بلابل الخدمة

وِجدان “فتح الله” العالي الحساسية التقط نداء الاستغاثة، فوجَّه بعض محبيه إلى أمريكا منذ ثمانينيات القرن الماضي. لا أحد يجزم بأن هذه المجموعة السبَّاقة كانت واعية بأمر المهمة التي تحمَّلوا مسؤوليتها، لكن الأكيد في قصصهم هو أن “فتح الله” كان يرى في الأفق حاجة هذا البلد. ولو سألتهم: هل يَعُون عمق المسؤولية التي حُمِّلُوها؟ لأجابوا بالنفي، ولأخبروك بأن الأمر لم يكن إلا مجرد تلبية لتوجيه مرشدهم.

قصة هذه الهجرة قصة تناغم بين أستاذٍ وتلاميذه، وقصة فكرة وُلِدَتْ في الطرف الآخر البعيد عن أمريكا مسيرة شهور، لكن قدرها هو تصديق بُشرَى قديمة بأن نور شمس سيبزغ من الغرب ليغسل أدران هذا الزمن المسكين”.

هذا هو الجزء الثاني من رحلة الكاتب إلى أمريكا، يتحدث فيه عن أبناء الخدمة الذين يسهمون في البناء الحضاري في هذه الربوع من العالم، وقد أطلق عليهم “بلابل الخدمة”، وقال عنهم: تقرأ في عيونهم محبة جمَّة لما يقومون به، ومحبة جمَّة لهجرتهم.

[gdlr_divider type=”solid” size=”50%” ]

الأمل وآفاقه في عالم الخدمة

لا تكون الخدمة خدمة إلا عندما تضع مقدراتها المعنوية كلها في يد المجتمع، ولا تستحق الخدمة هذه الصفة وهذا الوسام إلا عندما تجعل سعادة المجتمع ورقيِّه حيثما كانت غايتَها الساميةَ وهدفَها المركزي. فلا مبالغة إذا قيل بأنها صارت عملة ذهبية متداولة في كل جهات العالم، عملة تقوم على احتضان كل من هم في حاجة إلى الاحتضان، بل احتضان الجميع بحب ورحمة ومودة، والعناية بكل من يحتاجون إلى العناية بصدر رحب يضم الجميع، تزرع الأمل في قلب الإنسان وتحوله من طاقة مهدورة إلى طاقة إيجابية فعالة. الخدمة لا تكون خدمة إلا عندما تطلع الإنسان على رحابة أفقه واتساعه بربط وجوده برحابة الوجود واتساعه. الخدمة لا تكون خدمة إلا عندما تعرِّف الإنسان على حقيقة كونه إنسانًا.

الهمُّ الأول لدى بلابل الخدمة، هو تغيير الصورة السلبية التي تشكلت لدى شرائح واسعة من أبناء المجتمع الأمريكي، والتي تظن أن الإسلام دين عنف والمسلمين عدوانيين وإرهابيين.

الخدمة لا تكون خدمة إلا عندما تغرس الأمل في قلب من أُطفِئتْ شعلة هذه الطاقة في دواخلهم واختفى لهيبها في حياتهم. الخدمة لا تكون خدمة إلا عندما تمحو اليأس من قلبِ مَن صار اليأس قوت وجدانه وروحه، حتى أصبح من شدة خوفه على مصيره، منزويًا على هامش المجتمع، لا يشارك في حيويته وحركيته لا بالقليل ولا بالكثير، لأنه ظل حياته كلها لا يسمع إلا ما يشعره بتفاهة وجوده، وكونه عنصرًا يعرقل حركة مجتمعه ويعيق سيره. لكن الخدمة تدرك بأن قدرها هو احتضان الجميع وخاصة هؤلاء المساكين، ووظيفتها هي مسح دموع من يبكي ألمًا على حاله.

قدر الخدمة في أمريكا زرع الأمل

لم تُضيِّع الخدمة الوقت في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي تعمل على الاستفادة من الفرص التي يتيحها الواقع الأمريكي. المبادرة والأفكار الفعالة والمبتكرة مكِّون إيجابي يبحث عنه هذا المجتمع العصري والحداثي. وتيرة الحياة المتسارعة وطبيعتها المركبة والمتشابكة لا تترك للإنسان الوقت ليقف وقفة للتأمل، ولا تتيح له فرصة للتفكر في حاله، بله أن يتفكر في أحوال غيره. لكن بلابل الخدمة، التي تطير بألوانها الزاهية في كل مكان من أجل أحوال الآخرين بل وتنسى حالها، قَدَرُها هو زرع الأمل. قال دليلنا: “يكبر الأولاد ولا نشعر بذلك من كثرة التزامنا بالتزامات الخدمة وشؤونها”.

سبحان الله، عجيب أمر “بلابل الخدمة”، تراهم يُدخلون الفرحة إلى قلوب شرائح واسعة ممن هم في حاجة إلى الابتسامة، وإلى ما يبث فيهم الأمل، ويشعرهم بإنسانيتهم، وينسون شؤونهم الخاصة. لقد فوضوا أمرهم طواعيةً لله تعالى، فلذلك تولى عنهم سبحانه هذه المهمة، يرعون أسرتهم الكبيرة المتمثلة في المجتمع بتوفيق من الله، ويرعى الله شؤون أسرتهم الصغيرة. تحفهم البركة أينما حلوا وارتحلوا. هذا ما يلمسه من يرافق هذه البلابل. لقد بارك الله عملهم عندما أخلصوا لله المهمة التي اختاروها عن اقتناع، يُذَكِّرك مسلكهم بخطاب ذلك المعتكف الصابر المحتسب الزاهد في الدنيا، الذي ظل طيلة حياته يحفر في القلب مدلول أن يكون العمل خالصًا لله، مجردًا عن كل غاية مادية أو دنيوية.

قد يُظَنُّ بأن بلابل الخدمة هؤلاء يستهدفون المسلمين فحسب، كَلَّا، بل إن المجتمع كله بكل أطيافه وفئاته هدفٌ لبلابل الخدمة. لا فرق عندهم بين أبيض وأسود، ولا فرق بين مسلم وغير مسلم، ولا بين تركي أو عربي. العملة المتداولة هي الإنسان، وإنسانية الإنسان، الإنسان فحسب، الإنسان باعتباره مخلوقًا من مخلوقاته تعالى، والشعار توقير الخلق من أجل الخالق.

