توطئة: لقد كانت الدولة عبر جميع أطرافها عرضة لغزو فكري ممنهج، سيساهم بصورة مباشرة في إسقاط الخلافة وتشتيت أطراف الدولة بعد تمزيق الرابطة المعنوية الإسلامية، التي كانت تجمع بين مختلف أطراف الدولة. وقد تكاتفت العديد من العوامل في تسريع السقوط، لكن المتأمل في هذه العوامل يلمس أن أكبر خطر واجهته الدولة العثمانية هو الغزو الثقافي والفكري، الذي لم يترك مجالا من المجالات إلا ودخله، بما في ذلك الوسط العائلي والأسري للسلطة الحاكمة، وما قد يؤسف له هو أن هذا الغزو قد تم في بعض الأوقات بأيدي أبناء الوطن، لقد سلم القائمون على الأمر وأهل الحل والعقد مستقبل الأمة كله لأعدائهم في غفلة منهم، ظنا منهم أنهم يحسنون لأنفسهم ولأوطانهم.
ومن أهم العوامل التي ساهمت في تعرض الدولة العثمانية للغزو الفكري والثقافي الأوربي نذكر على سبيل التمثيل:
1– الموقع الجيوسياسي
تركيا تتمتع بموقع إستراتيجي مهمّ، فهي تقع عند نقطة اتصال إستراتيجية بين آسيا وأوربا، وتعتبر إسطنبول في هذا الإطار مدينة متميّزة الموقع. ولذلك شكل فتحها حدثا تاريخيا أمد الدولة العثمانية بالقوة وسمح لها في الوقت نفسه بأن تطيل أمد الدولة لفترة زمنية طويلة. كما مكّن فتح القسطنطينية العثمانيين من فرض سيادتهم على البحر الأسود والتحكم فيه، وقد جعل هذا الموقع الدولة العثمانية محطّ اهتمام أوروبا، وخاصة الدول التي كانت تعيش مرحلة النهضة والتقدم. ولذلك فقد عمل هذا الغرب الباحث عن متنفس جغرافي وسياسي على تمرير أنماط فكرية محددة تمهيدا للانقضاض على تركة “الرجل المريض”.
وفي الإطار نفسه ينبغي ألا نتجاهل أن أوروبا ظلّت دائما تعتبر تركيا عمقا إستراتيجيا بالنظر إلى ما كانت تشكله القسطنطينية من أهمية تاريخية ورمزية. الأمر الذي يحتم عدم سيادة نمط فكري وثقافي مختلف عن فكر وثقافة أوروبا، التي تأسست بعد نجاح الثورة الفرنسية في تركيز مبادئها، وانتقال بريق تلك المبادئ إلى مختلف مناطق أوروبا.
2– تطور تاريخ أوربا الحديث وصدى الثورة الفرنسية
ومن أهم الأحداث التي ميزت تاريخ أوربا وما تزال، انتصار مبادئ الثورة الفرنسية، التي أوجدت مبادئ العلمانية والقومية والحركة الدستورية. لقد كانت العلمانية من “نتائج الصراع الذي نشب بين البابوية والأباطرة أيهما أعلى، البابا أو الإمبراطور؟ فانتهى هذا الصراع بعد قرنيين من الزمان بهزيمة البابوية وظهور العلمانية، وإصدار الدساتير لبيان حدود الحاكم والمحكوم، يعني ذلك تحلل أوربا من الإقطاع الذي خيّم على أوربا خلال العصور الوسطى، وإيجاد الدولة الحديثة المنظمة، لاستحالة العودة إلى النظام الإقطاعي”.
إن العلمانية -كما آمن بها المجتمع الأوربي- هي اعتبار أمر الحياة شيئا يخص النشاط الإنساني بمعزل عن الدين، وعن أي مبدأ روحي آخر. فالعلمانية بهذا المنطق تعنى بالزمنية والدنيوية، لقد وقفت الأنظمة السياسية التي تأسست في أوربا بعد نجاح الثورة الفرنسية من الدين موقف المحايد دون أن تكون معه أو ضده، لكن التفسير السائد في أغلب الأدبيات العربية لا يخرج عن إطار رفض العلمانية للدين، وهو ما حاول الخصوم وبعض المحسوبين على العالم الإسلامي أن يؤسسوا عليه رؤيتهم الداعية إلى إعلان القطيعة بين الدين والعلم. ومن الأكيد أن هذا المفهوم هو الذي ساد خلال مرحلة الجمهورية وقيام الثورة الكمالية.
لقد عرفت أوربا منذ 1848م سنة نجاح الثورة الفرنسية حملة دستورية واسعة، وحركة قوية للحصول على أنظمة دستورية تثور على الأنظمة الاستبدادية. كان من الطبيعي أن تتسرب بعض هذه الأفكار إلى داخل الدولة العثمانية بسبب إيمان بعض السلاطين أنفسهم بمبادئ الثورة الفرنسية، وكانت المناطق الأوربية التابعة للسلطة العثمانية هي أول المناطق تأثرا بمبادئ الثورة الفرنسية، الأمر الذي ولّد لديها رغبة في التحرر والاستقلال والخروج عن سلطة الدولة العثمانية.
