المقدمة

أنفاس القلب ليس لها حروف ولا كلمات، لم تلهج بها الألسنة بعد، ولم تطرق الأسماع، ولم تتعرف عليها أسنان الأقلام ولا مفاتيح الآلات الكاتبات، ولكنها فوق كل هذه السبل التي تعبر بها عن نفسها، لها لغة بهية راقية؛ بحيث إن أصحاب هذه الأنفاس لا يجدون حاجة إلى الكتابة أو الإلقاء، ولا إلى ممارسة فنون الخطابة والإقناع، ومن يفهمون لغتها لا يضطرون إلى البحث عن بيان أبلغ وأوقع منها.

يقدم الباحث في  تلك قرائته الخاصة وتجربته مع الكتاب وسنعيش معه ليعبر لنا عن لمحات من كتاب أنفاس القلب للأستاذ فتح الله كولن  حيث يغوص بنا في أعماق النفس البشرية، وورطاتها ورحلتها للصعود والارتقاء والتصفي، ويحلق بنا في أفق القلب مفصحًا عن بعض أسراره الواردة في طيات هذا السفر القيم.

******

يعيش الإنسان حياته بين مشاهدة منن الله تبارك وتعالى عليه ومطالعة عيب النفس والعمل، ولا يزال يبحث في قرارة ذاته عن الحل الأمثل لكي يصل إلى معراج النفس، فيرتقي وتصير روحه صفية نقية، وهذه الروح الصافية يلقب صاحبها بالطاهر الذي يصفه الأستاذ كولن بأنه “على صلة دائمة مع ربه، تشع منه أنوار تقذفها نظراتهم، أما ملامحهم فتعكس معاني يسحر بها على الفور من يشاهدهم”، كأنهم طاقة حب تشع نورًا تضيء لمن حولهم، فتنتشلهم من ظلمات التيه إلى نور الرشاد، ولما لا وهم ورثة النور المحمدي، وهذا الكتاب الذي بين أيدينا ما هو إلا طاقة نور كتبها الأستاذ من قلب طاهر بكلمات تحولت من مجرد كلمات إلى طاقة حب تشع نورًا، لكي تأخذ بأيدينا جميعًا إلى نور الرشاد.

الطريق بدايته من القلب

المراد بالقلب هنا “اللطيفة الروحانية الإلهية” التي هي منبع الأسرار ووعاء الخير، ومن ينبوع القلب يتفجر ماء الحياة، ولكن لتفجر هذا الماء قاعدة أساسية، وهي”تخلية القلب عن غير الله تعالى، وتحليته بالذكر”.

يصور الأستاذ كولن أن العلم عند المسلمين كان نتاج شوق وتطلع إلى المعرفة، ولذا كانت الأشكاليات الأولى التي حلها المسلمون ببراعة هي إشكالية المنهج العلمي.

وهذا هو الطريق الصحيح طريق يبدأ بالطهارة، فتخلية القلب عن غير الله هي أن يتطهر القلب عن السوى، ولا يرى إلا هو. ومفتاح هذا هو استغراق القلب بالكلية بذكر الله، ولكن هذا الطريق يحتاج إلى شرط أساسي يطلق عليه الأستاذ كولن “الصبر الفعال”، ولكن كيف أطهر قلبي عن غير الله، يجاوبنا الأستاذ بـأن “الحب هو أساس الطريق”

قال بعض العارفين: اغرس بذرة المحبة في قلبك واسقها بماء الإخلاص وراعها بالرفق والسماحة تنبت شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء. وهذا التشبيه يجعل قلب الإنسان كالأرض التي إن وضعت فيها بذرة صالحة وروعيت أنبتت نباتًا حسنًا يعطي الخير لكل ما حوله، ولهذا عبر الأستاذ بأن “المحبة هي التي تجعل النفوس نضرة نابضة بالحياة” وأن “محبة الله هي رأس كل شيء، وهي المنبع الأصفى والأنقى لكل أنواع المودة”.

وكأس المحبة لا يرتوي من شرب منه، بل سيظل ظمآنًا، وهذا الشراب لا ينفذ، وقد كتب يحيي بن معاذ إلى أبي يزيد البسطامي، ههنا من شرب كأسًا من المحبة لم يظمأ بعده، فكتب إليْه أبو يزيد، عجبت من ضعف حالك ها هنا من يحتسي بحار الكون وهو فاغر فاه يتزيد.

