ثلاثة مصادر تؤسِّس لفكر الأستاذ فتح الله كولن:
الأول: القرآن والسنة وما يستتبعهما من سيرة السلف الصالح، بما في ذلك الزاد الصوفي.
الثاني: الرافد المعرفي الكوني والثقافة العالمية المعاصرة.
الثالث: التاريخ ومسار الحضارات وأطوار المدنيات.
القرآن زاد العقل والروح
من الواضح أن المصدر الأول يوطّد في مواجد الفرد وشخصيته روح الإيمان وفلسفة التوحيد، إذ القرآن (الكتاب الجامع)، لا ينفك يشدد على مسألة التوحيد، ويؤكد مبدئيتها، ويجعل منها الثابت المركزي في متونه. إذ الإيمان بالله الواحد الأحد يرسخ في النفس منطق وحدة الغيب والشهود. ذلك أن الإنسان إذا ما قدَّر نِعم هذا الكون (المشهود)، أحسن حمدها واستثمارها، وآمن -ضرورةً- بكمال وعظمة مُوجِد هذا الكون المتكامل. فإذا آمن بالموجد غير المرئي، أيقن -لا محالة- بأن هناك الْمابَعد، واكتسب من ثمة روح الاحتساب ومراقبة الذات، الأمر الذي يهيّئه بامتياز لأن يعيش إنسانيته على أرفع مستوى من التجرّد والعطاء والنزاهة.
الأستاذ كولن قد كيّفَ في عقله قابلية هضم وتمَثُّل وتأصيل المعارف الكونية، بحيث باتت المعطياتُ والنتائج التي يستمدّها من هذا الرافد، تصاغ على نحو إيماني.
ومن شأن الزاد الصوفي -ضمن حدود الرافد الأول لفكر الأستاذ كولن- أن يُرَقِّيَ في الروح قدرةَ استشراف آفاق الماوراء التي كرّستها النصوص القدسية. إذ إن التمرّس بنهج التصوف تمرسٌ بالمعرفة فوق العقلية، فلكأن حقل التصوف يشكّل المضمار الوجداني الأمثل لتقمص مبادئ التوحيد وأبعادها الغيبية. ذلك لأن التصوف -في تعريف أصحابه- هو سلوك التجرّد والترقّي الروحي، وصولاً إلى الصفاء والكمال، وإذنْ فإن التصوف موصول في جوهره بروح الإيمان، إذ ركيزة الإيمان هي التوحيد والإقرار للخالق بالقدرة والمطلقيّة.
الرافد الكوني والثقافة المعاصرة
وأما الرافد الكوني والثقافة العالمية المعاصرة، فيمكن القول إن الطبيعة التجريبية التي تُميّز هذا الرافد قد عززت في رؤية الأستاذ كولن جانب النظر العملي إلى الأشياء والمعطيات الحسية.
على أن الأستاذ كولن قد كيّفَ في عقله قابلية هضم وتمَثُّل وتأصيل المعارف الكونية، بحيث باتت المعطياتُ والنتائج التي يستمدّها من هذا الرافد، تصاغ على نحو إيماني، تزايلها معه شوائب التوحّش التي تكون تغذّت عليها من تربة الإلحاد التي استنبتَتْها.
ولقد أفاد الأستاذ كولن -جراء ملابسته هذه الثقافة المادّية المعاصرة- من الجانب الإجرائي، التنفيذي، الذي يميّزها، إذ إن ما ورثته العقلية المسلمة عن قرون التخلف والاحتباس، هو ركود الفكر ورسوف التفكير في دائرة مغلقة لا تكاد تخرج عن نطاق حقول تداولية، تعبّدية، ترقيعية؛ وهو ما وطد انقطاع العقل المسلم منذ الباكر، عن نهج التجريب والبحث التطبيقي ومعالجة المجالات الحيوية المرتبطة بالحياة والإنتاج والتجهز والتجدد.
إن الهوية الفكرية للأستاذ كولن جمعت إلى السمة الروحية الوجدانية، السمةَ المنطقية الإجرائية.
إن هذا الطابع الخصيب هو ما يميّز ثقافة الأستاذ كولن التي انفتحت على علوم العصر بشطرَيها العلْمي والأدبي، فلذا كانت عُدَّة التفكير لدَيه مكْتملة في آلياتها، متوازنة في تسديدها، ونافذة في توجهاتها.
التمرس في تراث السلف
والمؤكد أن ما يَسّر على فكر الأستاذ كولن أن يُطَوِّعَ الناجزَ المعرفي والعلمي الذي توفّره الثقافة الكونية المعاصرة، هو هضمُه لتراث السلَف، وتمرسُه بروح العقيدة الإسلامية (عبادةً وتفلسفًا)، وفهمُه للقرآن والسنة، وتناغمُ مواجده مع كنوزهما، لاسيما على صعيد الاسترشاد العقلي والترقي القلبي.
إن الهوية الفكرية للأستاذ كولن جمعت إلى السمة الروحية الوجدانية، السمةَ المنطقية الإجرائية؛ من هنا جاء التوليف متوازنًا، والتركيب شموليًّا، وجاءت النظرة جامعةً، لا تعتدُّ ببعد على حساب بقية الأبعاد في تقويمها للأشياء وتقديرها للأحداث والمعطيات، ولا تستبقي محاصيل النظر والفكر في حالة إرجاء، معطلة، وبعيدة عن مناطاتها العملية والتنفيذية المثمرة.
المصدر: الانبعاث الحضاري في فكر الأستاذ فتح الله كولن، سليمان عشراتي، دار النيل للطباعة والنشر