الأستاذ فتح الله كولن أحد أشهر علماء الإسلام المصلحين ودعاته المعاصرين. اختارته مجموعة من المجلات العالمية في طليعة قائمتها لمائة شخصية الأكثر تأثيرًا في العالم. أنشئت له كراسي أكاديمية ومراكز علمية متخصصة باسمه اعترافًا برؤيته الإنسانية وفلسفته الإصلاحية. كما انعقدت لدراسة نظرياته مؤتمرات وندوات دولية في جامعات عالمية، وخلصت هذه الدراسات إلى أن حركة الأستاذ هي أهم الحركات الإصلاحية في العالم الإسلامي، وأكثر الحركات الاجتماعية والمدنية تأثيرًا على العالم في القرن الواحد والعشرين.

له أكثر من سبعين كتابًا تناول فيه القضايا الكبرى في الفكر الإسلامي ومشكلات العصر، حيث تُرجمت بعض كتبه من التركية إلى خمس وثلاثين لغة. لقد تعمّق الأستاذ كولن في قراءة منظري الإصلاح في القرون الأخيرة، وتابع التيارات الإسلامية في البلدان الإسلامية، واستوعب النظريات الغربية الفلسفية والاجتماعية، فأدرك أن معاناة المجتمعات الإسلامية وعدم نهضتها ورقيها كونها حبيسة سجون ثلاثة؛ الجهل والفقر والتفرقة، فنذر حياته لإخراج الأمة من براثن الجهل، وذلك بالتركيز على التعليم كنقطة البدء في التغيير لذلك. سعى ودعا إلى بناء منظومة تربوية تعليمية متكاملة تتناغم فيها الجوانب المادية والعقلية بالجوانب الروحية والأخلاقية، فجعل مشكل التربية والتعليم ضمن مواعظه ومقالاته وخطبه، ويكاد يكون هو الشخص الوحيد الذي تناول في تركيا هذا الموضوع تناولاً حركيًّا، وأوصله إلى الجماهير الواسعة(1)، مبرزًا أنه منذ أن أبعدت الفلسفات الوضعية نظم التعليم والتربية وجميع العلاقات الإنسانية والفكرية عن الدين وقيمه السامية، فإنها قد فتحت بذلك أبواب الأزمات الأخلاقية والانحرافات السلوكية داخل المجتمعات، مما أدى إلى انحطاطها وانهيارها، وبيّن ذلك في قوله: “إن رقيّ أيّ أمة وتقدّمها، مرتبط بمدى التربية التي يتلقّاها أفرادها من الناحية العاطفية والفكرية. فلا ينتظر تقدّم أمة لم تتوسع آفاق أفرادها الفكرية والوجدانية”(2). فعمل بذلك على نشر هذه الرؤية المتكاملة للتعليم مستشهدًا بقوله آينشتاين: “العلم من غير دين أعرج، والدين من غير علم أعمى”. فأنشأ بيوتًا للطلبة، وكانت بيوت علم وأخلاق وأجواء إيمانية تعمل على البناء الروحي للإنسان وفق برامج إعادة صياغة شخصية الطلبة، وكانت في الوقت ذاته صمام أمن الناس رغم اختلاف توجهاتهم، وذلك حماية لأبنائهم من الأيديولوجيات الماركسية التي انتشرت في مؤسسات التعليم.

أدرك الأستاذ كولن أن معاناة المجتمعات الإسلامية وعدم نهضتها ورقيها كونها حبيسة سجون ثلاثة؛ الجهل والفقر والتفرقة

بدأ التنافس في فتح هذه البيوت لما حققته من نجاح في بناء جيل جديد من الشباب التركي المؤمن بدينه، المحترِم لتاريخه وهويته، فكانت هذه البيوت فاتحة خير في إنشاء مدارس وجامعات داخل تركيا وخارجها، حيث توجد اليوم أكثر من ألفي مدرسة في تركيا وأكثر من ألف مدرسة خارج تركية منتشرة في مائة وستين دولة، كما توجد أكثر من عشرين جامعة متميزة في مختلف التخصصات.

