أولاً: الخدمة وثقافة الحوار
الحوار والتسامح ليس مجرد شعار يرفع، أو جملة جميلة ينمق بها الخطاب أو يرصع بها كلام المنتديات، بل هو تربية وقيم ملتصقة بأجيال الأمل التي تربّت في كنف فتح الله كولن وفي كنف الخدمة. والمتنعم في خطاب فتح الله سيجده خطابا ينطلق من الأمل في المستقبل، بل هو خطاب يقيني بخصوص هذا المستقبل، وهي ميزة تميّز الأستاذ فتح الله عن غيره من مفكّري الإصلاح في العالم العربي والإسلامي (على حد علمي). إذ لا نجد في خطابه نبرة يأس ولا شك في أن جميع الشروط قد اجتمعت من أجل انبعاث حضاري جديد، وبأن أفراد الأجيال المقبلة ستكون لهم كلمتهم، وبأن الإسلام سيحمل البلسم الشافي لكل مشاكل العالم، ولكل فرد من أفراد المجتمع الإنساني.
إن فكر فتح الله كولن مقبول في الغرب، وهذا عنصر يميز حركته عن أغلب الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي والعربي.. إذ إن خطابها عليه خطوط حمراء، فالحركة التي تعرف باسمه والتي أخذت في الالتفاف حوله في ستّينيات القرن الماضي لا تعتبر تنظيما مهيكلا له إدارة ومجالس كما قد يظنّ البعض، بل هي مجرد فكرة آمن بها الناس وآمنوا بمعقوليّتها، وشحنهم خطاب الأستاذ بروحانية خاصة، فانطلقوا ينفّذون آماله التي هي في الحقيقة آمالهم -هم أنفسهم- الدفينة في أعماقهم.. حملوها جيلا بعد جيل، وسقاها الأستاذ كولن وتعهّدها بالرعاية كي تحيا وتنضج.
إن دعوة الخدمة نموذج يحتذى به في مجالات عديدة، منها مجال الانفتاح على العالم، لأن خطاب الخدمة خطاب مبشر وليس خطابا منفرا. ولذلك حث الأستاذ منذ الثمانينيات الأتراك على الهجرة إلى مناطق مختلفة من العالم. كانت البداية بآسيا الوسطى بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ثم إلى أمريكا وأوربا وإفرقيا. وقد كانت المدارس والتعليم أهمّ الوسائل التي انفتحت بها الخدمة على كل هذه المناطق. فمؤسّسة المدرسة بكل هياكلها وسيلة فعالة في ربط روابط الحوار والتقارب بين الشعوب والثقافات من أجل مصلحة مشتركة واحدة.
ثانيًا: منطلق الحوار، حيز مشترك
يرى الأستاذ أن جميع أفراد الإنسانية يشتركون في نقاء المشاعر وصفائها، إذ لا يختلف الناس حول حقيقة القيم السامية وحول تفسيرها. فالصدق هو الصدق في كل مكان، والأمانة هي الأمانة لا يختلف مفهومها عند كل الناس مهما اختلفت دياناتهم وعقائدهم وفلسفاتهم. فإن جميع أفراد الإنسانية يلْتقون حول هذه القيم النبيلة السامية، ولا يختلفون حولها ولا يختلف تأويلهم لها كذلك. ولذلك وجب الاشتغال على هذا الحيز المشترك. فالقواسم المشتركة تشكل بالنسبة للأستاذ فتح الله رصيدا مهمًّا يُفتَح الحوار انطلاقا منه وفي إطاره.
إن التربية والتعليم يبنيان منطق الحوار والتسامح، إذ لا وجود لحوار دون حضور لرؤية الحوار والتسامح في صلب السلوك الإنساني وفي أصل ذهنيته، ولا سبيل إلى ترسيخ ذلك كله دون رؤية تربوية وخطة تعليمية واضحة.
القضية هنا هي قضية إنسان، فالإنسان هو الأساس.. والأستاذ فتح الله يعتقد بأن الأزمات التي عرفها العالم في القرون الأخيرة تَسبّب فيها الإنسان نفسه، لأنه انحرف عن المنهج الصحيح من خلال حصر زاوية النظر في الجانب المادي وفتح المجال أمام إشباع الرغبات المادية والجسدية، دون التفكير في إشباع الجانب الروحي.