وقد أنشد أحد المحبين:

شربت الحب كأسًا بعد كأس           فما نفد الشراب ولا رويت

فقلب المحب لا يفتر عن ذكر محبوبه، فهو به يعيش، ولو غاب عنه لحظة هلك، يعيش بالأنس، وقد قال أحد العارفين: عجبت لمن يَقُول ذكرت ربي، فهل أنسى فأذكر مَا نسيت؟.

وهذا أمر واقع “فعشاق الحق تبارك وتعالى مخلصون، يضعون رؤوسهم على أعتابه تعالى، يسخرون أيديهم وأرجلهم، وأعينهم وآذانهم، وألسنتهم وشفاهم لأمره”، فهم يهيمون بحبه متعلقون به تعالى، فيشربون من كاسات القرب، وهذه الكاسات تبدو من الغيب ولا تدار إلا على أسرار معتقة، وأرواح عن رقة الأشياء محررة، فيحدث عندهم ما يسميه أهل العرفان بالمحو والإثبات، فيمحو من قلوبهم غيره، ويثبت على ألسنتهم ذكره، وفي هذه الحالة يتحول كل الكون أمامهم إلى “قصيدة المحبة والكرة الأرضية قافية تلك القصيدة” ويبدأ بوضع يديه على المشكلة الحقيقية.

مشكلة الأنا

“إن الإنسان ما دام مربوطًا بأنانيته الشخصية، ومتعلقًا بذاته، فلن يتخلص من كونه ذرة أو قطرة أو لا شيء، وهذه الأنا تذوب إذا صار الإنسان من أبطال القلب، هؤلاء الأبطال الذين “يخلو كلامهم من الحروف والكلمات، فهم يتحاورون فيما بينهم، يتبادلون الحديث بلا ألسنة ولا شفاه، تضمحل الأنا عندهم، فلا تجد أحدهم يقول شمعتي أنا، أو مشعلي أنا، فهم قوم علموا حقيقة أنفسهم، وأنهم فانون لا بقاء لهم، وإنما أجسادهم خيالات ستفنى لا محالة، وأن بقاءهم الحقيقي مع بارئهم وحبيبهم، وينطق قلبهم “لا أريد الغير، بل أريد الحبيب الباقي”.

العلم من حيث ذاته أمر محبوب، ولكن إن انضاف إليه أمر حب التعرف على الذات الأقدس ، تحول من الجمود إلى الحياة، وصار العلم علمًا حيًّا يبث الحياة والمعاني.

وحل هذه المعضلة الكبرى لخصه الأستاذ في أن يعرف الإنسان موقعه وموقفه تجاه الحق، فموقع الإنسان أنه حامل الأمانة ولا بد لحامل الأمانة أن يكون أمينًا صادقًا عفيفًا، وأن يحقق ماهيته، وهذا لا بد للإنسان فيه من أن يفتح باب الفقر، وحقيقته عند أهل العرفان أن لا يستغني إلا بالله، وقد سئل يحى بن معاذ: ما الفقر؟ قال: خوف الفقر، قيل: فما الغنى؟ قال: الأمن بالله سبجانه وتعالى.

وقد عبر عن هذا الأستاذ كولن بتعبير غاية في الروعة، وهو يهمس في أذني وأذنك همس الناصح الأمين أنك لا بد أن توقف نفسك ماثلاً أمام عظمة الله وكبريائه قائلًا: “هذا مقتضى وضعي وموقعي أمام الله” ففي هذه اللحظة ستخر ساجدًا أمام من العظمة ردائه والكبرياء إزاره، ولكن السجود هنا ليس سجود الأعضاء، بل هو سجود القلب الذي تكلم عنه أهل العرفان. فللقلب سجدة إذا سجدها، لم يقم من بعدها أبدًا، وفي هذه الحالة سيعد الإنسان نفسه فردًا من الناس لا يمتاز عنهم بأي شيء، وسيرى أن خدمة الإنسانية كلها أمر متحتم عليه، وهو أساس الأمانة التي حملها، وهذا المقام سيورثه مقامًا آخر، وهو مقام الشفقة.

