من أكبر الإشكاليات في موضوع الإسلام والديمقراطية أن كثيرًا من الزعماء والناشطين المتدينين يريدون أن يُحِلّوا القانون الإلهي محل القوانين الوضعية لإثبات أن الشريعة الإسلامية هي الحل للمشكلات الدنيوية اليوميّة، وهناك سببان رئيسان وراء هذه الإشكاليّة، الأول أن كثيرين يرون سيادة الدولة تعارض سيادة الله على الكون وعلى البشرية، يقول كولن:

تمثل العلمانية السوفييتية أو الفرنسية المتطرفة تهديدًا خطيرًا للقيم الاجتماعية والثقافية الإسلامية.

“…بحجة أن دين الإسلام مبني على حكم الله، بينما الديمقراطية مبنية على رأي البشر. ومع هذا فإنني أرى أن هناك أمرًا يُغفل عنه، وهي أن سيادة الأمة لا تعني إنكارَ قضية «الحُكمُ لله»، بل تعني أن السيادة التي ائتمن اللهُ البشرَ عليها تُنزع من الظلمة والجبابرة والمستبدين وتُعطى للجمهور، وهذا ما شهدته الإنسانيةُ في عهد الخلفاء الراشدين.

يرى كولن أن نظامًا سياسيًّا عادلًا يقوم على أساس المبادئ الديمقراطية لا يمثل أية مشكلة للنظام الاجتماعي الإسلامي والقيم الثقافية الإسلامية.

إن الله هو الحاكم على كل شيء في الكون لا ريب فيه، وأفكارنا وغاياتنا جميعها لا تتحقق إلا إذا أراد الله. ومع ذلك فإن هذا لا يعني أننا لا نملك إرادة أو رغبة أو اختيارًا؛ فكما كان البشر أحرارًا مخيَّرين في حياتهم الشخصية، فهم كذلك أحرار مخيَّرون في اختياراتهم الاجتماعية والسياسية من وجه؛ وهذا ينطبق على عصر السعادة، عهد النبي ﷺ وعلى عهد الخلفاء الراشدين الأربعة، رضوان الله عليهم جميعا؛ فانتخاب الخليفة الأول سيدنا أبي بكر، كان مختلفًا عن انتخاب الخليفة الثاني سيدنا عمر بن الخطاب، وكذلك كان انتخاب سيدنا عثمان مختلفًا عن انتخاب سيدنا عليٍّ الخليفةِ الرابع رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، والله أعلم بالصواب”.

الدين يقيم مبادئ ثابتة تتعلق بالإيمان والعبادة والأخلاق، فما ينبغي مقارنته بالديمقراطية هو الجوانب الدنيوية في الإسلام فقط”.

ويصرح كولن أنه ليس في الإسلام نموذج معين لطريقة الانتخاب أو لنظام الإدارة، ويستفيض قائلًا:

“حينما ننظر إلى التطور التاريخي لنظام الحكم الإسلامي، نجد أن أبا بكر رضي الله عنه قد انتخبته العامّة، أما سيدنا عمرُ فقد اختِير بعد أن رشّحه أبو بكر، واختير سيدنا عثمانُ من بين العشرة المبشرين بالجنة اللذين أشار بهم عمرُ رضي الله عنه، أما انتخاب علي كرم الله وجهه فشهد معارضة، ومن ثمّ فقد تشكلت إدارة أخرى في دمشق، وكانت تلك فرصة لمعاوية، ثم صار الحكم وراثيًّا في عهد الدولة الأموية، واستمر ذلك في عهد العثمانيين، وهذا يعني أن أصول الدين و محكماته مصونة لم يحدث أن تم المساس بأي من هذا قط، وباستثناء تلك الأمور تركت الأقسام ذات الحقائق النسبية مفتوحة محلّ الاجتهاد والاستنباط بحيث تراعى فيها ظروف العصر واحتياجاته”.

رفع كولن الدين فوق السياسة بكثير ولم يشترك في أي نشاط سياسي، وحذر كل محبّيه من الانضمام إلى أي حزب سياسي بصورة مباشرة.

لكن باسم «الديمقراطية» تَميل القوى العلمانية في البلدان الإسلامية إلى هدم التماسك الاجتماعي والتناغم الثقافي الذي يصون الحياة الأسرية أكثر مما عليه الأمر في الغرب، وتركيا من البلدان التي أثبتت فيها القوى العلمانية بانقلاباتها العسكرية أنها مصدر تهديد مباشر لقيام حكم ديمقراطي حقيقي؛ لكن لم يفقد كولن الأمل قط في النظام الانتخابي في تركيا رغم كثرة الأمثلة الصارخة على إساءة استخدام العلمانية والديمقراطية فيها، فهو واثق من أن الناس حينما يتمتعون بالحرية والحق في اختيار الأمناء نسبيًّا لحكم البلاد فإنهم سيتخذون القرار السليم.

