. وعمومًا يتحدد مكان إقامة المعلم بناء على قربه من المدرسة، لا على أساس الطبقة أو المستوى الاجتماعي. تنطبق المزايا الصحية والتقاعدية على المعلمين الأتراك فقط. ولا يُطلب من سواهم مراعاة الاقتصاد في الإنفاق.

لا يقدَّم التعليم الديني لكن القيم الدينية واضحة في سلوك المعلم. وتدرَّس القيم الأخلاقية بأسلوب بعيد كل البعد عن الوعظ والتوجيه، فالأهم ممارسة هذه القيم. لا يحاول المعلم فرض هويته الإسلامية داخل الصف، كما لا يحاول إخفاءها خارجه. على سبيل المثال، يصلي عندما يحين وقت الصلاة. يسعى المعلم إلى توجيه انتباه الطالب إلى القيم الأخلاقية داخل الصف وخارجه، مع التأكيد على قيم مثل تحمل المسؤولية، وضبط النفس، والعفو. تُختار قيمة مختلفة كل شهر، وتُعلق على جدران الصف والمدرسة، ويذكِّر المدير الآباء بهذه القيمة لتطبيقها خلال الشهر أو الفصل الدراسي. واجب المعلم أن يهتدي بهدي الرسول  عندما قال في الحديث النبوي: “إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ”.

قد يشعر بعض خريجي الجامعات التركية الذين حصلوا على منحة من الصندوق بالتزام أخلاقي دون أي إلزام قانوني- بالتدريس في مدارس كولن قبل العمل في مجال تخصصهم (مقابلة مع إلهامي ديميرتاب، مايو 2006). جميع المعلمين الأتراك مؤهلون أكاديميًا لتدريس المواد التي يدرّسونها، ويحملون شهادة الماجستير في الآداب أو العلوم، غير أن أغلبهم لا يحمل إجازة أو شهادة في التعليم. ومن عيوب ذلك عدم قدرة المعلم على التعامل مع الأطفال قليلي الذكاء. إلا إن المدرسة لا تستهدف سوى الأطفال أصحاب الذكاء المتوسط أو فوق المتوسط. ومن هذا المنطلق، يمكن اعتبار المدرسة ذات نزعة انتقائية تقتصر على الصعيد الأكاديمي، لكن أليس من الطبيعي اختيار الأفضل أكاديميًا في مرحلة التقديم.

نظّمت مدرسة ستار الدولية الثانوية في كيب تاون مسابقة ستار للرياضيات واستضافتها لعدة أعوام، وحظيت بمشاركة طلاب من مختلف المدارس. كان من المتوقع أن تكون المسابقة فرصة جيدة لإلقاء الضوء على المدرسة، لكنها لم تساعد في زيادة أعداد المتقدمين. وحتى الآن، لم تكن نتائج اختبارات القبول في الجامعة جيدة، ومنذ افتتاح المدرسة، لم يتفوق سوى اثنين من خريجيها المرشحين لارتياد الجامعة.

جاء التغيير الحقيقي عام 2005 عندما انتقلت المدرسة إلى مبنى جديد في سايبراند بارك. كان في الأصل مدرسة يهودية، لكنه مؤجر الآن للأتراك. مبنى المدرسة الجديد أكبر من سابقه، وأكثر خضرة وأمانًا. أصبحت المدرسة الآن تجذب مستوى أعلى من الطلاب في الصف 8 (أول عام في الدراسة الثانوية). شهد هذا العام إقبال عدد كبير من الطلاب، لدرجة افتتاح فصل ثانٍ، يضم الطلاب المتفوقين، ومن المتوقع أن يحققوا خلال خمسة أعوام نتائج ممتازة. يوجد حاليًا ثلاثة طلاب فقط مرشحين للالتحاق بالجامعة، وهم طلاب متفوقون تتوقع المدرسة حصولهم على مراتب الشرف والتقدير. وحينها ستكون علامة فارقة في تاريخ المدرسة ووسيلة جيدة لزيادة شهرتها.

دعم التجار الأتراك

يرى كولن أن العالم مكان مقدس، لهذا يجدر بالتجار التبرع ليس فقط للمساجد، بل أيضًا للمدارس، وسيُثابون في الدنيا وفي الآخرة. يدرك التجار أهمية نشر المعرفة، وخاصة العلوم والتكنولوجيا، كما يدركون أهمية ربطها بالدين. أدى التركيز على العلوم وحدها إلى إهمال الإنسانيات، ولهذا نادى كولن مؤخرًا بضرورة الاهتمام بالعلوم الاجتماعية، مثل التاريخ والجغرافيا والأدب.

يتجاوز إجمالي عدد المدارس التركية في العالم 500 مدرسة، أغلبها ذاتية التمويل. يحتاج تأسيس مدارس جديدة إلى دعم مادي، تقدمه عادة المنظمات الخيرية التركية التي تضم التجار الأتراك (بايدار، 2007: 2). يتحمل تجار منطقة معينة في تركيا مسؤولية تمويل مدرسة كيب تاون. كما تساهم الرسوم التي يدفعها الطلاب، لكن المدرسة لا تحقق أي ربح لأنها ليست مؤسسة بشكل ملائم. كذلك تتلقى المدرسة الدعم من تجار أتراك محليين وشركات تجارية في جنوب إفريقيا، خاصة لأداء الأعمال المدرسية وإقامة المسابقات الأولمبية.