الشفقة

مقام الشفقة ناتج عن المحبة إذ لا يشفق إلا من أحب، فبالحب تمحى الكراهية، وتولد الشفقة، فالشفقة عناية مختلطة بخوف؛ لأن المشفق يحب المشفق عليه، وهي في أصل مادتها اللغوية تدل على رقة في الشيء، فهي نوع من أنواع التجلي للأخلاق الإلهية.

وقد وصفها الأستاذ بوصف دقيق فقال هي: الشعور بالمحبة والعلاقة تجاه الآخرين دون مقابل، ومجابهة أنواع المعاناة التي يتعرض لها المظلومون، والتحنن عليهم بشكل بالغ مثل تحْنان الأمهات، فهو وصف لها باعتبار أثرها، ولم يكتف فقط بكون الشفقة شعورًا بمحبة، بل أضاف إليها قيدًا في غاية الأهمية “دون مقابل”.

من غلب في عالم الأمل كيف له أن يعيش في واقع الحياة، فهو إنسان عابث لا يبحث عن أية حقيقة، وكل ما يبحث عنه هو إرضاء شهواته وميولاته.

فالحب الحقيقي الذي يورث الشفقة الحقيقية هو الذي لا يكون متعلقًا بسبب بل هو بلا مقابل، وهذا النوع هو الدائم أن تحب المرء لا تحبه إلا لله، وكذا لا تشفق عليه إلا لله، ومن هنا ينطلق المعنى الآخر الذي أشار إليه الأستاذ، وهو أن تحمل هم المظلوم أيًّا كان، فمعاملتك من قبيل الحب لكل الإنسانية، وهذا الحب يحمل معنى تتجلى فيها المعاني الحقيقية للإنسانية، تحنن بشكل بالغ عليهم مثل تحنن الأمهات، وهذا التحنن لا يكون إلا إذا وضع المحب نفسه مكان المحبوب “فمن سُعد بحمل هذا الشعور بين جوانحه فسيمد يد الشفقة إلى كل من يحتاج”.

فالشفقة أكسير يداوي أي آفة للعداوة، ويؤسس لنا إيجابية وهي مجابهة الآلام المحققة للذين هم في ميحطنا القريب أو البعيد، وذلك بأن نزيلها ونقطع الطريق أمام المصاعب المحتملة، وأن نقيم مقامها الفرح والسرور، وإن كان هذا النوع هو مواجهة إيجابية لمشكلات المجتمع فهو يربي في الناس التضامن الاجتماعي، ويصدق على المجتمع مسمى مجتمع الرحمة، وأفراده يسمون بأهل الرقة والرحمة.

لكنه لا يهمل المجابهة الحقيقية للمشكلة، فكما قلنا إن المشفق محب، فالمحب يحاول أن يُقوَّمَ مشكلات محبوبه، ويضع لها أطر العلاج ويحاول جاهدًا أن يرشده، فهو ينظر بنظرات الرحمة ويحتضن المظلوم والمغدور به، واحتضانه للمظلوم يكون بالإحسان إليه وتنبيهه على ظلمه وألا يعينه على إيقاع الظلم، وهذا معنى قول سيدنا رسول الله “انصر أخاك ظالما أو مظلوما” (رواه البخاري).

فأمام القلب المشفق الناس سواسية كأسنان المشط، وإذا استحضر الإنسان هذا المعنى سيتنفس دائمًا بالشفقة وستتحول نظرته للكون إلى مرحمة ورفق، وبهذا يتحول إلى إنسان المرحمة.

المرحمة

إن المرحمة هي الخميرة الأولى للكون والوجود، وكل شيء بدونها مزيج من الفوضى، بهذه الكلمات المعبرة افتتح الأستاذ مقالة المرحمة،  وهي وصف وصف به الله تعالى عباده الصالحين الناجين، فقال تعالى: “ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ”(البلد:17).

على قدر ما في قلب الإنسان من نور يكون بيانه نورًا، فمن الناس من يتكلم ببيان كأنه خرزات اللؤلؤ يبادر باللقط إذ يلفظ، ومن الناس من يكون بيانه حصى يتحاشاه الناس، ويلغى فلا يحفظ.

