أود أن أحدّثكم عن عَلاقتي بفكر الأستاذ فتح الله كولن وأطروحاته الإصلاحية ونظرياته النهضوية. في البداية عرفتُ اسم الأستاذ ونزرًا يسيرًا عن شخصه الكريم؛ فحكمتُ عليه بأنه واعظ وشيخ صوفي مثل أولئك الذين نعرفهم في مختلف بلاد العالم الإسلامي.
كولن مع كبار الفلاسفة
وجدت كولن واعظا ليس كبقية الوعاظ، ومفكرا ومربيا ومصلحا ومجددا وإنسانا صاحب قلب وحال.
وبعد سنوات قليلة وقع في يدي كتاب لأستاذة أمريكية اسمها “جيل كارول” بعنوان “محاورات حضارية.. حوارات نصّية بين فتح الله كولن وفلاسفة الفكر الإنسان“¹. وجذب العنوان انتباهي، فعكفتُ على قراءته، فوجدتُ المؤلفة، وهي أستاذة في “جامعة رايس الأمريكية”، تضع الأستاذ فتح الله كولن جنبًا إلى جنب مع كبار فلاسفة العالم مثل أفلاطون وكونفشيوس وكانط وميل وسارتر. ونحن في أقسام الدراسات الفلسفية نعلم أن هؤلاء يمثلون (مشيخة) الفلاسفة الذين عُنُوا عنايةً كبيرة بالإنسان فردًا وجماعة؛ وركزوا على الإيمان بأهمية الإنسان وقدرته ومكانته وسلطته؛ وهو إيمانٌ لا يتناقض بأيّ حال (في رأي كارول) مع المعتقدات المحورية، أو مع تاريخ الديانات الموجودة الثلاث الكبرى. تقول المؤلفة:
“وفي ضوء ذلك، فإنني أصنّف كولن ضمن هؤلاء المفكرين الإنسانيين الآخرين، لأن أعماله -مثل أعمالهم- تركز على القضايا المحورية عن وجود الإنسان التي ظلت طويلًا جزءًا من خطاب الفلسفة الإنسانية سواء في شكلها الديني أو اللاديني. وبعبارة أخرى، إن هؤلاء الفلاسفة يهتمون بالتساؤلات الأساسية عن طبيعة الواقع الإنساني والحياة الإنسانية الصالحة والدولة والمبادئ الأخلاقية، كما توصّلوا إلى نتائج متشابهة في العديد من هذه القضايا والتساؤلات بعد دراستها والتفكر فيها ضمن السياق الثقافي والتراثي الخاص بكل منهم، والتشابه هنا لا يعني التطابق، فهؤلاء المفكرون قادمون من خلفيات وفترات زمنية وسياقات ثقافية ووطنية وتقاليد دينية وروحية شديدة الاختلاف”. (محاورات حضارية)
عرفت رجلا اسمه “فتح الله كولن” فأحببته، وصرتُ شغوفا بكتبه ومنشوراته ومشروعاته.
وقد تناولت المحاورة بين كولن والمفكرين الآخرين خمس مسائل فلسفية أساسية تتعلق بالإنسان وهي:
1- القيمة الإنسانية المتأصّلة والكرامة الأخلاقية.
2- الحرية الإنسانية.
3- الإنسانية المثالية.
4- التعليم والتربية.
5- المسؤولية الإنسانية.
لقد عرّفتْني الدكتورة كارول على مفكر تركي مسلم معاصر بهذه القامة السامقة الشامخة وبهذا التأثير المحلي والعالمي، فرُحْت أبحث عن كتبه ومحاضراته، وأدرس آراءه وأفكاره ونظرياته، فوجدته واعظًا دينيًّا ليس كبقية الوعاظ، ومفكرًا ومربيًا ومصلحًا ومجددًا وإنسانًا صاحب قلب وحال. نعم، وجدت كل ذلك في رجل واحد اسمه “فتح الله كولن” فأحببته، وصرتُ شغوفًا بكتبه ومنشوراته ومشروعاته.
