لا أعرف أحدًا -حسب علمي- من غير العلماء العرب، صدر له تفسير للقرآن الكريم في هذا العصر، سوى أبو الأعلى المودودي من باكستان، ومحمد حسين الطباطبائي من إيران، وسعيد النورسي من تركيا. هؤلاء الثلاثة هم مفسرو القرآن الكريم في القرن العشرين، من غير المفسرين العرب. مع الملاحظة أن الأول كتب تفسيره باللغة الأوردية وكان ينشره في مجلته “ترجمان القرآن”، والثاني كتبه باللغة العربية ثم ترجمه إلى الفارسية والإنجليزية وعنوانه “الميزان في تفسير القرآن”، والثالث كتبه باللغة العربية ثم ترجم إلى اللغة التركية وعنوانه “إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز”، وتُرجم أيضًا إلى لغات أخرى. أما تفسير أبو الأعلى المودودي فلا أعلم أنه ترجم إلى اللغة العربية.
أما الملاحظة الثانية، فهي أن المفسرَين الأول والثاني قد كتبا تفسيرًا جامعًا للقرآن الكريم، بينما كتب المفسر الثالث (سعيد النورسي) تفسيرًا موجزًا في غاية الإيجاز، ولكنه دقيق وعميق وبليغ.
هذا في عصرنا الحاضر.. أما في الماضي، فإن جلّ المفسرين لكتاب الله كانوا من غير العرب، الطبري والبيضاوي والقشيري والزمخشري والرازي، وغيرهم.

لم يكتب كولن تفسيرًا بالمعنى العام، لكنه نظر في آيات القرآن الكريم نظرات عميقة، فاستخرج منها معانيَ جديدة لم يسبق إليها، وانتهى إلى خلاصةٍ مبتكرة فيها عمقُ الفكر وشفافية النظر ورقّة الوجدان ونفاذ البصيرة.

لكن هناك مفسرًا ثانيًا من تركيا، صدر له تفسير لآيات بينات من القرآن الكريم، في كتاب صدر باللغة التركية، ثم ترجم إلى اللغة العربية، وهو كتاب “أضواء قرآنية في سماء الوجدان” لمؤلفه الأستاذ محمد فتح الله كولن. ويتميّز هذا المفكر بمنهجه في التأمل في كتاب الله وفي التحليل وفي الرؤية الثاقبة إلى الماضي والحاضر والمستقبل. وإذا كان الأستاذ محمد فتح الله كولن لم يكتب تفسيرًا بالمعنى العام، فإنه نظر في آيات من القرآن الكريم نظرات عميقة، فاستخرج منها معانيَ جديدة لم يسبق إليها، وانتهى إلى خلاصةٍ مبتكرة فيها عمقُ الفكر وشفافية النظر ورقّة الوجدان ونفاذ البصيرة، بحيث يمكن القول إنه قرأ القرآن الكريم قراءة إيمانية جديدة هي غير القراءة الجديدة التي يقول بها رهطٌ من المفكرين الذين هم أبعد ما يكونون عن روح القرآن.