والمرحمة بها صلاح الإنسانية، وهذا هو معنى قول الأستاذ بأنها الخميرة الأولى للكون والوجود؛ فبها وجد كل شيء، وبها يواصل وجوده، وإذا حلق الإنسان في حياته بأجنحة المرحمة، تغيرت نظرته للكون من حوله، وتفتحت عين البصيرة عنده، وبهذه العين يرى حقيقة الأشياء، يرى الكون من حوله نسيج جميل من خلق الله فيورث هذا في قلبه إكبارًا وإجلالاً لكل شيء، فيتعامل مع الكائنات كلها على أنها خلق لله، لا فرق عنده بين مخلوق وآخر، فيرحم الضعيف ويحنو على القاسي، ويتقبل الآخر، ويتكاتف مع من حوله من أجل إعمار هذا الكون الذي هو مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية، وهذه المرحمة لا تكون ذلاً ولا هوانًا، بل هي مرحمة مبنية على عزة وحسن توجيه، فهو يرحم الظالم بأن يبين له وجه ظلمه ويرشده للخير؛ ولذا عبر الله تعالى في الآية السابقة بالتواصي بالمرحمة، ومعنى التواصي بالمرحمة هو أن يحث بعضهم بعضًا على أن يرحم المظلوم أو الفقير، وإذا تحقق الإنسان بالمرحمة أورث ذلك في قلبه أملاً تجاه كل ما حوله، وتحول إلى “إنسان الأمل”.

إنسان الأمل

إذا تحققت الرحمة في قلب الإنسان، وتفتحت عين البصيرة أمامه وانبعث الأمل في قلبه، وتحول إلى إنسان منتج.

والأمل ينتج من الشوق الذي ظهرت منه آثار اسمه الرحيم في الكون كله، وهذا شوق إلى الله سبحانه وتعالى زرْعه الحب الذي يتأتي من مشاهدة آثار رحمة الله، فيتعلق القلب بصفاته المقدسة فيشتاق إلى معاينة لطائف كرمه وآيات بره وأعلام فضله، ويورثه هذا طاقة نافذة تحاول أن تستخرج من كل ما حولها مشاهد الجمال والجلال الإلهي، فلا ينظر للكون من حوله إلى مجرد مورد استهلاكي، بل ينظر إليه نظرة المستكشف، ويستخرج خباياه، ويفتش عن مكنون أسراره، فيحمل بيده مشعل الأمل “فبالأمل قد استكشف روحه، وعلم ما فيها من القوة والقدرة الكامنة، وبهذا الاستكشاف يؤسس علاقة روحية مع صاحب القدرة المطلقة، فبذلك يحرز قوة تكفى لكل شيء”.

وللأستاذ عبارة تبين لنا قمة التفكير الروحي لديه، حيث يقول “والذين غلبوا في عالم الأمل سيغلبون في واقع حياتهم أيضًا” نعم من غلب في عالم الأمل كيف له أن يعيش في واقع الحياة، فهو إنسان عابث لا يبحث عن أية حقيقة، وكل ما يبحث عنه هو إرضاء شهواته وميولاته، وما الأزمة التي نعيش فيها في واقعنا إلا لافتقاد الأمل، فهذا الإنسان يعيش في فوضى، ليله كنهاره لا هدف أمامه، فيتحول إلى كائن مادي انفصمت روحه عن جسده، فيكون وسيلة لاستهلاك موارد الحياة، وهذا اختزال للإنسان وخروج به عن طبيعته، ويجعله خاضع لحتميات المادة محصور في قوانينها، ليس له كيان مستقل يتجاوز كل هذا، ويكون كائنًا أحاديًا، وهذا اختزال وخروج عن حقيقة الإنسان، وكل هذا يخالف طبيعة الإنسان، فهو يملك وعيًا بنفسه وبما يدور حوله، له كيانه المستقل الخاص به، والإنسان عالم محفوف بالأسرار.

إذا تحققت الرحمة في قلب الإنسان، وتفتحت عين البصيرة أمامه وانبعث الأمل في قلبه، تحول إلى إنسان منتج، فالأمل ينتج من الشوق، ومن شوق ظهرت آثار اسمه الرحيم عز وجل في الكون.

وقد وضح الأستاذ خطورة هذا النوع من الاختزال، وأنه يؤدي إلى وضع مخزي، فمن تعلقت روحه بالثروات والمناصب، سيجد نفسه قد أتلف وقته، وسينتهي به الأمر إلى الإحباط والضياع.

