علم الكلام من العلوم الرفيعة القدر عند المسلمين إذ هو يتصل بأشرف الغايات، يقول الإيجي: “وإن أرفع العلوم وأعلاها وأنفعها وأجداها وأحراها، بعقد الهمة بها، وإلقاء الشراشر عليها (ألقى عليه شراشره أي نفسه بالكلية حرصًا ومحبة)، وإدآب النفس فيها، وصرف الزمان عليها علمُ الكلام المتكفلُ بإثبات الصانع وتوحيده وتنزيهه عن مشابهة الأجسام، واتصافه بصفات الجلال والإكرام، وإثبات النبوة التي هي أساس الإسلام، وعليه مبنى الشرائع والأحكام، وبه يترقى الإيمان باليوم الآخر من درجة التقليد إلى درجة الإيقان، وذلك هو السبب للهدى والنجاح والفوز والفلاح”.

وقد سار على الدرب “فتح الله كولن” في تقديره لهذا العلم الجليل، فقد اعتبر علم الكلام أحد المصادر الأساسية للثقافة الذاتية للمسلمين، ورأى أنه مصدر رحب ومعطاء في ميراث ثقافتنا. لذا كانت العقيدة من أهم القضايا التي تعرَّض لها “كولن” في أغلب خطبه ومحاضراته وكتبه؛ نظرًا لأهميتها عنده، “فلا مجال للحركية دون عنصر العقيدة التي تقوم بمهمة توجيه الفعل والحركية”.

ولـ”كولن” مؤلفات في باب العقيدة غير خطبه وفتاويه ومقالاته، منها: “أسئلة العصر المحيرة”، عدة أجزاء، وقد ترجم إلى العربية. “القدر في ضوء الكتاب والسنة”، وقد ترجم إلى العربية. “في ظلال الإيمان”، لم يترجم بعد. “البعد الميتافيزيقي للوجود”، لم يترجم بعد. “نفخة البعث شواهد الحياة بعد الموت”، وقد ترجم إلى العربية. وفي عرض “كولن” لأبواب العقيدة سمات تميز بها، وتضعه واحدًا بين العلماء المعاصرين الذين أسهموا في تجديد عرض هذا العلم لغة وأسلوبًا وممارسة، يمكن إجمالها على النحو التالي:

1- الخطاب في مستوى إدراك العموم: فكلامه في قضايا العقيدة واضح يفهمه العامة قبل المتخصصين. “فالأستاذ فتح الله مسلم سنّي ماتريدي العقيدة، لكنه عندما يتكلم في العقيدة الأشعرية تحسبه أشعريًّا كما يخبر بذلك بعض تلامذته. فالأستاذ “كولن” -وإن كان ماتريدي العقيدة- يعمل على بناء رؤية عقدية تنسجم مع روح المشروع الإصلاحي الذي يتبنّاه، وهو المشروع الذي يتطلب أن تكون قضية العقيدة فيه أمرًا يسهل استيعاب العموم له، خاصة إذا استحضرنا أن الأستاذ “فتح الله” يخاطب عموم الناس، وإن كان يخص المقربين منه بمستويات خطاب عالية في الجلسات الخاصة، لكنه في مواعظه، وفي الخُطَب المنبرية، وفي المحاضرات، وفي غير ذلك من المناسبات التي يكون العموم أكثر حضورًا، يحرص أن يكون الخطاب في مستوى إدراك العموم”.

2- متعدد المصادر: مع أن بعض الباحثين ومحبّي “كولن” نسبوه إلى “الماتريدية”، إلا أنه لم يصرح بانتمائه إلى أي مذهب أو فرقة، إضافة إلى إنه لا يتقيد بمصدر واحد أو مذهب محدد، بل يستقى من الجميع، كأن شعاره “الحكمة ضالة المؤمن”. لذا فإن “منهج الأستاذ “كولن” في باب العقيدة، منهج متجدد يستفيد من مصادر كثيرة؛ من بينها بديع الزمان سعيد النورسي الذي كان موضوع التوحيد والعقيدة من أهم ما ركز عليه في رسائله”.

“فإذا كان النورسي هو متكلم العصر الحديث -كما يذكر ذلك الدكتور محسن عبد الحميد- فإن فتح الله كولن قد استفاد كثيرًا من أفكار النورسي، لكنه طبعها بشخصيته، وصبها في قالب خاص يمزج بين المقاربة العقلية، والحقيقة العلمية، وضوابط الإقناع والحوار، مستفيدًا في ذلك من الخطاب القرآني، ومنهجه في ذلك، ومسترشدًا بالمنهج النبوي في إضاءة هذا الخطاب”.

