اتفقت رؤية رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان مع توجهات جماعة “المحافظين الجدد” الأمريكية بأن تكون تركيا زعيمة لمشروع “الشرق الأوسط الكبير” كبداية لتحقيق مراده بأن يكون خليفة المسلمين الجديد في ثوب عصري، ومن أجل بلوغه مبتغاه لم يتوقف منذ وصوله للسلطة عن دغدغة مشاعر العالم الإسلامي وتصوير نفسه علي أنه منقذ المسلمين من سباتهم.. إلا أن حقائق الأمور تؤكد أنه رضخ في بداية حكمه لجميع الشروط الأمريكية لتولي إدارة المشروع ومنها عدم الاقتراب من إسرائيل والبحث عن مصادر طاقة بالمنطقة والظهور بالمنقذ الديني للعالم الإسلامي. لكنه تنكر لكل هذه الشروط بعدما تمكن من السلطة وتلاعب بقرارات الحظر الدولية وقام بتسهيل تصدير البترول الإيراني للخارج بالمخالفة للحصار الدولي.
لم تكن المسيرة السياسية لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان صعبة، فقد صعد نجمه سريعًا في سلم السلطة والقيادة، مستغلا كل ما لديه من أوراق ومؤامرات للإطاحة بمن ساعدوه في البداية، ولذا فهو يصعب عليه حاليا شعوره ببوادر صعوده نحو الهاوية بعد أن قضي أكثر من 19 عامًا تقريبًا ما بين رئيس وزراء ورئيس لبلاده ساهم خلالها في تحسين مستواها الاقتصادي حتى أنهكتها الأزمات الاقتصادية مؤخرًا. بدأت حياة الناشئ رجب طيب أردوغان السياسية رئيسا لبلدية إسطنبول وصار نجمًا متألقًا داخل حزب “الرفاه” مندفعًا بطموحه وشغفه بالسلطة مستغلاً حماسه وشخصيته العنيدة.
ولم يكن يحلم وقتها بأن العطاء الأمريكي في مشروع “الشرق الأوسط الكبير” سيرسو عليه. لم يضع أردوغان الوقت وشمر عن سواعده وشرع في العمل، ففي بدء الأمر بدأ بإغواء الكوادر الشبابية داخل حزب “الرفاه” لجلبها إلى صفه ودعمه، حتى أدرك أستاذه نجم الدين أربكان زعيم الحزب هذا الأمر ووصف مثيري الفتنة هؤلاء على شاشات التليفزيون بـ”العملاء الصهاينة”، لكن القوى الدولية وقتها قامت بتنشيط وتفعيل الكيانات التركية “العميقة” للإطاحة بالحكومة التي يشارك فيها أربكان، وتمت الإطاحة بها فعلاً من خلال القرارات “الانقلابية” في الثامن والعشرين من فبراير1997المعروفة، حيث أطيح بالحكومة الائتلافية لأربكان التي جاءت بقواعد ديمقراطية من خلال مكائد وألاعيب غير ديمقراطية. وبهذا تخلص أردوغان من أكبر العقبات السياسية ليؤسس “حزب العدالة والتنمية” بكوادر شبابية، ثم تم عقد سلسلة من الاجتماعات في كل من تركيا والولايات المتحدة التي أعلنت شروطها لمن تراه مناسبًا لإدارة مشروعها بالمنطقة. ويكشف الخبير الاستراتيجي التركي عبد الله السلومي أن أردوغان استغل صحفيين مقربين ممن لديهم توجهات إسلامية وأشركهم في هذه الاجتماعات لينقلوا لاحقًا الشروط الأمريكية أمام الإعلام التركي بأسره بهدف تمهيد الطريق أمام رئيس الوزراء آنذاك لتولي إدارة المشروع المثير للجدل حتى يومنا هذا. شهد الرأي العام التركي جدلًا كبيرًا، غير أن أردوغان -الخطيب المفوه الذي يتسم بالقوة والزعامة الصارمة -نجح في إقناع الرأي العام الإسلامي والتلاعب به، إذ إن النجاح السياسي الذي سجله خلال السنوات الأولى كان لافتًا للأنظار. المثير أنه في تلك الأثناء تم تسمية أردوغان في الولايات المتحدة رئيسًا لمشروع الشرق الأوسط الكبير رسميًا، حيث تم إلباسه زيًا خاصًا وتكريمه.
