تناول عدد من المفكرين المسلمين المعاصرين العلاقة بين الدين والعلم[1]. وانتشر هذا الموضوع سريعًا بين المسلمين، ليس فقط بين الأوساط العلمية بل بين مجموعات فكرية أخرى من المسلمين أيضًا. وبما أنهم مسلمون فإنه من المفهوم أن يكونوا مهتمين بمناقشة الموضوع بشكل أساس من المنظور الإسلامي، حتى يمكن أن نقول بأن جميع طبقات المسلمين المثقفين تقريبًا في البلاد الإسلامية تهتم اليوم بقضية العلاقة بين الدين والعلم.

إن هؤلاء الذين يتابعون التطورات الدينية عن كثب في العالم الإسلامي منذ بداية ما يسمى بالصحوة الإسلامية العالمية في السبعينات من القرن العشرين لن يفوتهم ملاحظة أن الاهتمام الإسلامي المتنامي بقضايا الدين والعلم خلال العقود الأخيرة كان جزءًا لا يتجزأ
من الاهتمام الأكبر بأبعاد الإسلام الدينية والثقافية والحضارية. وحقيقةُ كون أغلبية المشاركين الفاعلين في الخطاب الإسلامي الناشئ حول الدين والعلم من المتخصصين في العلوم الطبيعية والمتبحرين في علوم الدين، هذه الحقيقة دليل ساطع على عظمة التحول الفكري الذي يحدث في العالم الإسلامي[2]. ومن المؤسف أن نقول إن حجم الأدبيات حول هذا الموضوع هو مجرد انعكاس باهت لما يحدث في الواقع بالفعل. وكما كان في العلم الذي يُنظر إليه في الغرب ربما باعتباره أكثر الميادين علمانية، فإنه تميل الدراسات الأكاديمية الغربية عن الإسلام المعاصر إلى التركيز على جانبه السياسي فقط، الأمر الذي يؤدي إلى التغاضي
عن المظاهر العلمية والدينية الحديثة الأخرى للإسلام.

ومما يدعو للأسف أيضًا ألّا يسفر الاهتمام الإسلامي الشعبي المتزايد بالمعالجات الفكرية لموضوع الدين والعلم عن عملية مؤسسية ملائمة للبرامج الأكاديمية والبحثية. وقد تتضمن البرامج المفيدة -التي لا يتم تنفيذها حاليًّا- تقديم الموضوع في المناهج التعليمية الخاصة بمعاهد الدراسات العليا، بالإضافة إلى إقامة مراكز بحثية تُكرس لتعزيز فهم العلاقات ذات الأوجه المتعددة بين الدين والعلم. ومع وجود كثير من المراكز والمنظمات الأكاديمية والصحف التي تتناول تلك القضايا من المنظور المسيحي اليهودي في العالم الغربي، إلا أن مثل هذه المؤسسات والدراسات نادرة جدًّا في العالم الإسلامي[3].

أمام هذه الخلفية من التجاهل النسبي للبعد الفكري للصحوة الإسلامية العالمية يهدف هذا المقال إلى التعريف بآراء عالِم مسلم معاصر حول القضايا المتعلقة بالدين والعلم. وهذه الشخصية الدينية المقدمة هنا هو “فتح الله كولن”[4]، وهو عالم تركي تقي، كما أنه مربٍّ وخطيب محبوب، يمتد تأثيره من بلده إلى العالَم بأكمله. ومن الواضح أن اختيار وجهة نظر عالم مسلم عن الدين والسياسة له مدلوله الخاص إلى حد ما، وهذا المدلول يرجع إلى حقيقة أن الخطاب الإسلامي المعاصر حول هذا الموضوع يسيطر عليه باحثون وعلماء تلقوا تعليمًا غربيًّا، وفي جميع أرجاء العالم الإسلامي اليوم لا نرى كتابات كثيرة للعلماء المسلمين الذين يبحثون في قضايا الدين والعلم، سواء كانوا قد تلقوا تعليمًا تقليديًّا أو حديثًا. ولا شك أن كولن ينتمي إلى تلك الفئة القليلة من علماء الدين، وترجع أهمية معالجة أفكاره تحديدًا إلى مكانته بوصفه عالمًا دينيًّا يلقى احترامًا واسعًا، كما أنه مهتم فكريًّا وعلى علم جيد بالعلاقات بين الدين والعلم؛ وهو ما يجعل من معالجة أفكاره أمرًا على درجة معتبرة من الأهمية. ومما يجذب الانتباه أن كولن يأتي من تركيا العلمانية التي قد يُنظر فيها إلى آرائه الإسلامية التقليدية المتعلقة بالدين والعلم باعتبارها تتناقض فلسفيًّا مع السياق الأيديولوجي للعلمانية الرسمية للدولة إن لم يكن مع مؤسساتها الرسمية[5].

وجهة كولن الفكرية

يمكن أن نصف كولن -في ضوء تكوينه العلمي وإنتاجه الفكري- بأنه عالم ديني راسخ القدم في العلوم الدينية التقليدية، كما أنه مطلع جيد على العلوم الغربية الحديثة. وقد وُلد كولن في قرية “قُوروجوك (Korucuk)” الصغيرة بمقاطعة “حسن قلعة” في مدينة “أرضروم” بتركيا، حيث تلقى كولن تعليمًا تقليديًّا مبكرًا في العلوم الشرعية مثل القرآن والحديث والفقه… إلخ، وكان لديه شغف خاص باللغات وبالشعر الصوفي. وإلى جانب معرفته الجيدة باللغتين العربية والفارسية -التي تعلمها من والده أولًا- ويعترف كولن أنه قد تأثر كثيرًا بفضل الارتباط الروحي لأبيه بالمعلم الصوفي الشاعر “محمد لطفي أفندي”[6] (ت. 1954م)، والذي تلقى على يده دروسًا روحيةً عندما كان صغيرًا في العاشرة من عمره وحتى بلغ الخامسة عشرة.