في مقارنة لها بين كونفشيوس وأفلاطون والأستاذ فتح الله كولن تبين الأستاذة الدكتورة الأمريكية “جِيل كارول” أن القاسم المشترك بين جميع الثلاثة هو اشتغالهم على الإنسان. وهم من خلال بحثهم عن هذا النموذج المثالي قد ركّزوا على التعليم والتربية من أجل الوصول إلى مبتغاهم هذا، فتقول: “التعليم هو القاعدة العامة التي يرتكز عليها أيّ جهد لتحقيق الإنسانية الكاملة أو المثالية… إلى درجة أنهم يقولون: إنه من دون العنصر التعليمي فإن صرح النظام بأكمله سينهار، بل والأكثر من ذلك أن كلاًّ منهم يحدد نوعا من التعليم هو الذي سيحقق أقصى إمكانية للحصول على نوعية التهذيب للشخصية الإنسانية التي يسعى إليه كل منهم باختصار. يتّفق كونفشيوس وأفلاطون وفتح الله كولن على أن التعليم القوي الموجه هو حجر الزاوية في تنمية الإنسان المثالي الأرقى. ومن ثم يجب صياغة الأطر الاجتماعية في الأساس حول آليات ذلك التعليم حتى يتمكن المجتمع من تكوين أعلى وأفضل زعمائه من داخلــه هـو”.
وقد يكون بين هؤلاء بعض عناصر الالتقاء، لكن يبقى لكل واحد منهم عناصر تميزه عن الآخر. وأتصور بأن العنصر الذي يميز فتح الله كولن هو أن المهتم يستطيع الحكم على التجربة وتقييمها من خلال الملاحظة الواقعية المتمثلة في حركية الخدمة، وفي المدارس المنتشرة في كل مكان، ومن خلال النماذج البشرية المتحركة والمتفاعلة واقعيا، وهي نماذج لم تنزل من السماء، بل هي نتيجة منهج تربوي محدد. لكننا لا نستطيع محاكمة التجارب الأخرى نظرا لأننا لا نستطيع الحكم على ما قام به كل من كونفشيوس وأفلاطون تطبيقيا. ولهذا تبقى تجربة فتح الله تجربة حيّة تُجيب على كل الأسئلة المعرفية نظريا وعمليا، وتجربة كونفشيوس وأفلاطون رصيدها النظري لا يسمح بتقييمها تقييما سليما.
ومن أهم عناصر الاختلاف هو نظرة الأستاذ فتح الله كولن للإنسان.. إذ الإنسان بَوْتقة مكوَّنة من جوانب مادية ونفسية وعقلية ثم روحية. فهو كيان متكامل من خلال تكاثف كل هذه العناصر. وكل مكون من هذه المكونات يحتاج إلى بناء خاص دون تنافر مع العناصر الأخرى، لأن عملية البناء تسير متساوقة في كل الجوانب. وهذه العناصر كلها لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال تربية وتعليم قائم على رؤية دينية، إذ يقول الأستاذ فتح الله: “إن الإنسان ليس مخلوقًا يتكون من جسم فقط أو عقل أو مشاعر فقط أو روح فقط، بل هو عبارة عن مزيج منسجم من كل هذه العناصر. فكل واحد منّا له جسم ينطوي على مجموعة متشابكة من الحاجات، وكذا عقل له حاجات أكثر دقة وحيوية من الجسم. وتسيطر على العقل مخاوف بشأن الماضي والمستقبل… كما أن كل إنسان هو مخلوق مكون من مشاعر وروح نكتسب من خلالها هويتنا الإنسانية الفعلية، فكل فرد هو هذا كله معا. وعندما ينظر الإنسان -رجلا كان أم امرأة- باعتباره مخلوقا يحمل كل هذه الجوانب، وعندما يتم تلبية كل حاجاته فإنه سيصل إلى السعادة الحقيقية. وفي اللحظة الراهنة لا يمكن تحقيق التقدم والتطور الإنساني الحقيقي إلا بالتعليم”.
وعلى العموم فإن الأستاذ يعتقد اعتقادا راسخا أن الإنسان يرقى بالتعليم، فأول واجبات الإنسان هو إدراك المعرفة، فالتربية والتعليم هي الوسيلة التي يرتقي بها الإنسان في مدارج الكمال، لأن الإنسان هو أرقى المخلوقات استعدادا.