الأبعاد المتجددة للخدمة في أمريكا

انتابني شعور غريب، بأن ما عرفتُه عن الخدمة وما قرأتُه من فكر الأستاذ، له طعم آخر في هذه الرقعة من العالم؛ هنا تلمس كيف يتكيف عمق الدين والخطاب الوسطي النابع من عين القرآن الصافية مع كل الفضاءات، وكيف يسري مسرى الدم من الجسد، وكيف يترك متركًا جميلاً أينما هبت نسائمه وفاح أريجه. هنا يلمس المرء طعمًا آخر للخطاب القرآني، ويلمس حقيقة ما كان الصحابة الكرام يحملونه معهم أينما حلوا وارتحلوا، وتفهم سر استمرار غرس تلك البذرة التي غُرست منذ أربعة عشر قرنًا خلت وإلى ما شاء الله. وهنا تفهم كذلك سر إلحاح “فتح الله” الدائم على اتخاذ الصحابة قدوة، وتدرك دلالة أن يقول الأستاذ لتلامذته وأحبته: “كونوا مثل هؤلاء -يقصد الصحابة رضوان الله عليهم- أو موتوا”. فلا شك أنه يقصد أن يتخذ الإنسانُ الحياةَ المعنوية، والأفق الذي تربع عليه الصحابة الكرام نبراسًا ينير الطريق. لقد ضحوا بالغالي والنفيس، وتركوا الأوطان وشدوا الآفاق من أجل احتضان الإنسانية، وإنقاذها من التيه، وأخذها إلى طريق النجاة. والحق يقال “فطيور الخدمة” هؤلاء، يعملون من خلال هذا الأفق ومن خلال إدراك هذه الحقيقة. هكذا ينبض وجدان مَن يصاحبهم ولو لمدة قصيرة. همستُ لصاحبي كأني بهذه الطيور التي تطير في هذه الأجواء جاءت لتلبي نداء استغاثة.

في أمريكا تشعر فعلاً أن لخطاب “فتح الله كولن” بعدًا آخر، وتلمس كيف تكون القيم فوق الزمان والمكان. الذين هاجروا إلى أمريكا قبل عقدين من الزمن أو أكثر، حالهم كحال من لبَّى نداء قديمًا قادمًا من هذه الأرض منذ وقت بعيد جدًّا، ظل يتجول في الآفاق يبحث عمَّن يلتقطه، وربما التقطه “فتح الله كولن”، ونقل شفرته منذ عقدين إلى الرعيل الأول الذي هاجر إلى أمريكا.

وجدان “فتح الله” العالي الحساسية التقط نداء الاستغاثة، فوجه بعض محبيه إلى أمريكا منذ ثمانينيات القرن الماضي. لا أحد يستطيع أن يؤكد بأن هذه المجموعة السبَّاقة كانت واعية بأمر المهمة التي حمَّلهم الأستاذ مسؤوليتها، لكن الأكيد في قصص كل واحد من هؤلاء، هو أن “فتح الله” كان يرى في الأفق حاجة هذا البلد. ولو سألت هؤلاء عمَّا إن كانوا يعون عمق المسؤولية التي حملوها، لكان جوابهم بالنفي، ولأخبر السائل بأن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد تلبية لتوجيه مرشدهم.

لا شيء مما أوجدته الحياة المعاصرة والحداثة في أمريكا يستطيع الإجابة عن أسئلة الروح والوجدان والمصير، وأظن أن ما عند بلابل الخدمة من قيم وما يعتلج في أرواحهم، كفيل بالإجابة عن مثل هذه الأسئلة.

قصة هذه الهجرة قصة تناغم بين أستاذٍ وتلاميذه، وقصة فكرة وُلِدَتْ في الطرف الآخر البعيد عن أمريكا مسيرة شهور، لكن قدرها هو تصديق بُشرَى قديمة بأن نور شمس سيبزغ من الغرب ليغسل أدران هذا الزمن المسكين. قد يكون هؤلاء الذين هاجروا واستقروا تلبية لنداء هذا الهاتف، الذي يرمز إلى أن شمس الإيمان ستشرق من الغرب وفي الغرب، ولعل جهد هذه البلابل هو تمهيد الطريق لتحقق البشرى. الذين يسهمون في البناء الحضاري في هذه الربوع، تقرأ في عيونهم محبة جمة لما يقومون به، ومحبة جمة لهجرتهم.

الرجال الأوائل الذين هاجروا إلى أمريكا لا يعرفون المستحيل، هذا ما أخبرني به أحد العارفين بشؤون الخدمة في هذه الزاوية من الكرة الأرضية. المال بالنسبة لهم مسألة ثانوية، ولذلك فقد حرصوا على أن تكون ثروتهم الحقيقية، هي الصدق والإخلاص والإيمان بمشروعية الفكرة التي حملتهم إلى هذا البلد. السيد سعيد رجل من الأوائل الذين وجههم الأستاذ إلى أمريكا، همَّة عالية جدًّا، وطاقة الشحن لديه هائلة لا تكاد تتوقف، لذلك فهو لا يعرف المستحيل.

تساءلتُ دائمًا، ما سر اهتمام الأمريكيين بالخدمة؟ وما سر اهتمامهم بالأستاذ؟ عدد مهم من المثقفين والمفكرين والعلماء والأكاديميين درسوا الخدمة وتوقفوا عند شخصية الأستاذ فتح الله كولن. لم يكن ما كتبه هؤلاء نابعًا من فراغ، فما كانوا ليكتبوا عن الخدمة لو لم يكن إشراقها موجودًا في هذا الربع من العالم برجاله وخدمته ومؤسساته. هذا ما ارتسم في وجداني وأنا أكتشف عالم الخدمة في الولايات المتحدة الأمريكية.

قد ينتابك شعور بضآلة نفسك، لأن ادعاء خدمة المجتمع الإنساني، وادعاء قدرة المرء تقديم خدمة ما للمجتمع، باستحضار الإيقاع الذي يحرك بلابل الخدمة في أمريكا وفي أي مكان آخر من العالم، عملاً مستمرًّا دون توقف، ويعني ترك الأوطان، ويعني أن يهمل المرء خاصة أمره، وأشياء أخرى.

الوظيفة التي يشترك فيها أغلبهم هي التدريس، لكنهم يُشرفون جميعًا على التربية والإرشاد، ويتحركون داخل المجتمع المدني بحيوية ونشاط. تقرأ في عيون بلابل الخدمة هؤلاء، استعدادًا مطلقًا للعمل والحركية. الهجرة قدرهم الذي حملهم إلى هذه الربوع، وقدرهم الذي يحملونه بين جوانحهم، ويسري في عروقهم مسرى الدم من الجسد. يخبرك أحدهم بابتسامة عريضة أن حقيبة سفره جاهزة لأمر مفاجئ بالهجرة إلى أي ربوع أخرى من ربوع العالم.

يعسر على من لم يستنشق نسائم الخدمة تقبُّل فكرة أن يترك الواحد العالم الأمريكي إلى أي مكان آخر في العالم. لكن بلابل الخدمة هؤلاء عالمهم هو الخدمة، ولذلك فإن الهجرة هي قدرهم الذي يسكنهم ويسكنون إليه، بل يسكنون فيه. لا يملكون من متاع الدنيا إلا ما يستر أجسادهم والحقائب التي تحملها. لا وجود في ثقافتهم لمنطق الامتلاك، لا يملكون بيوتهم، لأنهم يدركون أن وجودهم في المكان وجود مؤقت، ويدركون بأن قدرهم يستحيل أن يكون مربوطًا بمكان محدد إلى الأبد، ويدركون أن قدرهم هو التحليق فوق العالم يترصدون عوالم أخرى تحتاج إلى تضحيتهم. لو سألتَهم هل تجدون في أعماقكم استعدادًا للذهاب إلى القمر، لوجدتَ الجواب يَسبق بالإيجاب، وكيف لا وفي خطاب أستاذهم ما يؤكد بأن الروح التي تحرك خدمتهم توجد فوق الزمان والمكان. وينبغي من خلال الوعي بها أن تعم الوجود كله، إحساس تقديم خدمة منزهة عن التطلعات الذاتية وعن شعور التملك يسبغ على ما ينجز من خدمات طابع الاستقلال عن الذوات أفرادًا وجماعات.