يرى بعض الباحثين في التاريخ أن نجاح الأفكار الفرنسية في الدولة العثمانية وفي العالم العربي وانتشارها يرجع إلى القوة المادية للغرب اقتصاديا وعسكريا وسياسيا. وهو ما لمسه العثمانيون أنفسهم حقيقته، الشيء الذي دفع عددا من السلاطين إلى العمل على تحديث الدولة وخاصة في مجال الاقتصاد والجيش.
3– أطماع أوربا في العالم الإسلامي
تُبرز كل العناصر السالفة الذكر مدى إصرار أوربا على بسْط يدها على ممتلكات الدولة العثمانية. وقد بدأ هذا الإحساس والتوجه يتقوى بعد الحملة الفرنسية على مصر مباشرة؛ فبعد الحملة تطلعت الدول الأوربية وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا بالإضافة إلى روسيا والنمسا إلى تركة الدولة العثمانية باصطناع الأزمات الداخلية وإذكاء نار الفتنة، وخاصة في المناطق الأوربية لتشجيع النزعات الانفصالية، وشغل السلطة العثمانية، وتشتيت تركيزها.. ساهمت العوامل السالفة وغيرها في ازدياد أطماع الدول الأوربية في إضعاف الدولة العثمانية تمهيدا لإسقاطها، والحصول على كل مناطق النفوذ التابعة لها نظرا لما كانت تزخر به هذه المناطق من ثروات يسيل لها لعاب القوى الصاعدة في أوروبا، كانت هذه المطامع تحتاج إلى مخططات مدروسة، وإلى زرع بذور الفرقة داخل الجسم العثماني، ومن أجل الوصول إلى تنفيذ المطامع كان الغزو الفكري والثقافي سبيلا من سبل بث الفتنة داخل المجتمع العثماني.
وَحّدتْ كل من روسيا والنمسا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا رغم ما بينهم من عداء جهودَهم من أجل القضاء على الدولة العثمانية. كانت سياسة بطرس الأكبر بعد وصوله إلى العرش هي فتح آفاق جديدة في بحر البلطيق وفي البحر الأسود، وسارت كترين الثانية على هذا النهج كما سار إسكندر الأول. كان حلم كاترين الثانية هو تحقق اليوم الذي تسير فيه إلى القسطنطينية من أجل اعتلاء عرش بيزنطة، بل كانت تعدّ حقيبتها لذلك حين مقابلتها للإمبراطور جوزيف الثاني ملك النمسا في كرسون (Kherson) حيث أقيم احتفال بهذه المناسبة، ومر الاثنان من تحت قوسٍ كُتِبَ عليه “هذا الطريق إلى بيزنتيوم” وهو اللقاء الذي تم فيه تقسيم أملاك الدولة العثمانية في أوربا بحيث يتكون من تساليا ومقدونيا وتراقيا والقسطنطينية إمبراطورية يونانية. وللوصول إلى الهدف فقد اتبعت كاترين ما أسماه بعض المؤرّخين بـ”الميكافيلية المسكوفية” المرتكزة على إثارة الحروب الأهلية والاضطرابات في أملاك الدولة وخلق فرص للتدخل الأجنبي، ثم مقاومة أي حركة إصلاحية عثمانية قد تؤدّي إلى القضاء على هدفها.
4– أنشطة المنظمات الماسونية السرية
تمكّن اليهود من التغلغل في المجتمع العثماني، والتحكم في الاقتصاد والمال والسياسة، بعد مدة من طردهم من الأندلس في سنة 1683م. وبغضّ النظر عن تاريخ تأسيس أول محفل ماسوني في تركيا فإن الماسونية قد أدّت دورا فعالا في نشر مقدمات الغزو الفكري والثقافي، إلى درجة أن الصدر الأعظم إبراهيم باشا قد رأى في وقت لاحق أن الماسونية تجديد للفكر والآراء وطلب من عدد من العلماء والمثقفين الانتساب إليها. وتاريخ اليهود الذين تظاهروا بالإسلام من أتباع ساباتاي أو يهود الدونمة حافل بالأحداث التي تؤكد اشتغالهم على تخريب الدولة العثمانية؛ فقد شنوا هجوما على أجهزتها المختلفة وشلوا حركتها بإثقالها بالديون ثم التحكم في سياستها وفرض مراقبين غربيّين بدعوى حماية ديونهم، لكن الغرض الحقيقي كان هو التجسس على الدولة وتوجيه دفة السياسية.
هذه أهم العوامل التي سهّلت الغزو الفكري والثقافي الذي تعرضت له الدولة العثمانية، ومن خلالها باقي أطراف الدولة، وخاصة العرَبية منها على الخصوص. ولا مبالغة إذا قيل بأن سبب سقوط الدولة العثمانية كان فكريًّا بالدرجة الأولى وفي المرحلة الأولى، بمعنى أن الدولة العثمانية كانت سقطت ثقافيًّا وفكريًّا -مهّد لسقوط رمزيتها التاريخية والدينية- قبل أن تسقط اقتصاديًّا وعسكريًّا.
إن الدولة ممثلة في أكبر مؤسسة فيها وهي السلطنة كانت تعي ضرورة الإصلاح وتعي أن دواليب الدولة قد دب إليها الهرم والفساد ولزم إصلاحها، لكن التيار الثقافي والفكري كان أقوى ولم يفقه الناس آنئذ إلى المثل القائل “وداوني بالتي كانت هي الداء”.
Leave a Reply