3-عدم الخوض فيما لا فائدة منه: يرى “كولن” عدم جدوى الجدل المذموم والاشتغال بما لا فائدة فيه؛ حيث يميز بين المسائل العقدية التي تربط الإنسان بالخالق، وفائدتها في تقوية هذا الإنسان، حتى يكون كائنًا يحسن معرفة الخالق من خلال مكونات الكون والوجود، وبين ما لا فائدة عملية ترجى من خلاله.. ولذلك عندما تطرح عليه أسئلة متعلقة بذات الله أو أمور غيبية، يعتبرها نوعًا من سوء الأدب مع الله.

4- استخدام الحقائق العلمية: دائمًا ما يشفع “كولن” رؤيته في المسائل العقدية بشرحها بطريقة علمية منطقية قريبة من مستوى إدراك الإنسان. فقد استخدم العلوم في إثبات وجود الله وصفاته، وفي إعجاز القرآن الكريم وغيره. وحث كل العلماء الباحثين في الأمور الدينية، على استخدام العلم باعتباره وسيلة وأداة لشرح الدين؛ لأن عقل الإنسانية الآن مرتبط به، ثم إنه لا عداء عندنا بين العلم والدين، وقد وضع “كولن” ضابطين لتفسير الإسلام بالعلوم، وهما:

الأول: يجب استعمال هذا الأسلوب باعتباره وسيلة وأداة فقط، والابتعاد عن محاولة استعماله لإظهار علمنا والتفاخر به؛ لأن الحقائق الإيمانية تفقد أنوارها حينئذ، ولن تؤثر على المستمعين، لأن النيات ليست خالصة على حد تعبير “كولن”.

الثاني: عدم الدخول في عقدةِ أن الجميع يتكلمون على العلم والتقنية، فمن ثم نتهالك على العلوم لتقوية العقيدة، فهذا الفهم غير صحيح. فينبغي عدم الارتياب في مبادئنا، فالعلم والتقنية خادمان لطريقنا، أما اعتبارهما أصلاً ثابتًا، ومبادئنا شيئًا تابعًا يحتاج إلى تصديق العلم، فأمر غير مقبول: “إن كلام الله وكلام رسوله حق لا ريب فيه، والعلوم صحيحة بقدر تلاؤمها معهما، وغير صحيحة بدرجة انحرافها عنهما، وحتى القسم الصحيح من العلوم لا يعد قواعد أو مستندًا تستند إليه الحقائق الإيمانية، فهي تلعب دورًا في زيادة التأمل والتفكر في المسائل الإيمانية، أما الذي يضع نور الإيمان في قلوبنا فهو الله سبحانه وتعالى”. لذا يجب النظر إلى العلوم وجميع الأدلة العلمية وعدّها تابعة، واعتبارها وسيلة لإزالة الغبار فقط عن الحقائق الإيمانية، فالإنسان مؤمن، بما استقر في قلبه، وليس بالمعلومات المتراكمة في عقله.

5- استخدام العقل والمنطق: دأب “كولن” في درس العقيدة على الإقناع بالمنطق والعقل، ودعم المتلقي بكل ما يقرب الأفكار، من خلال ذكر أمثلة عقلية لا يختلف حولها العقلاء، ومنهج المقارنة الضمنية التي تحتاج العقل والدليل الملموس، وعدم معارضة المنطق العلمي وقواعده.

6- ربط العقيدة بالسلوك: وذلك أبرز ما نجده في تجربته، إذ “ربط فتح الله كولن علم الكلام وقضاياه بالسلوك الذي يتوجب أن ينعكس في كل عمل وفي كل مشروع “. ولذلك نجده لا يبحث إلا في القضايا التي ينبني عليها عمل، ولا يبحث في القضايا الجدلية المذمومة.

7- ربط العقيدة بالتربية الروحية: في دراسة “كولن” لقضايا العقيدة، نجده يركز على بناء الإنسان روحيًّا، ولذلك تجد قضايا العقيدة ممتزجة بالتصوف كثيرًا. “لقد قدَّم فتح الله كولن علم التوحيد والعقيدة الإسلامية، وفق نمط منسجم مع المشروع المركزي وهو بناء الإنسان روحيًّا ووفق نمط يجعل من هذا الإنسان مخلوقًا فاعلاً في الكون والوجود، ووفق نمط تتجلى فيه حقيقة “الإنسان العبد لله” المكلف بمهمة إعمار الأرض ونشر الفضيلة”.