وكما يتشارك المعلمون الأتراك الثقافة التركية مع الطلاب، فإنهم يتعلمون الكثير من الجوانب الإيجابية في ثقافة جنوب إفريقيا، ويعودون إلى بلادهم بثقافة ثرية (بايدار، 2007: 2). قال تحسين تومر مدير مدارس كولن في جنوب إفريقيا: “نقدم التعليم حاليًا لـ 1400 طالب في المجمل. لدينا 50 معلمًا من تركيا و71 معلمًا من جنوب إفريقيا. (علاقتنا) بالسلطات المحلية جيدة جدًا” (بايدار،2007: 2). يقيم المعلمون الأتراك في شقق مستأجرة، ويتقاضون راتبًا شهريًا يساوي 1300 دولار (مع المزايا). وثُلث المعلمين متزوج من تركيات (بايدار، 2007: 2).

المعلمون الأتراك متفانون، يتلقون راتبًا متواضعًا لكنه كافٍ، ولا يهتمون بالأمور المادية في هذه الحياة، بل بمتاع الآخرة (كولن، 2002: 86). راتبهم أقل من المعلمين، لكن المتزوج منهم يتقاضى راتبًا أكبر من الأعزب. بالطبع يزيد راتب مدير المدرسة مع زيادة مسؤولياته. يتلقى المعلمون المحليون رواتبهم في موعدها، لكن المعلمين الأتراك قد ينتظرون رواتبهم دون تذمر، فهم يعرفون أن المنفعة المادية ليست غايتهم، بل الأهم تقديم الخدمة. لا يفكرون مثل المعلمين المحليين الذين يعملون من الثامنة صباحًا إلى الثالثة مساء. بل يتحلى المعلمون الأتراك بأخلاقيات العمل التي تسمو فوق ساعات العمل، ويعتبرون أنفسهم في العمل 24 ساعة في اليوم. يعيشون حياة جيدة براتب شهري 6000 راند في المتوسط، لكنها ليست حياة بذخ. حتى إذا توفرت لهم سبل الحياة الميسورة، ربما بدعم من والديهم، فسيظلون يشعرون بواجب أخلاقي للحفاظ على الاعتدال والاقتصاد. تستهجن المنظمة المغالاة في اقتناء الممتلكات المادية.

ساهم التجار الأتراك في تأسيس مدارس كولن في إفريقيا إما لأسباب إنسانية أو تجارية (مقابلة مع كمال الدين أوزدمير، 31 مايو 2006). واليوم يشجعهم كولن على تحقيق الثراء، لأنهم سيتمكنون حينها ليس فقط من دفع المزيد من أموال الزكاة والصدقة، بل أيضًا من تخصيص 10% من عائداتهم للمنظمة. يدفع بعض التجار نصف أرباحهم للمدارس! يعمل التجار الآن بجهد أكبر من أي وقت مضى، ليس فقط لإعالة عائلاتهم، بل أيضًا لدعم الصندوق. يتبرع أحد التجار بكل أمواله لمشروع مدرسة ضخم في جوهانسبرج.

تحرص المؤسسة أن يحافظ المعلمون على مستوى معيشة جيد. ولطمأنة أي مخاوف بشأن أمانهم المادي في المستقبل، يُتفق على ترتيبات الرعاية الصحية والمعاش بعد تقاعدهم. إذا احتاج معلم إلى دخول المستشفى أو الخضوع لجراحة، تتكفل المنظمة بكل التكاليف. المعلمون غير مضطرين للتعامل مع شركات المساعدة الطبية ومواجهة المخاوف المصاحبة لها؛ خاصة في ظل القيود الصارمة على استخدام العقاقير، والاضطرار لدفع مقابل الخدمات الطبية من نقودهم الخاصة بقيمة أعلى مما تقدمه شركات المساعدة الطبية.

من الأهمية أن تستمر ثقة الممولين في المعلمين الأتراك، واليقين في إنفاق النقود في موضعها؛ سواء لدفع الإيجار أو الرواتب أو أجهزة الكمبيوتر. وبالتالي تتضح أهمية اتباع أسلوب حياة جيد ومقتصد للحفاظ على هذه الثقة وتهدئة أي شكوك محتملة.

المعايير الأكاديمية وسياسة التقديم

تفخر مدارس كولن بالحفاظ على مستوى أكاديمي عالٍ، بفضل الاستعانة بمعلمين مؤهلين، وتوفير الاهتمام الفردي لكل طالب، والتواصل الوثيق مع الآباء. ينص بيان المهمة في مدرسة كيب تاون على ما يلي:

مهمتنا توفير التعليم عالي المستوى بمساعدة المرافق والمعدات والبنية التحتية الملائمة، لتحسين تجربة تعلم طلاب المدرسة. نسعى جاهدين لتحقيق ذلك من خلال مواصلة التطوير وتحقيق الأفضل على كل الأصعدة. أصبح تنفيذ ذلك الآن أسرع بكثير في موقعنا الجديد (سايبراند بارك). تطبق المدرسة أحدث طرق التدريس المتاحة، وتتبع منظومة من القيم العالمية التي تهدف إلى بناء شخصية الطلاب. نحن نغرس هذه القيم لنساعدهم أن يكونوا أعضاء موقرين وبارزين في المجتمع.

مدرسة ستار الدولية في كيب تاون مدرسة خاصة، لكنها غير مستعدة للتنافس مع مدارس خاصة عريقة مثل مدارس بيشوب. يدرك المعلمون ذلك، ويضعون أهدافًا واقعية، بحيث يستهدفون التنافس مع مدارس النموذج “ج”، مثل مدرسة ويستيرفورد الثانوية.

مدارس النموذج ج هي مدارس البيض الحكومية القديمة التي حظيت بمرافق أفضل خلال فترة الفصل العنصري، لكنها تستقبل الآن كل الأعراق. رسوم المدرسة أعلى بكثير من رسوم المدارس الحكومية، لكنها في نفس مستوى المدارس الخاصة الميسورة مثل مدرسة ستار الدولية الثانوية والكلية الإسلامية. يحقق الطلاب المرشحون للالتحاق بالجامعة في مدارس النموذج “ج” نتائج أفضل من طلاب المدارس الحكومية.