وقد ساهمت شخصية أخرى إسهامًا كبيرًا في تكوين كولن روحيًّا وفكريًّا، وهي شخصية رمز مؤثر من رموز الحياة التركية الفكرية المعاصرة وهو “بديع الزمان سعيد النورسي” (1876-1960م) والذي عُرف بتفسيره للقرآن الكريم باسم رسائل النور، والتي تحظى بتقدير واسع في العالم الإسلامي. وقد تعرف كولن على هذا العمل عندما كان طالبًا بالمدرسة، وقد أثر هذا العمل الذي كُتب -بدرجة ما- بغرض الدفاع عن المعتقدات الإسلامية ضد هجوم العلم الحديث، أثر في تكوين كولن لآرائه عن الدين والعلم. وقبل أن يبلغ كولن العشرين من عمره يبدو أنه كان قد تعرف فعليًّا على التعاليم الإسلامية التقليدية، وفي العشرينات من عمره على الأدب الغربي والفكر الفلسفي[7]؛ وبهذا ترسخت أسسه وميوله الفكرية في ذلك التعليم المبكر.

بهذا الشكل من الخلفية التعليمية نشأ كولن عالمًا دينيًّا خبيرًا في العلوم الدينية ولديه اهتمامات أكاديمية عميقة بالفكر المعاصر، كما تشير بعض كتاباته بشكل قوي إلى أنه على دراية جيدة بتاريخ العلاقات بين الدين والعلم في الغرب ولو في بعض الفترات على الأقل. وبالاطلاع على أعماله الكثيرة يتولد لدينا انطباع بأنه على دراية واسعة بمبادئ العلم الحديث وحدوده، وأنه مدرك إنجازاته ونقاط ضعفه.

العلم والدين في فكر كولن

تناول كولن عدة قضايا تتعلق بالعلاقات بين الدين والعلم. غير أن هذا البحث سيركز على ثلاثة قضايا فقط وهي:

1- العلاقة بين الحقائق العلمية والحقائق الدينية،

2- وجهة نظر الإسلام للفهم العلمي المعاصر للطبيعة،

3- تناول القرآن للعلم.

وتتضح آراء كولن حول هذه القضايا الثلاث في كتابه القيم المترجم إلى اللغة الإنجليزية والذي يحمل عنوان “The Essentials of Islamic Faith (في ظلال الإيمان)”. يكشف هذا العمل -إلى جانب أعماله الأخرى أيضًا على حد علمنا- عن نظرة كولن لقضايا الدين والعلم، ولكن اهتمامه الأساس في ذلك نابع من منطلق ديني في المقام الأول. وما أعنيه بهذا هو أنه يهتم بالدفاع عن مواقف الإسلام من العلم الذي يلعب دورًا ثانويًّا يمكن أن نسميه “خادمًا للدين”؛ حيث يرى كولن أن الدين والعلم لا يمكن اعتبارهما متساويين في الإسلام، وسوف يتم شرح موقف العلم في مقابل الدين في الأجزاء التالية من البحث.

ولا يمكن أن ندرك المصادر المهمة التي أثرت على تكون أفكار كولن حول قضية العلاقة بين الدين والعلم من حيث الزاوية العلمية إلا بعد القراءة الممعنة لأعماله. ويشي تفسيره الروحي للطبيعة بتأثيرات صوفية تقليدية، معتمدًا على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية
في آرائه. ففي تأكيده على أن الكون هو “العالم الذي تتجلى فيه أسماء الله الحسنى” وأن الكون هو “كتاب الله في الخليقة”. ويتبين من كتابات كولن -التي تدل بوضوح على اطلاعه على الفكر الغربي الحديث- أنه يتعرض لآراء “كارل بوبر (Karl Popper)”[8]، وهو فيلسوف وعالم بريطاني حديث، وكذلك آراء “رينيه جونون (Rene Guenon)”[9]، وهو فيلسوف فرنسي تقليدي، وذلك عند تناوله النقد الإسلامي لطبيعة العلم الحديث. ومع هذا فربما يشعر المرء بخيبة أمل عندما يجد إشاراته إلى المفكرين الغربيين المعاصرين دائمًا مختصرة، ولكن لا غرو في ذلك، فإن الغرض الأساس في هذا وفي سياق استدلاله ككل هو عرض النظرة الدينية، لأن همّه الرئيس روحي وعقدي. فاستشهاد كولن الموجز بوجهات النظر العلمية أو الفلسفية لمفكرين غربيين معينين كان المقصود منه التوضيح أو تقديم تأييد إضافي لآرائه الدينية فقط.

ويبدو أن العامل الروحي أسهم في أفكار كولن الخاصة بالدين والعلم. ومن الواضح أن كولن عالم يحمل حبًّا خاصًّا للتعاليم الفكرية والأخلاق الروحية للصوفية، مع أنه لم يُعرف عنه انتماؤه إلى أية طريقة صوفية. ويمكن أن يُرى ارتباطه الفكري بالصوفية في كتاباته حول هذا الموضوع. فقد كتب كولن -على سبيل المثال- حول مفاهيم الصوفية وممارساتها[10]. ومع هذا وفي اللحظة التي لست فيها في موضع تقدير مدى تأثير العقائد الصوفية على فلسفة كولن الدينية الخاصة بالعلم إلا أنه في عرضه لمبادئ الصوفية يبدو مقتنعًا بأن هذا البعد الروحي للإسلام طريق حق لمعرفة المعاني الحقيقية للأشياء. وبالإضافة إلى هذا يرى كولن أن هذه المعرفة الروحانية للوجود هي التي تعمّق وتثري فهم الإنسان للحقائق الدينية والعلمية. وفي ضوء هذه الآراء يمكننا أن نرى أن منظور كولن للعلاقة بين الدين والعلم قد تشكلت في الأصل من خلال ارتباطه العميق بالتربية الروحية.

