الحفر الدقيق
في هذا العدد يتواصل الحفر الدقيق للبحث عن سر الظاهرة الحضارية من داخلها، جماعةٌ علميةٌ فائقةٌ، مشاربُهم متنوعة، يكادون يُجمعون على أن فكر الخدمة شمولي تجديدي، ومن ثمَّ راحوا يرصدون تجلياتها الفكرية، ويوثقون تحدياتها التطبيقية، ويكشفون عن روافدها الفكرية الإلهامية.
فحاجة العالم إلى مشروع جديد مجدِّد، بات أمرًا ملحًّا تفرضه ضرورات الواقع الذي يعاني من أزمات متعاقبة، هذا المشروع يضع نصب عينيه الجيل الجديد، يلبي أشواقه الروحية، ويفرغ طاقاته الكامنة في مجالات تعود على الإنسانية جمعاء بالنفع والعطاء والمحبة والتضحية. إن توخي غاية إنسانية نبيلة كهذه، يتوافق مع المنهاج النبوي حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، فالراصدون لمكانة السنة في فكر “الخدمة” عمومًا، ولدى الأستاذ كولن خصوصًا، قد عبروا عن هذه الحقيقة بجلاء، فالأستاذ يوقن أن محاولة تطبيق مناهج أخرى غير المنهاج النبوي في بناء النهضة، لا يضمن النصر ولا يكفل النجاعة والفاعلية.
وقد لاقت نشاطات الخدمة وفاعلياتها المختلفة في مختلف بلدان العالم استحسانًا عريضًا، خاصة في مناطق التوتر والاضطرابات، فقد نجحت إلى حد معقول -بحسب الرصد الذي قدمه الراصدون الميدانيون في هذا العدد- في تقليص حجم القبح الذي نشأ جراء ضخّ ثقافة الإقصاء والتهميش والحقد والكراهية، وإحلال ثقافة التسامح والتعايش والوفاق والأمن المجتمعي محلَّها.
وفي رصد فكري آخر تكشَّف الدور المحوري للأخلاق في البناء الحضاري مع الإيماء، إلى دورها الحساس في تمكين أيَّ فكرة ومخطَّط ومشروع ورؤيا ورسالة من التمثُّل الشفَّاف على خطِّ الزمن.
إن إدراك الأستاذ كولن لجوهرية التعليم في المنهاج الإصلاحي، ودعوته لإصلاح التعليم وإخراج فلسفته من ضيق المنطق الوظيفي الميت إلى سعة العمل الإنساني النبيل، المتمثل في بناء الإنسان بكل أبعاده، وتجسيده هو وملايين من محبيه لهذه الأفكار على أرض الواقع، جذب كثيرًا من الباحثين إلى دراسة هذا النموذج عن قرب، واستجلاء العناصر التي أكسبته النجاح والازدهار، والقدرة على إحداث التغيير والتحول الإيجابي في الفرد والمجتمع، سواء بصورة أفقية في شكل دراسات مقارنة، أو بصورة رأسية من خلال الاستعانة بتجارب تعليمية واقعية حية لبعض الطلاب في المشروع التعليمي للخدمة، تستند إلى استقصاءات وسرديات موثقة ببيانات.
ومما لفت نظرَ الباحثين أيضًا، تعدديةُ انتماءات المشاركين في حركة كولن -باعتبارها إحدى السمات البارزة لهذه الحركة- وذلك من خلال رصد طريقة عمل المجموعات الخدمية فيها، وآثار هذا الحراك التشاركي الجمعي في اكتساب مزيد من فرص اكتشاف الذات والترقي، وتفريغ الطاقات الحيوية المتجددة في مجالات فاعلة.
إن “نسمات” في تناولها لما سبق من محاور فكرية وتربوية وأخلاقية وحضارية وروحية، تحاول أن توثق هذا الرصد الأمين، وتقدمه خدمة للباحثين، ووثيقة للمؤرخين، وشهادة للمعاصرين؛ عسى الأجيال القادمة أن تأخذه بقوة يستحقها، وتلتمس لسلفها العذر فيما فرط من بين أيديها بلا عمد. والله وحده المستعان وهو ولي التوفيق.
Leave a Reply