تهدف مدارس ستار الدولية لتحقيق التميز الأكاديمي، لهذا لا تسعى للتنافس مع المدارس الحكومية، بل مع مدارس النموذج ج. لكنها لم تحقق حتى الآن نفس المستوى الأكاديمي، مع إنها قادرة على تحقيقه وتجاوزه. وبالفعل جاءت نتائج اختبارات القبول بالجامعة لطلاب مدرسة ستار في دربان أفضل من أغلب طلاب مدارس النموذج “ج”.

تشتهر مدارس كولن بتحقيق نتائج جيدة، لكن هذا ليس السبب الوحيد الذي يدفع الآباء لإرسال أطفالهم إليها. فهم معجبون أيضًا بمنهجها الأخلاقي. لم تصل مدرسة كيب تاون إلى نفس المستوى الأكاديمي لمدرسة دربان، التي تفوّق 100% من طلابها المرشحين للجامعة. والأسباب كما يلي: أولاً، أسس المدير، الأستاذ يسار، المدرسة في “ويستفيل”، وهو أحد الأحياء الراقية في دربان. جذب الموقع ذاته عائلات الطبقة المتوسطة. ومع زيادة الإقبال، استطاعت المدرسة أن تفرض قواعد صارمة لقبول الطلاب. ثانيًا، يقيم الطلاب الأكبر سنًا في سكن الطلبة تحت إشراف معلم خاص وبعض المعلمين، الذين يتأكدون من إتمام الطلاب الفروض المدرسية منذ مغيب الشمس وحتى منتصف الليل. ثالثًا، تضم المدرسة فريقًا من المعلمين المتفانين، الشغوفين بالمواد التي يدرّسونها، والذين يقدمون المعلومات بوضوح وفعالية. المعلمون مستعدون كذلك للتضحية بوقتهم لإقامة معسكرات دراسية تستمر أسبوعًا كاملاً، وتعليم الطلاب في عطلات نهاية الأسبوع.

بالمقارنة، لم تحقق مدرسة ستار الدولية الثانوية في كيب تاون نفس النتائج العالية لمدرسة دربان. تأسست أول مدارس كولن في كيب تاون، وكانت التجربة الأولى التي يخوضها المعلمون الأتراك. وسرعان ما لاحظوا أن الخلفية الثقافية للطلاب تختلف عن الطلاب الأتراك والروس الذين حققوا معهم نتائج مبهرة. لم يكن الطلاب في جنوب إفريقيا مُقبلين على التعلم كما توقعوا، واحتاجوا لبذل جهد كبير للحفاظ على انضباطهم. لم تحصل المدرسة حتى الآن سوى على وسامين في اختبارات الطلاب المرشحين لارتياد الجامعة. دعونا نستعرض أهم أسباب ضعف الأداء الأكاديمي. أولاً، كانت المدرسة مشيّدة في منطقة أثلون المتواضعة اقتصاديًّا. المبنى متهالك ومظهره قديم، لهذا جذب أبناء الطبقة العاملة والطبقة المتوسطة الدنيا في الأغلب. لا يصح الحكم على المدرسة بناء على مظهرها، لكنه كان معيار الحكم الوحيد في ظل عدم توفّر أي معلومات عن المدرسة. قال المدير: “لم يكن الآباء متعاونين؛ وبالكاد حضروا الاجتماعات وفعاليات المدرسة. قد يرجع السبب إلى عدم كفاءة وسائل النقل العامة، ونقص الأمان ليلاً” (مقابلة مع إلهامي، أغسطس 2007). ثانيًا، ظهرت مشكلة قدرة المعلمين الأتراك على التواصل باللغة الإنجليزية. يتمتع المعلمون من خريجي العلوم بوجه عام بالقدرة على قراءة النصوص الإنجليزية، في المجال العلمي غالبًا. وعندما حضروا إلى كيب تاون، تحدثوا الإنجليزية بطلاقة بعد مرور خمسة أو سبعة أعوام، بناء على مدى اختلاطهم بغير الأتراك وممارستهم للغة.

وفي أثناء محاولة تحسين قدراتهم اللغوية، لا يمكنهم التواصل بفعالية، الأمر الذي يضعف كفاءتهم التدريسية. وبالتالي تتأثر قدرة الطلاب على التعلم والانضباط. ثالثًا، اتضح أن عيوب تغيير المعلمين تفوق المزايا. فبمجرد تمكّن المعلم من اللغة الإنجليزية، ربما بعد خمس سنوات، يُنقل إلى مدرسة أخرى. ويبدأ المعلم الجديد رحلة التكيف مع البيئة الجديدة، ليس فقط لإتقان مهارات الإنجليزية، بل أيضًا للتكيف مع ثقافة الطلاب وخلفيتهم. ويحتاج الطلاب بدورهم إلى التكيف مع المعلم الجديد. يزعزع تغيير المعلمين إحساس الاستقرار والاعتياد على المدرسة، وبالتالي تخفق المدرسة في الحفاظ على صورتها الثابتة. المعلمون هم عماد المدرسة؛ وهم الذين يمنحونها شخصيتها ونهجها، وترتبط المدرسة في ذهن الآباء بالمعلمين، وليس بمبنى المدرسة أو موقعها.