لذا، يعدُّ فتح الله كولن من أبرز من استخدم منهجية علم الكلام الجديد في عرضه، لموضوعات العقيدة بوضوح ومنطقية، وروح علمية تتناسب مع روح العصر، وعمق روحي، وعملي يتناسب مع رؤاه في بناء الإنسان الكامل من جميع جوانبه العقدية والعلمية والروحية والسلوكية. والناظر لما كتب عن علم الكلام الجديد وما يتطلبه من منهج، يلحظ أن هذا هو نفس أسلوب “كولن”، فمثلاً لو نظرنا إلى كلام الدكتور عبد الحميد مدكور في مقاله حول التجديد في علم الكلام، نجده يضع مخططًا لهذا التجديد يشتمل على:

أ- أن يتم التعريف بالعقائد الإسلامية والبرهنة على صحتها، والرد على المخالفين من القدامى والمعاصرين بلغة ميسرة تتسم بالوضوح والسهولة، والبعد عن المصطلحات الصعبة المعقدة المجلوبة من فلسفات وثقافات أجنبية، والاستعانة -بدلاً عنها- بالبراهين الشرعية والعقلية الصحيحة، ولا مانع عند الحاجة من استخدام منجزات العلم الحديث دون تكلف، والاستعانة بحقائق التاريخ الدالة على فطرية الإيمان في النفس البشرية، وبدراسات تاريخ الأديان التي تكشف عن كمال عقيدة الإسلام، ويقتضي هذا تطوير الأدلة والوسائل للرد على الملاحدة والماديين المعاصرين، ودعاوى المستشرقين والعلمانيين والعولمين وغيرهم، ولن يتم ذلك إلا بالدراسة العميقة لآراء المخالفين والإحاطة بدقائقها.

بـ- التخفف من التعصب المذهبي حتى لا نظل في دائرة علم الكلام القديم، وتثار النزعات بين أشاعرة، وماتريدية، ومعتزلة، وسلفية جدد.. ومن ثم تنتهي نزعة التكفير الموجودة بين المعاصرين، والتفرغ للمعارك التي لا بد من خوضها ضد من يسمون الإسلام بالإرهاب والعنف، ومعاداة الحضارات الأخرى، وعدم الاهتمام بحقوق الإنسان.

جـ- أن تكون محاولات التجديد في المنهج أو القضايا أو في الوسائل، مشروطة بالحفاظ على ثوابت العقيدة. ومن هنا فتجديد علم الكلام ليس هدمًا له، بل تطويرًا في قضاياه وطرقه في الاستدلال، ليكون علمًا معاصرًا قادرًا على مواجهة الشبهات العصرية.

وإذا أردنا المقارنة بين ما يأمله الدكتور عبد الحميد مدكور، وما قام به فتح الله كولن، نجد “كولن” يتمثله حذو القذة بالقذة؛ فـ”كولن”، أولاً يستخدم أسلوبًا واضحًا، ويستخدم أدلة شرعية وعقلية واضحة، ويستدل بالتاريخ، وبدراسات الأديان، وبالعلم الحديث. وثانيًا لا يتطرف ولا يتعصب لأي مذهب أو طريق، بل يعرض قضايا العقيدة دون جدل ودون تمذهب لأي جهة أو شخص. وثالثًا يوجه جهوده نحو الرد على المخالفين، ويرد الشبهات المثارة ضد الإسلام، فيتحدث عن الإرهاب، وحوار الحضارات، وحقوق الإنسان، وغيرها.. وبناء على ذلك يمكن القول بأن جهود “كولن” تعدُّ مساهمة في بناء علم الكلام الجديد.

______________

المراجع

(1) السيد الشريف الجرجاني: شرح المواقف للقاضي عضد الدين الإيجي ومعه حاشية السيالكوتي والحلبي، المجلد الأول، ضبطه وصححه: محمود عمر الدمياطي، دار الكتب العلمية، بيروت/لبنان 1998م-1419هـ.

(٢) ونحن نبني حضارتنا، محمد فتح الله كولن، ترجمة: عوني عمر لطفي أوغلو، دار النيل، القاهرة 2012م.

(٣) أشواق النهضة والانبعاث قراءات في مشروع الأستاذ فتح الله كولن، محمد جكيب، دار النيل، القاهرة 2013م.

(٤) أسئلة العصر المحيرة، محمد فتح الله كولن، دار النيل، القاهرة 2013م.

About The Author

د. نوسة السيد محمود السعيد، مواليد المنصورة- مصر 1979، مدرس بجامعة الأزهر، ليسانس دراسات اسلامية وعربية، شعبة أصول الدين، قسم العقيدة والفلسفة جامعة الأزهر فرع المنصورة 2002، بتقدير جيد جدا مع مرتبة الشرف. ماجستير عام 2012، بتقدير ممتاز بعنوان: "التصوف في القرن الثاني الهجري مدارسه ورجاله". دكتوراه 2018 بتقدير رتبة الشرف الأولى، بعنوان: "فتح الله كولن وآراؤه الكلامية والفلسفية".

Related Posts