يحتل “كولن” مقدمة الصفوف بين صفوة العلماء والمفكرين الأتراك الذين جعلوا من قضية الإصلاح والانبعاث همَّهم الكبير، وشاغلهم الرئيس. يحدوهم إلى ذلك حس ديني يملأ الصدور، وإرث حضاري شواهده العينية الفخمة لا تفتأ تستنهض الإرادات، وتُذكِّر أهل النعرة بأمجاد الماضي، وتُشرِّع في وجوههم آفاقَ مستقبلٍ معالِمُه مرسومةٌ، إذ هو طريق مهيّأ لأن يمضي بلا انقطاع ولا انحراف، ويسترسل وفيا للروح التي كفلت للأمة العزة التاريخية والريادة الحضارية في العالم، على مدار عشرة قرون.
كولن والمد الإحيائي
لا يزال “كولن” يعلن في كتاباته بأنه يمثل حلقة ضمن سلسلة ذهَبية من الأسلاف المباركين انبثّوا عبر العهود والمراحل، وعاشوا متفرّغين للكدح والتنسك والدعوة إلى الله، وإرساء أسس الإحسان وخدمة الأمة. وإن وثاقته الروحية المعلنة مع سلك أسلافه الأعلام والأقطاب الأتراك العاملين، لتُعَدُّ أولَ شاهدٍ على أصالة الوجهة الإصلاحية التي ينهجها، إذ هي وجهة تحرص على أن تكون ضمن المد الإحيائي الذي طفق أولئك الأخيار من بني قومه يضطلعون به، كل في مرحلته واختصاصه، ينهضون بواجب الدعوة، حاديهم الإيمان والاحتساب والغيرة على الدين المحمّدي.
يؤمن كولن أن كل هبَّةٍ تتحقق للأمة، وكل وثْبة تتمكن من تسجيلها، في أي عهد أو عصر، إنما هي صدى واستجابة لروح دعوة ﷺ
إن الطابع الاتباعي الصريح الذي ينتهجه “كولن” في مساره الإصلاحي، ينسجم مع روح التجرد التي تميز سيرته، فهو من السادة العاملين الملتزمين بقواعد السلوك الذين يعيشون الامّحاء، فلا يشغلهم شاغل النفس ووسوسة الأنا النازعة -فطرة- إلى الظهور والبروز، عن الانخراط الكلي في السعي وتسديد خطط الخدمة وبرامج النهوض، إذ لا ينتج عن الحرص على تحقيق التميز الشخصي والظهور الذاتي الذي يطبع جهود الكثير من الدعاة اليوم، إلا الترهل الروحي وانحسار الفاعليات والجهود، فلا تصب في النهر المشترك، وهو ما يجعل الهمم تعجز عن بلوغ الأهداف العليا، لأنها منوطة بالفردية والزعامة والعنوانية.
لذلك ألْفَينا كولن لا يفتأ يؤكد التنبيهات على المخاطر التي تتهدد العمل البنائي متى ما داخلت القائمين به روح الذاتية، وتراجعت في نفوسهم ضوابط التسامي والتجرد. بل إنه لواضح أن الداعية كولن، لَيَحرص الحرص كله على ألا يترتب عن جهود الإحياء التي يبذلها العاملون أي تشرذم لصفوف المجتمع، إذ إنه يعي مدى الهدر الذي يحدثه الانقسام والفرقة والتشتت حين تتوزع الأمةَ التياراتُ والطوائفُ، وتتقاسمها التحزُّباتُ الفكرية والتعصباتُ الروحية، وتأسرها شتى الجاذبيات، وتَحُدُّ بذلك من انطلاقة الأمة، إذ تفقدها فرصة التركيز والتسديد الجماعي النافذ والحاسم.
اتباع نهج النبي ﷺ
يعتمد انخراط “كولن” في المحج الإصلاحي علي خطة واعية ومؤسسة على اعتقاد راسخ بأن كل جهد صادق رصين لا ينبغي أن يخرج عن نطاق المسار العام الذي أعطى محمد صلي الله عليه وسلم دفعته الأولى وشارة انطلاقه الأولي، ذلك لأن كولن يؤمن أن كل هبَّةٍ تتحقق للأمة، وكل وثْبة تتمكن من تسجيلها، في أي عهد أو عصر، إنما هي صدى واستجابة لروح دعوة محمد صلي الله عليه وسلم ، وتوفيق أتيح للعاملين، وإسهام منهم، وحظ لهم، لا ينبغي أن يسيئوا له بإخراجه عن أصله، وعزله عن طبيعته الاستراسالية المحمدية ضمن حركة التاريخ وانعطافات مسيرة الأمة.
يحتل “كولن” مقدمة الصفوف بين صفوة العلماء والمفكرين الأتراك الذين جعلوا من قضية الإصلاح والانبعاث شاغلهم الرئيس. يحدوهم إلى ذلك حس ديني، وإرث حضاري.
فكل اشتغال جماعي تطغى عليه الحسابات الضيقة والاعتبارات الشخصية، جهد تستفرغه تلك الاعتبارات والحسابات من جدواه، وتزيل عنه البركة والتأييد الإلهيَيْن، وتدرجه في عداد الظواهر التي لا طائل من ورائها ولا ثمرة لها، فأَجْرِيّته -إن كانت له أجْريّة- هي ما تحقق للقائمين عليه من ظهور صوري، وعنوانية عارضة، لا غير.
——————————————————–
المصدر: سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، صـ 79-81.
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.