لا شك أن أي مدرسة جديدة ستواجه بعض المشكلات في البداية، لكن الحكم عليها في النهاية يكون بناء على النتائج النهائية التي تحققها. لهذا ننتقل إلى الإنجازات والفرص المستقبلية. حققت المدرسة تقدمًا كبيرًا منذ انتقالها إلى سايبراند بارك عام 2005. كان للموقع الجديد ومبنى المدرسة الأنيق تأثير فوري على نوعية الطلاب المتقدمين. نظرًا للإقبال الشديد من المتقدمين عام 2007، اضطرت المدرسة لافتتاح فصل آخر للصف 8. يعكس ذلك مقدار الدعم والإقبال المتزايد على المدرسة.

تعتمد عملية القبول على معايير أكاديمية، لا على الطبقة الاجتماعية أو العقيدة. أوضح السيد إلهامي مدير المدرسة أن معايير القبول الصارمة لا تعكس سياسة المدرسة، بل إنها عنصر مهم في سياق التعليم في جنوب إفريقيا. وأضاف: “من غير الأخلاقي أن نطبق سياسة قبول صارمة، لكنها الطريقة الوحيدة لضمان الحصول على الأوسمة ومراتب الشرف. نجحت مسابقات الأولمبياد والميداليات في أماكن أخرى، لكن ليس في جنوب إفريقيا، حيث يُحكم على المدرسة بناء على نتائج اختبارات القبول للجامعة فقط” (مقابلة مع إلهامي، أغسطس 2006).

دفع هذا الاكتشاف الجديد السيد إلهامي لتطبيق سياسة قبول صارمة، تستبعد عائلات الطبقة العاملة، ليس بسبب طبقتهم، بل لأنهم أقل اهتمامًا برؤية أطفالهم يحققون التفوق. وهكذا فإن تبني هذه النزعة الانتقائية ضمن معايير القبول لا ينظر إلى الطبقة الاجتماعية في حد ذاتها، بل إلى الأداء الأكاديمي البحت. تريد المدرسة أن تضمن نسبة مقبولة من المتفوقين، وأنها إذا دعمت تعليم الطفل، فلا بد أن تكون احتمالات تفوقه الأكاديمي وإكماله الصف 12 عالية. لا تستطيع المدرسة قبول الطلاب من منطلق إحساسها بالشفقة، بل من منظور التفوق الأكاديمي فحسب.

ستفيد سياسة القبول الصارمة سمعة المدرسة على المدى الطويل أكثر من مسابقات الأولمبياد أو الميداليات الذهبية. وستجني المدرسة ثمارها بعد خمس سنوات عندما يصل الطلاب إلى الصف 12، وتُنشر أسماؤهم في الصحف لحصولهم على الأوسمة ومراتب الشرف.

تحصل مدارس كولن على الميداليات الذهبية والفضية في مسابقات الأولمبياد التي تقيمها مختلف الدول في الرياضيات والعلوم والكمبيوتر واللغة الإنجليزية. لهذا تشتهر بإنجازاتها ومكانتها المرموقة، باستثناء جنوب إفريقيا. فمنذ تأسيس مدرسة كيب تاون حصلت على 23 ميدالية ذهبية، لكنها لا تعني شيئًا بالنسبة للآباء الذين يتخذون القرارات بناء على النتائج الأكاديمية لاختبارات القبول في الجامعة فحسب. كما أن عوامل أخرى مثل موقع المدرسة القريب، وعدد الطلاب في الصف، والنهج الأخلاقي للمدرسة تلعب دورًا في اتخاذ قرار إلحاق الطفل بالمدرسة.

مرت أعوام كانت فيها نتائج اختبارات القبول للجامعة لطلاب مدرسة ستار أسوأ من نتائج أفضل المدارس الحكومية، وهذا غير وارد. فلا بد أن تكون نتائج مدرسة ستار الدولية أفضل من المدارس الحكومية؛ وإلا فليس هناك سبب وجيه لإلحاق الآباء أطفالهم بمدرسة ستار. نفترض أن الآباء المسلمين يدعمون المدرسة لأنها تحت إدارة صندوق إسلامي، ولأنها تكافح الرذائل الاجتماعية مثل حفلات المواعدة واحتساء الخمر. لكنه ليس السبب الرئيسي لدعمهم. فهم مثل الآباء غير المسلمين يدعمون المدرسة لأنها توفر تعليمًا أفضل لأطفالهم (مقابلة مع إلهامي، و8 أغسطس 2006). عادت فكرة التعليم الأفضل تجول في أذهان الآباء عندما انتقلت المدرسة إلى منطقة سايبراند بارك. ومن ذلك الحين، بدأ عدد كبير من آباء الطبقة المتوسطة يدعمون المدرسة. ولهذا كان مستوى الطلاب الذين التحقوا بالمدرسة منذ العام الماضي أفضل.

تركز مدارس كولن على المواد العلمية، بما فيها الرياضيات والفيزياء والتكنولوجيا. وتسعى جاهدة لتوفير أحدث الأجهزة التكنولوجية في ظل التمويل المتاح (مقابلة مع كمال الدين أوزدمير، و31 مايو 2006). يدرّس المعلمون الأتراك العلوم، ومعلمو جنوب إفريقيا المواد الاجتماعية واللغات. وبالطبع يعلّم اللغة التركية معلم تركي، واللغات الإنجليزية والأفريقية والهوسا والزولو معلمون من جنوب إفريقيا. أغلب الطلاب في مدرسة جوهانسبرج من إفريقيا (وهم الغالبية في البلاد)، وتضم مدرسة دربان طلابًا هنود (وهم أقلية في البلاد). وتضم مدرسة كيب تاون مزيجًا من الطلاب المسيحيين الملونين والمسلمين “الملونين”.

قال إلهامي ديميرتاش، معلم الأحياء خريج جامعة الشرق الأوسط التقنية في أنقرة، ومدير مدرسة ستار الدولية الابتدائية والثانوية في كيب تاون، إن هناك 200 طالب، نصفهم من البنات في المدرسة الابتدائية المختلطة. أما المدرسة الثانوية فللبنين فقط. قال أحد أبناء جنوب إفريقيا: “تضرب هذه المدارس المثل للمدارس الإسلامية الخاصة الأخرى؛ فهي تهتم بشدة بالعلوم، وتركز على نشر القيم العالمية” (بايدار، 2007: 2).

