سيلتقي اليوم في البيت الأبيض رئيس الولايات المتحدة الأمريكية -البلد الذي أقيم فيه منذ ما يقرب من عشرين عاما- مع رئيس تركيا -موطني الأصلي الذي قدمت منه- ليناقشا معا عديدا من القضايا المشتركة بين البلدين، منها: سبل مكافحة تنظيم داعش الإرهابي، ومستقبل سوريا وأزمة اللاجئين.
إن تركيا التي كانت في يوم من الأيام بلدا واعدا بترسيخ ديمقراطية متكاملة وتقدير للتنوع الديني والثقافي، باتت غيرها اليوم تحت حكم رئيس يسعى بكل طاقته ليجمع كافة السلطات في يده، ويقمع جميع المعارضين الذين يحاولون إثناءه عن هذا السعي.
إن تركيا التي كانت في يوم من الأيام بلدا واعدا بترسيخ ديمقراطية متكاملة وتقدير للتنوع الديني والثقافي، باتت غيرها اليوم تحت حكم رئيس يسعى بكل طاقته ليجمع كافة السلطات في يده، ويقمع جميع المعارضين الذين يحاولون إثناءه عن هذا السعي.
إن لقاء القمة الذي سيعقد بين الرئيسين في البيت الأبيض اليوم، وكذلك قمة الناتو التي ستعقد الأسبوع المقبل، ينبغي أن يكون على رأس أولوياتهما حثُّ تركيا على استعادة مسارها الديمقراطي، والكفُّ عن ممارساتها القمعية المنافية للقيم الديمقراطية ومواثيق حقوق الإنسان.
لقد ذهب ضحيةَ الحملة المنظمة التي قادها أردوغان عقب محاولة الانقلاب اللعينة في 15 يوليو من العام الماضي أكثرُ من 300 ألف مواطن تركي، ينتمون إلى فئات مجتمعية مختلفة، أكراد وعلويين ويساريين وعلمانيين وصحفيين وأكاديميين وآخرين متعاطفين مع تيار الخدمة الإنساني السلمي الذي أرتبط به. لقد دُمرت حياةُ كل هؤلاء من خلال اعتقالات واحتجازات وإبعاد من العمل وممارسات مجحفة أخرى.
لقد أدنتُ محاولة الانقلاب بشدة منذ اللحظة الأولى، ورفضت كافة الاتهامات التي سعت إلى ربطها بي بلغة واضحة. كما بينت أن المتورطين في هذه المحاولة –أيا كان انتماؤهم- خائنون مناقضون للمبادئ والمثل والأهداف التي أحملها. ومع ذلك كله سارع أردوغان إلى اتهامي بترتيب هذا الانقلاب من على بعد ٥٠٠٠ ميل، دون أي دليل ملموس.
وفي اليوم التالي من محاولة الانقلاب أظهرت الحكومةُ قوائم مطولة، تضمنت آلافا من الناس الذين نسبوهم إلى حركة الخدمة بطريقة أو
بأخرى، إما لأنهم فتحوا حسابات في بنك معين، أو عملوا معلمين في مدرسة ما، أو نشروا خبرا صحفيا في الجريدة الفلانية إلخ، وجعلوا من هذه الممارسات العادية التي يمارسها الناس في حياتهم كل يوم جريمةً يُعاقَب عليها، ومن ثم شنوا حملة واسعة لتدمير حياة هؤلاء. لقد تضمنت هذه القوائم التي أعدت سلفا أسماء لأناس توفوا قبل أشهر من المحاولة، وآخرين يعملون في مقر الناتو بأوروبا في تلك الأثناء. كما رصدت المنظمات الدولية عديدا من عمليات الاختطاف والتعذيب أثناء الاعتقال وحالات موت تحت التعذيب. ثم سعى النظام التركي بكل جهده لتعقب الأبرياء المقيمين خارج تركيا ممارسا في ذلك كافة الضغوط، ومن ذلك تعرّضُ ثلاثة مواطنين أتراك مقيمين في ماليزيا للاعتقال، من بينهم مدير لمدرسة كان يعمل فيها منذ 15 عاما، ثم قامت السلطات الماليزية بتسليمهم إلى السلطات التركية. وليس من باب التنبؤ إذا قلنا إن هؤلاء سيتعرضون إلى السجن وأصناف شتى من التعذيب من قبل السلطات التركية بعد عملية التسليم هذه.
لقد صارت هيمنة رئيس الجمهورية كاملة على السلطات الثلاث للدولة، وذلك بعد إقرار التعديلات الدستورية المتعلقة بالنظام الرئاسي في استفتاء أبريل الماضي بفارق طفيف، وسط ادعاءات جدية حول انتهاكات للأصول المتعارف عليها. ورغم الهيمنة الفعلية على هذه السلطات الثلاث قبل إجراء التعديلات الرئاسية في الواقع عبر التصفيات التي تمت وأعمال الفساد التي مورست فإن شرعنة هذه الهيمنة دستوريا يثير القلق مستقبلا على مسار التحول الديمقراطي في البلاد ويقلقني شخصيا على مصير الشعب التركي في ظل هكذا عقلية.