نماذج من خواطر كولن

يفسر الأستاذ محمد فتح الله كولن الآية السابعة والسبعين من سورة القصص “وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا”(القصص:77)، فيقول: “فُهمت هذه الآية الكريمة من قِبل الكثيرين على أنها تشير إلى طلب الدنيا على الدوام. ولكن من يعرف شيئًا قليلاً من اللغة العربية، يعرف خطأ هذا الرأي. فمن يدقّق في سياق الآية وبدايتها يرى المعنى الآتي: تقول الآية “وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ”، أي اجعل كل ما أعطاك الله وسيلة للدار الآخرة. وفعل “وَابْتَغِ” هنا يعني شيئًا أكثر من (وَاطْلُبْ)، لأنه يعني: اطْلُب واسْتَعمل ما أتاك الله من قلْب وحسّ وشعور وإدراك وصحّة ومال وولد… إلخ -بل وحتى كل استعداداتك الفعلية والكامنة- واستخدمها في طلب الدار الآخرة. ثم تأتي الآية “وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا” لموازنة المسألة. أجل علينا أن نضع الغد وما بعد الغد أمام أنظارنا على الدوام، وفي الوقت نفسه لا ننسى ما يعود للدنيا من أمور وأشياء. إذن فتناولُ الشق الثاني فقط من الآية وتوجيهُ الأنظار إلى الدنيا فقط وجعلها هي وحدها محور النشاط، خطأ فاحش”.
ويمضي في استخراج معنى آخر من هذه الآية الكريمة، فيقول: “ويمكن النظر إلى هذه الآية من زاوية أخرى: اطلبوا الدنيا حسب قيمتها، واطلبوا الآخرة حسب قيمتها. يمكن أن يكون هذا قاعدة من القواعد. إذن فالقرآن يعطي الإنسان بهذه الآية مقياسًا، ويطلب منه استعماله؛ ويجب أن نفهم الآية بهذا المعنى، لأن الدنيا حسب القلوب المطمئنّة كيَوم عرفات، والأيام الماضية للدنيا بالنسبة للعيد كيَوم عرفات. أما العيد الحقيقي فوراء الأفق، بل وراء وراء الأفق. لذا يجب المحافظة على هذا التوازن وصيانته، وعيشُ يوم عرفة حق عيشه. ومن يفقد يوم عرفة في الحج يستطيع إدراكه بعد عام واحد، ولكن من يفقد يوم عرفة الآخرة -عندما نشبّه هذا اليوم بالحياة الدنيا- وفاتَه ذلك اليوم، فلن يستطيع إدراكه مرة أخرى”.
وعندما يتأمل المؤلف في الآية العاشرة من سورة الحشر •رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا(الحشر:10)، يفيض قائلاً: “يجب أولاً أن نعلم جيّدًا بأن الدار الآخرة والجنة هما المكانان الأصليان اللذان يطرح فيها الغل والشر من القلوب. ولو أخرجت هذه المشاعر -التي هي من أسس الامتحان- من القلوب في الدنيا، لانْقلب الإنسان فطرة إلى ملَك من الملائكة. بينما خلق الله الإنسان في هذه الدنيا بماهية قابلة للخير وللشرّ أيضًا. ولو فرضنا المستحيل وأخرجت هذه المشاعر من قلب الإنسان في الدنيا، لنبتت هذه المشاعر في القلب مرة أخرى في يوم من الأيام كما ينبت الشَّعر أو الأظافر من جديد، لأنها لصيقة بفطرة الإنسان. لهذا السبب فبدلاً من صيغة الدعاء “نَزَع”، ورَدَ التوجّه لله تعالى الفاعل الحقيقي بصيغة “وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا”. إذن، فالواجب الملقى على عاتق الإنسان هنا هو التوجه بالدعاء القولي والفعلي لله تعالى ومحاولة التخلص من هذه المشاعر التي تعد مثل الأشواك المعنوية المستقرة في القلب. وبهذه الوسيلة يستطيع التطهر من المشاعر السيئة ويكون أهلاً للجنّة ويقبله الله تعالى في رضوانه”.

 الذين توجد بينهم رابطة الإيمان ورابطة الإسلام عليهم أن يتحابّوا ويحترموا أسلافهم، بل ويغضّوا النظر عن بعض تقصيراتهم المحتمَلة، وأن يدعوا بالخير لمن سبقوهم.

ثم يستطرد بعد هذه الإشراقات المضيئة، في بيان الدروس المستخلصة من هذه الآية الكريمة، فيقول: “وكأن هناك رسالة موجهة إلينا في هذه الآية الكريمة تطلب منا أن نعيد نظرتنا بالنسبة للسلف الصالح، أي قبول التابعين للصحابة، وقبول تابع التابعين للتابعين. أي تدعونا للتصرف باحترام تجاه أرباب القلم وأرباب الكلام من رجال الحركة والفكر الذين تركوا في حياتنا الدينية وفي مشاعرنا وأفكارنا وعقيدتنا -بل حتى في التفسير وعلم الكلام والفقه- أثرًا لا يمحى وميراثًا كبيرًا لنا”.
ويفضي هذا الاستنتاج بالكاتب إلى الوقوف وقفة متأنية عند الآية العاشرة من سورة الحجرات “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ”(الحجرات:10)، والآية الواحدة والسبعين من سورة التوبة “وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ”(التوبة:71)، فيقول: “إن الذين توجد بينهم رابطة الإيمان ورابطة الإسلام عليهم أن يتحابّوا ويحترموا أسلافهم، بل ويغضّوا النظر عن بعض تقصيراتهم المحتمَلة، وأن يدعوا بالخير لمن سبقوهم، وألا يحملوا -على الإطلاق- أي حقْد أو غلّ أو عِداء تجاههم. والذين يدّعون انتسابهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم ألا يفكروا وألا يتكلموا إلا بخير وألا يتصرفوا إلا بخير، تحقيقًا للآية الكريمة “وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ”(المائدة:2)”.
هذا التوجيه الروحي الشفاف هو الطابع المميز لكتابات الأستاذ محمد فتح الله كولن، وهو البذرة الطيبة التي زرعها فيه أستاذه بديع الزمان سعيد النورسي، وهو المنهج الذي يسير عليه المؤلف في خدمة الإيمان والقرآن، بالأسلوب الحكيم الذي لا أبالغ إذا قلتُ إنه أسلوب فريد من نوعه في العالم الإسلامي.
ومن هنا يأتي نجاح خدّام رسائل النور في تركيا وفي غيرها من بلدان العالم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: عبد القادر الإدريسي، نور وفتح قراءاة في فكر سعيد النورسي وفتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2014م، صـ118/ 119/ 120/ 121/ 122.