إن هذه الرؤية الداعية إلى المزج بين الإيمان والعلم، تجسّدت على أرض الواقع في هذه المدارس التي بُنيت وفق أحدث التصاميم وبوسائل تعليم متقدمة تستخدم أحدث منجزات التكنولوجيا، ومناهج تعليمية تعمل على تغذية العقل وتنشيط المعرفة مع تربية النفس وزرع المُثل والقيم العليا. يشرف على هذه المدارس طاقم تدريس من خرّيجي هذه المدارس، أو بعض خريجي جامعات أخرى، لكنّهم آمنوا بالفكرة ونذروا أنفسهم لخدمتها. فتَجِدُهم يعملون ويتعاملون بحماس وعطاء وتواضع ولطف وصبر… لا يصدر إلا عن إنسان برهن عمليًّا على مدى حاجة نظام التعليم إلى التضحية، مقتدين بصانع هذه التضحية الذي نذر نفسه لخدمة الإنسانية، فكان مشروعه مشروعًا إسلاميًّا لكن ببُعد كوني.

فهذه “مدرسة الفاتح”، نموذج لمؤسسة تعليمية متكاملة تضم جميع مراحل التعليم، هي آية في النظام والنظافة والهندسة المعمارية، ثلث التلاميذ الأتراك الذين يشاركون في المسابقات “الأولمبيات” العلمية العالمية هم من أبناء هذه المدرسة، التي تختار التلاميذ من خلال مباراة يشارك فيها الآلاف من الصفوة الأولى المتقدمة في الدراسة والتي أظهرت كفاءة عالية في استيعاب المواد العلمية.

وإذا كانت الخدمة الإيمانية نجحت بقيادة الأستاذ في إقامة شبكة من المدارس التي تغطي مختلف مراحل الدراسة بجميع التخصصات، فإن نجاحها الحقيقي يكمن في تفوّق طلاب هذه المدارس والجامعات وخريجيها، والفضل في ذلك يرجع لمدارس “فام” (FEM)؛ وهي مدارس تقوية ودعم تقدم خدمتها لخرّيجي المرحلة الثانوية في المدارس التركية، لتأهيلهم لاجتياز امتحان القبول في الجامعات التركية التي لا تقبل إلا عددًا معيّنًا من مجموع الطلاب خرّيجي المرحلة الثانوية، حيث يكون طلاب مدارس ” فام” في طليعة المقبولين في الجامعات التركية. وهذا النجاح والتفوق هو ثمرة عمل تربوي تعليمي قوي يقوم على الإرشاد المدرسي، والتربية على القيم.

إن نجاح هذا المشروع التعليمي الإنساني جعل الناس تحتضنه في مختلف الجغرافيات وبلغات مختلفة، لأنه يحاول أن يُفعِّل في الحياة المعاصرة روح القيم الإسلامية. فمثلاً مدارس الفاتح في المغرب تعمل بنفس المناهج التعليمية المغربية، مع التركيز بدرجة كبيرة على تقديم رؤية قيمية، من خلال تقديم برامج تربوية موازية للمناهج الدراسية، وأنشطة مختلفة ورحلات ومخيمات تطوعية تركز دائمًا على القيم الأخلاقية والسلوكية مع الجودة في التعليم.

لقد بيّن الأستاذ فتح الله كولن أن سر مركزية التعليم في العمل الإصلاحي، هو دورانه على الإنسان معلّمًا ومتعلّمًا؛ ذلك أن المعلّم المنخرط في مهنته بروح التعبد الخالص، يستطيع أن يصنع من تلميذه إنسانًا جديدًا ينظر إلى مستقبل الأمة بعيون يملؤها الأمل وبقلب ينبض بالمحبة والسلام. ومن ثم فإن إصلاح الأجيال مرتهن بإصلاح التعليم وإخراج فلسفته من ضيق المنطق الوظيفي الميت إلى سعة العمل الإنساني النبيل، ألا وهو بناء الإنسان بكل أبعاده النفسية والفكرية. إن أول خطوة في مشروع الإصلاح، هي إنتاج الإنسان الذي فني عن نفسه في قضية أمّته وتعلّق قلبه بأشواق الآخرة ثم اتخذ مهمته التعليمية مسلكًا لمعرفة الله وعمارة الأرض(3).

