تقول المؤلفة الأمريكية الدكتورة جيل كارول: “لقد عشتُ مع فتح الله كولن من خلال كتاباته أثناء إعداد هذا الكتاب، وما زالت أفكاره تلهمني. وقد عرفت بعد لقائه، لماذا ألهم هذا الرجلُ ما يقرب من ثلاثة أجيال في تركيا، ومنحهم الدافع، رجالاً ونساء، لإنشاء عالم جديد. إنه رجل يتمتع بقدر هائل من الروحانية والإخلاص والتعاطف. وهو شيء واضح للغاية في كتاباته وفي شخصيته”.
بهذه العبارات تختم المؤلفة الأمريكية الأكاديمية الدكتورة جيل كارول، كتابها المثير للفضول العلمي “محاورات حضارية: حوارات نصية بين فتح الله كولن وفلاسفة الفكر الإنساني”. أما الفلاسفة الذين تقارن المؤلفة بين نصوصهم ونصوص المفكر الفيلسوف التركي، فهم كونفوشيوس، وأفلاطون، وكانط، وجون ستيورات ميل، وسارتر. وأما الكاتبة فهي أكاديمية من جامعة “رايس” الأمريكية، تعمل خبيرة ومحاضرة متخصصة في مجال الدين والسياسة والمجتمع، وفلسفة الحياة، وعملت مديرة لمركز بحث وتطور التسامح الديني في الجامعة نفسها حتى يونيو 2009م، ولا تزال تعمل عضوًا في هيئة التدريس في كلية الدراسات الدينية في هذه الجامعة، وهي تلقي محاضرات في شتى المراكز العلمية والخدمية، كمعهد “كادم”، ومركز “جانك” للشباب في هيوستن، وسجن ولاية تكساس، بالإضافة إلى عملها كاتبة في مدونة تدعى “تولينك تولرانس” تابعة لجريدة “هيوستن كرونيكل”. وكتابها هذا الذي قدّم له البروفيسور أكبر أحمد (أستاذ كرسي ابن خلدون للدراسات الإسلامية في الجامعة الأمريكية بواشنطن) حاز أصله الإنجليزي لقب الكتب الأكثر مبيعًا على موقع الأمازون في فئة الكتب الإسلامية إبان نشره في عام 2007م، علمًا بأنه ترجم إلى اثنتي عشرة لغة عالمية من بينها اللغة العربية.
ينقسم الكتاب الذي يحمل في أصله الإنجليزي عنوان (A Dialogue of Civilizations)، إلى خمسة فصول، تتناول الموضوعات التالية:
• القيمة الإنسانية المتأصلة والكرامة الأخلاقية بين كولن وكانط،
• الحرية لدى كولن وميل،
• الإنسان المثالي لدى كولن وكونفوشيوس وأفلاطون،
• التعليم بين كولن وكونفوشيوس وأفلاطون،
• المسؤولية عند كولن وسارتر.
وعلى الرغم من انتماء كونفوشيوس وأفلاطون وكولن إلى خلفيات ورؤى حياتية مختلفة تمامًا، فإنهم يشتركون جميعًا في رؤية أساس واحدة حول بنية الواقع. فالثلاثة -كما تقول المؤلفة- يتحدثون عن رؤاهم للمجتمع الإنساني من منطلق مثالية غيبية تمثل الأساس والمصدر والحقيقة والأصل لكل الواقع الدنيوي. وبعد أن تحلل الرؤية الفلسفية عند كونفوشيوس وأفلاطون، تخلص المؤلفة إلى القول “إن كولن يؤكد على تصوره للحياة الإنسانية في إطار الإسلام الذي يطرح رؤية حياتية تجمع بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، ولا تكتسب الحياة الدنيا كمالها ومعناها وأصالتها، إلا عندما نعيش فيها ونحن نؤمن بوجود الله I باعتباره المصدر والأساس للحقيقة. وجميع الكائنات هي في جوهرها مسلمة -بمعنى أنها تسلم وجهها لله- لأنه لا وجود مطلقًا لأي شيء بعيدًا عن إرادة الله وقدرته. وعندما تسير الأشياء في حياتها وأهدافها بالطريقة التي فطرها الله عليها، فإنها تفعل ذلك في خضوع واستسلام لله باعتبارها مسلمة”. وتقول المؤلفة وهي تحلل في استيعاب عميق رؤية كولن المستمدة من الإسلام، “إن الحياة في أكمل صورها لا تكون إلا عندما نعيشها ونحن نؤمن -بعقولنا وليس فقط بالفطرة- بتلك الجنة الأبدية للحياة في خضوع واستسلام لله I”.
وتسجل المؤلفة ملاحظة مهمة في إطار المقارنة بين المفكرين الثلاثة، فتقول “إن أفكار كولن عن العالم الإسلامي، وخصوصًا تاريخ الأناضول ومصيره، تتوازى مع خواطر كونفوشيوس عن الصين القديمة؛ فكلا الرجلين يشير إلى فترة ماضية من العظمة الضائعة التي يجب استعادتها الآن. يشير كونفوشيوس بشكل متكرر، إلى الحكام والأباطرة القدماء وغيرهم من الأجيال السابقة كأمثلة للنبْل وللحكمة اللذين كان ينبغي -وقتها- استلهامهما لو كانت الصين ترغب في استعادة مجدها السابق وتجنّب التشرذم والطغيان. وكولن يتأمّل أيضًا في الماضي المجيد للإمبراطورية العثمانية يوم كانت الحضارة التركية في أوجها، وكان الإسلام كدِين وثقافة يسود العالم سيادة مطلقة. وهو يرى أن عظمة العثمانيين الحقيقية كانت تكمن في التزامهم بالمثل العليا التي تهدف إلى خير المجتمع في حاضره ومستقبله، وأيضًا في جوهرهم الإسلامي الذي جعلهم يقتدون بالخلفاء الأربعة الراشدين، ويرى كولن أيضًا، أن شخصيات بارزة مثل الفراعنة وقيصر ونابليون، وإن كانت تصرفاتهم تسيء إلى سمعتهم، فإن أعمالهم لم تكن ذات طبيعة استمرارية، لأن الدافع في أعماقهم لم يكن المثل العليا من أجل الإنسانية ومستقبلها، بل الطموح الشخصي والطمع وشهوة القوة”.