أوضح المدير أن طلبات التقديم تنهال على المدرسة منذ العام الماضي، وأصبح بالإمكان انتقاء المقبولين. تكمن الفكرة في نشر صورة إيجابية عن المدرسة في منطقة عادية للطبقة المتوسطة. وفي مراحل لاحقة، يمكن تأسيس مدارس في مناطق راقية مثل رونديبوش ونيولاندز. وبمجرد أن تحقق هذه المدارس الربح، ستكون في وضع يؤهلها لدعم مدارس كولن في المناطق الفقيرة. لهذا فإن فكرة تأسيس مدرسة في منطقة راقية ليس لها علاقة بالنزعة الانتقائية. بل الأهم هو بناء مدارس مستديمة ذاتيًا، تحقق الربح وتساعد المدارس التي تحتاج إلى دعم مادي.

أطفال العائلات الموسرة بوجه عام طموحاتهم أعلى وقدرتهم على التعلم أفضل من أطفال العائلات الفقيرة. يرجع ذلك إلى أنهم حظوا بفرص أكثر، وليس لسمة فطرية تميزهم. إذا انجذب أطفال العائلات الموسرة إلى المدرسة، فهذا لا يجعلها مدرسة انتقائية للطبقة الاجتماعية. حتى إن المدرسة مستعدة لتقديم منحة لأي طالب متفوق من عائلة فقيرة، ولن تستبعده لأنه من طبقة اجتماعية اقتصادية دنيا.

الانتقائية فكرة نسبية كما أشرنا من قبل. فقد يُنظر إلى مدرسة كولن في منطقة فقيرة بوصفها انتقائية على عكس المنطقة الراقية. فكرة الانتقائية نسبية أيضًا في تكلفة التدريس، كلما كانت المدرسة ميسورة التكلفة زادت نزعتها الانتقائية. مدارس كولن ميسورة التكلفة لعائلات الطبقة المتوسطة، لكن ليس للطبقة العاملة. غير أن فرصة التعليم الأفضل متاحة أمام الطلاب المتفوقين من أبناء الطبقة العاملة لأن المدرسة تدعم تعليمهم عادة.

مدرسة كولن غير انتقائية بمعايير الطبقة المتوسطة، لكنها انتقائية بمعايير الطبقة العاملة. تقع مدرسة دربان في منطقة راقية، لكن مبنى المدرسة متواضع. وأغلب الطلاب من أبناء الطبقة المتوسطة، لكن كما أشرنا سابقًا، فإن هذا لا يعني أنها مدرسة انتقائية اجتماعيًا، بل أكاديميًا فحسب.

النتيجة

أكد كولن على أهمية غرس القيم الأخلاقية في بيئة مدرسة علمانية، تعمل في إطار التعليم الموحد للبلد. يرسل الآباء أطفالهم إلى مدارس كولن لأن خريجيها قُبلوا في جامعات وكليات مرموقة، ولأن طلابها أقل عرضة للاستجابة للمؤثرات السلبية مثل إدمان المخدرات والكحوليات.

سيكون السؤال الرئيسي الذي يطرأ للمسلم: “لماذا أرسل طفلي إلى مدرسة علمانية بدلاً من مدرسة إسلامية؟” فتكون الإجابة أن معلم المدرسة يجسد القيم العالمية مثل الصدق، والثقة، واحترام الوالدين، وتوقير الكبير، واحترام التراث، وحب كل البشر. يؤمن الآباء المسلمون بهذه القيم ويريدون غرسها في أطفالهم (أونال وويليامز، 2000: 348).

تناولنا فلسفة فتح الله كولن التعليمية، وأوضحنا وسائل تطبيق جانبيها الأكاديمي والأخلاقي في سياق جنوب إفريقيا، مع إشارة خاصة إلى مدرسة ستار الدولية الثانوية في كيب تاون. تحدثنا عن إنجازات المدرسة، ونقاط ضعفها، والفرص المتاحة أمامها في المستقبل.

توفر المدرسة بديلاً للمدارس الخاصة ومدارس النموذج “ج”. ومع أنها علمانية، تحرص على نشر القيم الأخلاقية، وتحترم التنوع الديني في مجتمع جنوب إفريقيا. يجدها الطالب المسلم بديلاً عن المدرسة الإسلامية الخاصة. يتمتع المعلمون الأتراك بالنزاهة والتدين، وهو ما يلهمهم الصواب. وفي الوقت ذاته، يتعلم الطفل المسلم التعامل مع زملائه ومعلميه المسيحيين، ويدرك أنهم يتشاركون جميعًا مجموعة قيم أخلاقية عالمية. ويؤهله ذلك للانخراط في مجتمع جنوب إفريقيا التعددي.

تكتسي مدارس كولن بالطابع التركي؛ فهي مستوحاة من الفلسفة التعليمية للمفكر الديني التركي فتح الله كولن. المدير تركي الجنسية، ومعلمو العلوم أتراك، واللغة الأجنبية هي التركية، ويردد الطلاب النشيد الوطني والأغاني التركية في فعاليات المدرسة.

حصلت المدرسة على دعم كبير منذ انتقالها إلى منطقة سايبراند بارك من عائلات الطبقة المتوسطة، وينعكس ذلك في عدد الطلاب الجدد هذا العام. وخلال خمسة أعوام من الآن، فإن المتفوقين حاليًا في الصف 8 سيخضعون لاختبارات القبول في الجامعة، ونحن نتوقع أن يحصل أغلبهم على الأوسمة ومراتب الشرف.