الحقائق الدينية والعلمية

أود في البداية أن أتناول بالشرح تعامل كولن مع القضية المتمثلة في طبيعة الحقائق الدينية والعلمية، وكذلك إمكانية حدوث صراع أو علاقة مفهومية منسجمة بين هذين النوعين من الحقائق. وقبل أن نستعرض بالمناقشة آراء كولن حول العلاقة المحددة التي ينبغي أن تقوم بين الحقائق الدينية والعلمية، فمن الأجدر بنا أن نبدأ أولًا في توضيح فهمه لكلمة “حقيقة”. يرى كولن أن الحقيقة ليست شيئًا من نتاج العقل البشري؛ إذ إن الحقيقة مستقلة عن ذات الإنسان، ومهمته هي السعي للحصول عليها. وبهذا فإن كولن يؤمن بفكرة الحقائق الموضوعية التي طالما أكد عليها العلماء والفلاسفة على نطاق واسع. ولا يؤثر قصور الخبرات البشرية الفردية الذاتية على تلك الحقائق الموضوعية، ولكنها تنتظر من يكشف النقاب عنها.

يقسم كولن الحقائق إلى نوعين: الحقائق المطلقة والحقائق النسبية، وهو يعني بالحقائق المطلقة الحقائق التي “لا تتغير”، والتي “تكمن في العالم الأسمى من العالم المحسوس”، وذلك لأنها تتعلق بالحقائق الثابتة والدائمة[11]. وتتعلق الحقائق المطلقة بجوهر الوجود الذي يمثل الميدان الذي يعجز العلم عن إدراك طبيعته، وذلك بسبب أوجه قصوره المنهجية. ويؤكد كولن على أن “المدخل العلمي الحديث يبعد تمام البعد عن القدرة على اكتشاف الحقيقة المتمثلة من وراء هذا الوجود وعلى تقديم تفسير لها”[12]. كما يعتقد كولن أن الحقائق المذكورة في القرآن الكريم والأحاديث النبوية هي حقائق مطلقة في طبيعتها[13]. وفي مقابل ذلك حقائق نسبية تتصف بالتغير وعدم الدوام والاطراد وبأنها ذات طبيعة مترددة. ويؤكد كولن على أن الحقائق العلمية تنتمي إلى هذا النوع من الحقائق النسبية. ويستخدم كولن مصطلح “الحقائق العلمية” للإشارة إلى الوقائع أو الحقائق التي يكتشفها العلم أو يضع أسسًا لها، إلا أنه يقول:

“إن العلوم تشهد تطورًا مستمرًّا، وأن ما ينظر إليه اليوم على أنه صحيح ربما يتضح خطؤه في الغد، وعلى العكس، فإن ما تراه اليوم خطأ ربما يثبت صوابه في المستقبل”[14].

وفي شرحه لحتمية كون الحقائق العلمية ذات طبيعة نسبية يشير كولن إلى اعتماد العلم على المعطيات التجريبية وتفسيراتها المنطقية في معرفته للأشياء التي تدرسها. وسنتطرق بالمناقشة فيما بعد إلى أوجه القصور المتأصلة في المناهج العلمية لبحث الإنسان عن الحقائق، وذلك من خلال الموضوع اللاحق والمتعلق بنقد كولن من منظور إسلامي للمدخل العلمي الحديث لدراسة الطبيعة.

في تأكيده على أن الحقائق الواردة في القرآن الكريم والأحاديث النبوية هي حقائق مطلقة، وأن الحقائق العلمية ذات طبيعة نسبية، يقدم كولن المقدمة المنطقية الفلسفية التي يعتمد عليها في التعبير عن الأنماط المناسبة للعلاقات التي يتعين تواجدها بين الحقائق الدينية والعلمية.

وثمة سؤال يكثر طرحه، وهو سؤال يتعلق بما إذا كان هناك بالضرورة تناقض بين الحقائق الدينية والحقائق العلمية، أم أنه يمكن التوفيق بينهما، أم أن هناك انسجامًا بينهما. يرى كولن من حيث المبدأ أن هذين النوعين من الحقائق لا تناقض بينهما مطلقًا. ويتعين هنا الاستطراد في توضيح ما يعنيه كولن بأنه:

“ليس هناك تناقض من حيث المبدأ”، فطبقًا لوجهة نظره فإن “الكون، الذي هو موضوع دراسة جميع العلوم، يمثل العالم الذي تتجلى فيه أسماء الله U، ولهذا فإن هذا الكون يتمتع بنوع من القداسة. وكل شيء في هذا الكون يمثل رسالة من الله U يدعونا من خلالها إلى دراسة هذا الشيء كي نحصل على قدرٍ من معرفته . وبهذا فإن هذا الكون يمثل مجموعة من الرسائل، أو كما يقول حكماء المسلمين إنه كتاب الله في الخليقة الصادر بشكل أساس من الصفتين الإلهيتين: الإرادة والقدرة. ولهذا يُعتبر القرآن الصادر من صفة الكلام لله نظيرًا لهذا الكون، ولكن على شكل كلمات ملفوظة. فكما أنه لا يمكن أن يكون هناك تعارض بين قصرٍ ما وبين الأوراق المكتوبة وصفًا له، فلا يمكن كذلك أن يكون هناك تعارض بين الكون وبين القرآن الكريم؛ إذ إن كليهما تعبيران عن نفس الحقيقة”[15].

تعرض هذه الفقرة المقتبسة من كلام كولن، بوضوح، إيمانه الراسخ بأنه لا يمكن أن يكون هناك تعارض بين الحقائق العلمية وتلك الدينية، وذلك لأنهما تنبعان من مصدر أساسي واحد، ألا وهو المصدر الإلهي. وهذا ما يؤمن به فعلًا معظم المسلمين.