ويضيف كولن أن القوميين والعلمانيين الأتراك بحاجة إلى القيم الإسلامية إذا أرادوا أن يكونوا ديمقراطيين حقيقيين يخدمون شعبهم دون أن يسقطوا في بئر الفساد الذي استشرى في أوصال الحكم حتى منتصف ثمانينات القرن العشرين، يقول:

“يسعى النظام الاجتماعي الإسلامي إلى بناء مجتمع الفضيلة لينال رضا الله تعالى، ويعترف بالحق لا بالقوة أساسًا للحياة الاجتماعية، وينبذ العداوة، وإذا رعَت الديمقراطية البشر أجمعين، ولاحظت حاجاتهم المعنوية والبعد الروحي لوجودهم، وأن الحياة الإنسانية لا تقتصر على هذه الدنيا الفانية، وأن للناس تطلعًا وتَوَقانًا شديدين إلى الخلود، فقد تستطيع أن تبلغ أوج كمالها ونضجها بل ستمنح البشرية مزيدًا من السعادة، ويساعدها على تحقيق ذلك مبادئ الإسلام في المساواة والتسامح والعدالة”.

لا يمكن للديمقراطية وحدها في أي بلد مسلم أن تشكل نسيج القيم الاجتماعية والثقافية المتضمنة في المناخ الروحي والديني.

فلا يمكن للديمقراطية وحدها في أي بلد مسلم أن تشكل نسيج القيم الاجتماعية والثقافية المتضمنة في المناخ الروحي والديني؛ ولقد فعلت عدة بلدان إسلامية مثل تركيا، حيث قبلت بالديمقراطية نظامًا لعلاج المشكلات والنزاعات السياسية حول اقتسام السلطة بين فصائل متنازعة على أساس انتماء حزبي وإثني.

ويرى كولن أن نظامًا سياسيًّا عادلًا يقوم على أساس المبادئ الديمقراطية لا يمثل أية مشكلة للنظام الاجتماعي الإسلامي والقيم الثقافية الإسلامية، فقد رأينا كيف عجزت القوى العلمانية والقومية المتشددة عن حلّ مشكلة الانفصاليين الأكراد مثلًا؛ لأنهم بإعلائهم لكل أسلوب غير ديني يهملون القيم والمبادئ الإسلامية التي تعزز الوحدة وتوفِّر فعلًا الأساس الضروري لحل مشكلة الإرهاب الذي يمارسه الانفصاليون؛ لذا ظلت سجلات تركيا حول حقوق الإنسان تزداد سوءًا في ظل الحكومات العلمانية المتعاقبة حتى نهاية ثمانينات القرن العشرين، ثم بدأت تتحسن تدريجيًّا إثر التغيير الذي مرت به البلاد لا في الاقتصاد فحسب بل في التحول الديمقراطي أيضًا.

يرى كولن أن القوميين والعلمانيين الأتراك بحاجة إلى القيم الإسلامية إذا أرادوا أن يكونوا ديمقراطيين حقيقيين.

وعُدّ وصول حكومة محافظة ذات ميول دينية إلى السلطة في كثير من البلدان الإسلامية تهديدًا للمبدأ الدستوري في الفصل بين الدين والدولة؛ فكلّ نظام ديمقراطي غربي يعدّ فصل الكنيسة رسميًّا عن الدولة ركنًا في الديمقراطية؛ لأن الكنيسة تدخلت قرونًا طويلة بصورة سلبية في شؤون الدولة، ناهيك عن الحروب الدينية المتواصلة في تاريخ أوروبا الطويل، «فأصبحت العلمانية ضرورة للسلام والاستقرار المدنيين، ثم سرعان ما بدأت الدول ترفض السعي وراء أية أهداف دينية، فصار فصل الدولة عن الدين حجر الأساس في نظام الدولة الأوروبيّ، وصارت العلمانية هي السمة الأساسية للحداثة»[13].

ويؤمن المؤرخون الغربيون والمحتلون بأن هذا هو الحال في الحضارة الإسلامية أيضًا، لكن الحقيقة أن الإسلام طوال العصور الوسطى كان دوره تقدميًا جدًّا في البناء الوطني لبلدان كثيرة مثل الشرق الأوسط العربي وشمال إفريقيا ووسط آسيا وإيران وتركيا وشبه القارة الهندية.

باسم «الديمقراطية» تَميل القوى العلمانية في البلدان الإسلامية إلى هدم التماسك الاجتماعي الذي يصون الحياة الأسرية أكثر مما عليه الأمر في الغرب.