الهوامش

انتشرت محاولات “أسلمة المعرفة” منذ الثمانينيات، بين مسلمي أمريكا في البداية، ثم في جميع أنحاء العالم الإسلامي. وسارعت المدارس والجامعات الإسلامية بأسلمة المعرفة، ومن بينها العلوم. أعتقد أن كولن لم يشغل نفسه بالأسلمة؛ بل ظل تركيزه منصبًا على العلوم الطبيعية (وليس الاجتماعية)، ورأى أنه من الضروري طلب العلوم، شريطة أن تكون مجتمعة بالإيمان والأخلاق.

تريد المدرسة طلابها المرشحين لارتياد الجامعة أن يدرسوا العلوم على مستوى أعلى، وهي مستعدة لتقديم المنح أملاً في أن يخدم الخريج المدرسة لبضعة أعوام قبل العمل في تخصصه. على سبيل المثال، تخرج السيد ميجيت يامان من مدرسة كولن في تركيا، وحصل على شهادة في العلوم، وعمل بالتدريس في مدرسة كولن في كيب تاون. حصل على شهادتي الماجستير والدكتوراه من جامعة كيب تاون أثناء عمله. والآن عاد إلى تركيا ويؤدي حاليًا الخدمة العسكرية. يميل كولن على ما يبدو إلى الإنسانيات، لكن مدارسه تركز على العلوم لأسباب عملية. وهو يشجع المعلمين الآن أن يهتموا بالأدب والعلوم الاجتماعية.

للاطلاع على المزيد حول سيكولوجيا الروح لمسكويه ومقارنتها بفلسفة الراغب الأصفهاني (المتوفى عام 1060) وأبو حامد الغزالي (المتوفى عام 1111)، راجع ياسين محمد، “طريق الفضيلة: فلسفة الراغب الأصفهاني الأخلاقية”. تأثر كولن بهؤلاء الفلاسفة المسلمين، الذين تبنوا جميعًا فكرة ثلاثية الروح لأفلاطون، وجعلوها أساس فلسفتهم الأخلاقية. قد لا يتفق كولن مع الفلسفة الإنسانية الحديثة، لكنه تأثر بالإنسانية اليونانية والإسلامية القديمة، وتحلى بعقل منفتح، وتقبل الأفكار من مختلف المصادر، ما دامت قابلة للتوفيق من القرآن.

ربما تغير منظوره للإنسانية بعد هجرته إلى أمريكا. وربما تكون هناك محاولة للتوفيق بين التصوف والعلم الحديث؛ حيث يقدّم التصوف طريقًا للكمال الأخلاقي. ترتبط التعاليم الصوفية بنظريته التعليمية لأنها تركز على غرس القيم الأخلاقية. إن إشارة كولن إلى مسكويه (الذي تأثر أيضًا بآراء أفلاطون وأرسطو) دليل واضح على انجذابه إلى تقاليد الفلسفة الإنسانية الإسلامية الكلاسيكية. راجع أفسار الدين، “فلسفة التعليم الإسلامي: آراء كلاسيكية ومنظور فتح الله كولن”، لمعرفة المزيد حول علاقة كولن بالفكر الإسلامي الكلاسيكي.

على سبيل المثال، عند تدريس موضوع التطور، يجدر بالمعلم تقديم مختلف الآراء لمؤيدي الخلقية والتطور والنقد العلمي للنظرية.

ترتاد بنات ابن عمي مدرسة إسلامية خاصة في دربان. اعتدن الذهاب إلى المدرسة بسيارة BMW، وعندما اشترت العائلة سيارة جديدة Toyota Corolla رفضن الذهاب بها إلى المدرسة. فوجئ ابن عمي بتعلمهن القيم المادية في مدرسة إسلامية! فأخرجهن من المدرسة، وألحقهن بمدرسة حكومية عادية. ولا يجد حرجًا في توصيلهن بالسيارة الجديدة.

صندوق فاونتن التعليمي (FET) لديه مركز للحوار بجوار مسجد شارع كليرمونت. يقيم الصندوق مآدب إفطار في رمضان ورحلات جماعية إلى تركيا. وخلال إحدى الرحلات، زارت المجموعة قونية، وإسطنبول، وإزمير، وكبادوكيا. كبادوكيا منطقة قديمة في منتصف شرق الأناضول، كان من بين المشاركين في الجولة الأستاذ ستانلي ريدج، الأكاديمي المسيحي ونائب رئيس جامعة ويسترن كيب. قال السيد خليل رئيس مركز الحوار: “تهدف الجولة إلى مد الجسور بين أشخاص من مختلف العقائد الدينية”. اخترت أكاديميين من جامعة كيب تاون، وجامعة ستيلينبوش، وجامعة ويسترن كيب.

زرت المدرسة في منطقة سايبراند بارك. تقع في منطقة للطبقة المتوسطة، وتتصل بطريق “N2” المؤدي إلى المدينة مباشرة. المنطقة خضراء، تتراص الأشجار على جانبي شوارعها الواسعة. المدرسة نظيفة وفي حالة جيدة. رأيت في الصف الدراسي 8ب علم جنوب إفريقيا وعلم تركيا معلقين على الحائط. ورأيت القيم التالية مكتوبة على الحائط:

مارس: الاحترام: نفسك وعائلتك ومجتمعك وبلدك

مايو: الأمل، المثابرة، التراحم، الحب

يوليو: الشكر، الامتنان، التقدير

أغسطس: الوحدة، الوفاء، التضامن، السلام، الصداقة

وجدت هذه الكلمات أيضًا على جدران المدرسة. وقد رأيت المدير يعلقها بنفسه في أحد أيام السبت.