أما إذا برز موقف ما يظهر فيه أن هناك تناقضًا بين “حقيقة علمية” وحقائق دينية راسخة، وأنه قد فشلت جميع محاولات التوفيق بين هذين النوعين من الحقائق، فإن كولن يحث المسلمين في هذه الحالة أن يرفضوا مثل هذه الحقيقة العلمية تأييدًا للحقائق الدينية، وهو بموقفه هذا يتوافق مع اعتقاده “الفلسفي” بشأن القيمة النهائية للحقائق العلمية، فإن الحقائق العلمية عنده هي في الأساس مجرد نظريات؛ فلو كانت “حقيقة” بالفعل، لما كان هناك تعارض بين العلم والدين بخصوصها. إن حقائق الوحي المطلقة هي التي لها القول الفصل عند تحديد مصير الحقائق العلمية؛ ولهذا فإنه يتعين الإيمان بأنه إذا كانت هناك حقيقة علمية يقرها الوسط العلمي على نطاق واسع في الوقت الحاضر، ولكن وُجد أنها تتعارض مع الحقائق الدينية، فلا بد أن العلم نفسه سيثبت بطلانها عاجلًا أم آجلًا. ويصر كولن على أنه يتعين أن تكون الحقائق النسبية تابعة للحقائق المطلقة. وهذا الدور التابع يحتاج إلى شيء من التأكيد حتى تكتسب الحقائق النسبية تسويغًا من الحقائق المطلقة.

وفي ضوء هذه العلاقة بين الحقائق المطلقة والنسبية يؤكد كولن على دور الحقائق العلمية في خدمة قضايا الحقائق الدينية، ولهذا فإذا كان رجال الدين التقليديون قد نظروا إلى الفلسفة باعتبارها خادمة للعلوم الدينية، فإن كولن في عصرنا الحالي يرى أن الذي يجب أن يتولى دور الخادم للعلوم الدينية هو العلوم المادية. يقول كولن:

“يمكن، بل ينبغي، استغلال العلم والحقائق التي يقدمها في شرح الحقائق الإسلامية”[16].

ثم يستطرد قائلًا إنه:

“ينبغي أن يكون هدفنا الأساس عند تقديم العلم والحقائق العلمية هو الفوز برضا الله U”[17].

ويبدو أن كولن ينتقد بشدة الميل إلى النـزعة العلمية (أي: تطبيق المنهج العلمي المستخدم في العلوم الطبيعية في كل مجالات الأبحاث) بين المسلمين المعاصرين، حيث تدعو هذه النزعة إلى “إثبات الدين أو التأكيد على مصداقيته من خلال الحقائق العلمية الحديثة”. وردًّا على مثل هذه النزعات التي تعتبر العلم المادي يفوق الدين بشكل ما، يقدم كولن بهذا التأكيد القوي قائلًا:

“يجب أن يكون موقفنا واضحًا، وهذا الموقف هو أن القرآن الكريم والسنة النبوية هما حقيقيان ومطلقان، أما بالنسبة إلى العلم المادي والحقائق العلمية، فإنهما صحيحان طالما أنهما يتوافقان مع القرآن والسنة النبوية، وهما خاطئان إذا ما اختلفا أو ابتعدا عن حقيقة القرآن والسنة.
بل إنه لا يمكن اعتبار الحقائق العلمية التي ثبتت صحتها بصورة قطعية أعمدةً تدعم حقائق الإيمان”[18].

ومع وجود التوجهات الداعية إلى النزعة العلمية في أرجاء العالم الإسلامي[19] فمن الواضح تمامًا أن النقد الذي يعارض به كولن هذه النزعة موجّه في المقام الأول إلى مجتمعه التركي نفسه. ويريد كولن أن يواجه آراء ثلاث مجموعات هامة في هذا المجتمع يراها آراءً خاطئةً. وتتكون أول مجموعة من الملحدين الذين نبذوا الدين باسم العلم. أما المجموعة الثانية فهي التي تتكون من المسلمين الذين يؤمنون بالدين والعلم معًا، ولكنهم يميلون إلى وضع الدين في مرتبة أدنى من مرتبة العلم. وتتكون المجموعة الثالثة من المسلمين الذين يعترضون على إعطاء مكانة للعلم من أجل دعم الحقائق الدينية. وقد رفض كولن جميع وجهات النظر الثلاثة هذه باعتبارها غير مقبولة من وجهة النظر الإسلامية. وبالإشارة إلى المجموعة الأولى يصف كولن مواقف المعادين للدين والماديين تجاه الدين والعلم في البنود التالية:

“أنهم يحرصون على “استغلال العلم باعتباره وسيلة لتحدي الدين، واستخدام مكانة العلم في بسط أفكارهم” ونتيجة استغلالهم للعلم “فقد قاموا بتحريف وإفساد عقول عدد كبير من الناس”[20].

وفي مواجهة هذا الاستغلال للعلم من قبل مجموعة من الناس لتكذيب الدين يدعو كولن المسلمين إلى دراسة العلوم، وذلك
من أجل مواجهة هذه المجموعة بنفس براهين الحقائق العلمية التي تدعم الدين. كما يريد كولن أن يحث المؤمنين على أنه إذا قام بعض الناس بتفسير بعض الاكتشافات العلمية لإنكار الدين، فبإمكان المؤمنين أن يستخدموا نفس المواد العلمية لبيان أن العلوم والتكنولوجيا لا تتعارضان مع الإسلام. ومن المؤكد أن العلم الذي يسترشد بالدين سوف يقود الناس إلى الصراط المستقيم.

أما المجموعة الثالثة فإن كولن ينكر عليها رأيها في تجنبها لهذا الارتباط؛ حيث يعتقد أنه ليس ثمة ما يمنع هذا الارتباط من الناحية الدينية. يقول كولن:

“إنني أعتقد أن العكس هو الصحيح؛ حيث أرى أنه يتعين على المؤمنين أن يكونوا على دراية تامة بمثل هذه الحقائق كي يقاوموا المادية والإلحاد”[21].

ويحاول كولن أيضًا إيضاح أن توظيف العلم لخدمة الدين يختلف عن تسويغ الدين من خلال العلم كما تفعله المجموعة الثانية، الذين ناقشنا بالفعل نزعتهم العلمية التي يؤمنون بها. ولن يرتكب المسلمون خطأ النزوع إلى العلمية طالما أنهم يتفهمون أن حقائق الدين لها من الأدلة ما يستقل عن العلم، وطالما أنهم يدركون ويحافظون على سمو الحقائق الدينية على الحقائق العلمية.