ينبغي إعداد دستور مدني وسط أجواء ديمقراطية بمشاركة كافة طبقات المجتمع، يراعي جميع المبادئ الحقوقية والقيم الإنسانية، مستفيدا من كافة الدروس المستخلصة من النماذج الديمقراطية الناجحة في الغرب.
لم تكن بداياتهم كذلك؛ لقد تسلم حزب العدالة والتنمية الحكومة عام ٢٠٠٢ بوعودٍ إصلاحية ديمقراطية تُمكّن تركيا من تحقيق هدف الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. لكن مع مرور الوقت، نفد صبر أردوغان إزاء أي فكر معارض؛ فسهَّل استيلاء أنصاره على عديد من وسائل الإعلام مستغلا سلطات مؤسسات الدولة الرقابية، وفي صيف ٢٠١٣ قمع مظاهرات “كيزي بارك” بعنف، وفي شهر ديسمبر من نفس العام، وبعد تورط بعض أعضاء حكومته في عملية كبرى للفساد والرشوة، تصدى لها بإخضاع القضاء والإعلام تماما لهيمنته. كما أن حالة الطوارئ التي أُعلن عنها لفترة “مؤقتة” بعد أحداث ١٥ يوليو من العام الماضي ما زالت قائمة حتى الآن.
إن الممارسات التسلطية التي يمارسها أردوغان ضد قطاع كبير من شعبه لم تعد أمرا محليا أو شأنا داخليا، فقد ظهر في تقارير منظمة العفو الدولية أن ثلث إجمالي الصحفيين المعتقلين في العالم موجودون في المعتقلات التركية. كما باتت الممارسات القمعية ضد المجتمع المدني والصحفيين والأكاديميين والمواطنين الأكراد تشكل تهديدا للاستقرار في البلاد على المدى البعيد، وبلغ الاستقطاب المجتمعي حدا يهدد وحدة البلاد ويمزق نسيجها الاجتماعي.
إن غياب الديمقراطية عن تركيا وتحولها إلى نظام ديكتاتوري سلطوي فاشي في الشرق الأوسط يحتضن المجموعات الإرهابية المتطرفة التي تعد العنف مشروعا، ويقوم في الوقت نفسه بممارسات قمعية غاشمة تبعث اليأس في قلوب مواطنيه الأكراد.. كل هذا يشكل بدوره كابوسا مرعبا على أمن الشرق الأوسط برمته.
إن الشعب التركي في حاجة إلى دعم حلفائه الأوروبيين والولايات المتحدة الأمريكية لاستعادة مساره الديمقراطي من جديد. لقد أطلقت تركيا انتخابات حقيقية ذات تعددية حزبية في عام ١٩٥٠ لكي تثبت استحقاقها للانضمام إلى حلف الناتو، وبالتالي يمكن لحلف الناتو أن يطالب تركيا أن تبقى مخلصة للمبادئ الديمقراطية التي تعتبر من مقتضيات اتفاقية العضوية، بل ينبغي أن يطالب بذلك.
وفي هذا الصدد تبدو الحاجة ملحة إلى المبادرة في موضوعين هامين لتحويل التراجع الديمقراطي الذي تعاني منه تركيا إلى مساره الصحيح:
أولا: ينبغي إعداد دستور مدني وسط أجواء ديمقراطية بمشاركة كافة طبقات المجتمع، يراعي جميع المبادئ الحقوقية والقيم الإنسانية، مستفيدا من كافة الدروس المستخلصة من النماذج الديمقراطية الناجحة في الغرب.
ثانيا: ينبغي تطوير مقررات تربوية ترسخ قيم التعدد والديمقراطية، وتشجع على التفكير التحليلي، وتربي الأجيال على أهمية الموازنة بين صلاحيات الدولة من جهة والحقوق الفردية من جهة أخرى، وأهمية فصل السلطات، والحرص على استقلالية القضاء وحرية الصحافة، والتنبيه إلى خطورة العنصرية المتطرفة وتسيس الدين وتقديس الدولة أو القائد الفرد.
ولكن قبل ذلك كله، ينبغي على الحكومة التركية أن تكفّ عن ممارساتها القمعية الحالية، وتتراجع عن انتهاكات حقوق مواطنيها، وتعوّض المتضررين منهم الذين تعرضوا لشتى أنواع الظلم.
أعتقد أن أيامي الباقية لن تكون كافية حتى أرى تركيا بلدا ديمقراطيا يشار إليه بالبنان على مستوى العالم، لكن أدعو الله تعالى أن ينقذ تركيا من دوامة الفاشية السلطوية التي باتت تتخبط فيها قبل أن يفوت الأوان.
* واشنطن بوست، الثلاثاء 16/مايو/2017