سيلاحظ الطلاب على الأرجح أن المعلم يصلي، وإذا سألوه عما يفعل، فلا بأس أن يقول بثقة: “نحن مسلمون وهذا وقت صلاتنا”. لكنه لن يقول شيئًا إلا إذا سُئل. يجب أن يكون التركيز على ضرب المثل وليس الوعظ.

حضرت مؤتمرًا في جوهانسبرج حول الحضارة الإسلامية في إفريقيا، وأعلن الدكتور خالد إيرين من ISRICA تقديم منح للراغبين في دراسة الدراسات الاجتماعية في إسطنبول. صادف ذلك نشر بحثي حول إهمال الإنسانيات في مدارس كولن. قال السيد إلهامي: “يميل كولن شخصيًا إلى الأدب والإنسانيات، لكن اهتمامه بالعلوم جاء استجابة للتحديات في تركيا. واليوم أصبحت مواد العلوم مهمة لسد فجوة سوق العمل في هذه المجالات. تدريس مواد العلوم إلزامي في جنوب إفريقيا، أو لن يدعم الآباء المدرسة. يمكن منح الدراسات الاجتماعية اهتمامًا مساويًا، لكن ليس على حساب العلوم الطبيعية”.

يقيم أغلب المعلمين الأتراك في باينلاندز؛ وهي منطقة للطبقة المتوسطة أغلب سكانها من الإنجليز. يقيمون في شقق واسعة بغرفتين، ويتكيفون مع الحياة معًا برغم عدم وجود معرفة سابقة في تركيا. يتشاركون الرؤية، مما يساعدهم على التوافق معًا والانسجام مع زوجاتهم من نفس المنظمة.

السيد علي تاجر تركي ثري يبلغ 71 عامًا. زار مدينة كيب تاون خلال أول أسبوعين من شهر أغسطس 2007، والتقى رئيس الوزراء إبراهيم رسول. أراد بناء مدرسة (ومسجد ملحق بها) في جوهانسبرج قبل وفاته. قال: “أنا كالثمرة التي قد تسقط من الشجرة في أي وقت، لا أريد أن أكون ثمرة ضائعة، لهذا أريد رؤية المدرسة في أقرب وقت”. تبرع السيد علي بمبلغ 15 مليون دولار لبدء المشروع في ميدراند. سيكون المسجد على طراز عمارة سنان. ومن المزمع إقامة المشروع على مساحة 130 ألف متر مربع. سيضم مراكز تسوق تدر دخلاً من الإيجارات للحفاظ على المجمع (مقابلة مع إلهامي، 9 أغسطس 2007). يمكن تنفيذ مشروع مشابه في كيب تاون إذا أتيحت الأرض.

حضرت أول مجموعة من المعلمين الأتراك إلى كيب تاون وأقامت في نفس الشقة في كليرمونت (شخصان في كل غرفة). بدأت المدرسة العمل في منطقة ريتريت، وعندما انتقلت إلى أثلون، انتقل المعلمون إلى باينلاندز، وهي أول مدينة حدائق إنجليزية. يسهل الوصول إلى المدرسة من هذا المكان والطريق سريع إلى شارع كليبفونتين. يقيم المعلمون في شقق واسعة بغرفتين، يصل إيجارها إلى 3500 راند في الشهر. وهي جيدة وميسورة التكلفة. جذب المستوى الاقتصادي للمدرسة في أثلون طلابًا من مانينبيرج وأثلون وميتشلز بلين. ثم انتقلت المدرسة إلى منطقة الطبقة المتوسطة سايبراند بارك عام 2005. أنفقت المدرسة 200 ألف راند لتطوير الحدائق وتجهيز غرف الكمبيوتر ومختبرات العلوم. كان التغيير مهمًا. فبدأت عائلات الطبقة المتوسطة تدعم المدرسة، التي شهدت في عام 2007 إقبالاً كبيرًا كان من نتيجته افتتاح فصلين للصف 8 (مقابلة مع إلهامي، 9 أغسطس 2007).

راجع كتيب مدرسة ستار الدولية الابتدائية والثانوية (المؤسسة عام 1999): من بين المزايا الخاصة الأخرى الواردة في الكتيب (المطبوع عام 2007) الفرص الترفيهية، ومختبر العلوم المجهز بالكامل، وغرفة الكمبيوتر باتصال إنترنت، والمخيمات الخاصة، والرحلات والنزهات، وعروض الطلاب السنوية، والأنشطة اللا منهجية وأنشطة الأندية، إلى جانب البيئة المنضبطة الحنونة، والأجواء الآمنة، وأحدث السياسات والممارسات التعليمية.

راجع كتيب مدرسة ستار الدولية في كيب تاون، 2007.

بيشوب مدرسة مستقلة للبنين في منطقة رونديبوش في كيب تاون، تقدم التعليم للأطفال من البداية إلى الصف 12 (6 إلى 18 عامًا)، وبها قسم للمرشحين لارتياد الجامعة. أسست المدرسة عام 1849 على يد روبرت جراي بيشوب الذي عاش في كيب تاون. اسم المدرسة الرسمي كلية ديوسيسان لكنها تُعرف باسم بيشوب. تستمد المدرسة طابعها من أصولها المسيحية، وتاريخها، ومكانتها في جنوب إفريقيا، والقيم التي تسعى لغرسها في الطلاب.

ويستيرفورد مدرسة ثانوية مختلطة، تقع بالقرب من نيولاندز رجبي جراوند وتيبل ماونتن، تأسست يوم 21 يناير 1953.

انتقل المدير السابق لمدرسة ستار الدولية في كيب تاون إلى دربان في وقت لاحق ليبدأ المدرسة هناك. تعلم من إخفاقات تجربة كيب تاون، وتبنى سياسة قبول صارمة في دربان.