أما إنسان الأمل، فهو من يعشق مِن الألوان ما لا يبهت ومن الأنوار ما لا ينطفىء، فنور ليله مشرق مثل فلق الصبح، ونهاره زاه بالألوان، وهو  إنسان مكون من جسد وروح، مؤمن بالشهادة والغيب، غير مختزل في روحية أو مادية، فهو يتعامل مع كلا المفردين، وهو كائن حضاري يساعد في تكوين الحضارة وبناءها، وهو ما يسمى بالإنسان الرباني، وآفاق هذا النوع لا تعرف الظلمات، صاحب قلب متعلق بالأبدية، لا تفرق قلوبهم بين الربيع والصيف تؤتي أكلها كل حين، وتقدم ثمارها بكل سخاء، وهذه القلوب يمن الله  بمنحة إلهية ألا وهي منحة البيان.

البيان

إن أكبر نعمة منحها الله لعباده هي منحة البيان، قال تعالى:خَلَقَ الإِنْسَانَ # عَلَّمَهُ الْبَيَانَ(الرحمن:3-4) فالبيان أول قطرة حبر سالت من رأس قلم القدرة نحو عالم الفناء، هكذا عبر الأستاذ عن البيان، ويا له من تعبير. نعم قال كن فكان، أمر بخلق القلم فَخُلِقَ، وقال له اكتب فكتب، وسال الحبر، ولما علم آدم الأسماء أعطاه القدرة على التعبير، فعبر ولذا سجدت الملائكة.

فالبيان منحة إلهية يمتاز بها الإنسان عن العجموات، وعلى قدر ما في قلب الإنسان من نور يكون بيانه نورًا، فمن الناس من يتكلم ببيان كأنه خرزات اللؤلؤ يبادر باللقط إذ يلفظ، ومن الناس من يكون بيانه حصى يتحاشاه الناس، ويلغى فلا يحفظ.

فالبيان هو المعبر عن الروح، وهو المعترف بالحق، ولذا كلم الله عباده بكلامه النفسي القديم، وأنزل الكتاب المعجز على خاتم النبيين، فأعلمهم في هذا الكتاب “قدر الطاقة البشرية في البيان، وأنها نهائية بينما هناك كلام يتجاوز نهاية الطاقة البشرية تجاوزًا يقطع الأطماع ويقهر القوى والقدر، وأنه لا تحدث نفس صاحبها بأنه من الممكن أن يأتي بما يقاربه” وها هنا تخضع النفس لكي تتعلم البيان، الذي يخاطب الروح فتمتزج الروح بهذا الكلام فيورثها معاني جديدة، فتفح أعينها على حقائق الكون؛ لأن هذا البيان فيه طاقة النفوذ إلى القلوب بحيث لا يمكن الصمود أمامها، ويفتح آفاقًا أمام العقول، ويحثها على البحث والتفتيش عن حقائق الأشياء، فهو بيان لا يخاطب الروح وحدها ولا العقل وحده، ولا الجسد وحده، بل يتناول الإنسان بكل لطائفه المادية والمعنوية، ويخاطب كل الأمور مجتمعة معًا، فتجيش الروح وتفيض المعاني عليها، ويبدأ العقل مع الروح في رحلة التكوين والاستكشاف، فيحب العلم والبحث فيه مسائله، ولما لا وفي هذا البيان القرآني، أفلا ينظرون! وأفلا يتدبرون!.

حب العلم والمعرفة

حب العلم والمعرفة عنوان على شوق وحماس لذيد ومقدس، هكذا افتتح الأستاذ مقالته، وهكذا يجب أن تكون؛ لأن العلم من حيث ذاته أمر محبوب، ولكن إن انضاف إليه أمر حب التعرف على الذات الأقدس تبارك وتعالى تحول من الجمود إلى الحياة، وصار العلم علمًا حيًّا يبث الحياة والمعاني، ويشعر الإنسان بنسائم منه تعالى في كل ما يلاقيه من الأحياء والجمادات، ولن يتحول العلم إلى آلة للهلاك، بل سيصير أداة لفتح أفاق الكون، وتعمير الأرض وتحقيق معنى الاستخلاف في الأرض.