وتنقل المؤلفة فقرة من كتاب كولن “ونحن نقيم صرح الروح”، يشرح فيها هذه الفكرة حيث يقول: “إن الفخامة والعظمة والحياة الصاخبة لفرعون ونمرود ونابليون وقيصر وأمثالهم، لم تقدم شيئًا باسم المستقبل -مهما كبرت أعمالهم في عيون قوم يحسنون الظن بلا تمحيص- بل محال ذلك، لأنهم وضعوا الحق تحت إمرة القوة، وشدوا الروابط الاجتماعية حول المنافع، وقضوا أعمارهم عبيدًا للنفسانية عبودية لا ترتضي عتقا”. ولا شك أن مَن ذكرهم كولن في هذه الفقرة، لهم أشباه ونظائر في واقعنا المعاصر، خصوصًا في العالم العربي الإسلامي.
وينتقل بنا الكتاب إلى موضوع التعليم، فيبرز كيف أن كولن يضع التعليم والتعلّم في صلب الغرض الأساس من الوجود الإنساني؛ وبتعبير آخر، إن الهدف من حياة الإنسان هو أن يصبح إنسانًا كاملاً، وهذا تمَّ بطلب العلم والمعرفة، و”كولن يضع هذا الأمر ضمن السياق الأكبر للعبودية لله. ويمكن أن نصوغه في سياق أكثر اتفاقًا مع فكر أرسطو، وهو أن غرض كل شيء ووظيفته هي أن يكون هو نفسه بكل كماله واكتماله، وكل شيء بطبيعته مزودًا بالقدرات والعناصر الداخلية التي تجعله هو نفسه بشكل كامل، إذا توافر الإطار الملائم، فالبشر يولدون ولديهم القدرة على أن يصبحوا بشرًا بكل معنى الكلمة. ويعتقد كولن -مثل أرسطو وسقراط وكونفوشيوس وكثيرين غيرهم- أن الآلية الفطرية لتحقيق الإنسانية بشكل كامل، تكمن في قدرتنا على التعلم”. وتستشهد المؤلفة بما قاله كولن في هذا الشأن: “بما أن الحياة الحقيقية بالنسبة للإنسان تكون قائمة بالعلم وبالعرفان؛ لذا فالذين يُهملون التعلم والتعليم يعدّون أمواتًا وإن كانوا على قيد الحياة. ذلك لأن الغاية من خلق الإنسان هي النظر والتأمل وتحصيل المعرفة ونقل ما تعلمه إلى الآخرين”.
وفي الفصل الخامس الذي خصصته المؤلفة للمسؤولية عند كولن وسارتر، تقول “إن كولن لا يرفض سارتر بسبب أفكاره عن المسؤولية، فهما في الحقيقة متّفقان إلى حد بعيد في هذا الموضوع، حتى وإن اختلفا في كل ما عداه تقريبًا؛ فكولن -كمسلم تنطلق أفكاره كلها من سياق إسلامي- يتحدث عن قضايا الخلافة والمسؤولية الإنسانية في هذا العالم بطريقة مشابهة لكل أقوال علماء الدين تقريبًا في الديانات الكبرى التي تنادي بالتوحيد عند التعامل مع تلك الموضوعات”. وتشير المؤلفة إلى أن كولن يناقش الخلافة الإنسانية بالتفصيل في كتاب “ونحن نقيم صرح الروح” بطريقة تبدو أكثر قوة وراديكالية مما في كتاباته الأخرى، حيث ينطلق مع مطلع الكتاب، في مناقشة التدبير الإلهي والإرادة الإنسانية الحرة، مؤكدًا في النهاية على التوازن الدقيق. وتبرز المؤلفة خطوط التشابه بين كولن وسارتر في موضوع الحركية التي يقول عنها كولن: “إن أهمّ شيء وأشدّ ضرورة في حياتنا هو الحركية، فمن الضروري أن نتحمل بعض المسؤوليات بحركية مستمرة وفكر مستمر. إن السكون الدائم يعني إهمال التدخل فيما يحدث حولنا، وترك المشاركة في التكوينات المحيطة بنا، والاستسلام للذوبان الذاتي رغماً عن أنفسنا كقطعة جليد سقطت في الماء”.
تأتي أهمية هذا الكتاب من أن مؤلفته الأكاديمية الأمريكية درست جيدًا أفكار محمد فتح الله كولن، في ضوء الفلسفة الإنسانية، فاستوعبت فلسفته التي لها تأثير -سواء أكان مباشرًا أم غير مباشر- على الحياة الفكرية والثقافية -وربما الحياة السياسية أيضًا- في تركيا اليوم. وللأسف فإن هذا المفكر الفيلسوف التركي رائد الدعوة إلى الحوار بين الأديان، يعرف في الغرب أكثر مما يعرف في العالم العربي، بينما معرفته وفهم أفكاره والاطلاع على كتاباته، كل ذلك يشكل مدخلاً لفهم ما يجري في تركيا اليوم القوة الاقتصادية الصاعدة، والنموذج الديمقراطي المتميز في العالم الإسلامي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عبد القادر الإدريسي، نور وفتح قراءة في فكر سعيد النورسي وفتح الله كولن ، دار النيل للطباعة والنشر.