جرت العادة أن يأتي ترتيب العرف بعد هذه المصادر الأساسية السابقة، لكن الأستاذ يجعل التصوف مصدرا أساسيا من مصادر الثقافة الذاتية ، إذ للتصوف أهمية خاصة في رؤية الأستاذ فتح الله كولن، لكن التصوف عنده ليس هو تلك الممارسات التي طبعت -وما تزال- العديد من الطرق الصوفية، بل يقصد به حياة القلب والروح.. ونظرا لكون الأستاذ فتح الله كولن سنّيًّا، فإن نظرته للتصوف تنطلق من طبيعة الحياة الروحية التي كان الرسول يحرص على ألا تفارق جميع أحواله وجميع أقواله. فالناسك والمتصوف الأول هو الرسول الذي عاش حقيقة التصوف في لحظة من حياته. ولما كان الرسول على هذه الصورة المثالية من جهة الحياة الروحية، ولما كان الأستاذ فتح الله يعتبر الرسول قدوته الأولى، فقد كانت حياة القلب والروح هي أساس حياته الخاصة، كما تدل على ذلك مختلف مراحل حياة الأستاذ فتح الله، وهي الملامح نفسها التي عمل على تربية محبّيه وتلاميذه عليها، دون أن يكون شيخ طريقة أو تابع طريقة ما في التصوف، يقول معرفا التصوف: “التصوف، اسم يطلق على الطرق الموصلة إلى الحق تعالى، يسلكها الصوفي والمتصوفة. فالتصوف يعبّر عن الجانب النظري لطريق الحقيقة، والتنسكُ (التَدَروُش) يُعنَى بجهته العملية. وأيضًا أُطلق على الجانب النظري للطريقة “علم التصوف” وعلى جهتها العملية “التنسك”. ويرى بعض أرباب الحقيقة أن التصوف هو إماتةُ الله جهةَ الإنسان النفسية والأنانية والسموّ به إلى حياتية أخرى بأنواره الذاتية. وبتعبير آخر: إفناءُ الله الإنسانَ بإرادته سبحانه، ودفعه إلى العمل بإرادته الخاصة واختياره الأحدي. ومقاربة أخرى: إن التصوف هو المجاهدة المستمرة والمراقبة الدائمة لإزالة الإنسان جميعَ أشكال الأخلاق الذميمة عنه وتخلّيه عنها، وإقامته الخصال الحميدة الرفيعة، وتحلّيه بها”.
فالتصوف بصفة عامة لا يخرج عن إطار ذلك التعريف الذي يعرفه علماء السنة الأوائل الذين ارتبطت حياتهم بالتصوف أو بحياة القلب والروح. ومن هنا فإن مفهوم التصوف عند الأستاذ المربّي فتح الله لا يخرج عن إطار كونه الإقبال على الله بكل حماس من خلال الالتزام بتعاليم الدين، إنه بكلام آخر هو الانسلاخ عن الصفات البشرية، والتدثر بالأخلاق الإلهية.
يرى الأستاذ فتح الله كولن أن تعريف التصوف بعناوين كثيرة لا يعني عدم ارتباطه بالشريعة، وكونه يعنى بالجوانب الباطنية لا يعني عدم اتصاله بالشريعة، ولا يعني عدم ارتباطه بالحياة والواقع، ولا يعني كذلك اعتزال المجتمع والعيش.