ثالثًا: الحوار والتسامح تربية لا مبادئ
وبناء على ما تقدم فإن قيم الحوار والتسامح وقبول الآخر هي مهمة التربية، ولذلك كانت التربية مقدسة وخطيرة في الوقت نفسه. فكما سبقت الإشارة إلى أن طبيعة القيم المنقولة إلى المتلقي بواسط التربية تحدد طبيعة المخرجات، خاصة إذا تعلق الأمر بالطفولة التي هي في الأصل صفحة بيضاء يمكن للمربي أن يكتب عليها ما شاء.. ومن هنا فإن فكر التسماح والحوار وقضية زرع القيم في النشء من أجل المستقبل ترتبط شديد الارتباط بالإطار البشري القادر على نقل قيم هذه التربية. لأن القيم ليست معلومات تلقّن، بل هي اقتناعات توجد في أصل الشخصية. وبكلام آخر لا يمكن تصور وجود قيم الحوار في عقول وقلوب أفراد المجتمع الإنساني إذا لم يرتبط ذلك كله بالإطار التربوي المؤمن بهذه القيم، والمؤمن بضرورة أن تسود.. هذا هو أساس ما تنبني عليه رؤية الأستاذ.
رابعًا: أنوار تركيا تشع على العالم
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الباب هو أن أفكار الأستاذ قد انطلقت وجُرِّبت في تركيا ونجحت، رغم كل ما كان هذا الواقع يعرفه من تناقضات وصراعات أيديولوجية وسياسية. لقد كان شعار الأستاذ دائما هو نبذ الخلاف. وفي شرح قوله تعالى ﴿وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا﴾(الأنفال:46) يقول: “تُخاطب هذه الآية المؤمنين فتوصيهم قائلة لا تدخلوا في أي نزاع مادي أو معنوي، بل حاولوا الاتحاد حول نقطة مشتركة ولا تقعوا في نزاع حتى لو كان حول أمر إيجابي، ولا تدَعوا الحسد ولا التنافس ولا الغبطة أن تقودكم إلى النزاع، وإلا فشلتم وذهبت قوَّتكم. إنَّ ثمرة العمل الفردي تبقى في مستوى الفرد، أمَّا الأعمال المنفَّذة في ظلّ وحدة الجماعة فتكافأ برحمة الله تعالى، وهكذا يكتسب كلّ فرد ثوابَ جماعة كامِلَةٍ”.
بفضل هذا التصور الحركي المتميز استطاع فتح الله أن يجمع ما يستحيل جمعه. إذ لو تعلق الأمر برؤية تتعصب لذاتها وتنطلق من منطق المركزية لما استطاعت التجربة أن تحقق ما حققته من نجاح. ولذلك فإن نجاح التجربة محليا أعطاها المشروعية لتجرّب خارجيا. وهنا ينبغي الوقوف عند ملاحظة مهمة وهي الدعوة التي ووجها الأستاذ إلى المجتمع التركي وخاصة ما يطلق عليهم في اصطلاحات الخدمة “الأصناف” ورجال المال والاقتصاد بأن يتوجهوا إلى مختلف مناطق العالم من أجل نقل رسالة سامية هي رسالة القيم الأخلاقية الإنسانية السامية، وقيم الحب والتسامح والسلام. كان هؤلاء بمثابة العنصر الممهد لمرحلة أخرى زاهرة هي مرحلة وضع أسس بناء مجتمع إنساني متسامح.
يؤكد الأستاذ فتح الله أن موضوع التربية يتشكل من ثلاثة جوانب؛ الجانب الأول إنساني نفسي، والجانب الثاني وطني اجتماعي، والجانب الثالث جانب عالمي. ومن خلاله يعتبر الأستاذ أن الشرق المتشبع بثقافته الأصيلة والمتشبع بهويته الذاتية يستطيع تقديم قيمة إضافية للغرب الذي أعلن القطيعة منذ زمن بعيد مع الدين ومع القيم، وأعلن الولاء للأنانية الفردية، وأعلن المادية شعارا، والانفصام بين الدين والعلم مذهبا، واعتبر العلم قضية مادية صرفًا ليس للدين فيها أي دخل.