للأستاذ كولن عبارة تبين قمة التفكير الروحي لديه، حيث يقول “والذين غلبوا في عالم الأمل سيغلبون في واقع حياتهم أيضًا”.

والإنسان إذا وجد بيانًا ربانيًّا يحدثه عن النفس وعن الروح، وعن المخلوقات في الكون، ويقرر له قواعد النظر والاستدلال العقلي، سيثور عقله وسيقف متسائلاً أمام تلك الحقيقة، وخاصة نفسه التي بين جنبيه، وتبدأ الأسئلة الكبرى: من أنا، ولماذا أتيت؟ وهل الحياة سرمدية؟ وما طبيعة الكون الذي نعيش فيه؟

وتبدأ رحلة المعرفة الكبرى، ويسعى دائمًا إلى أمور جديدة، ودائمًا تتطلع آفاقه إلى الجديد، هكذا كان المسلمون الأوائل، حيث أثار البيان القرآني في عقولهم ونفوسهم أسئلة كبرى، فأخذوا يلتمسون الهداية من هذا البيان، ومن البيان النبوي الكريم، وأعملوا عقولهم كما أمرهم القرآن الكريم.

ولما أغفل المسلمون تدبر البيان الخالد وركنوا إلى غيره، تحول الحال إلى انحطاط فكري غريب، وعندما نتأمل عبارة الأستاذ كولن يقول: “يا لها من أيام كنا فيها ذاتيين، وكانت بحوثنا بأسلوبنا نحن، وكنا نعتبر البحث والتفكير العلمي عبادة… وكنا في مجالات العلم طافحين حيوية ونشاطًا، وكأننا نتسابق فيما بيننا لحل ألغاز كتاب الكون الإلهي”.

هذا نفس من أنفاس قلب يحمل هم الإنسانية بأسرها، فهو يعلم أن أيام كنا ذاتيين لم نسخر العلم في تدمير البشرية، ويقرر الأستاذ هذا المعنى قائلاً: “إن المسلمين الأوائل حينما كانوا يحاولون بكل ما أتوا من قوة أن ينوروا القلوب، وَيدُلُّون الناس على سبيل التفلت من شتى أنواع الاستبدادات المسيطرة في تلك الفترة…” وذكر أمثلة من كبار علماء المسلمين الذين أثروا الدنيا بعلمهم، وبثوا في الدنيا ما تحتاج إليه الإنسانية من عقلية علمية جديدة، ونمطًا في التفكير، وأسلوبا مبتكرًا في البحث العلمي، ومن أمثلتهم ابن سينا، والفارابي، والزهراوي، وجابر الكوفي، وابن رشد، وغيرهم الكثير والكثير من مئات العباقرة.

ويصور الأستاذ أن العلم عند المسلمين كان نتاج شوق وتطلع إلى المعرفة، والشوق إلى المعرفة لا يحصرها في موضوع دون آخر، بل كل ما يصلح أن يبحث فيه سيبحث فيه، فالعلم عند المسلمين ممنهج، ولذا كانت الأشكاليات الأولى التي حلها المسلمون ببراعة، هي إشكالية المنهج العلمي، وهاهو كتاب سيبويه، ورسالة الشافعي بين أيدينا، وقانون العليّة والإطراد الذي أسس له الإمام الشافعي في رسالته.

وهذا الشوق هو شوق إلى الحقيقة العلمية أنتج نتائج مهمة، كأنها ممرات الجنان تصلح لأن يرجع إليها الناس على مر العصور، فيستقون منها ما يُصلح لهم حياتهم، وكأنه ماء حياة سرمدي لا ينفذ، ولما ابتعدنا عن هذا الشوق والتوق إلى الحقيقة وقعنا في مأزق الجهالة.

الصبر الفعّال

القلب المعذب من الجهالة، هو قلب يحمل أشواق زليخا وعنائها، وآهات يعقوب وأحزانه في انتظار قدوم بشرى ترد أبصارنا، وتبث الفرح والسرور في قلوبنا.