الفهم العلمي الحديث للطبيعة

تتعلق القضية الثانية التي سنتناولها هنا بآراء كولن حول الدين والعلم فيما يخص المدخل العلمي الحديث للطبيعة. ولا يتردد كولن في قبول صحةِ وشرعية المنهج العلمي الحديث في دراسة الطبيعة طالما يتم الأخذ بنظر الاعتبار حدوده المعينة. ويرى كولن أن المناهج التجريبية هي أفضل وأنسب ما يمكن استخدامه عند التعامل مع العالم الذي يمكن إدراكه بالحواس المادية. وبالمثل فإن المناهج المنطقية القائمة على التفكير الاستقرائي أو الاستدلالي أو التحليلي، والتي تشكل مع الأساليب التجريبية جوهر المنهجية التي يقوم عليها العلم الحديث، هي مناهج صحيحة وفعالة فقط داخل مجالات قدرتها. ويؤكد كولن على أن المنهجية العلمية الحديثة غير قادرة على النفاذ إلى “حقيقة الوجود” أو “جوهر الوجود” وإدراكه[22]. ويرجع هذا إلى أن هناك ميادين في الواقع تفوق قدرة هذه المنهجية. إن عجز العلم عن معرفة الحقيقة فيما يخص جوهر هذا الوجود شيء في غاية الأهمية في اعتقاد كولن، وخصوصًا مع اعتبار القصور في المناهج التجريبية.

يهتم العقل البشري بالوصول إلى المعرفة اليقينية للحقيقة الثابتة التي يقوم عليها عالم الطبيعة، ولكن هذا العقل سيفقد قدرته على معرفة هذه الحقيقة الثابتة إذا ما اعتمد على المنهج التجريبي. فعلى سبيل المثال يتوق العقل إلى اكتشاف حقيقة وجود الأشياء، وتحديدًا أصل هذا الكون. ووفقًا لما يراه كولن في هذا الصدد فإنه كلما تعامل العلم مع قضية أصل الأشياء “فإن ما يفعله هو أن يشرح كيفية حدوث الأشياء”[23]. إن العلم في حقيقته لا يجيب على مسألة حقيقة الأشياء بشكل يرضاه العقل البشري، كما يتهرب العلم من العقبة المتمثلة في تقديم تفسير لأصل الوجود “أو يظن أنه قد تهرب منها بالفعل عن طريق إرجاع أصل الوجود إلى “الطبيعة”، أو “النشوء الذاتي”، أو أي من مثل هذه النظريات أو المفاهيم كـ”الحتمية” و”المصادفة”.

يرى كولن أنه من المهم أن يظل العلم مخلصًا لطبيعته كفرع من معرفة الله، وذلك بأن يكون على قدر كافٍ من الأمانة يجعله يعترف بأوجه قصوره المنهجية في إدراك الحقيقة بأكملها، وأن يقر كذلك بأن ميدان الحقائق الأبدية والمطلقة يتجاوز تمامًا اهتمامه واختصاصه المعرفيين. ويُعتبر هذا الإقرار الفلسفي شيئًا ضروريًّا بالتأكيد من أجل الحفاظ على الشرعية والانسجام في العلاقة بين الدين والعلم. وعلاوةً على هذا فلن يبلغ العلم قيمته الحقيقية إلا إذا أخلص لدوره ووظيفته الشرعيين باعتباره فرعًا أكاديميًّا لمعرفة الله، وليس من خلال اغتصاب وظيفة الدين والادعاء بأنه علم الحقيقة[24]. وفوق كل هذه الاعتبارات من الواضح أن كولن، باعتباره عالمًا دينيًّا، يهتم بإبراز أوجه عجز المدخل العلمي لفهم الطبيعة من الناحيتين النظرية والتطبيقية.

ونستطيع القول على ضوء جميع ما ذُكر: إن كولن يريد أن يُبقي للدين مجال الاستقصاء الذي يتجاوز ما هو علمي. وهذه الرغبة في وجود دور للدين هو أمر مبرر تمامًا؛ فأبرز ما تسعى إليه رسالات الوحي الإلهي، وتحديدًا كما يتضح في القرآن الكريم، هو إبلاغ البشر إبلاغًا واضحًا بالحقائق التي تفوق إدراك العقل البشري ويعجز عن اكتشافها بنفسه.

المدخل القرآني للعلم

تتعلق القضية الثالثة والأخيرة التي سنعالجها في هذا المقال بالمدخل القرآني للعلم؛ حيث يرى كولن أن المسلمين يرتكبون جرمًا كبيرًا إذا ما نظروا إلى الدراسات العلمية باعتبارها نوعًا من النشاط البشري الذي ينبغي أن يجري بشكل منفصل ومستقل عن القرآن. إن العلم يجب أن يجري في ضوء مبادئ النظرية المعرفية والمبادئ الخلقية والقيم الواردة في القرآن الكريم. وما يعنيه كولن بهذا هو أنه ينبغي أن يكون القرآن هو إطار العمل الفلسفي لدراسة الطبيعة. إن كولن مهتم للغاية بمسألة سوء الفهم بين المسلمين فيما يتعلق بالدور والوظيفة المحددتين للقرآن الكريم باعتباره كتاب معرفة، وخصوصًا في علاقته بالعلم. وقد دفع هذا السبب كولن دفعًا كبيرًا لتناول السؤال الذي طرحه هو نفسه، وهو: “هل يحتوي القرآن على كل شيء؟”[25] إن كولن يجيب عن هذا السؤال بالإيجاب، وذلك لأن القرآن نفسه قال ذلك. واستدل كولن في هذا الموضع بقوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ (سورة الأنعام: 6/59).