يؤمن الأستاذ بأن أهم ما يمكن للمسلمين بكل موضوعية تقديمه للغرب ولثقافته هو نظرة الإسلام للإنسان على أساس تكوينه المركب.فالقرآن الكريم باعتباره خطابا للناس لا يتعارض مطلقا مع العلم، وبعبارة أخرى كما يقول الأستاذ الوجود أو الكون هو قرآن واسع، وأما القرآن فهو من زاوية أخرى كون جرى ترميزه (أي تحويله إلى رموز كتبت) على الورق أو في المصحف.
كل هذا يؤكد بأن لا تعارض بين القرآن -أو الدين بصفة عامة- والعلم، ومن هنا يتأكد كذلك أن لا تعارض بين العلم والعقل. ولما كان العلم غير متعارض مع الدين، فإن الدين لا يتعارض مع العقل، بمعنى أن الحقيقة الدينية تساند الحقيقة العلمية وتدعمها. إضافة إلى أن الحقيقة العلمية إذا كانت سليمة فلن تكون متعارضة مع القرآن.
على هذا الأساس ينبغي أن تتأسس التربية ويتأسس التعليم والمدرسة.فكل من التربية والتعليم والمدرسة مطالبون عند الأستاذ بالأخذ بهذه الرؤية في القيام بمهمّتها المقدسة، أي بأن تجعل المؤسسة التعليمية بكافة مكوناتها القيم والأخلاق محركا لكل ما تمثله المدرسة، وأن تحرص في الوقت نفسه على جعل المتعلم يتذوق حقيقة العلاقة التي تربط الدين بصفة عامة بالعلم والمعرفة. ولهذا فإن القيمة المضافة للمدرسة هي إنشاء أجيال متعلمة مسلحة بالقيم والأخلاق معترفة بعلاقة الوجود بخالقه، ومسلحة في الوقت نفسه بالعلم.
للمدرسة دور آخر مهم وهو دور نشر التسامح والتعايش وقبول الآخر. فهذه المدارس المنتشرة عبر مناطق مختلفة من العالم والتي يزيد عددها عن الألفي مدرسة، تراهن على التسماح والحوار. ويقوم بذلك إطار بشري ينظر للحياة نظرة إيجابة، ونظرة إصلاح وتصحيح. فهذا النموذج الإنساني نموذج يقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ويلغي ذاته في سبيل المجموع، بل مستعد لأن يهاجر في سبيل هذا الأمل، وهو قبل كل شيء متطوع من أجل إنجاز مهمته. وهنا تبرز بصورة قوية فلسفة التبليغ عند الأستاذ وعند النموذج الإنساني الذي تكوّن في المدرسة الفكرية لفتح الله كولن. هذا النموذج الإنساني يعلم جيدا بأنه مسؤول بمهمة سامية ونبيلة هي مهمة إصلاح العالم وحمل إكسير المحبة والأخوة الإنسانية إلى كل مكان. ولذلك فإن الأجر الحقيقي هو أن ينجح في مهمّته وأن ينال أجر خالقه. فكل مدرسة تُفتَح في أي مكان من العالم هي لبنة تضاف إلى هذا المشروع الإنساني النبيل الذي بدأ الأستاذ فتح الله يبني قواعده وأسسه منذ ما يزيد عن خمسين سنة.
خامسًا: صورة مثالية لمهاجر التربية
يبدو هذا الكلام مثاليا وبعيدا عن الواقعية، ولكنه في الحقيقة مثالي في واقعيته، لأنه قطع مراحل طويلة في طريق تحويل الفكر إلى منجز حضاري يتجاوز المحلية إلى العالمية مبشرا بعالم جديد، وتتجاوز فيه الخلافات والنزاعات، يقول الأستاذ فريد الأنصاري رحمه الله: “لولا أنّي رأيتُهم لقلتُ إنه مجرّد وهمٍ أو هُراء أو خيال.. ظلال نورية لجيل الصحابة الكرام، جمعوا بين خصلتين عظيمتين من خصالهم الكبيرة: الهجرة والنصرة. فلم يكن منهم مهاجرون وأنصار، بل كانوا مهاجرين أنصارًا، وللصحابة فضلهم الذي لا يبارى!. الهجرة إلى الله I ورسوله كلمات تتلفظ بها الأفواه، ولكن قلّما تعيها القلوب. فأن يترك الفتى حياة الراحة والدعة وبريق المدينة الجذاب، ثم يضرب في الأرض ليغوص في غربة بعيدة، يحمل في يده قنديلا من نور، بحثًا عن المستضعفين في بقاع الأرض من أجل إطعامهم جرعة من رحيق الحياة، فيتحمّل في سبيل ذلك فناءَ نفسه وذوبان ذاته ونسيان دنياه. فتلك تجربة روحية لا يعرفها حقًّا إلا من عاناها، وإنها لعقبة دونها عقبات، تنتصب في مدارج المجاهدات”.