آه من قلب معذب بالجهالة أوقع نفسه بنفسه فيها، ثم يتحسر على حاله، يحمل أشواق زليخا التي لديها كل شيء تبتغيه مثيلاتها لديها الملك والجمال، ولكنها افتقرت إلى الإخلاص والأمانة، ولما صدقت وتوجه قلبها نحو المحبوب الحقيقي كوفئت، وهكذا هو حالنا إذا صدقنا في الشوق، وأخذنا طريق “الصبر الفعال” المصحوب بعمل ممنهج واضح الخطى وصلنا إلى مرادنا.

أما آهات يعقوب، فهي آهات من موقن بتحقيق وعد الله وأن البشرى ستأتي، ولذا قال لمبشريه: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ(يوسف:96) وهذا هو حال المسلم الصادق الموقن بتحقيق وعد الله له.

ومرض الجهالة هو أخطر الأمراض التي تودي بحياة الإنسان، فهو مرض يمحو قيمة الإنسان الحقيقية (العلم) ويجعله شبيها بالعجماوات يقاد مثلها لا يعرف مصلحته، “وإذا علم شيئًا لا يستطيع استثماره، نابيًا عن الحق محرومًا من فكرة الحق، قد صار كارثة في كل الحقب والأزمان، ولا بد من محو هذا المأزق من حياة المسلمين، وهذا بأن يعلن كل المربيين والمعلمين الحرب على هذا العدو ويستخدموا كل الوسائل المشروعة في هذا السبيل، ولا بد من الاعتناء بالمعلمين فهم قادة الأمة في هذه المرحلة الحرجة، وينبغي أن يعلن عن حالة من النفير العام ضد مرض الجهالة، ويجب أن يختار المعلمون بعناية شديدة، فهم فئة نذروا أنفسهم للإرشاد والتلبيغ يعيشون في حالة نفير عام، قلوبهم مشاعل من نور تضيء لكل ما حولها”.

هذا الكتاب الذي بين أيدينا طاقة نور كتبها الأستاذ من قلب طاهر بكلمات تحولت من مجرد كلمات إلى طاقة حب تشع نورًا، تأخذ بأيدينا جميعًا إلى نور الرشاد.

ولا بد من توجيه النظر إلى الأطفال وتنشئتهم، والعناية التامة بهم، فهم الأجيال التي ستحمل الأمانة من بعدنا، فالواجب علينا أن نولي مؤسستين حيويَّتين في مجال تربية الأطفال العناية الفائقة هما: الأسرة، والمدرسة.

حوار مع النفس

لا بد للإنسان من مصارحة نفسه، وأن يوقفها على مواطن العيوب؛ لكي يقوّم الخلل ويصلحه. وكما قلنا في أول الكلام إن الإنسان يعيش بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل، وهذا المقام يتشابك مع مقام العزم عند أهل العرفان، فهو يطالع الجناية ويقف على الخطر فيها ويشمر لتداركها، ويتخلص من رقها ويطلب النجاة بتمحيصها، فيكون لسان حاله مخاطبا نفسه: “أيتها النفس! تفلتي من مشاعر الخريف، وصيري نضرة خضرة، حتى تطير في محيطك الطيور والعصافير، وكوني منبعًا للماء حتى يهرع نحوك كل محروقي الفؤاد.. وعليك أن تكوني مثل الغيوم وتحولي دون حرارة الشمس الحارقة، وأن تكوني مثل الأمطار الغريزة التي تهطل من دون تعلق بالمواسم”

“أيتها النفس ينبغي لك أن تشعري في أعماق ضميرك بهموم كل أحد بحيث لا يتوقع أحد منك فوق ذلك… أيتها النفس تصرفي دائمًا بشجاعة، واحرصي على التحلي بالمروءة… وتبسمي في وجه الجميع”. أيتها النفس كوني دائمًا في افتقار إلى خالقك، فهو معينك الذي يمدك في لحظة ونفس، وليكن ندائك: إلهي أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري؟ إلهي أنا الجاهل في علمي فكيف لا أكون جهولاً في جهلي؟ إلهي إن ظهرت المحاسن مني فبفضلك ولك المنة عليّ وإن ظهرت المساوي مني فبعدلك ولك الحجة عليّ.

ها أنا أتوسل إليك بفقري إليك، وكيف أتوسل إليك بما هو محال أن يصل إليك؟ أم كيف أشكو إليك حالي وهو لا يخفى عليك؟ أم كيف أترجم لك بمقالي وهو منك برز إليك؟ أم كيف تخيب آمالي.