الروابط المادية لا تشد بلابل الخدمة حتى وإن كانت في بلد شاسع وواسع مثل الولايات المتحدة الأمريكية، تشعرك ابتسامتهم وحماسهم ونشاطهم الذي لا ينقطع أن لا أهمية للفضاء الذي يؤدون فيه وظيفتهم؛ فالأماكن مجرد أسماء وألقاب، لأنهم يتحركون في الفضاء الواسع، وطنهم هو الوجود. وأما الحدود وأسماء الأماكن فمجرد أشكال، وطنهم هو كل مكان يحتاج إلى أن تُمسح دموعه ويُواسَى الحزانى فيه.

الخدمة تروي عطش الأرواح

عندما يلتقي المرء بلابل الخدمة في أمريكا، ينتابه إحساس بأن هِمَمَهم لا تعرف للاستراحة معنى، ليس هناك وقت ضائع، بل إن كثرة ما يحتاجه هذا المجتمع الحديث، لا يترك لهم مساحة للتوقف. المجتمع الأمريكي خليط من مجتمعات عدة، وثقافات متنوعة. كل من هاجر إلى هذا العالم، ولو قبل عقود طويلة، حمل معه ثقافة بلده الأصل. ورغم طبيعة الحياة المعاصرة في هذا البلد لم تنمح آثار هذه الثقافات رغم التشوه الذي لحقها. رغم كل هذا تلمس أن بلابل الخدمة على وعي به، ولذلك لم يغب عنّا ملاحظة أن حركيتهم تأخذ بعين الاعتبار هذه الحال وتتحرك في ضوئها، من أسلوب مرن يقبل التكيف حسب السياق الثقافي الذي يحرك كل فئة اجتماعية على حدة.

أكثر ما يحتاج إليه هذا المجتمع هو الغذاء الروحي، إنسانه في حاجة مستمرة إلى ما يشبع نهمه المعنوي. قال أحد الإخوة: “المجتمع الأمريكي يصدق كل شيء ومن السهل عليه تصديق شخص اخترع ديانة أو فكرة ذات أبعاد معنوية ليتبع ما يُدعى إليه”. الأرضية خصبة لاستقبال لغة الروح والمعنى، ولغة المحبة، ولغة الصدق والإخلاص، ولعل هذا هو سر المكانة التي شيدتها فكرة الخدمة في هذا المجتمع، فصدق المشاعر التي يقبل بها بلابل الخدمة على هذا المجتمع، تفتح القلوب وتسعدها، ولعل هذا هو سر نجاحهم.

المجتمع الأمريكي مجتمع حديث مزيج من ثقافات عديدة، ويصعب الحديث عن انسجام ثقافي بين كل مكوناته، كما يصعب الحديث عن نموذج ثقافي خاص بالولايات المتحدة الأمريكية، المبادرة الاقتصادية والصناعية واستغلال نتاج العلم الطبيعي هو الثقافة التي توحد الجميع. هناك من يتحدث عن فراغ معنوي كبير يفتقر إليه هذا المجتمع، الواقع المادي والاقتصادي والصناعي والعلمي يكاد يشبع الجانب المادي في الإنسان، لكن لا شيء مما أوجدته الحياة المعاصرة والحداثة في أمريكا يستطيع الإجابة عن أسئلة الروح والوجدان والمصير، وأظن بأن ما عند بلابل الخدمة من قيم وما يعتلج في أرواحهم، كفيل بالإجابة عن مثل هذه الأسئلة، ولذلك يستحق هؤلاء وصف حملة الأجوبة لأسئلة العالم الأمريكي الوجودية.

ليس همُّ بلابل الخدمة هؤلاء نشرَ الإسلام، ولا دعوة الناس إلى الإيمان؛ كل من تلتقيهم لن تجد لديهم هذا الشعور، همُّهم الأول هو تغيير تلك الصورة السلبية التي تشكلت لدى شرائح واسعة من أبناء المجتمع الأمريكي، والتي تظن بأن الإسلام دين عنف والمسلمين عدوانيين وإرهابيين.

كل بلبل من هذه البلابل حريص على الظهور بصورة إيجابية تدفع أغلب الأمريكيين إلى تغيير الصورة السلبية العالقة في لا وعيهم، والمرسومة على جبين كل مسلم حسب اعتقادهم، والجائزة الكبرى كما يطلب منهم أستاذهم هي أن يقول المجتمع: المسلمون طيبون.

كل شيء هنا بالحجم الكبير، الحياة اليومية هي الأخرى تحتاج إلى جهد أكبر، وإلى عمل متواصل، وإلى مال كثير. وضعٌ لا يتيح للإنسان فرصة يتوقف فيها لكي يتدبر مصيره وغاية حياته، الهم الأول هو توفير لقمة العيش. الجميع يدرك بأن التوقف عن العملِ والركضِ خلف لقمة العيش يؤدي إلى العجز والفشل.الحياة ينبغي ألاّ تتوقف، لأن طبيعتها المعاصرة في أمريكا وُجدت لكي لا تتوقف، كآلة كلما دارت انضبط توازنها وتعاظم عطاؤها. لا أحد يفكر في أحد، ولا أحد يحزن لحزن جاره، ليس لأنه لا يريد بل لأن وتيرة الحياة لا تتيح ذلك، لكن هذا الإنسان المسكين نفسه يشعر بالسعادة إذا وجد من يفكر فيه ومن يطرق بابه ويسأل عنه، ومن يحتضن أبناءه ويحتضنه، عندما يشعر بالغربة، وعندما يشعر بالحزن، تجده في حاجة إلى من ينير له الطريق عندما تكفهر الأجواء، وبلابل الخدمة حاضرون للقيام بهذه المهمة الجليلة، هذا هو قدرهم.

عجيب أمر “بلابل الخدمة”، تراهم يُدخلون الفرحة إلى قلوب شرائح واسعة ممن هم في حاجة إلى الابتسامة، وإلى ما يبث فيهم الأمل ويشعرهم بإنسانيتهم، وينسون شؤونهم الخاصة.