لفهم ما يعنيه القرآن الكريم بـ﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ أشار كولن إلى آراء عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس ، وهما اثنان من أشهر مفسري القرآن الكريم في أوائل العصر الإسلامي، كما أشار أيضًا إلى آراء جلال الدين السيوطي، وهو عالم مصري عاش في القرن الخامس عشر الميلادي[26]. وقد أكد هؤلاء الثلاثة أن القرآن الكريم يحتوي على كل شيء، فنقل السيوطي قول ابن مسعود : “مَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ فَعَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ فَإِنَ فِيهِ خَبَرَ الْأوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ[27]، وقولَ ابن عباس : “لَوْ ضَاعَ لِي عِقَالُ بَعِيرٍ لَوَجَدْتُه فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى[28]؛ لأن ما نراه هو ما نعرفه. وبالإضافة إلى هذا فإن الأشياء توجد في القرآن على مستويات مختلفة من الحقيقة، ولذلك فهي تتطلب منا مستويات مماثلةً من الوعي كي نكون قادرين على رؤيتها. وهذا يعني أن البشر الذين يقرؤون كتاب الله، القرآن الكريم، سيجدون أنه يحتوي على كل شيء من حيث المبدأ أو الإمكانية. ويذكر كولن أن القرآن يضم بين صفحاته كل الأشياء:

“على هيئة بذور أو نويات أو على شكل خلاصة أو مبادئ أو علامات، كما يمكن أن توجد إما على صورة صريحة أو ضمنية أو تلميحية أو مبهمة، أو إيحائية. ويمكن تفضيل إحدى هذه الصور أو أخرى وفقًا لأسباب النـزول بحيث تناسب غايات القرآن مع الارتباط مع متطلبات السياق”[29].

واكتشاف الحقائق الكامنة في القرآن مرتبط بالمعرفة، فكلما ازدادت معرفة الفرد ازداد ما سيراه في القرآن الكريم، ولهذا فسيكون من مهام العلم أن يساعد القارئ على رؤية المزيد مما يحتوي عليه القرآن الكريم.

إذا استطاع المسلمون بشكل عام أن يتحدثوا عن أسلوب القرآن لفهم العلم، فيرجع هذا من حيث المبدأ إلى أن القرآن يحتوي على كل شيء. إن القرآن يتصل بالمسلمين اتصالًا وثيقًا باعتباره مرشدًا لدراستهم وتطبيقاتهم العلمية؛ لأنه، كما قال السيوطي، يشتمل على مبادئ كل العلوم أو فروع المعرفة، بما في ذلك علوم الطبيعة. وفي حديثه عن دور القرآن فيما يتعلق بالعلم يؤكد كولن على قدرة القرآن الإرشادية على توجيه “العلم الحقيقي” إلى الإنسانية، وقال إن أحد الأهداف الرئيسة للقرآن هو نشر حب الحقيقة، وأن “حب الحقيقة هو الذي يعطي التوجيه الصحيح إلى الدراسات العلمية”[30].

ويقصد كولن بـ”حب الحقيقة” “التعامل مع الوجود بدون أي اعتبار للامتيازات المادية أو المكاسب الدنيوية”. ويرى كولن أنه باستثناء مجموعة صغيرة من العلماء، فإن من يسعون إلى العلم اليوم لا يدفعهم الشوق إلى حب الحقيقة أو من أجل تحصيلها، بل على العكس يرى كولن أن قدرًا كبيرًا من العلم المعاصر قد تم تحقيقه على أيدي أناس “أفسدتهم الرغبات الدنيوية والطموحات المادية والانحياز الفكري والأحكام المسبقة والتعصب”. وبالتالي فقد انحرف المسار الشرعي للدراسات العلمية وأصبح العلم سلاحًا فتّاكًا يستخدم ضد الموارد والطاقات والإمكانيات البشرية[31].

ويطالب كولن المثقفين والمؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام بأن يقوموا بالدور الحيوي المتمثل في المساعدة على “تخليص الدراسات العلمية الحديثة من الجو الملوث والقاتل المتمثل في الطموحات المادية والتعصب الأيديولوجي، وأن يوجهوا العلماء إلى القيم الإنسانية الأسمى”. ويعتقد كولن أن القرآن يلح على فكرة أن يقوم أهل العلم بتوجيه دراساتهم العلمية إلى القيم الإنسانية السامية. فالسعي وراء العلم، ووراء كل فروع المعرفة البشرية، لا بد أن يتم في إطار إدراك الأهداف الرئيسة الأربعة للقرآن الكريم، وهي:

1- إثبات وجود ووحدانية الله .

2- إثبات النبوة.

3- إثبات البعث بعد الموت.

4- التأكيد على عبادة الله  والعدل[32].

ولهذا السبب فقد بدأ كولن كتابه “في ظلال الإيمان” وقبل أن يناقش قضية الدين والعلم، بتناول هذه الأهداف الأربعة للقرآن الكريم بشكل مطول. ويمكن وصف هذا التناول على أنه يتوافق مع المنظور التقليدي للعلم الديني المتأثر بمذهب أهل السنة والجماعة.

يرى كولن أن الأهداف الرئيسة الأربعة للقرآن الكريم سيكون لها تأثير ينتج عنه علم مستنير من الناحية الروحية، كما أنه مبشر في نفس الوقت بخدمة المصالح الحقيقية للإنسانية. ويطلق على مثل هذا العلم “العلم الحقيقي”[33]. ويعتقد كولن أن الإسلام قد نجح في الماضي في تحقيق مثل هذا العلم، حيث يقول:

“إن مفهوم العلم الذي نهض به الإسلام كان مشبعًا بالطموح نحو الخلود، وبمسؤولية تسعى لتحويل الإنسان إلى عضو نافع للبشرية، وبغاية الحصول على رضا الله U”[34].

ولهذا فإن إعادة إحياء مثل هذا العلم سيساعد كثيرًا على إنشاء عالم أكثر ثراءً من ناحية الحياة الفكرية، وهو عالم يضم تكنولوجيا أكثر أمنًا وأكثر أخلاقيةً، إضافة إلى علوم واعدة ومبشرة.