ويأتي عام 2010 -كما يرصد عبد الله السلومي الخبير الاستراتيجي التركي -لتتكشف خبايا هذا التعيين الرسمي لأردوغان زعيما للمشروع الأمريكي حتى نصل إلى آخره لتشهد تونس بعض الاضطرابات السياسية مما أدى إلى الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي، ولا يختلف الحال في مصر كثيرًا بتنحي الرئيس حسني مبارك في بدايات 2011. وهنا يمكن عمليًا تحليل مؤامرات الخريف العربي ووصول جماعة الإخوان للحكم في مصر وبداية الأزمة السياسية في سوريا وليبيا واليمن، نتيجة انتشار شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية في كل الدول العربية، بما يفسر حجم المؤامرة التي قادها رئيس الوزراء التركي آنذاك. ورأينا بمرور الوقت -يقول السلومي -إن أردوغان ومع بزوغ نجمه ظل ملتزمًا بشروط تأسيس حزبه، غير أن بوادر تمرده بدأت بعد عام 2010 حيث تسمم بالسلطة، وبدأ يظهر في تركيا والعديد من الدول العربية والعالم الإسلامي كزعيم سياسي إقليمي بالمخالفة للمحددات التي صممتها له القوى الدولية والولايات المتحدة، أي عدم إعلان زعامته للعالم الإسلامي، ولكن ولعه بالخلافة الإسلامية ولقب “السلطان العثماني” الجديد جعلاه ينقلب على الخريطة التي رسمتها واشنطن له. وكان الأتراك قد تناسوا بحلول هذا الوقت وصف أربكان لابنه السياسي الذي انقلب عليه أنه وأنصاره “عملاء صهاينة”.
لقد فوجئ المراقبون بأن أردوغان ازداد حدة من الناحية السياسية كلما ارتقى اقتصاديًا، وبدأ بتنصله من الوعد الذي قطعه للقوى الدولية في أثناء تأسيس حزبه بعدم تعيين نفسه زعيمًا إسلاميًا للمنطقة، ثم بدأ بصِدام ظاهري مع إسرائيل، لكنه واصل تصدير البترول العراقي والإيراني إليها سرًّا. وهنا يفضح الخبير الاستراتيجي التركي ثروة أردوغان حيث كشفت بعض المؤسسات الدولية أن حكم محفظته المالية تقدر بما يتراوح بثلاثمائة وأربعمائة مليار دولار. وبدأ أردوغان الذي أعمته هذه القوة المالية الضخمة بالتلاعب بالسياسات الداخلية لدول الجوار، لتستضيف تركيا الجماعات الإسلامية المتطرفة من العالم الإسلامي والبلقان وروسيا وأوروبا، بهدف إعداد الأرضية الدولية من خلال إشعال الأزمة الطاحنة في سوريا والماثلة أمامنا حتى يومنا الراهن، وقام بتدريب كل هؤلاء المتطرفين والإرهابيين ثم توجيههم إلى سوريا ليطلق منها الحرب الأهلية.
نشير هنا إلى أن أردوغان الذي كان يوطد زعامته للمنطقة رويدًا رويدًا قد تم استدعاؤه إلى الولايات المتحدة في عام 2010 ليتلقى تحذيرًا بأنه يحيد عن دوره المرسوم والمتفق عليه وأبلغته واشنطن بأنه انتهك شروط ترسيمه زعيمًا للمشروع وأعادوا تذكيره بضرورة الانسحاب من مصادر الطاقة وتأسيس علاقات جيدة مع إسرائيل وعدم تولي ريادة العالم الإسلامي. لكنه فور عودته إلى تركيا، عاد أردوغان إلى حلم ريادة هذا العالم، وتقمص دور “زعيم المنطقة” وتحدى الولايات المتحدة ظاهريًّا بإظهار تمتعه بالقوة التي ستدفع المنطقة إلى كارثة في حال تنفيذ أية حركات ضده. ثم بادر إلى استعراض عضلاته في سوريا نوعًا ما لهذه القوى الدولية، لكن الأزمة السورية انقلبت عليه بمرور الوقت وقادته إلى مستنقع كبير جعلته يدرك أنه لا يتمتع بقوة سوى لكونه ” مجرد بيدق” في المنطقة، ثم اضطر-وهو الذي أشعل فتيل الحرب في سوريا -إلى التشبث بألف حيلة وحيلة كي يتمكن من إخراج نفسه من هذا المستنقع.
كان أردوغان قد استغل مجموعة من الظواهر في المنطقة والإقليم ليبزغ نجمه بسببها مثل:
– فراغ القوة في المنطقة في ظل تعثر عملية السلام على مختلف المسارات خاصة الفلسطيني، وعدم قدرة الإدارة الأمريكية على إحداث أي اختراق لحل الصراع العربي – الإسرائيلي، وفقدان واشنطن القدرة على فرض الضغوط على إسرائيل، مما جعل النفوذ الأمريكي يتراجع في المنطقة.
– تحظى تركيا -في فترة صعودها إقليميًّا -بنظام سياسي ديمقراطي متوازن بين الدين والعلمانية.
– أهّلها عنصر كونها دولة إسلامية -سنية -كبرى ولها جذورها التاريخية العميقة في المنطقة، لتكون دولة الشرق الأوسط في نهايات القرن العشرين وبدايات الحادي والعشرين.