قد تبدو قساوة القلب في مثل هذه المواقف، السمة التي قد يقرأها البعض على جبين هؤلاء الراكضين خلف لقمة العيش، لكن الحقيقة هي أنهم مساكين. فعلى قدر صورة القساوة التي تفوح من مظهر حياة الناس، على قدر ما تشعر بأنهم مجرد مساكين في حاجة إلى ما يُمنَحونه ويُعطَونه من معاني القلب والروح. الناس في حاجة إلى من يذكِّرهم بإنسانيتهم التي حولتها وتيرة الحياة إلى شيء تافه لا أهمية له ولا دور له في نظام الوجود. لكن قدَر الخدمة هو أن تساعدهم على العودة إلى إنسانيتهم بأسلوب مرن فيه الكثير من الحكمة والموعظة الحسنة، لكن بأبعاد أخرى، تراعي قيم الحداثة باعتبارها الشعار المسيطر في هذا البلد.

عالم المعنى لإشباع أرواح بلابل الخدمة

بلابل الخدمة أنفسهم يحتاجون الشحن الدائم، ولذلك فهم على اتصال مستمر مع عالم المعنى المفتوحة أبوابه حيث يقيم الأستاذ، لذلك تجدهم يشدون الرحال إليه للاستشارة وللحصول على الدعم الروحي الذي يعينهم على القيام بمهمتهم على أكمل وجه. بلابل الخدمة في حاجة إلى تلقي شحنات المعنى ليقدروا على مواصلة المسير، قال أحدهم: أنا لم أترك صلاة الجمعة عند الأستاذ منذ أن استقر في أمريكا، إلا مرات قليلة عندما أكون خارج أمريكا.

قال مرشدنا وهو يتحدث عن السيد سعيد الذي وجَّهه الأستاذ للهجرة إلى أمريكا منذ ثمانينيات القرن الماضي، هو على اتصال دائم بالأستاذ، سعيد رجل لم تفارق الابتسامة شفتيه، لم نره سوى لحظات قصيرة، لكنها كانت كافية للتعرف على عالم الرجل وعلى روحانيته، رجل رغم قصر قامته إلا أنه يفيض حيوية. قال مرشدنا: لا يتوقف هذا الرجل عن الشحن وعن الدفع ببلابل الخدمة إلى إخراج أقصى ما عندهم، أبى إلا أن يرافقنا إلى المطار ويودعنا هناك، حيوية الرجل وحماسه يوحي بأنه لا يجد وقتا لنفسه ولحياته الخاصة، هموم الخدمة لا تترك له مجالا للامتياز، وكيف يحصل على هذا الامتياز وهو على اتصال دائم بصاحب همة أكبر وهو أستاذه؟ حماس الرجل يشعرك بأنه لا يقنع ويريد أن يحقق الكثير لمصلحة الإنسانية، بل تشعر معه بأنه يتطلع إلى مضاعفة الجهد حتى يستطيع اللحاق بتطلعات الأستاذ. الأستاذ حاضر بشكل من الأشكال في كل ما يقوم به السيد سعيد روحًا ومعنى. رغم الوقت الضيق الذي قضيناه برفقة هذا الرجل، فقد أحببته ووددت لو بقيت إلى جانبه أدرس حركيته وهمته في هذا العالم لألمس مدى التأثير الذي يحدثه فكر الخدمة في بلابله الرحالة.

رجال ولا أي رجال كما قال فريد الأنصاري رحمه الله. رجال شعارهم اليومي الخدمة والتضحية براحة الذات والتفاني في خدمة الآخرين، يعملون دون توقف ودون انقطاع، تذكرك تصرفات هؤلاء الرجال بقصة ذلك العابد أظنه يونس أمره، الذي أمضى عقودًا يخدم عند باب شيخه ينقل الحطب كل يوم في وقت محدد ثم يعود لعبادته وذكره دون أن يُؤذن له بتجاوز العتبة ليلقى شيخه ويأخذ منه مباشرة. كان منهج شيخه يقوم على تعليم مريده كيف “يُصَفِّر” نفسه ويخنسها، لكن لما طال عليه الأمد دون أن يؤذن له، مر بذهنه أنه لا أمل في انصلاح حاله؛ فترك باب الشيخ وهام على وجهه يبحث عن مسلك آخر، فحدث أن التقى في الطريق بأشخاص فرافقهم، وفي الطريق وقع معهم حدث منعهم من الحركة وظهر لهم أن مصيرهم هو الهلاك لولا أن يتدخل القدر الإلهي لتخليصهم من ورطتهم، فاتفقوا على أن يتوسلوا إلى الله بما عسى أن يشفع لهم، فبدأ كل واحد يتوسل بما يراه مناسبا لهذا الموقف، وكان يونس أمره يستمع بحرص شديد لما يرددونه، فاتفق الجميع على التوسل إلى الله بأمر واحد أو كادوا، وهو إنا نتوسل إليك بما توسل إليك به عبدك يونس أمره وكانوا يجهلونه، أي يجهلون أن مرافقهم هو يونس أمره، فأدرك يونس أنه ارتكب زلة عندما ترك ما كان يقوم به من عملٍ خالصًا لوجه الله تعالى. لقد تذكرتُ هذه القصة وأنا أصافح هذه الهمم الذين يُخجلون تواضع الناس بطلب الدعاء لهم، لكنهم لا يدركون مقامهم عند الله تعالى، إذ أحسب أنهم لو أقسموا على الله لأبرهم. بلابل الخدمة هؤلاء يتحركون ويعملون دون اهتمام بمقامهم عند ربهم، فهذا تركوه لله تعالى، يصرفه كيف يشاء ولعل هذا هو سر نجاحهم في مهمتهم.

لكل بلبل قصة ولكل بلبل نغمة

لكل واحد من هؤلاء قصة خاصة، ليسوا كلهم أتراك بل هم من جنسيات مختلفة جمعهم هدف واحد وغاية واحدة هي الخدمة، قد يُظن بأن من يؤثثون عالم الخدمة في أمريكا كلهم أتراك، والحقيقة غير ذلك، بلابل الخدمة هؤلاء من جنسيات مختلفة ودول مختلفة، بل من ثقافات مختلفة، الحدود مكون ثانوي لا قيمة له في ثقافة الخدمة، ما دام الذي يوحد الناس جميعًا هو فكرة تقديم خدمة لمن هم في حاجة إليها، الإيمان بمشروعية الفكرة هي العنصر الموحد، لقد اجتمعوا من كل مكان حول معقولية الفكرة التي غذاها الإخلاص والصدق والإيمان.

شعلة ذكاء متوقدة هو، وشعلة من الحركية والعمل دون انقطاع ودون توقف، هو ابن الخدمة، يمكن القول بأنه من مخرجات الخدمة، من مخرجات عمل “طيور الخدمة” في دول البلقان وفي ألبانيا على وجه التحديد، قصته جديرة بأن تحكى وبأن يتأمل فيها، يَحكي بأنه وُلد في وسط فقير، ومن هذا الوسط احتضنته الخدمة واهتمت به ومسحت دموعه، ولينت طبعه، وجعلته يحترم ذاته، وحولته إلى طاقة فعالة بعد أن كانت المؤشرات تتجه به إلى أن يحتقن قلبه كراهية وغضبًا وعنفًا. يحكي بأن جده أو أحد أجداده كان قاضيًا، وبأن الظروف السياسية التي عاشتها ألبانيا حكمت على أسرته بأن تتحول من حال إلى حال، لكن وضع الفقر مع ذلك لم يغير من طبع الاعتزاز والأنفة التي ورثها عن أجداده، بدا لي أن هذه الأنفة قد طبعت شخصيته بميسم خاص لم تغادر سلوكه، حتى وهو في أمريكا، الصرامة في التدبير مع ليونة في الطبع أهم ما ينطبع في ذهن من يلتقي به أول مرة. شخصيته تُذكر بشخصية البلقانيين الذين ليَّن الإسلام طباعهم في عهد الدولة العثمانية، وحولتهم إلى طاقة فعالة حملت الأمر بدورها إلى مناطق مختلفة.