لقد انكبّ الأستاذ فتح الله كولن على هذا الصنف من البناء الروحي لهوية الإنسان من خلال إعادة ربط اتصاله بحبل النبوة والوحي المحمّدي، في تكامل مع مختلف البناءات التي يكتمل بها معمار الإنسان، والذي يصير بهم مفتاحًا لكل تقدّم حضاري آمن وسليم.

فمهما كانت خصائص الإنسان الوراثية البيولوجية والفيزيولوجية، فإنه يأخذ حظّه من الآثار التي تولدها التربية الروحية. لذلك كانت الفلسفة الإصلاحية عند الأستاذ كولن تقوم على بناء روح الإنسان وصياغته صياغة ربانية تمس كل موْطن منه وتهزّ كل وتَر فيه، لينخرط بكل كيانه وطاقاته في رفع البناء الذي أمره الله برفعه.

إن نجاح هذا المشروع التعليمي الإنساني جعل الناس تحتضنه في مختلف الجغرافيات وبلغات مختلفة، لأنه يحاول أن يُفعِّل في الحياة المعاصرة روح القيم الإسلامية

إن هذه الفلسفة الإصلاحية تمتد جذورها وتستمد روحها من طبيعة التنشئة الربانية التي ترعرع في حضنها الأستاذ، ذلك أن هذه التنشئة جمعت بين العلم والتربية الروحية وسمو الهمة وفيض الطموح، مما أهّل الأستاذ لصياغة رؤية شمولية للإصلاح، محورها بناء الإنسان وأساسها العلم والتربية الروحية. وللوقوف على هذه الجذور يكفي أن نستحضر أن الأستاذ تربى في أحضان أسرة هيأت له الجو ليكون رجلاً رساليًّا؛ لقد حفظ القرآن في سن مبكرة على يد أمّ ربانية صالحة ذات أخلاق قرآنية وهمة عالية كانت تُحفّظ القرآن لنساء القرية، صنعت من جيلها وجيل بناتها أمهات ربَّينَ جبالاً شوامخ وبيوتًا قواطع في معركة الزمان. وأبٌ فتح بيته للعلماء والصالحين مما أتاح للولد المبارك مجالستهم والاستماع إليهم والارتواء من معين علمهم، فاتسعت بذلك معارفه ومداركه، ومصاحبة شيخ جليل جمع بين مواجيد القلب وأذواق الروح، حيث تفتقت به مواهب فتح الله الروحية ونضجت مواهبه الإيمانية.

فتابع دراسته في العلوم الشرعية مع المواظبة على حضور مجالس الذكر، حيث تكونت له نظرة شمولية متوازنة حول مفهوم الإسلام شريعة وحقيقة. فكان في خطبه ومواعظه يخاطب عقول الناس وقلوبهم، ويغرس فيهم الإيمان بالله والتعلق به، ويُحبّب إليهم الرسول الأكرم – عليه الصلاة والسلام – وصحابته الكرام – رضي الله عنهم – ويدعوهم إلى الاقتداء به – عليه الصلاة والسلام -… فكان يؤسس للأجيال من خلال استدلالات قرآنية وسنة نبوية وقياسات أصولية وإجماع أمة، بأن قواعد الإسلام ومنظومته المعرفية ومناهجه التربوية تحث على تغذية الأرواح وبناء كمالها المعرفي وتحصينها في ضوء التعاليم الإلهية.