– دفع التنامي السريع للاقتصاد التركي أنقرة للانفتاح بقوة على الشرق، بهدف توفير أسواق قريبة لصادراتها المتنامية وفي الوقت نفسه استيراد الطاقة اللازمة للنمو الاقتصادي.
– قناعة أردوغان بأن الغرب (أوروبا – الولايات المتحدة) سوف يستفيد من نظامه الجديد جيدًا إذا لعبت دولة ديمقراطية وبراجماتية وناجحة كتركيا دورًا أكبر في العالمين العربي والإسلامي. فقد بعثت تركيا رسالة بالغة الأهمية في منطقة الشرق الأوسط ودوله الفاعلة، مفادها أنه لا عوض عن أنقرة في أي ترتيبات أمنية قد يتم التوصل إليها مستقبلاً.
الحضور التركي على المسرح السياسي العربي
كل هذه العناصر مجتمعة دفعت الحضور التركي على المسرح السياسي العربي إلى تجاوز حدود فكرة الظاهرة، ليرسخ بدلاً منها واقعًا سياسيًّا واقتصاديًّا مقبولاً عربيًّا وإسلاميًّا، واقعًا له أكثر من دلالة منذ تولي حزب العدالة والتنمية الحكم ومشاركة رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان في اجتماعات القمة العربية وجولاته، أو جولات وزير خارجيته في العواصم العربية. ناهيك عن مواقفه الشاجبة لسياسة الحكومة الإسرائيلية والمؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني. فهذه الخطوات والمواقف شكلت مجتمعة دليلاً قويًّا على أن تركيا راغبة، بل ومصممة، على الانفتاح الواسع والإيجابي على العالمين العربي والإسلامي، بل والقيام بدور فاعل في لعبة “المنطقة المشتعلة”، وعلى الأخص في الشرق الأوسط.
فلا يمكن للحكومة التركية أن تقف مكتوفة الأيدي أمام التحولات الكثيرة في خريطة القوى المتنازعة في هذه المنطقة لأسباب عديدة منها:
– لا يمكن لحزب العدالة والتنمية الحاكم، إسلامي العقيدة وديمقراطي النهج، إدارة ظهره للعالمين العربي والإسلامي كما فعلت الحكومات التركية السابقة بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية.
– ما شكله شبه استقلال الأكراد في العراق من هاجس لتركيا، نظرًا للامتداد البشري الكردي في جنوب وشرقي تركيا.
– الدفع الإيراني للجماعات والتيارات الشيعية في المنطقة، خاصة أنه يعيش في تركيا ملايين “العلويين” الذين يعتبرون أقرب إلى الشيعة منهم إلى السنة.
– الصراع العربي -الإسرائيلي الذي يغذي كل تلك التحولات الكبرى ويتغذى منها، وتأثيره المباشر على نمو الحركات السياسية المتطرفة التي باتت هاجسًا دوليًّا وسببًا لاستمرار التوتر والحروب في المنطقة. ومن هنا كانت غضبة أردوغان الظاهرية على إسرائيل وانتقاداته العنيفة لسياستها ضد الفلسطينيين.
– رغبة أنقرة في تحقيق مكاسب اقتصادية من جراء تبني سياسة مشرقية جديدة، خاصة أن ريادة تركيا لـ”مشروع الشرق الأوسط الكبير” سيعزز مكانتها، أسيويًّا وعربيًّا وإسلاميًّا وأوروبيًّا ودوليًّا. مستغلة في ذلك كونها دولة (إسلامية -ديمقراطية) منفتحة على جميع دول العالم إذ تعتبر تركيا نفسها مركزًا لهذا العالم من الناحية الجغرافية، فلم لا تكون أيضًا بؤرته الاقتصادية والسياسية، لتمثل في النهاية النموذج الذي تقتدي به بقية الدول الإسلامية، لترضي الغرب من ناحية، ثم لتكون هي لاحقًا مفتاح السلام بين الشرق والغرب بمعنى الحاجز الذي يحول دون اندلاع صراع حضارات بين الجانبين أو تفاقمه على الأقل.
وتوافقت كل هذه العناصر مع قناعة أنقرة بأن العرب ليسوا منزعجين من تنامي الدور التركي، بل إن لاعبين آخرين قد ينتابهما التوتر والانزعاج من هذا الدور، وهما إسرائيل وإيران، فالأولى شعرت بالانزعاج الشديد من الانقلاب التركي عليها، رغم تلطيفها لتداعيات هذا الانقلاب. أما الثانية، فرأت في هذا الدخول (التركي – السني) على مسرح الأحداث، منافسة لها، وربما بداية لتكتل سني واسع في المنطقة، في وجه مشروعها لتصدير الثورة الإسلامية.