هذا البلبل حلقة في فسيفساء لوحة بدأها أجداده في مركز العالم الحديث أو العالم المعاصر. لقد غيرت الخدمة من طبعه الثائر الغاضب وسلوكه الذي يميل إلى استفزاز الآخرين كما أخبرنا هذا المهندس الذي يفيض حيوية ونشاطًا. قال: في بداية علاقتي بالخدمة كنت أعتبر التحاقي بمدارس الخدمة والإقامة في مبيتاتهم فرصة لأكمل مشواري الدراسي فحسب، لم أكن أفكر في مصدر المال الذي يُنفق علينا، كنت أعتبر الأمر حقًّا، بل كنت أظن بأن الدولة التركية هي التي تنفق على دراستنا لمصلحةٍ تريدها، كنت أثور في وجه الآبيهات المشرفين علينا وأتهمهم بأشياء غريبة أخجل من ترديدها اليوم، وأخجل مما كنت أقوم به، يردد صديقنا الألباني بحزن شديد، ويضيف: ما كنت أعير اهتمامًا للآبي الذي يرعاني، أتعمد ألا أصلي أمامه حتى لا يجد نشوة وفرحة نجاحه في تغيير سلوكي، كنت أعتبر ما تقوم به الخدمة حقًّا لنا، لم يمر بخلدي أن ما يُنفق علينا هو مال يأتي من جيوب المتطوعين ومن ضمنهم من هم في حاجة إلى النفقة أكثر منا، ويأتي من جيوب الذين آمنوا بمشروعية ومعقولية الفكرة التي دعا إليها هوجه أفندي، وكان عليّ أن أنتظر حتى أنتقل إلى تركيا لإتمام دراستي حيث اكتشفت بأن ما يُنفق على الطلبة أو بالأحرى ما كان يُنفق علينا كان مما يدفعه أناس بسطاء أكثر فقرًا منا، ليحدث التحولُّ في علاقتي بالخدمة، وليحدث التحول الكبير في حياتي.

خدمة المجتمع كله هدفٌ لـ”بلابل الخدمة”، لا فرق عندهم بين أبيض وأسود، ولا بين مسلم وغير مسلم، ولا بين تركي أو عربي. العملة المتداولة هي الإنسان، وإنسانية الإنسان، والشعار توقير الخلق من أجل الخالق.

هذا التحول الذي عرفتْه حياة هذا البلبل القادم من البلقان، ستظهر بعض ثماره في هذا العالم العجيب.مجالات تحرك هذا الشاب المهندس متعددة لم نطلع على أكثرها، لكن أهمها هو جمعية توفر جوًّا أسريًا لعدد واسع من العائلات، من خلال برنامج تربوي ترفيهي يقوم على احتضان الجميع كل حسب استعداده، تقوم الفكرة على توفير جو يجد فيه فئاتٌ كثيرة من المجتمع مبتغاهم من عناية. كل شيء مُفكَّر فيه حسب الخصوصية وحسب الحاجة، فضاء واسع ربما يحتاج إلى بعض العناية وإلى إمكانات مالية لتجديد تجهيزاته، لكنه يُشعر من يدخل إليه بالدفء. صديقنا المهندس لم يتوقف عن خدمتنا، يتقن الخدمة، يتقن إعداد القهوة والشاي والطبخ، يقول: “نحن من يقوم بخدمة أعضاء الجمعية لا نتوفر على المال الكافي لنوظف من يقوم بهذه الخدمة، ولنا في الأمر غاية أخرى وهي أننا عندما نخدم نكون أكثر قربًا من الناس ويسهل إدخالهم إلى فضاء التعاون والاهتمام، الذي نرغب في بنائه معهم”. تحرص الجمعية على استغلال المناسبات المختلفة وخاصة المناسبات الدينية من أجل ربط الأجيال الشابة بالأصول الثقافية.

أمام ضغط الواقع ليس في مستطاع الأسر العناية الشخصية بأطفالهم وخاصة الآباء والأمهات الذين فرضت علهم طبيعة الحياة الخروج إلى العمل من أجل توفير متطلبات الحياة المركبة، كما فرضت عليهم عدم الاهتمام بشؤون أسرهم وأولادهم الذين يقضون سواد وقتهم في المدارس، وإذا كانت المدرسة الأمريكية توفر جوًّا تعليميًا لتلقين المعلومات وربما الكفاءات التي تناسب طبيعة الواقع الأمريكي، الذي تغلب عليه الحياة المادية، لكنها بالتأكيد لا تقدم لهم ما يغذي حياتهم الروحية، حتى لكأن هذا الجانب في حياة الإنسان لا قيمة له، لكن الخدمة في شخص العمل الجمعوي مثل جمعية “فيبا” تتطلع إلى توفير هذا الجو؛ ولذلك لا تترك الخدمة -من خلال همةٍ مثل همة هذا الشاب المهندس- الفرصة تمر دون العمل على جمع الأسرة في فضاء واحد، والعمل على خلق أنشطة تخدم ذلك. إنها المبادرة والقدرة على إبداع أساليب من أجل توفير سبلٍ لتقوية العلاقات الإنسانية بين أفراد الأسرة الواحدة، والأسر فيما بينها.

الجمعية مفتوحة أمام الجميع، المسلم وغير المسلم، يقول صاحبنا: قد تكون هناك بعض الأنشطة ذات الطابع الديني من خلال وجود المسجد وربما بعض الأنشطة الأخرى كتحفيظ القرآن الكريم، لكن هذا لا يغلق الباب في وجه غير المسلمين الذين يبحثون عن جو مفعم بالمودة والرحمة والعطف والحنان واحترام إنسانية الإنسان لإشباع احتياجاتهم الوجدانية.