إن هذه الرؤية الكلية للإنسان في المنظور الإسلامي الشامل التي تأسست على الوحي القرآني الخاتم والهدي النبوي القائم، والتي تجعل من الإنسان موجودًا يتحمل أمانة الاستخلاف في هذا العالم، هي التي وعاها الأستاذ فتح الله ودعا إليها في فلسفته الإصلاحية وعبّر عنها بقوله: “إن الإسلام طرح عناصر منسوجاته المهمة على العقل والوجدان والروح والجسد، فغزل ذلك القماش الزاهي ذا البعد الدنيوي والعقْبوي الغائر في الأعماق، ولئن تقدم واحد منهم على غيره في مستوى معيّن أحيانًا فليس في قدرة أي منهم أن يصور الإسلام وحده أو يمثله أو يعبر عنه”(4)، لذلك كان بناء الروح تربية إيمانية ارتقائية.

وهذا ما تجسد عمليًّا في أهل الخدمة، حيث تجد قلوبهم المخلصة في حيوية دائبة خدمةً للإنسانية، لأن تشبعهم الروحي والقلبي حوَّل إيقانهم ومعتقداتهم إلى جزء من طبيعتهم، فأصبح أفق وجدانهم معادلاً لمستواهم الإنساني، فكل واحد منهم يخدم المجتمع وفق قدراته وإمكانته. فهم يخرجون إلى مناطق بدائية محرومة من العديد من الحاجات العصرية، وإلى مناطق تحتدم فيها المعارك، وإلى مناطق تختلف حضارتها وعاداتها عنهم، يخرجون متوكلين على الله متسلّحين بالصبر والتضحية ونكران الذات، مستثمرين تلك التربية الروحية التي عملت على غرس الفضائل وبثِّ القيم وترسيخها في الجنان وتحويلها إلى سلوك وأعمال ومعاملات… تربية أهّلت أصحابها للتحقق ببطولة ربانية بلا نظير، بطولةٍ ما فتئ الأستاذ يستنهض الهمم لبلوغ أعلى ذراها عبر نداءات قلبية ووجدانية صادقة وشامخة هذه قطرة من يَمّها: “أيها البطل الذي نذر روحه للحقيقة! هذا هو القلق الذي ينبغي أن يمور في أحشائك مَورًا، ويهزّ كيانك هزًّا، كي لا تنقطع تجلّيات الرعاية الربانية. ومن ثم، كلما عظم النجاح الذي تم على يديك، بالغْ في نكران ذاتك، وأوغلْ في محو نفسك، وتذللْ أمام الله، وانكسرْ بين يديه، وأمعنْ في العبودية له… ذلك أحرى بك كي لا تنسحق تحت أثقال أنانيتك. اغرسْ هذه الفكرة في روحك، وثبّتها في قلبك حتى تصبح جزءًا من كيانك وبُعدًا من أبعاد طبيعتك. كان النبي – عليه الصلاة والسلام – يبكي صباح مساء متضرعًا ويقول: “يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين”. فإن اتخذت هذا الدعاء ورْدًا لك، لا يفارق لسانك ولا قلبك، فقد وُقيتَ من الانسحاق تحت حوافر النفس الجموح”(5).

ولضمان الثبات على هذا النهج الصحيح، لابد أن يجعل أهل الخدمة -كما يرى الأستاذ كولن– رِضى الله غايةَ الآمال، والأخلاق هي الزاد، والقرآن والسنة هما النور الموصل إلى الهدف. هذا هو الشيء الذي أكسَب هذه الرسالة بُعدًا كونيًّا فوجدت الفكرة احتضانًا في مختلف البيئات والمجتمعات الإسلامية، كما أنها عرفت تجلياتها نوعًا من الازدهار والإبداع في مختلف مظاهر الحياة، وهو ما يُخرج الأستاذ إلى فضاء أرحب يجعله واحدًا من المجدّدين في عصرنا الراهن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) انظر: فتح الله كولن: جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، محمد أنس أركنه، ص:291.

(2) الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:88.

(3) مقتطف من الرسالة التي وجهها الأستاذ فتح الله كولن إلى مؤتمر “مستقبل الإصلاح في العالم الإسلامي” الذي انعقد بالقاهرة سنة 2009م.

(4) ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:233.

(5) محو الذات، فتح الله كولن (مجلة حراء، العدد:24/مايو-يونيو 2011).

Leave a Reply

Your email address will not be published.