هذا و”لن تجد عند أمثال هؤلاء شعارات تُفَرِّقُ ولا تجمع، وتشتت ولا توحد، وتقود إلى النزاع من أمثال “هم” و “نحن” أو “أنصارنا” و”أنصارهم”. ولا توجد عندهم أي مشكلة ظاهرية أو خفية مع أحد. ليس هذا فحسب، بل تراهم في سعي دائم ليكونوا ذوي فائدة لكل من حولهم، ويبدون عناية فائقة لعدم إثارة أي مشاكل أو حساسيات في المجتمع الذي يعيشون فيه. وعندما يرون سلبيات في مجتمعهم فلا يتصرفون كمُحاربين غِلاظ، بل كمُرشدين رحماء.. يقومون بدعوة الأفراد إلى الأخلاق والفاضلة، ويسعون في هذه السبيل سعيا حثيثا، ويبذلون ما بوسعهم للابتعاد عن فكرة الحصول على نفوذ سياسي أو الوصول إلى مناصب مختلفة مهما كان الثمن وأيًّا كان الأسلوب”.
تعطي هذه الصورة القلبية لهؤلاء الانطباع بأننا أمام قصص خيالية، فأن يترك رجال وطنهم بنيّة الهجرة التي لا عودة بعدها، وأن يهاجر إلى أبعد المناطق وأخطرها من أجل فكرة آمن بها، وأن يهاجر رجل أعمالٍ ليُساهم في بناء مدرسة ويكون الراعي لها، لهو ضرب من الخيال لكنه واقع حاصل، ولهذه الأسباب ينبغي دراسة الظاهرة وتحليلها. يقول الأستاذ فتح الله كولن في هذا الصدد: “إن هذه الحركة ظاهرة يجب أن تُشرح ويتم الوقوف عندها بشكل جدي.. فقَدْ قررت فئة قليلةٌ ملك الحب قلبها أن تنطلق لنيل رضاه تعالى إلى المشرق وإلى المغرب وإلى أرجاء الأرض جميعًا في وقت لم يخطر فيه هذا بخاطر أحد.. انطلقت دون أن تهتمّ بآلام الغربة وبفراق الأحبّة، ملؤها العزم والثقة… طوت في أفئدتها بعشق خدمة الإيمان لواعجَ الفراق، وَحُبَّ الوطن، وآلامَ فراق الأهل والأحبة… قليل من الناس شعروا مثلهم وعاشوا الجهاد في سبيل الله مثلهم وقالوا وهم ينتشرون في المغرب وفي المشرق مثلما قال حواريّو الرسل “خُضْنا دروب الحبّ فنحن مجانين”(الشاعر نِيكَاري)… ذهبوا وهم في ميعة الشباب يحملون آمالاً وأشواقًا دنيوية تشتعل في قلب كل شاب والتي لها جاذبية لا تقاوَم فضلا عن هذه الفترة النضرة من مرحلة الشاب.. ذهبوا في عصر طفت فيه المادية والأحاسيس الجسمانية على المشاعر الإنسانية، وهم يكبتون تلك المشاعر والآمال المشتعلة في صدورهم باشتياق إلى وصال آخر أقوى منها وأكثر التهابًا وتوهجًا، وهم ينتشرون في مشارق الأرض ومغاربها ويسيحون حاملين في أفئدتهم تلك الجذوة المشتعلة من نشوة الرعيل الأول. لم تكن هذه السياحة من ذلك النوع الذي يهيم به الشاب في مرحلة مراهقته خلف حلم ملكة جمال مزيفة ويعيش طوال عمره بسذاجة في أوهام وخيالات آلام الفراق، مبتعدًا عن ذاتيته ولا يستطيع الوصول أبدًا إلى مبتغاه. بل إن سياحة هؤلاء الأفذاذ سياحة واعية ملؤها المشاعر الصادقة والإرادة الحازمة والإخلاص الصادق العميق… ويمكنكم أن تعبّروا عن هذا بأنهم المستعلون على كل حبّ سواه تعالى، المجاهدون في سبيل دعوتهم، ديناميكيتهم الإيمان دومًا، وأحوالهم الطبيعية العشق، ومبتغاهم نذْر أنفسهم لله تعالى، وأسْوتهم النور الخالد . أجل!.. لم يتعثر هؤلاء لطبع أنفسهم ولم يستسلموا أمام العراقيل. الحب الوحيد الذي لم يبهت في أفئدتهم كان حب الله ومحاولة كسب رضاه، والوصول إلى الحق تعالى. لذا شدّوا رحالهم إلى أبعد زوايا العالم. ساروا في هذا الطريق، فافتخر بهم الطريق، وسعد بهم الربّانيون، وشقي بهم الشياطين.. ساروا دون خيل ولا عربة، لا سلاح لهم ولا ذخيرة… الإيمان العميق الذي كان يعمر قلوبهم ويتفجّر فيها كالحمم كان منبع قوتهم وقدرتهم.. وهدفهم المرسوم في آفاقهم سعادة الإنسانية ورضوان الله تعالى.. حظوظهم كحظوظ الحواريين والصحابة.. وصلوا في عفّتهم وطهرهم إلى عفة الملائكة الأطهار، وسجلوا ذكريات ملاحم لا تنسى ولا تمحى”.
تدل هذه الأوصاف على مدى قيمة هؤلاء الرجال عند أستاذهم الذي يعترف لهم بالفضل، وهي خصلة نادرة لا يتصف بها سوى العظماء الذين يحترقون كالشمعة من أجل أن تنير قلوب الآخرين. فالأستاذ لا يُرجِع الفضلَ إليه بل يُرجِعه لهؤلاء الذين انطلقوا يجوبون الآفاق. فهم صورة من أستاذهم حينما ينكرون ذاتهم ويسندون الفضل لغيرهم، وبذلك يتأكد أن ما آمن به هؤلاء هو فعلا مجرد فكرة معقولة أطلقها رجل رباني فأحدثت أثرا بليغا هو هؤلاء الرجال وهذه المؤسسات وهذه المدارس..وهؤلاء هم الذين سيشيدون صرح الحضارة الإنسانية بالحوار والتسامح، وسيجدون من أجل تحقيق ذلك في كل مرة ألف وسيلة ووسيلة.. وكما نجحوا في غرس فسيلة المدارس في كل مكان في هذا العالم واستطاعوا التكيف مع واقع وثقافة كل بلد على حدة، دون الحياد عن الجوهر الذي يسترشدون به رغم المصاعب والعراقيل، سينجحون في ميادين أخرى.
هؤلاء هم فسائل “الإنسان الجديد” الذي بشر به الأستاذ في مقالته التي تحمل العنوان نفسه، وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال الآتي هل هؤلاء هم “الإنسان الجديد” أم هم مجرد مقدمة له؟ والجواب هو أن الأستاذ يقصد في مقالته هؤلاء الرجال، ولأنهم ثمرة طيبة تؤتي أُكُلَها كل حين، فإنهم بما يحملونه من صفات ومميزات سيساهمون في بناء “الإنسان الجديد” بما سيغرسونه من قيم ومبادئ في قلوب من يذهبون إليهم ومن يستقبلونهم في مدارسهم ومن سيزورونهم في بيوتهم. إنهم بناة العهد الجديد، يقول الأستاذ: “نحن اليوم على مشارف عهد جديد في مسيرة تاريخ الإنسانية، متفتح على تجليات العناية الربانية. لقد كان القرن الثامن عشر، بالنسبة لعالمنا، قرن التقليد الأعمى والمبتعدين عن جوهرهم وكيانهم؛ وكان القرن التاسع عشر، قرن الذين انجرفوا خلف شتى أنواع الفانتازيات واصطدموا بماضيهم ومقوماتهم التاريخية؛ والقرن العشرون، كان قرن المغتربين عن أنفسهم كليا والمنكرين لذواتهم وهويتهم، قرن الذين ظلوا يُنقّبون عن مَن يرشدهم وينير لهم الطريق في عالمٍ غير عالمهم. ولكن جميع الأمارات والعلامات التي تلوح في الأفق تبشر بأن القرن الواحد والعشرين، سيكون قرن الإيمان والمؤمنين، وعصر انبعاثنا ونهضتنا من جديد.”