الأنشطة التي تقوم بها الجمعية لمصلحة براعم المستقبل، ولجيل الشباب من أبناء الجيل الأول، وربما حتى الجيل الثاني متنوعة ومتعددة، ومنها تلك الزيارة التي قام بها صاحبنا المهندس مع ثلة من شباب الجامعة إلى المملكة المغربية في إطار برنامج تكويني وتربوي وسياحي هدفه تعريف هؤلاء الشباب على جزءٍ من الثقافة الإسلامية التي ينتمون إليها. كانت زيارتهم في شهر رمضان وقد حرص صاحبنا المهندس على حضور هؤلاء الطلبة على موائد إفطار بعض العائلات المغربية وكنت ممن حظي ببركة إفطار صائم. كان صاحبنا حريصًا على أن يعانق هؤلاء الطلبة وهم طلبة الجامعة أجواء رمضان، وأن يذوقوا طعم الثقافة الإسلامية وطعم الحياة الإسلامية في وسط عائلي، وفي بلد إسلامي كبلدنا. علاقة القرب التي بناها صاحبنا المهندس مع أحبته من أمريكا مؤشر جميل على أن الروح التي سيحملها هؤلاء الشباب في المستقبل هي نسمات الخدمة. كان بينهم من التحق بأمريكا في سن مبكرة ومن التحق بعد أن وعى ثقافة بلده وتشبع بقدر من روح الدين. والد شابين في الوفد إمام مسجد، لا تتيح له أشغاله فرصة الاقتراب أكثر من ولديه، لكنه بالمقابل سلَّم المهمة لبلابل الخدمة، بعد أن كسبتْ ثقته، هذا حال عدد كبير من الأُسَر هكذا يخبرنا المهندس الشاب.

كان صاحبنا يتصرف وفق منهج يتقنه، ويبدو أنه استعمله من قبل، مع شباب آخرين، كان الزمن زمن رمضان، وفي بلد كالمغرب حيث لرمضان قدسيته وطابعه الخاص، الذي تظهر ملامحه على الأجواء، والعينُ الملاحِظة والأرواحُ الطيبة تستطيع رصده وترتاح في أجوائه وتجد فيه طمأنينة الروح.

حسبي أن الغاية من هذه الأنشطة التي يتقنها بلابل الخدمة هي إعادة إحياء أرواح مثل هؤلاء الشباب، كنت ألاحظ بتنعم سلوك صاحبنا مع هؤلاء الشباب، الابتسامة لا تفارقه، يخفض لهم جناحه، لم ينهر أحدًا منهم، لم يأمر أحدًا باستعلاء وجفوة، لم يطلب من أي منهم أن يصوم أو أن يصلي، عندما أقيمت الصلاة طلبوا الوضوء على استحياء، توضأوا ثم صلينا، انتظرت من صاحبنا أن يوجههم لكنه لم يفعل، أدركت بأن المنهج واضح في تصرفاته، إنه منهج الخدمة الذي وضع ضوابطه الأستاذ، القدوة والحكمة والموعظة الحسنة، هذا هو منهج الأستاذ فتح الله قبل خمسين سنة يتكرر مرة أخرى مع ثلة من الشباب.

عجيب حال هذه الخدمة، لأن الروح التي تحركها توجد فعلا فوق الزمان والمكان، هذه هي الحقيقة التي ليس في مستطاع أحد إغفالها. الصدق في التفاعل من خلال الخطاب المحرِّك بمستطاعه أن ينشر روحًا جديدة في هذا العالم. يهيأ لي بأن نسائم هذه الروح إذا سرت بين شباب شرائح واسعة من أبناء المجتمع الأمريكي فالأفق يبدو جميلاً مشرقًا غير ملبَّد بالغيوم.

لم أشكَّ لحظة واحدة بأن لكل بلبل من مثل هذه البلابل قصة، لكن القاسم المشترك بينهم جميعًا هو أن قدرًا غيبيًا جمعهم تحت ظل خير واحد وهدف واحد هو مساعدة القلوب والأرواح على إزالة ما علق بها من أدران بحكم الغفلة والعادة، وبحكم الأجواء القاتمة التي تغلف أجواء هذا العالم.

الرحلة إلى أمريكا كانت رحلة ذات غايات كثيرة، فإضافة إلى التعرف على عالم الأستاذ فتح الله كولن وحقيقة إقامته في أمريكا، كان الغرض كذلك هو التواصل مع هذه الطيور والاطلاع على ما يسدونه للمجتمع الإنساني من خدمة. شخصية هؤلاء الرجال ممتزجة بالخدمة، حركتهم قائمة على الخدمة، لا تستطيع التفريق في هذه العلاقة بين جوانيتهم وبرانيتهم. الخدمة هي المعدن الذي مزج كل شيء فيهم، فأكسبه القوة والمتانة والإشراق، هم لا يلحظون مقامهم لكن موقع الملاحِظ يتيح رؤية ذلك وأكثر.

الابتكار والجمال لتقديم الخدمة

روح الخدمة كانت تستقبلنا بطابعها الخاص الجميل ذي الأبعاد الروحانية أينما حللنا وارتحلنا، حتى في المطاعم والمقاهي، طابع الخدمة لا تخطئه العين، في مقهى “إينستور” تكتشف جوًّا آخر من أجواء الخدمة في هذا البلد العجيب، الذي يشجع المبادرة، قيل لنا إنها سلسلة مقاهٍ منتشرة في أماكن عديدة من هذه الولاية أو هكذا خُيِّل لي، مقاهٍ للِّقاء والتواصل حول فنجان القهوة التركية أو كأس شاي تركي، وحول تناول ما لذ وطاب من الطعام التركي، المركز لا يرتاده الأتراك فقط، لاحظت وجوها بيضاء ذات ملامح أوروبية تجلس لاحتساء القهوة أو لقراءة كتاب، خمَّنْت أنهم أمريكيون مسيحيون أو من ديانة أخرى.

أحببت الإفطار في هذا الفضاء الجامع المنظم المرتب، الدال على حسٍّ ذوقي رفيع، ليس حبًّا فيما قُدِّم لنا هناك من طعام، بل لأن هذا الفضاء يتيح لمثلي رؤية وتيرة حياة الناس، الفضاء مُهيَّأ لتقديم خدمة أو خدمات. في الجانب الآخر من هذا المركز هناك معرض للكتب على الرفوف، كتب الأستاذ باللغة الإنجليزية وكتب أخرى دينية وفكرية، القرآن الكريم موجود كذلك، وترجمته باللغة الإنجليزية، الأطفال لهم جناحهم الخاص، تجد فيه كتبًا للأطفال، وفي ركن آخر اللعب، لكن ليس أي لعب إنها لعب تربوية تنمي الذكاء وتبني شخصية الطفل، لعب جميلة جدا تغري الكبار باللعب؛ أدركت الغاية، إنها إتاحة الفرصة للآباء لتواصل أكثر مع الأبناء، يأتي الأطفال مع آبائهم يشترون الحلوى يأكلون يجلسون في مكان مخصص لهم لمطالعة كتاب، لا أحد يسأل، لا أحد يعاتب، معالم منهج جلي تلوح في الأفق.

وددت لو أقمت بالقرب من هذا الفضاء آتي إليه كل يوم للعمل، المكان يساعد على ذلك، قال لي أحدهم حتى الصحبة تقام في هذا الفضاء، الفضاء فكرة جميلة لنشر صورة إيجابية عن المسلمين في هذا البلد العجيب.

قد يكون هذا الفضاء معدًّا لاستقبال عموم الناس من الطبقة المتوسطة، لكن هناك فضاءات أخرى معدة لاستقبال فئات اجتماعية من مستوى اجتماعي أعلى، الكل يحظى باهتمام بلابل الخدمة، دعانا السيد سعيد أو أحد الأصناف لا أتذكر مرة للإفطار وأخرى للعشاء في مطعم من مستوى راق.