يشير كولن إلى الوعي الإسلامي التقليدي الذي يرى أن هناك انسجامًا بين الدين والعلم وأن هناك اتحادًا بين المعرفة الروحية والمعرفة العلمية. وكان الذي صاغ هذا الوعي هو القرآن الكريم الذي يرفض الفصل بين الحقائق العلمية والحكمة الروحية. يقول كولن:

“إن مصطلح العلم -المبني على الوحي الإلهي، والذي أعطى القوة الدافعة للدراسات العلمية في أرجاء العالم الإسلامي- تم تمثيله بشكل كامل من خلال الشخصيات الشهيرة في ذلك الوقت، وهي الشخصيات التي قامت، متشبعةً بفكرة الخلود، بدراسة هذا الكون من غير كلل من أجل الوصول إلى هذا الخلود”[35].

إن رفض القرآن للفصل بين الحقائق العلمية والحكمة الروحية قد دفع العلماء المسلمين إلى أن يحذوا حذو القرآن في ذلك. وليست لدى كولن مشكلة في قبول الفكرة القائلة بأن القرآن به تلميحات إلى الكثير من الحقائق والتطورات العلمية، ولكنه، في نفس الوقت، يؤكد على أن القرآن لا يشير إليها “بنفس الطريقة التي يشير إليها العلم والفلسفات المادية أو الطبيعية”[36]. فالقرآن، على سبيل المثال، لا يتكلم عن الظواهر الكونية والعلمية بطريقة مفصلة، ولكنه عندما يشير إلى مثل هذه “الحقائق”، فإنه يهدف إلى تقديم “التفسير الخالد لكتاب الكون”، وكذلك تقديم تفسير روحي للعلوم التي تتعامل مع الظواهر الطبيعية. إن الله U يقدم لنا هذه “الحقائق”؛ لأنه يريد أن يوضح لنا بعض الحقائق كأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وكذلك يريد أن يلقن الإنسانية هذه الدروس الروحية والعلمية.

وبهذا يستحث كولن المسلمين على التذكر دائمًا بأن؛

“القرآن يشتمل على تلميحات للعديد من الحقائق العلمية، إلا أن ذلك لا يعني أنه يجب علينا أن نقرأه وكأنه كتاب علمي أو كتاب يضم تفسيرات علمية محضة”[37].

ويعبر كولن في مقاله المعنون بـ”القرآن الكريم والحقائق العلمية” عن لزوم أن يكون الفرد منتبهًا عند قراءة المعاني العلمية في الآيات ذات الصلة بها؛ حيث يؤكد كولن على الموقف التقليدي للإسلام، إذ يقول: إنه عندما يقوم الفرد بتفسير أية آية من القرآن الكريم، فعليه أن يتذكر دائمًا أن هناك معاني عديدة لكل آية، فلا يمكن استيعاب كل ما تحتويه الآية الواحدة من خلال تفسير واحد فقط. وفكرة وجود معانٍ حرفية وظاهرية وأخرى باطنية لآيات القرآن فكرة شائعة بين العديد من مفسري القرآن الكريم. والصوفية، بوجه عام، أشد ميلًا من أي مدرسة فكرية إسلامية أخرى تجاه بيان المعاني الباطنية للقرآن الكريم؛ فليس من العجيب -إذًا- أن يكون كولن، الذي عاش سنين من شبابه في جو صوفي، على درجة كبيرة من الدراية بالمعاني العميقة في هذا الكتاب المقدس، وهي المعاني ذات الأهمية البالغة في بحث الإنسان عن الحقائق الروحية. لقد سعى أيضًا أن يربط بين المعاني الباطنية للقرآن والحقيقة الباطنية التي تتأسس عليها الظواهر الطبيعية التي لا يصل إليها المنهج العلمي الحديث. إن ما يود كولن التأكيد عليه إذًا هو أن دور الدين المبين هو معاونة الإنسان على اكتشاف حقائق أسمى في العالم الطبيعي. وذلك لأن ما يكمن وراء الحقائق العلمية ليس الشك واليأس اللذين يمثلان نقاط الهروب للمادية أو الإلحاد أو اللاأدرية، وإنما الذي يكمن وراءها هو الحقائق المعنوية والروحية التي تثير الشعور بيقين أكثر في الوعي الإنساني.

وإذا أردنا أن نلخص آراء كولن، فيمكننا القول بأن السبب الرئيس وراء اهتمام القرآن بعلم الطبيعة والعلوم الأخرى هو الرغبة في دعوة الإنسان لمعرفة الله . فعندما يدعو القرآن البشر مرارًا وتكرارًا إلى دراسة الخلق، فهذا يرجع إلى أنه يريدهم أن يدرسوا هذا الخلق من أجل الوصول إلى معرفة خالقهم . ويعتقد كولن اعتقادًا جازمًا بضرورة الفهم الصحيح للمدخل القرآني في فهم العلم، وذلك لأنه في هذا المدخل الروحي تكمن أسس العلاقة المتناغمة والمثمرة بين الدين والعلم.

خاتمة: آراء كولن في الميزان

في ضوء كل ما ناقشناه من الآراء الخاصة بكولن حول الجوانب المتعددة للدين والعلم، ننبه إلى أهمية هذه الآراء بالنسبة للعالم المعاصر من نواحٍ عدة.

أولًا: يصر كولن على عدم الفصل بين العلم والدين، وهو بذلك يتخذ موقفًا فكريًّا راسخًا ضد العلمانية الفكرية. إن فكرة عَلْمنة المعرفة، مع تتبع نتائجها المنطقية، لن تتوافق مع المفاهيم الإسلامية ونظريات المعرفة الإسلامية المتأصلة في تعاليم القرآن. وسوف تتعارض هذه الفكرة تحديدًا مع اعتقاد كولن بأنه “يجب أن لا تتم دراسة العلم بشكل مستقل عن القرآن”. إن الحديث الفكري الدائر حول “أسلمة المعرفة” في أجزاء عديدة من العالم الإسلامي، ومن بينها تركيا، لا يمكن إدراكه إدراكًا كاملًا إلا عند فهم إلحاح الإسلام على وجود علاقات تصورية متناغمة بين العلم الديني وعلوم العوالم الطبيعية والإنسانية. وقد تبدو فكرة أسلمة المعرفة وكأنها محاولة جادة من قبل المسلمين المعاصرين لاستعادة الرابط الفلسفي التصوري الذي انقطع بين العلم الديني والعلوم الطبيعية، وكذلك لاستعادة الوحدة التقليدية للمعرفة، والتي تحطمت من جراء العلمنة الحديثة للمعرفة.

