لقد أصبح موضوع العنف في عصر العولمة واحدًا من القضايا المعاصرة الناجمة عن الفساد الأخلاقي والتي احتلت حيِّزًا وافرًا في الزمان والمكان، حتى باتت واسطة عقد العلاقات العامة والخاصة؛ فالثقافة بوصفها أسلوبًا للحياة، هي المسؤول المباشر عن كثير من عوامل العنف واللاعنف في واقع الناس.

من أجل ذلك قمت بسياحة سريعة عبر الجغرافية الفكرية لبعض أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، وأخص بالذكر كلاًّ من عملاق الفكر التركي سعيد النورسي رحمه الله، والعالم المجدد محمد فتح الله كولن، فكلا الرجلين عايشا فترات حرجة، وهزَّات عنيفة مسَّت ما بقي من بلاد العثمانيين، ولامست كثيرًا من بلدان العالم، كما أن كليهما كان في قلب تلكم الهزات بل أحد أركانها، فالأول حاول تصحيح الواقع الذي عقَّ أهلُه تاريخَ وحضارة أجدادهم؛ إلا أن إمكانات خصومه كانت قوية وبطشهم عنيفا، والثاني نجح أو كاد في تحقيق ما كان يحلم به صاحبه وأستاذه النورسي، فتحركت الفلول المعادية والرافضة لذلك الماضي المجيد، ومعها كل الأحقاد الدفينة عبر وسائل أقوى وعنف أشد؛ مما أحال الحركة التصحيحية التي تزعمها الأستاذ كولن ورجاله قضية الساعة في تاريخ العثمانيين الجدد.

ولأن صلب التهمة القديمة الجديدة هي العنف والإرهاب، فسأحاصر أفكاري وأحاول ضبط كلامي صوب هذه الجهة، وإلا فإن الموضوع يُعدُّ من القضايا ذات الأولوية القصوى في الدرس والتحليل فيما يتعلق بمنهج الإصلاح والتغيير لدى المسلمين المعاصرين.

الثقافة بوصفها أسلوبًا للحياة، هي المسؤول المباشر عن كثير من عوامل العنف واللاعنف في واقع الناس.

لقد كان للشيخ النورسي رحمة الله عليه منهجٌ في الإصلاح جديد عجيب. فقد ركب أهم وأشد أداة استعملها خصومه في إدانة شخصه الكريم وتشويه دعوته، وهي “العنف” بشتى معانيه وأبشع صوره، فوجدتُه رحمه الله أسس لمعالجة موضوع “العنف” من خلال منهج قوي وصريح، معززًا ذلك بخبراته بالمذاهب والفلسفات والديانات.

يقول رحمه الله: “فالعنف عبارة عن سلوك يؤدي إلى المس بالآخر، وهو أيضا الضيق والأضرار التي تلحق بالناس “[1]

ولأن نشر ثقافة العنف باتت في عصرنا إحدى آليات الخصوم للتشويش على دعوات المصلحين، فإن أهل هذا الطريق تفننوا في تعليم أتباعهم كل أصناف العنف، بل وتغليفها بأشكال مثيرة من صور الحضارة المعاصرة التي شملت الدين والدنيا.

فلم يكن الشيخ النورسي ولا الأستاذ فتح الله كولن أقلَّ منهم ذكاء ولا أبعد نظرًا، بل واجهوا كل أساليب العنف والتعنيف التي سلكها الخصوم بمعالجات جذرية؛ انطلقت من الفلسفات والمبادئ للوصول إلى نتائج تقوِّض دعاوى الخصوم وتبهت حججهم. وكل ذلك عبر وسائل جديدة غاية في الدقة والتأثير، الشيء الذي أربك كل حسابات خصومهم الذين لم يتورعوا عن الكفر بكل المبادئ التي تشدقوا بها، فوقعوا في أخطاء كارثية أقرَّ بها العقلاء ولن يغفرها التاريخ. فتأمل قوله رحمه الله تعالى: “إن قسمًا من أصحاب العوائل ذوي الموارد القليلة، قد يجدون لأنفسهم عذرًا بالانسحاب من ميدان رسائل النور والتنائي عنا، وربما التخلي عن رسائل النور تحت هذا العنف والضيق والأضرار التي لحقت بهم”[2].

واجه النورسي وكولن كل أساليب العنف بمعالجات جذرية؛ انطلقت من الفلسفات والمبادئ للوصول إلى نتائج تقوِّض دعاوى الخصوم وتبهت حججهم.

فقد واجه الشيخ النورسي رحمه الله قدره من خلال تركيزه على تنوير الرأي العام وخاصة محبيه، بالعوامل المغذية لثقافة العنف حتى لا يضعفوا وينجرُّوا إلى هذا الميدان القذر الذي سكنه خصومهم، وذلك من خلال أقوال وخطب عديدة ومكتوبات لا تزال شاهدة على جهاده الكبير ضد العنف إلى اليوم ومنها قوله رحمه الله: “فالمدنية الحاضرة تؤمن بفلسفتها أن ركيزة الحياة الاجتماعية البشرية هي القوة” وهي تستهدف” المنفعة “في كل شيء. وتتخذ” الصراع” دستورًا للحياة “(يتبع)

 

الهوامش:

[1]الشعاع الثالث عشر ص: 397.

[2]الشعاع الثالث عشر – ص: 397.

Leave a Reply

Your email address will not be published.