كنا على مائدة العشاء نستمع إلى الحديث الشيق لأخينا الذي يغذي الأرواح عن منهج اشتغال بلابل الخدمة مع من ينتمون إلى المجتمع المثقف ورجال الأعمال الذين يحتاجون خدمة خاصة واهتمامًا خاصًّا، لذلك يُستضافون في مثل هذه الفضاءات، التي -رغم المسحة العصرية والحداثية التي تطلع بها على مرتاديها- لا تفقد تلك الروح الشرقية التي تذكر بالصفاء. والظاهر أن الكثيرين يبحثون عنها ويتشوقون للاستمتاع بها، الخدمة تستجيب لهذه الحاجة، فلكل واحد مفتاح يفتح قلبه ومنفذ إلى وجدانه، الغاية واحدة والهدف واحد هو توحيد القلوب على إيقاع واحد ونغمة واحدة، لكن الأسلوب والمنهج لا يتغير.

الأماكن مجرد أسماء وألقاب، لأن “بلابل الخدمة” يتحركون في الفضاء الواسع، وطنهم هو الوجود، وأما الحدود وأسماء الأماكن فمجرد أشكال، وطنهم هو كل مكان يحتاج إلى أن تُمسح دموعه ويُواسَى الحزانى فيه.

في الطرف الآخر من المطعم كان هناك رجل تدل ملامحه على أنه تركي، أو من دول البلقان، في الخمسين أو الستين من عمره، هندامه يدل على أنه من طبقة اجتماعية راقية، وإلى جانبه آخرون تبدو عليهم ملامح الانتماء إلى طبقة هذا الرجل الأنيق نفسه، كان يحدثهم وهم يستمعون باهتمام، يبتسم فيبتسمون، يضحك فيضحكون بين الحين والآخر. كانت تشرق من وجوههم إشراقات التأثر بكلام مُجَالسهم، خمنت بأن القضية تتعلق بصحبة من نوع خاص، انتهوا من طعامهم ومن حديثهم، وَدَّعهم ثم جاء إلى مائدتنا فسلم وَقُدِّم لنا على أنه من بلابل الخدمة، الذين هاجروا مبكرًّا إلى أمريكا، لقد كان تخميني في محله، الرجل بلبل صدَّاح، كان فعلاً في صحبة خاصة مع أصحاب حاجة معنوية ربما وجدوها فيما عنده.

في ولاية “ديترويد” دعانا أحد الأصناف لتناول طعام الفطور، الفضاء عبارة عن متجر لبيع المواد الغذائية وحاجيات الناس اليومية، وفي ركن منه أقام المشرفون عليه مطعمًا صغيرًا يرتاده الناس لتناول الفطور وما لذ وطاب من الأطباق التركية والشامية، أظن أن المشرف عليه سوري أو لبناني، الفضاء متجر لكن فيه مآرب أخرى، بدا أنه يحتضن هو الآخر لقاءات الصحبة والتواصل مع العائلات والأسر، وفيه يدعو بلابل الخدمة من يحتاجون إلى العناية والاهتمام. تناولنا طعام الإفطار مع بعض الأصناف الناجحين في أعمالهم، قال أحدهم: لولا الخدمة لما استطعت العيش في أمريكا، الخدمة توفر لي جوًّا خاصًّا لا تستطيع بلد العم سام توفيرها، تعتني الخدمة بأولادي وتهتم بهم وتساعدني على تربيتهم وتلقنهم مبادئ الدين والقرآن، لا أدري ماذا كنت سأفعل لولا الخدمة.

هنا علمت بأن للنساء نشاطهن الخاص بهن، هن كذلك يمارسن الخدمة مع نساء أخريات ينتمين إلى المجتمع الأمريكي، أمهات وربات بيوت وطالبات، عائلات مسلمة وغير مسلمة، الأسر العربية كذلك تجد عناية خاصة وتجد اهتمامًا.

غير بعيد من هذا الفضاء اكتشفنا فضاء آخر، هو مركز ثقافي متكامل يضم العديد من المرافق أبعادها تربوية وتعليمية وثقافية، فضاءٌ أَشْرَفَ على إنجازه الأصناف أنفسهم. في الطرف الآخر منه توجد مدرسة، أظنها روضة للأطفال أو شيئًا من هذا القبيل. أخبرنا أحد الإخوة فيما بعد -هو أحد تلاميذ الأستاذ كان قد طلب منه الأستاذ الهجرة إلى البرازيل، ثم دعاه إلى أمريكا- أخبرنا بأن التربية هي المفتاح، الذي ينبغي الولوج منه إلى المجتمع الأمريكي، لأن هذا المجتمع ضعيف المناعة والحصانة الثقافية والمعنوية أمام قوة الحياة المادية وشدة حضور مغريات العصر. ودور الخدمة هو أن توفر جزءًا من هذه المناعة، ولذلك فالخدمة تفكر في احتضان الأطفال منذ الروضة، بل منذ الشهور الأولى حتى يستطيع العيش في جو خاص كما يقول.

في المركز مسجد ومرافق تربوية عديدة لتحفيظ الأطفال والكبار القرآن، يحتوي كذلك على حجرات دراسية  يتعلم فيها من اختار نظام التعليم في البيت (Home School)، وهو نظام تعليمي تتيحه القوانين الأمريكية يقوم على تحصيل الطالب للمعارف الأساسية المطلوبة لاجتياز الامتحانات الرسمية ويتم هذا في البيوت أو في مراكز خاصة، لكن لكل واحد الحق في إدخال مواد تعليمية خاصة كتعليم لغات أخرى وكتعليم القرآن الكريم.

يعج المركز بحركة نشيطة لكنها حركة هادئة، أخبرنا مرافقنا أن حركة نهاية الأسبوع تكون أكثر نشاطًا نظرًا لتنوع الأنشطة التي يتم تقديمها، الفضاء متنفس للأسر وللشباب والأطفال على حد سواء. تم التفكير في كل شيء، الشباب والأطفال يحبون الألعاب الإلكترونية المختلفة ويحبون الرياضة، المركز يوفر هذا، والفكرة هي احتضان الشباب واليافعين وتحصينهم ضد المؤثرات الخارجية التي تؤثر سلبًا على سلوكهم، وقد تؤدي بهم إلى الانحراف؛ ولهذا تجد الأسر والعائلات وفئات المجتمع المختلفة ترتاح لمثل هذا المركز، وترتاده وتشجع على فتح أمثاله في أماكن مختلفة، كما تحرص على الحفاظ عليه واستمراره. لقد أدركت بلابل الخدمة حاجة الناس، فأنشأت هذه المراكز -ومثلها كثير- استجابةً لهذه الحاجة. قال مرافقنا: “المال يذهب ويرجع لكن الأخلاق والقيم إذا ذهبت فإن استرجاعها قد يستحيل”.