حوار من أجل السلام
يوضح الأستاذ كولن أن الحوار أصبح أمرًا ضروريًّا محتَّمًا، يقول:
يعتقد كولن أن الحوار هو أحد واجبات المسلمين في الأرض من أجل عالم أكثر سلامًا وأمنًا.
“إن الإنسانية تمرّ الآن بعصر المعرفة والعلوم، وإن العلوم سوف تحكم العالم على نطاق أوسع في المستقبل، ولذلك فإن معتنقي الدين الإسلامي -بمبادئه التي يدعمها العقل والعلم- ينبغي ألّا يتشككوا أو يجدوا أية صعوبة في محاورة معتنقي الأديان الأخرى… وهو يرى أن الحوار ليس مجرد جهد إضافي تكميلي، بل هو أمر محتّم. ويعتقد كولن أن هذا الحوار هو أحد واجبات المسلمين في الأرض من أجل عالم أكثر سلامًا وأمنًا”.
كولن والتصوف
غني عن البيان أن نذكر أن كولن لم ينتمِ إلى أيّ طريقة صوفية، ولم يؤسس طريقة صوفية، ويرى أن التصوف المقيّد بالكتاب والسنة إنما يمثل البعد الروحي أو القلبي أو الجوّاني (الداخلي للشريعة الإسلامية)، ويرى أن هذين البعدين (الخارجي والداخلي للشريعة) لا ينبغي فصلهما أبدًا، ويقول في ذلك:
“إن السالك في طريق التصوف ينبغي ألّا يفصل بين ظاهر الشريعة وباطنها، وبذلك سيكون متبعًا لجميع متطلبات كلا البعدين الداخلي والخارخي للإسلام…”. وذلك في ضوء رؤيته للتصوف على أنه “التحرر من الصفات البشرية إلى حد ما، واكتساب الصفات الملائكية والأخلاقية الربانية، والعيش في فلك المعرفة والمحبة الإلهية والذوق الروحاني”.
مدارس الخدمة تُعنَى بتدريس القيم من خلال القدوة.
الحضارة والحداثة
أما موقفه من الحداثة أو العصرنة، فهو يرفض أن تكون الحداثة بمعناها الفلسفي المعروف مساوية للحضارة أو التحضر، فيقول:
“تختلف الحضارة عن العصرية، فبينما تعني الأولى تغيير الإنسان وتجديده في آرائه وطريقة تفكيره وجوانبه الإنسانية، فإن الثانية تعني تغيير نمط حياته وملذاته الحسية، وتطوير تسهيلات الحياة…”.
وإذا كان العنصر الأساسي في الحضارة هو تغيير عقليات الناس، فإن دور التصوف الذي يمثل أداة فعالة في الإدراك والبصيرة والفرز بين الأمور يكون مهمًّا في معالجة الإشكالات التي تطرحها الحداثة علينا في العالم الإسلامي.
وهنا يأتي مشروع الأستاذ فتح الله “التعليمي التربوي” ليس لمواجهة تحديات الحداثة فقط، ولكن للسعي الحثيث نحو بناء الحضارة التي يُكرَّم فيها الإنسان، يقول كولن:
“على المفكرين والمؤسسات التعليمية والإعلام القيام بمهمة حيوية لخير الإنسانية؛ وهي إنقاذ الدراسات العلمية الحديثة من الجو الملوَّث… والشرط الأول لذلك هو تحرير العقول من التعصب الأيديولوجي والتطرف، وتنقية الأرواح من أدران المطامع الدنيوية، وهذا هو الشرط الأول لضمان حرية الفكر الحقيقية وتقدم العلم الحقيقي”. والأماكن التي نلتقي فيها مع فكر الأستاذ كولن هي مدارس الخدمة التي تعني بتدريس أو تقديم القيم من خلال المثال والقدوة.
المصدر: السلام والتسامح في فكر فتح الله كولن، إشراف: زكي ساري توبراك، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة
1 صدر الكتاب عن دار النيل للطباعة والنشر، ٢٠١١، القاهرة.
Leave a Reply