إن الأستاذ المربي “فتح الله كولن” شخصية جامعة، وأحاديثه تفيض بمعان عميقة تخاطب طبقات مختلفة من الناس، ولا جرم أن مَن يستمع إلى مثله من العلماء يضرب بحظّ وافر من العلم على حسب مستواه، وأكثر الناس فهمًا هم أغزر الناس علمًا، فمن بلغ مرتبةً سامية في العلم ألفى كثيرًا من الحقائق الخفية بين السطور، ورأى في كلمة واحدة دروسًا عظيمةً لا يتسع لها كتاب؛ فتراه مثلًا وهو يشرح حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلهِ، وَاللهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللهِ» يصف ما في الحديث بـ”الخشية ذات البُعد الالتجائي”، فيسحر من يسمعه بهذا المعنى النفيس، فهو ذو دلالات عميقة عظيمة تملأ الصفحات.
وها نحن نسمّي سلسلتنا هذه بـ”الجرة المشروخة” اعترافًا بعجزنا عن فهمه كما ينبغي، وقصورنا عن تشرّب ما يطرحه علينا من حقائق، وتقصيرنا في تسجيلها والاستفادة منها وإفادة الآخرين بها؛ ومرادنا بعنوان السلسلة المذكور الإشارة إلى أن ما نقدمه ليس إلا مرآة أصغر بكثير من أن تعكس عِلمَ أستاذنا الجليل وحياتَه الروحية والقلبية وزُهدَه وتقواه؛ وقد استوحينا هذه الفكرة من قصة ذكرها مولانا جلال الدين الرومي:
في قديم الزمان نصب سلطان فسطاطه على نهر الفرات، فأحَبَّه الناس، لأنه فتح قلوب العباد لا البلاد فحسب؛ أجل، أحبّوه، وتمنّوا أن لو تعارفوا، ليحظوا بحبه ورضاه، فهو أهل بر وخير، لذلك كانوا يأتونه في بعض الأيام ويقدّمون له الهدايا؛ وذات يوم قدّم الأغنياء والميسورون هدايا ثمينة للسلطان، فراح أحدُ الفقراء يبحث عن هدية تليق بالسلطان، فلما لم يجدْ شيئًا خطرت على باله جرة مشروخة تقبع في ناحية من بيته، فأخذها وملأها بماء عذب من سبيل القرية، وقصد بها السلطان، فقابله أحدهم وسأله عن صنيعه ووجهته، فلما عرَّفه غايتَه قال له مستهزئًا: “أما تعلم أن الأنهار تجري من تحت قصر السلطان، والماء الذي في جرّتك من العين السلطانية أيضًا”؛ فامتقع لون الفقير وغصّ وانعقد لسانه، ثم قال: “لا ضير، فالسلطنة تليق بالسلطان، والفقر يليق بالفقير؛ فإن لم يكن لديّ هدية قيّمة أقدّمها للسلطان فحسبي أنني أحمل قلبًا مفعمًا بحبّه همّه أن يقدّم ماء عينِه إليه”.
وقد عزمنا على تقديم هدية للسلطان بجرتنا المشروخة التي بين أيدينا؛ عسى أن تكون قراءتكم لهذه اللطائف التي أفاضها الله علينا هي هديتنا؛ ونحن نجزم بأن سقي كثيرين من هذا المنهل العذب المورود فيه شكر لنعمة القرب من هذه العين المباركة.
بادئ الأمر كنّا ندوّن شيئًا من الملاحظات نستعين بها في تذكر ما نسيناه من أحاديثه، لكن كان يفوتنا الكثير، فشرعنا في تسجيلها ثم تفريغها بدقة على الحاسوب لنقل ما يذكره تامًّا وافيًا، ثم نقوم بعملية التبييض والتنقيح والتدقيق، ثم نتذاكر نتاج ذلك فيما بيننا.