علامة ميزتها النجاح

جاليات أخرى كالجالية العربية تقيم مثل هذه المراكز التي تتخذ من المسجد محورًا لها، وتجعل تحفيظ القرآن أحد أهم أولوياتها، وقد زرنا بعضها، لكنها رغم سمو الهدف الذي تتطلع إليه إلا أنها تفتقد للروح والمعنى زيادة على وقوعها بين يدي مديرين لا يعتبرونها سوى مصدر للاسترزاق وهو ما يخرج بها عن غايتها وهدفها. أخبرنا مرافقنا -هذا البلبل الذي درس في مصر وتعلم العربية- أن الجالية العربية تتوفر على رغبة قوية في صنع شيء لأبنائها، لكنها تلقي بنفسها في أحضان أياد غير أمينة.

سامي بلبل من بلابل الخدمة في أمريكا، وهي أشكال وألوان، ولكل بلبل شخصيته، ولكل واحد منهم أسلوبه في التفاعل مع الناس. فسامي هذا طائر ذو شخصية جذابة، ومرحة يقتحم عليك عالمك يخرجك من انعزاليتك، ويبادرك بالحديث وكأنه يعرفك من قديم، معارفه كثيرون يبادلونه الاحترام وهو ما جعله شخصية محبوبة ومقبولة في كل الأوساط، مهمته كما فهمت هي التواصل مع الجاليات العربية في أمريكا، أخذنا إلى الكثير من الأماكن التي يوجد بها عرب، يعمل مدرسًا في إحدى المدارس التي أقامتها الجالية العربية، معهد لا يخلو من طابع ديني كانت تشرف عليه جهة ما، ولصعوبات في تدبيره سُلِّم للبلابل في الخدمة، سامي بلبل صداح يجعلك تحبه وتقبله، لا تفارق الابتسامة محياه، يحمل قلبًا واسعًا يستطيع احتواء الجميع، لا يتوقف عن الحديث وعن العمل، يومه شغل مستمر كما يخبرنا، أسرته تفتقده لكنه يتسلى عن أسرته وعن نفسه بجلال المهمة التي يقوم بها، إنها مهمة تزرع البركة والاستقرار والتوفيق.

أخبرنا بأن مهمته هي تعريف الجالية العربية على ما في جعبة الخدمة من خير، الجالية العربية تحتاج إلى من يكون صادقًا معها في تدبير شؤونها، ليس الغرض استقطابها كما يقول، ولكن أن تنعاون معها لتحسين صورة المسلمين هنا.

للأصناف قصص خاصة بهم كذلك، لكنها لا تخرج عن جو الخدمة وعالمها، منهم من هاجر إلى أمريكا بتوجيه من الأستاذ، ومنهم من درس في أمريكا ودخل عالم الأعمال ونجح فيه، ويعتبر الخدمة السند الذي أمده بالقوة لينجح، ومنهم من تعرف على الخدمة في أمريكا ووقع معه تحول كبير جعله مدينًا لها كذلك. أحد هؤلاء الأصناف طلب منه الأستاذ قبل أكثر من عقدين نقل أعماله إلى أمريكا، وأمله بأن ينجح في امتلاك آبار للبترول في أمريكا، وأن ينجح في إنشاء شركة كبرى في هذا المجال، وقد نجح في تحقيق هذا الحلم، الرجل ظل منذ سمع البشرى يعتبر ما قاله الأستاذ بشرى ستتحقق. تقاطعت سبلنا قدرا في “إنِستُور” تبادلنا حديثا قصيرًا، قصَّ دليلُنا قصته بسرعة، هو أحد الذين يدعمون الخدمات التي تنجزها الخدمة، أهداني قلمًا جميلًا أحاول الآن أن أكتب بحبره عن هذا الخير في الولايات المتحدة الأمريكية.

الجالية المسلمة التي هاجرت إلى أمريكا أصناف وأنواع، منها من هاجر قبل خمسين أو ستين سنة، حملهم إلى أمريكا الرغبة في الحصول على لقمة العيش، وُلد أولادهم في أمريكا، وفي لحطة اكتشفوا أنهم فقدوا أولادهم وصاروا يبحثون عن شيء ثمين تركوه وراءهم عندما هاجروا، تركوا وراءه هويتهم وثقافتهم. مِن هؤلاء شيخ وقور كان رفيقنا بل سائقنا، يقول عنه سامي: إنه تعرف على الخدمة في سن متقدمة، وهو منذ تَعرُّفه عليها يعرض خدماته تطوعًا. صدقُ هذا الرجل وإيمانه بالخدمة لا يمكن وصفه، يذكر بأنه لم يترك صلاة الجمعة عند الأستاذ منذ عرف الخدمة، ومنذ أن استقر الأستاذ في أمريكا. أخبرني أنه ودَّ لو يرجع الزمن إلى الوراء ويصير شابا لينخرط في الخدمة، سلوك هذا الرجل وصدقه يجعل المرء يفكر بصدق في هذه الروح التي تتحرك بها الخدمة في هذه الرقعة من العالم.

مجالاتُ تَحَرُّكِ هؤلاء الطيور متعددة ومتنوعة، ما يجمع بينها هو تقديم خدمة دون مقابل، والإبداع في سبل الوصول إلى شرائح مختلفة لها حضور فكري وثقافي واجتماعي في عمق المجتمع. هناك مراكز للحوار هذه هي وظيفتها، مراكز تفيض حيوية ونشاطًا. كانت زيارتها مناسبة للوقوف على الوجه الآخر للخدمة، خدمة تتطلب طينة أخرى من الطيور، يحرص من يشرف على مراكز الحوار على أن تكون في الأماكن الحساسة القريبة من مصادر صناعة القرار الفكري والثقافي والاجتماعي، أو في وسط الأحياء الراقية المعروفة بالأعمال وبالأنشطة الثقافية المتنوعة.المستوى المعرفي وإتقان اللغة الإنجليزية هي ميزة تميز بلابل هذا الصنف من الخدمة، والحاجة ماسة لذلك؛ لأنها تستهدف فئة المثقفين الذين يستطيعون التأثير في الأفكار والوعي داخل المجتمع.

حين زيارة أحد مراكز الحوار كانت هناك ندوة أو مائدة مستديرة ذات أهمية كبيرة، أدركت هذا من خلال طبيعة الحضور، يبدو من ملامحهم أنهم مثقفون ومفكرون، علمنا فيما بعد أنهم يناقشون موضوعًا ذا أبعاد فكرية غاية في الأهمية، ويشارك فيه مفكرون مسلمون ومسيحيون ويهود.

أخبرنا القائمون على هذا المركز بأن مهمته الأساسية هي فتح حوار جاد حول قضايا تتعلق بالفكر الإسلامي، بين مفكرين ينتمون إلى الحقل الإسلامي وبين غيرهم من ديانات أخرى، قال مسؤول المركز: “أهمية الندوات التي ندعو إليها تكمن في تصحيح الصورة السلبية عن الإسلام والمسلمين التي علقت بالأذهان لسبب أو لآخر”.

Kaydet

Kaydet

Kaydet

Kaydet

Kaydet