لقد عمل الأستاذ فتح الله على إضفاء الشرعية على التصوف من خلال تجاوز الاسم والتركيز على المسمى، يقول: “إن تعريف التصوف بعناوين مختلفة كعلم الباطن وعلم الأسرار وعلم الأحوال والمقامات وعلم السلوك وعلم الطريقة، لا يعني افتراقه عن العلوم الشرعية، إذ إن هذه الأسماء والعناوين نابعة من تذوق أمزجة متباينة ومشارب مختلفة للحياة القائمة على الشريعة طوال عصور مديدة وإدراكها بصور متنوعة. لذا يعدّ انحرافًا ومجانبة للصواب إظهار وجهات نظر الصوفية أنها مختلفة في الأساس عن أفكار خدام الشريعة واستنباطاتهم. ورغم أن هناك في كل عصر من العصور متعصبين من الصوفية ومتشبثين بظاهر الأحكام الشرعية من الفقهاء والمحدّثين والمفسرين، إلاّ أن أرباب الصراط المستقيم هم الأكثرية دائمًا بالنسبة لهؤلاء الذين أفرطوا وفرَّطوا. وبناء على هذا فمن الخطأ قطعًا تناول المسألة وكأن هناك منافاة حقيقية بين أهل الحق من كِلا الجانبين، نظرًا إلى أقوال ومفاهيم غير لائقة لقسم من الفقهاء على المتصوفة أو لقسم من المتصوفة على الفقهاء، وذلك لأن عدد الذين يثيرون مثل هذا النـزاع ويشـاركون فيه يُعدّون قطرة من بحر بالنسبة لمن يسلكون طـريـق التسامح والعفو والصفح. وفي الحقيقة إن هـذا أمر طبيعي جـدًّا، لأن مرجع كِلا الطرفين واحد، فمثلما يرجع الفقهاء إلى الكتاب والسنة في الأحكام الشرعية يستند الصوفيون كذلك إلى المرجعين نفسيهما”.
لا شك في أن طبيعة التربية التي تلقّاها الأستاذ، وطبيعة الأجواء الروحية التي كانت تطبع الحياة الاجتماعية في منطقة أرضروم، قد أثّرت في شخصيته وطبعتها بطابع روحاني خاص. فمن المعلوم أن الأستاذ ينحدر من أسرة معروفة بروحانيتها الكبيرة. فقد كان جده وجدته شخصيتين معروفتين بالورع وبالإحساس المرهف، إلى درجة أن الجدة كانت معروفة بكثرة بكائها عندما تسمع موعظة أو يأتي ذكر الرسول ، أو ذكر أحد من الصحابة الكرام y. لقد كانت أسرته أسرة محبة للرسول ولصحابته y، يضاف إلى ذلك الشيوخ الذين أثّروا فيه، وقد ذكر بعضهم في “دنياي الصغيرة”. فعامل الوسط الذي ترعرع فيه الأستاذ فتح الله كولن هو الذي ساهم بالإضافة إلى عوامل أخرى في اهتمام الأستاذ بالتصوف من جميع جوانبه السلوكية والفكرية.
فالتصوف بالنسبة للأستاذ فتح الله كولن، له أهمية كبيرة لا تقل عن أهمية المصادر الأخرى ولا تختلف، بل يمكن القول إنها تكملها، وذلك لأن الشريعة والتصوف ينطلقان من المصادر نفسها وهما القرآن السنة. وفي هذا الإطار حرص الأستاذ فتح الله على إبطال ذلك العداء الذي برز خلال مراحل تاريخية مختلفة بين التصوف والشريعة أو بين الحقيقة والشريعة. فالأستاذ فتح الله كولن يعتبر هذا العداء مجرد عداء وَهْمي ليس غير. ويرجع إلى انطلاق التصوف والشريعة إلى مصدر واحد، ولذلك فالفصل بينهما تجزيء ما لا يجزّأ. وقد نبذ فتح منذ اللحظة الأولى هذه الازدواجية عندما جعل أساس حياته الخاصة وأساس المشروع الإصلاحي الذي انطلق منه هو ضرورة الجمع بين الجانب العملي الذي تمثله الضوابط العملية المستخلصة من القرآن والسنة، وبين الحياة القلبية أو بين الشريعة والحقيقة. لأنه يعتقد اعتقادا راسخا بأن الحقيقة والشريعة وجهان لعملة واحدة، يستحيل فصلهما.