لقد تحقق على يده هؤلاء كما يرى الأستاذ بناء صروح الحوار. ولذلك تلمس في خطابه أن عهدا جديدا يلوح في الأفق ملؤه المحبة والتآخي والحوار والعمل من أجل مصلحة الإنسان في كل مكان. فعلى الجميع أن يكون متيقنا كيقين الأستاذ فتح الله بأنه قد “تم تجاوز العراقيل الموجودة بين القارات بفضل القرآن، وتحقق حوار مستند إلى الحب وإلى التوقير.. وتأسست وستتأسس أرضية لتفاهم جديد بفضل هؤلاء الربانيين. لقد عرفت الإنسانية في الماضي أمتنا بأنها أمة مستبشِرة قد ضحك لها حظها، فما المانع أن تكون اليوم أيضًا كما كان الحال من قبل؟ بينما نرى أن شلالاً من الحب بدأ يهدر فعلاً بين الناس في كل مكان وصل إليه هؤلاء المهاجرون في سبيل غايتهم. ففي كل مكان، وفي كل موضع يهب نسيم من الطمأنينة والسكينة يشعر به الجميع. والأكثر من هذا فقد تكونت في كل ناحية وجانب ما نطلق عليه وصف جزر السلام والمحبة على أسس مستقرة ومتينة. مَن يدري فقد يتحقق في المستقبل القريب بفضل هؤلاء المخلصين الناذرين أنفسهم لفكر البعث والإحياء تأسيس الصلح بين العقل والقلب مرة أخرى. فيكون كل من الوجدان والمنطق أحدهما بُعدًا مختلفًا للآخر، وتوضع نهاية للنـزاع بين ما هو مادي وما هو ميتافيزيقي، حيث ينسحب كل منهما لساحته ويجري كل شيء في طبيعته وماهيته، ويجد إمكانية التعبير عن نفسه وعن صور جماله بلسانه. ويتم اكتشاف التداخل الموجود بين الأوامر التشريعية والأسس التكوينية من جديد، ويشعر الناس بالندم على ما جرى بينهم من خصام وعداء لا موجب له، وسيسود جو من السكينة والهدوء -الذي لم يتحقق تمامًا حتى الآن- في الشارع وفي السوق وفي المدرسة وفي البيت، وتهب نسائمه على جميع البشرية. لن يُنْتَهَكَ عرض، ولن يُداسَ على شرف، بل سيسود الاحترام القلوبَ، فلا يطمع إنسان في مال إنسان آخر، ولا ينظر نظرة خيانة إلى شرف آخر. سيصبح الأقوياء عادلين، وسيجد الضعفاء والعاجزون فرصة في حياة كريمة. لن يُعْتَقَلَ أحد لمجرد الظن.. لن يتعرّض مَسكن أحد ولا محل عمله لهجوم.. لن تُرَاقَ دَمُ أي برئ.. لن يبكي أي مظلوم. سيبجّل الجميعُ اللهَ تعالى وسيحبُّ الناسَ… حينذاك فقط ستكون هذه الدنيا التي هي معبر للجنة فردوسًا لا يُمَلُّ العيشُ فيه”.