وقام المؤرخون الأوربيون والإمبرياليون في ظلّ القوى الغربية المختلفة بكتابة ذلك التاريخ مرة أخرى، مستخدمين نماذج العلمانية الحديثة في فصل الدين والقيم الأخلاقية عن نظام الدولة، وأدخل ذلك التاريخ المزيف في المناهج الدراسية للنظام التعليمي كله؛ وكانت تركيا العلمانية ودول وسط آسيا السوفييتية أكبر ضحية لذاك العبث في نقل المعرفة عن طريق نظام تعليمي خاضع لسيطرة صارمة تعادي الإسلام، ونجح هذا التلقين الكاره للإسلام أيما نجاح في كثير من النظم التعليمية مثل النظام البريطاني والسوفييتي والتركي أيضًا، وشقِيَ غالبية الشعب التركي بالأيديولوجيا العلمانية المتطرفة المنكرة لأي وجود ديني في الحياة العامة؛ ثم كان كولن هو من أرسى المبدأ القائل: يمكن للمسلمين وينبغي عليهم أن يواجهوا هذا التحدي فكريًّا وروحيًّا بدلًا من أن يجعلوه سببًا للشقاق الفكري بين المسلمين وغلاة العلمانية، ويرى أن النزاع بين الالتزام الديني والعلمانية لا جذور له، يقول: “ينبغي ألا تقف العلمانية عقبة أمام الالتزام الديني، كما ينبغي ألا يشكل الالتزام الدينيّ خطرًا على العلمانية”.

سيادة الأمة لا تعني إنكارَ قضية «الحُكمُ لله»، بل تعني أن السيادة التي ائتمن اللهُ البشرَ عليها تُنزع من الظلمة والجبابرة والمستبدين وتُعطى للجمهور.

وتمثل العلمانية السوفييتية أو الفرنسية المتطرفة تهديدًا خطيرًا للقيم الاجتماعية والثقافية الإسلامية، وحاول السوفييت تعويض ذلك أو تحييده باعتناق القيم العالمية الاجتماعية والتعددية الثقافية، لكن الخصائص الإلحادية الشيوعية الروسية أحبطت كل ما ألمح به السوفييت من إيماءات لتحييد التوجه المعادي للإسلام في الكتلة الشيوعية، وقضى التدخل العسكري السوفييتي في أفغانستان في ديسمبر/كانون الأول 1979م على كل الآمال في تحقيق أية مصالحة بين الإسلام والاشتراكية؛ وتمثل الجذور الغربية للعلمانية إشكالية للمجتمعات التي استوردت خبرتها من الغرب عن طريق هيمنة الاحتلال والإمبريالية، فأصبحت القطاعات الدينية منذ حقبة احتلال العالم الإسلامي لا تُعنَى بالحياة السياسية في بلدانها، وما حدا بهم في النهاية إلى الانخراط في الحياة السياسية تحت مظلة هذا الحزب الديني أو السياسي أو غيره سوى الطابع العلماني الإلحادي المعادي للإسلام، الذي فُرض على جماهير المسلمين وصار مصدر قلق عندهم؛ لكن كولن الذي يرفع الدين فوق السياسة بكثير لم يشترك في أي نشاط سياسي، وحذر كل محبّيه من الانضمام إلى أي حزب سياسي بصورة مباشرة؛ فأبناء تلك الحركة -كما يقول- لا تغريهم الشهرة أو المنصب أو المال، ففي كل ما يفعلونه في هذا العالم العابر يجب أن يضعوا الآخرة أمامهم، ومرضاة الله U غاية لهم؛ غير أنه يشجع الناس طبعًا على التصويت في الانتخابات، ويرى أن هذا من حقوق المواطن وواجباته، فالدين مصدر للأخلاق التي تتوافق ولا تتعارض مع الممارسة المسؤولة للسياسة، وهذا برأيه أفضل سبيل يمكن للمرء أن يخدم به أمته ودينه معًا دون خوف من عذاب الله أو اضطهاد الدولة.

الله هو الحاكم على كل شيء في الكون لا ريب فيه، وأفكارنا وغاياتنا جميعها لا تتحقق إلا إذا أراد الله. وهذا لا يعني أننا لا نملك إرادة أو رغبة أو اختيارًا.

ويدعو كولن إلى «الحفاظ على الاعتدال، أي إعطاء كل شيء حقه، دون الولوج في الإفراط والتفريط»، وهنا يوفق بين جوانب الإسلام الدنيوية ومبادئ الحكم الديمقراطية الأصيلة، يقول:

“يهتمّ الدين أساسًا بثوابت الحياة والوجود، أما النظم أو الأيديولوجيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية فلا تهتم إلا ببعض الجوانب الاجتماعية المتغيرة في حياتنا الدنيا، علمًا أن العبادة والمعايير الأخلاقية العالمية الثابتة لا تتعلق كثيرًا بالزمن والحياة الدنيوية؛ فالدين يقيم مبادئ ثابتة تتعلق بالإيمان والعبادة والأخلاق، فما ينبغي مقارنته بالديمقراطية هو الجوانب الدنيوية في الإسلام فقط”.

المصدر: مايمول أحسن خان، فتح الله كولن: الرؤية والتأثير تجربة فاعلة في المجتمع المدني، الفصل السادس، رؤية كولن للديمقراطية الحديثة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.