بعبارة أخرى لقد كانت رؤية الأستاذ متجهة إلى البحث عن السبل التي تكفل توحد المجتمع، وتنزع كل عناصر الخلاف المتوهمة بين بعض فئاته الاجتماعية. فتوهُّم الخلاف بين الشريعة والتصوف أو بين الشريعة والحقيقة من شأنه إثارة التوتر الاجتماعي والجدل حول خلافات متوهمة، يقول: “وفي الحقيقة إن قصد كلا الطرفين هو الوصول إلى الله بمراعاة أوامره ونواهيه، ولكن لعدم تأصيل ميزانٍ يوزَن به طريق الوصول أحيانًا وفق مقاييس شرعية أدّى إلى الإفراط والتفريط؛ وسبّب ما يبدو لنا من اختلافات في الوقت الحاضر. والحال لا سبب للاختلاف في المنشأ والأساس. وكما أن تدوين أقسام مختلفة من الدين بشكل مستقلّ والامتثال بها لا يعني اختلافًا، كذلك ليس اختلافًا قطّ اهتمام علم الفقه بأحكام العبادة والمعاملات، أي تنظيم حركات الإنسان الفكرية والعملية وتنسيقها، وكذا جهود التصوف لرفع حياة الإنسان إلى مستوى القلب والروح بسلوك تربية الروح وتصفية القلب وتزكية النفس. فلا اختلاف ولا افتراق، بل قد تعهّد كلٌّ من الجانبين بالحفاظ على ناحية مهمة من الشريعة، فكلٌّ من تلك النواحي بمثابة كلية من الجامعة التي تمثل الكل، والتي يتوقف تكاملها على تكامل تلك الكليات. حيث إن إحداها تعلّم كيف يتعبد الإنسان وكيف يتطهر للعبادة، وكيف يقيم الصلاة وكيف يصوم وكيف يزكّى، وعلى أي أساس يستند في معاملاته.. بينما الآخر -فضلاً عن هذا- يؤكّد باهتمام بالغ على علاقة جميع العبادات والطاعات والمعاملات بالقلب والروح، فيبحث عن طرق رقي الإنسان “الصورة” إلى الإنسان “السيرة” أي المعنى. ويوصي بالطرق المؤدية إلى الإنسان الكامل. وعلى هذا الأساس فلا يمكن إهمال أيٍّ من الجهتين”.
يرى فتح الله أن السبب الذي أدى إلى وجود هذا الخلاف هو عدم تأصيل ميزان يوزن به طريق الوصول وفق مقاييس شرعية. الأمر الذي أدّى إلى الإفراط والتفريط في الوقت الذي يكون فيه الحقلان الحقل الكبير الذي هو حقل الدين والعبودية لله تبارك وتعالى، إذ إن كل حقل قد تعهد بالحفاظ على جانب من جوانب الشريعة، فهما يكمّلان بعضهما البعض.
يعتبر فتح الله التصوف أكثر غورا، لأن التصوف في نظر فتح الله طريقة للعبادة تهتم بالباطن، وبالجانب الروحي للأحكام الشرعية، ولذلك فهو أكثر غورا ولدنّية وأوسع مدى وأصعب فهما. ومن هنا يأتي استشهاده بما قام به الإمام الغزالي الذي استطاع التأليف بين التيارين، مما يدل على أهمية هذا العنصر عنده، لدرجة أنه يعتبر الغزالي مجدد عصره حيث يقول عنه: “أتى حجّة الإسلام الإمام الغزالي وألّف كتابه القيّم “إحياء علوم الدين” بعد أن نقّح طرق التصوف بجميع آدابه وأركانه واصطلاحاته، مقرًّا بما أقرّه المشايخ عامة ومنتقدًا لما يستوجب النقد.. فآلف مرةً أخرى بين هذين التيارين المباركين اللّذَين يبدوان كأنهما مختلفان، ووفّق بينهما بانسجام تام، بحيث إن كثيرًا من الصوفيين الذين أتوا من بعده وجدوا علمهم لونًا من ألوان العلوم الشرعية، وبُعدًا من أبعادها، فانتعشت الوحدة والتعاون في كل مكان، حتى إنهم انسجموا وائتلفوا مع الذين كانوا يطلقون عليهم -إلى ذلك اليوم- اسم “علماء الرسوم” استخفافًا بهم. وخاصة لدى حملهم إلى المدرسة الفقهية توضيحات متميزة في علم التصوف، أمثال الحقائق الوجدانية والذوقية الكثيرة، كعلم الحال وعلم الخاطر وعلم اليقين وعلم الإخلاص وعلم الأخلاق. فوجدوا نقاط التقاء مشتركة كثيرة جدًّا توصلهم إلى الاتفاق والوفاق، سواءً في أرباب التصوف أو علماء الظاهر”.