إن أهم ميزة يتميز بها هؤلاء الأبطال المهاجرون هي أنهم قد اختاروا عن طواعية أن يكون مكان هجرتهم هو مكان قبرهم لا يتراجعون عن ذلك وهم لا يتزحزحون عن هذا الاختيار الذي هو سبب وجودهم. ولذلك فهم لا ينتظرون الأجر الدنيوي، بل غاية المنى عندهم هي أن يكون عملهم خاصًّا لوجه الله تعالى، يقول الأستاذ فتح الله: “إن أهمّ جانب يستدعي النظر ويجلب التقدير والإعجاب عند الأبطال الذين أحبّوا الله تعالى ونذروا حياتهم في سبيل رضاه وارتبطوا بغاية مثلى هي نيل محبته.. إن أهم جانب لدى هؤلاء الأبطال وأهم مصدر من مصادر قوّتهم، هو أنهم لا يبتغون ولا ينتظرون أي أجر مادّي أو معنوي. ولن تجد في خططهم وحساباتهم أنهم يعيرون أهمية لأمور يسعى طلاب الدنيا للحصول عليها كالأموال والأرباح والثروة والرفاهية… هذه الأمور لا تشكل عندهم أي قيمة، ولا يقبلون أن تُشكل عندهم أي مقياس”. لأن المقياس الوحيد عندهم هو نجاحهم في مهمّة السفارة التي كلّفوا بها، ليسوا كسفراء الدول المعتمدين الذين يبذلون ما في وسعهم من أجل الحفاظ على مصالح بلادهم ويجتهدون أيما اجتهاد من أجل النجاح في مهامهم فيرجعون في يوم من الأيام إلى وطنهم، بل هؤلاء لا يرجعون، لأنهم هاجروا، ولأن دولتهم الحقيقية دولة معنوية ترتفع فوق الدولة بمفهومها المادي.. إن دولتهم هي المحبّة والأخوّة ومبادئ التسامح والحوار والاحترام المتبادل، فيسعون “نحو سلطنة القلوب”.
والحديث عن الحوار والتسامح والنظر إلى الإنسان باعتبار إنسانيته لا باعتبار دينه ولونه وجنسه في حالة هؤلاء ليس مجرد شعار بل هو حقيقة، تشهد عليه العديد من التجارب في مناطق مختلفة من العالم معروفة بمشكلاتها العرقية والإثنية وحتى الصراعات ذات الطابع الديني، لكن هذه المدارس استطاعت جمع المتناقضات واستطاعت دمج الكل في بوتقة واحدة. وهذا هو ما تبيّنه إحصائية قديمة لعدد المدارس وعدد الطلبة ونسِبَ حضور غير المسلمين فيها.
اسم البلد | عدد المدارس | عدد الطلاب | نسبة المسلمين |
كازاخستان | 29 | 8284 | 80% |
أفغانستان | 6 | 2141 | 100% |
الفِلبين | 5 | 694 | 45% |
تايْلاند | 4 | 1191 | 10% |
إندونيسيا | 5 | 1216 | 99% |
مقدونيا | 4 | 400 | 44% |
نيجيريا | 4 | 1446 | 65% |
السنغال | 4 | 640 | 90% |
النيجر | 4 | 450 | 99% |
المغرب | 5 | 844 | 100% |
كِينيا | 4 | 946 | 25% |
أفريقيا الجنوبية | 4 | 1020 | 45% |
موغولستان | 5 | 1024 | 20% |
السودان | 4 | 285 | 100% |
ألبانيا | 14 | 2833 | 94% |
باكستان | 14 | 4445 | 99% |
تبين هذه الإحصائيات التي تعود لتاريخ 2004-2008 أن هذه المدارس تراعي الخصوصية المحلية، إذ تجد فيها المسلمين مع غير المسلمين بل في بعض المدارس تجد أن المسلمين هم أقلّية. فوجود طلبة مسلمين إلى جانب طلبة غير مسلمين يؤكد ما أشير إليه سالفا.
سادسًا: المدارس في البحث العلمي
وفي الختام لا بد من أن نشير إلى أن العديد من الدراسات والبحوث والندوات قد تعرضت لتجربة المدارس ومساهمتها في الحوار وفي نشر فكر التسامح بين الناس، خاصة في المناطق التي تعاني من مشاكل وصراعات طائفية وعرقية ودينية. فعلى سبيل المثال تعطي “المدرسة التركية الفلبينية للتسامح” نموذجا حيًّا لما يمكن للمدرسة تقديمه، وتؤكد بعض الدراسات نجاح التجربة في بناء صرح من الحوار والتعايش بين التلاميذ وهو ما انتقل بعد ذلك إلى الأولياء فصارت المدرسة إطارا يتناسون فيه صراعاتهم ويقبلون فيه بعضهم البعض. ونجحت مثل هذه المدارس في تحويل الصراعات والخلاف الأيديولوجي في شمال العراق إلى بحث عن القواسم المشتركة بدل البحث عما يفرق.
ولا يفوتني التذكير بتجربة “شارتر سكول” في الولايات المتحدة الأمريكية التي تحتاج وحدها إلى وقفة خاصة أتمنى أن تتاح الفرصة للقيام بذلك في وقت لاحق.
Leave a Reply