يعكف الطلاب في هذه المعسكرات التي تستمر أسبوعًا كاملاً على مراجعة العلوم والرياضيات تحت إشراف المعلمين. ذهب نبيل محمد إلى دربان مرتين هذا العام للمشاركة في أسبوع المعسكر الدراسي. توفر المدرسة الإقامة في سكن الطلاب. قال: “تعلمت الكثير من أستاذ بيندر، معلم الرياضيات والفيزياء؛ فلديه خبرة طويلة وأسلوب ممتاز في التدريس. ألهمني كذلك طلاب مدرسة دربان وطموحاتهم العالية، فبعضهم يطمح للحصول على امتياز في سبع مواد”.

بدأت المدرسة العمل في منطقة ريتريت في ضواحي المدينة، التي كانت بعيدة إلى حد ما. ثم انتقلت إلى منطقة أثلون التي تتميز بموقعها المتوسط، وسهولة الوصول منها إلى المدينة.

تحدث الإنجليزية بطلاقة شرط أساسي، حتى لتدريس مواد العلوم. يرى كولن أن المعلم يجب أن يهتم بكل جوانب الطفل، ولا يقتصر على المادة التي يدرّسها. عندما قال أحد المعلمين الأتراك: “أدرّس الرياضيات، ولا داعي لأن أتحدث الإنجليزية بطلاقة”، اختلفت معه في الرأي وقلت له: “بأي لغة ستوجّه الطفل؟” قال: “بالإنجليزية”. تتأثر عملية التوجيه والتأديب في ظل وجود صعوبة في التواصل.

 

شاركت في مؤتمر أقيم في مدينة جوهانسبرج في شهر سبتمبر 2006، وقدمت دراسة حول التعليم التركي في جنوب إفريقيا. طرح شخص هذا السؤال: “كيف لا يدرّس الأتراك المسلمون مواد إسلامية مثل التوحيد، والحديث، والتلاوة، وغيرها؟” فأجبته أنها مدرسة علمانية، لكن ظل متشككًا حتى قلت له: “حققت مدرسة ستار الدولية في دربان 100% من مراتب الشرف في الصف 12.” حينها انهالت عليّ ردود الأفعال الإيجابية، وأراد بعض الآباء إلحاق أطفالهم بالمدرسة.

توفر المدرسة التدريب للمعلمين في نهاية الأسبوع والعطلات للحفاظ على معاييرها العالية. تسعى المدرسة لغرس الروح التنافسية، وينعكس ذلك في إرسال الأطفال إلى مسابقات أولمبياد المدارس الثانوية في جميع أنحاء العالم. وبالفعل يعود الطلاب بالميداليات الذهبية والفضية.

لا تعتزم المدرسة التنافس مع المدارس الحكومية مثل مدرسة ليفنجستون الثانوية ومدرسة بلجرافيا الثانوية، بل مع المدارس الخاصة ومدارس النموذج ج. كما لا تعتزم التنافس مع أفضل المدارس الخاصة في البلاد؛ فهي مؤسسة منذ سنوات طويلة ومصروفاتها عالية. تستهدف المدرسة التنافس مع مدارس النموذج ج مثل مدرسة ويستيرفورد الثانوية ومدرسة رونديبوش للبنين (مدارس البيض الحكومية سابقًا)، التي تضم مرافق تماثل مدارس ستار الدولية ومصروفاتها ميسورة بالنسبة لأطفال الطبقة المتوسطة (مقابلة مع إلهامي، 7 أغسطس 2007).

مناخ مدينة دربان حار ورطب. المدرسة قائمة على هياكل سابقة الصنع، وكانت في الأصل قبل عام 1999 مدرسة تبشيرية مسيحية. تضم الآن ساحة كبيرة وملعبًا لكرة السلة، وبها 200 طالب يدفعون 2000 دولار سنويًا. يمكن أن يحصل الطلاب على منحة بقيمة 200 دولار لإكمال المصروفات. مبنى المدرسة متواضع مقارنة بمدرسة كيب تاون، لكن الطلاب من عائلات موسرة ولديهم طموحات عالية بشأن مستقبلهم المهني.

الانتقائية فكرة نسبية. فقد يُنظر إلى مدرسة في منطقة بوصفها انتقائية على عكس منطقة أخرى. ربما يُنظر إلى مدرسة كولن في منطقة فقيرة مثل مانينبيرج بوصفها انتقائية على عكس المدرسة في منطقة رونديبوش الراقية. ليست المدرسة انتقائية بناء على الطبقة الاجتماعية، بل بناء على الأداء الأكاديمي. لهذا فإن تمويل الطلاب ودعمهم يعتمد على قدرتهم على التعلم وليس على طبقتهم الاجتماعية.

 

 

About The Author

أستاذ رئيسي للفلسفة العربية والإسلامية، قسم اللغات الأجنبية في جامعة ويسترن كيب (UWC)، جنوب إفريقيا. حصل على الدكتوراه من جامعة يوهان فولفجانج جوته في فرانكفورت بألمانيا. وهو عضو مؤسس في الجمعية الدولية للفلسفة الإسلامية. حصل على الجائزة السنوية الدولية عن كتابه "الطريق إلى الفضيلة" من جمهورية إيران الإسلامية. من مؤلفاته: "فطرة: المفهوم الإسلامي للطبيعة البشرية" (1996). الطريق إلى الفضيلة: الفلسفة الأخلاقية للراغب الأصفهاني: ترجمة مع مقدمة نقدية لكتاب الذريعة إلى مكارم الشريعة (2006)؛ سيكولوجية الشخصية: وجهات نظر إسلامية، محرر. ي. محمد و أ. حق (2009).

Related Posts