ما يهم فتح الله كولن في مقاربته لعلاقة التصوف بالشريعة، وربطه للتصوف بالحياة الروحية والمعنوية، وجعل كل ذلك في علاقة وثيقة بالشريعة، هو أن يبرز بأن النموذج البشري الذي يستطيع تحقيق الانبعاث والنهضة الذي يستطيع الارتقاء في المقامات التي تحقق الإنسان الكامل هو أن تكون حياته الروحية شيئا حاضرا مع هذا النموذج البشري في كل وقت وحين.. بعبارة أخرى إن الأستاذ لا يريد متصوفة يعتزلون الناس وينقطعون في صوامع بعيدة عن المجتمع، بل على العكس من ذلك إنه يريد متصوفة ينخرطون في الحياة بين الناس يبنون ويربّون ويصلحون ما فسد بروحانية كبيرة وبصبر على الناس وعلى والواقع ومجرياته. فهو يريد فرسانًا بقلوب متصوفة، هذا هو نموذج التصوف الذي يريد الأستاذ فتح الله الوصول إليه.
يمكن اعتبار كتاب “التلال الزمردية… نحو حياة القلب والروح” كتابا في القيم والأخلاق بالدرجة الأولى بالمفهوم الذي عمل الأستاذ فتح الله على بلْورته عمليا بدءً من ذاته ومرورا بتلامذته الذين تربّوا في كنفه وتلقّوا منه التربية السلوكية مباشرة، وانتهاءً بعموم أفراد المجتمع الذين ألهبت أفكاره وخطبه وسيرته مشاعرهم ودفعتهم إلى حركية فعالة، هي اليوم مثار اهتمام الدارسين والباحثين في كل مكان في العالم.
لقد توقفنا وقفة طويلة عند هذه العناصر نظرا لأهمّيتها، ولأنها تشكل أسسا تنبني عليها الرؤية التربوية التي ترتكز على حياة القلب. وهذا العامل فرض على الأستاذ إثارة مفهوم الصوفي وحقيقته.. وبكلام آخر حاول مناقشة خصوصيات رجل القلب. وهذه الرؤية الخاصة للتصوف وللمريد، الغرض منها هو تكوين نموذج الإنسان المثالي، أو الإنسان الكامل، إنه صوفي القرن الواحد والعشرين، نموذج الإنسان الذي يستطيع تغيير وجه العالم ويسير به نحو برّ الأمان.
فغاية التصوف هي ربط القلب بالحقّ سبحانه وتعالى، وجعل هذا القلب يكتوي بنار العشق والمحبة.. ولذلك كان الصوفيون على مر التاريخ -باستثناء بعض الانحرافات التي كانت تظهر بين الفينة والأخرى- “في غاية الاستقامة ومنتهى البساطة، ومبرّأون من كل انحراف وفساد، وأبعد الناس عن الأذواق البدَنية والسفاهات الجسمانية.. وقفوا أنفسهم ليمضوا حياتهم في جوّ التسامي للتنسك والزهد والفقر، رزينون وعازمون على التشبه بالرسول الكريم وعظماء الإسلام الأماجد”.
وخلاصة القول بخصوص هذا الموضوع هو أن روح التصوف الحقيقي هو تزكية النفس والارتقاء بها نحو مدارك الصفاء الروحي ونحو مقامات الإخلاص والتفاني.. إن هذه الروح هي ما يحمِّس الأستاذ في التصوف، لأنه ضرورة بالنسبة لمشروعه الإصلاحي، لأن حياة الحركة والعمل النافع تحتاج إلى النموذج البشري الذي تجتمع فيه عناصر الفاعلية الواقعية من عناصر قوة القلب والروح.
ويتأكد كل ذلك عندما ننظر في العناصر التي تبني النموذج الصوفي الذي يريد الأستاذ فتح الله الوصول إليه.. فهي عناصر ومقومات أخلاقية بالدرجة الأولى. ومَن يتأمل فيما سطره الأستاذ في كتاب التلال الزمردية وفي كتب أخرى سيلمس هذا البعد الأخلاقي الروحي.
Leave a Reply