المدخل الرئيسي لقاعة الاستقبال في جامعة الفاتح، يوحي بأننا في فندق من صنف خمسة نجوم، تتخلله أعمدة من المرمر، منحوت عليها صور من مساجد غابر الزمان. فلا يمكن أن تمر في شوارع ومؤسسات ومدارس ومعالم إسطنبول، دون أن تجد آثارًا شامخة لهم.

لم تكن الأيام الإسطنبولية تمر دون التضييف بأكواب القهوة التركية، بنكهتها الممتعة. الشرفة التي اجتمعنا حول مائدتها، كانت تطل على بقاع تلال زمردية خضراء توحي بالتجول في دروب تاريخ صانعي نافورة فوارة هذا الشلال المعرفي المنهمر. الأستاذ شماس مدير قسم الفلسفة يعرف بزميلته أكسيل، ثم ينتقل إلى سرد تخصصات كليات ومعاهد الجامعة:

يقول المثل التركي “عند وجود الصقر، تنمو مهارات العصفور الضعيف”.

– عندنا كلية العلوم والاقتصاد والهندسة والطب والفلسفة والحقوق والتكنولوجيا واللغات.

كنت أشرب الشاي منتظرة ترجمة زياد، وفورا يلتقط زياد الأفكار ليترجمها إلى اللغة العربية. كان زياد منهمكًا في الترجمة، بينما كانت المائدة ترص أطباقها بألوان شهية من أصناف الأجبان التركية وسلطات الخضروات المعهودة في الإفطار التركي.

يواصل الدكتور شماس حديثه، ليشرح لنا تفاصيل هندسة وحفر أساسات هذا الصرح العلمي المتميز.

– تعرفين تسلسل أحداث تاريخ تركيا؟

– نعم درست عن بعض التحولات التي رسمت ملامح تطور المنظومة الفكرية والسياسية لتركيا.

– إذن دعيني أعطك نبذة مختصرة عن فرسان بناء صرح العلم والروح. الحياة يا سيدتي، لا يمكن أن تنفك فطرتها الأبدية، عن سر ثلاثية العلاقة بين الخالق والإنسان والكون. لكن تعلمين أنه في القرن التاسع عشر، عاشت تركيا تجربة دامية ضاع فيها الإسلام، وتربعت على البوسفور الشيوعية، ففرضت نفسها على النخب، وأنتجت ثقافة الإلحاد، بل أنتجت خللا في توازنات تكامل مصالح الإنسان، المادية والروحية، وجعلت منه إله المادة بالمفهوم الإشباعي للرغبة والشهوات. فحولت هذه الرؤية مجرى التوافق الإنساني والطبيعي إلى عالم التيه، عالم يغيب فيه معنى الوجود، بل عالم حضر فيه كل شيء وغابت إنسانية الإنسان، شُيِّئت روحه وشُيِّء عقله وفكره وجسده، طموحاته وآماله. فكان هذا التيه مقرونا بحروب الاستعمار وتدمير الإنسان والاستغلال والعبودية. حاول الناس أن يتصدوا لهذا التيار، وتعددت مدارس الإصلاح والتجديد والاجتهاد، لكنها ظلّت في عمومها غير متكاملة المبدأ والفرضيات والنتائج.. تعددت المشاريع النهضوية من المطالبة بإصلاح التعليم إلى المطالبة بالحرية، إلى مناقشة فكر الإحياء وعالم الأفكار. لكن هذه المشاريع في مجملها، لم تستطع تكوين منظومة فكرية موحدة ومتجانسة.

في كل فكرة، يتم طرق باب مبارك ليقظة. طَرقُ الباب يعقبه انتظار مبارك بصبر العنكبوت.

أما تركيا -أستاذتي- فقد تعرضت لأشرس الحملات والهجمات الفكرية للقضاء على الدين بعد سقوط الخلافة العثمانية.. الجامعات فرضت نوعًا من التوجه الإلحادي على سير المنظومة التربوية والتعليمية والاجتماعية، والأسرُ مَنعت إرسال أبنائها للدراسة في الجامعات.

يقول المثل التركي “عند وجود الصقر، تنمو مهارات العصفور الضعيف”. لقد بدأت مهارات هذا العصفور، تنمو مع رحلة المهاجرين من أسراب الطيور، وسفن السائحين من أصحاب الإيمان، نحو التلال الزمردية الخضراء للمستقبل المحفوف بالأمل. وبنسبة انفراج ضلال سماء تلك التلال، سيبدأ النزول نحو الأشجار المتمايلة في تلك السفوح، وتوسع جداول الأنهار المنهمرة بشلالات من دموع ناطقة بالحسرة وبآلام داء الهجران.

نعم، عند الطوفان تُبعثرنا دوامةٌ من الأحاسيس، فيقف اللسان عن التعبير والبيان. وساعتها يمكن أن يقال ما لا يقال، وتهمس مشاعرنا المقهورة موسيقى فريدة في أرواحنا، فتحرك كياننا، وتحمس عقولنا للاشتغال بلائحة عريضة من المصطلحات الجديدة، لا تسعها الألفاظ اليومية المعتادة، بل تخرج في كثير من الأحيان عن رمزية المصطلحات المتعارف عليها في معاجمنا اللغوية.

إن ارتجاف رعشة هذه الأفكار، لا يمكن أن تترك لنا مساحة فارغة، لأن المساحة الفارغة، لا يمكن أن تكون عنوانا لرحلة الانتقال الفصلية. وفي كل فكرة، يتم طرق باب مبارك لكل يقظة، وطرق الباب، يعقبه انتظار مبارك بصبر العنكبوت لتغيير عنوان وجهة الرحلة.

المصدر: نداء الروح، الدكتورة مريم آيت أحمد، دار النيل للطباعة والنشر

[gdlr_divider type=”solid” size=”50%” ]

ملاحظة: ببالغ الأسف والحزن تم إغلاق جامعة الفاتح التي تحدثت عنها الكاتبة، إضافة إلى ألف ١٧ جامعة أخرى من جامعات الخدمة المنتشرة في حوالي ١٥ مدينة بتركيا، بعد الانقلاب المزعوم في ١٥ يوليو ٢٠١٧ بقرار تعسفي من حكومة حزب العدالة والتنمية التركي دون تقديم أي مبرر قانوني، كما تم طرد جميع أعضاء هيئة التدريس واعتقل بعضهم وتم تشريد الطلبة أو نقلهم إلى جامعات حكومية في ظروف سيئة لا يمكن مقارنتها مع ما كانوا عليه في جامعات الخدمة. (المحرر)