ثانيًا: لا تمثل آراء كولن بالنسبة للعلاقات بين الدين والعلم آراءه الشخصية فقط، فهو يمثل في المجمل واحدًا من التفسيرات الرئيسة للموقف الإسلامي تجاه موضوع مطروح، ليس في تركيا العلمانية وحدها، ولكن في العالم الإسلامي بأسره. ونجد أن كولن في الكثير من آرائه يتكلم باسم القطاع التقليدي الكبير من المجتمعات الإسلامية المعاصرة حول العالم، فيما يتعلق بمعنى العلاقة بين الدين والعلم والأهمية التي يمثلها هذا الفهم من أجل الحفاظ على الهوية الإسلامية.

ثالثًا: يتمتع موقف كولن بشأن العلاقة بين الدين والعلم بأهمية عالمية تمتد خارج العالم الإسلامي، إذ إن آراءه حول هذا الموضوع ذات صلات مباشرة بأنماط مشابهة من المناقشات الدائرة حاليًّا داخل الديانات الأخرى، وخصوصًا المسيحية.

لقد شهدت السنوات الأخيرة العديد من الحوارات بين المسلمين والمسيحيين في أرجاء العالم حول نطاق كبير من القضايا، ولكن لسوء الحظ، فليس هناك إلا القليل من هذه الحوارات التي أجريت حول أهمية قضية العلاقة بين الدين والعلم؛ فثمة حاجة ملحة إلى إبراز هذه القضية بالذات بشكل أكثر اتساعًا على أجندات أعمال الحوارات الإسلامية المسيحية. ومن المعروف أن كولن نفسه قد اشترك في حوارات مع قادة الطوائف المسيحية، ومن بينهم البابا السابق (رئيس الكنيسة الكاثوليكية) وقادة الكنيسة الأرثوذكسية في تركيا[38]. ومن الجدير بنا في هذا الصدد أن نشير إلى شيء من آراء كولن تجاه ما نظر إليه كثيرون في العالم الغربي باعتباره صراعًا بين المسيحية والعلم. يقول كولن:

“مع أن الصراع في فترة عصر النهضة الأوروبية دائمًا ما يصور بأنه صراع بين المسيحية والعلم، فهذا الصراع في حقيقته كان بين العلماء والكنيسة. فلم يكن “كوبرنيكوس (Copernicus)” أو “جاليليو (Galileo)” أو “فرانسيس بيكون (Francis Bacon)” ضد الدين،
بل يمكن القول بأن التزامهم الديني هو الذي أوقد في نفوس الناس حب الحقيقة وفكرة الوصول إليها”[39].

وفي آراء كولن -التي نعتبرها مهمة للغاية بالنسبة لعالِم إسلامي معاصر- تكمن فيها إمكانية قيام حوار مخلص وجاد ليس فقط بين الإسلام والمسيحية، ولكن أيضًا بين رجال الدين ورجال العلم في شتى المجتمعات.

 

[1]  ومنهم العالم الإيراني الأمريكي سيد حسين نصر الذي يقوم حاليًّا بتدريس الدراسات الإسلامية بجامعة جورج واشنطن.

[2]  هذه الظاهرة هي عكس ما نجده في الغرب تمامًا؛ حيث نجد رجال الدين مسيطرين على خطاب الدين والعلم.

[3]     ربما كانت ماليزيا من الدول الإسلامية المتقدمة حيث إنها تضم مراكز أكاديمية، ومنظمات محترفة، وصحفًا أكاديمية، تعمل على نشر معالجات حول وجهات النظر الإسلامية حول الدين والعلم. ويجدُر بنا أن نذكر قسم العلوم والدراسات التكنولوجية بجامعة ماليزيا وجريدته “ستراتيجي (Strategi)”  التي يصدرها بلغتين، ومعهد الفكر والحضارة الإسلامية الأكثر شهرة على المستوى العالمي، والأكاديمية الإسلامية للعلم بماليزيا، وهي منظمة أكاديمية تضم علماء وخبراء بالتكنولوجيا من المسلمين، كما تصدر جريدة هي الأخرى.

والإضافة الأخيرة على المستوى العالمي في قائمة المتنامية من الصحف الإسلامية المتخصصة في الدين والعلم في الإسلام، هي صحيفة “الإسلام والعلم” (Islam and Science) والتي ينشرها مركز الإسلام والعلم في كندا، برئاسة “مظفر إقبال”، وهو عالِم مسلم معاصر بارز في مجال الإسلام والعلم.

[4]     للاطلاع على سيرة مختصرة لحياة كولن انظر: “علي أونال (Ali Ünal)” و”ألفونس ويليامز (Alphonse Williams)” فتح الله كولن: داعية الحوار (Fethullah Gülen, Advocate of Dialogue)” (فيرفاكس: ذي فاونتين)، ص. 1-41. سيشار إلى هذا الكتاب هنا باسم داعية الحوار. وللاطلاع على معالجات أكثر نقدية لجوانب مختلفة من حياة كولن وفكره وأنشطته وأهمية ما يسميه بـ”التطبيق التركيّ للإسلام”، انظر: Fethullah Gülen and His Liberal “Turkish Islam” Movement، جريدة ميدل إيست ريفيو أوف انترناشونال أفيرز، مجلد 4، العدد 4 (ديسمبر 2000م).

وهناك كتاب في سيرته الذاتية باللغة العربية: أرطغرول حكمت: “فتح الله كولن: قصة حياة ومسيرة فكر”، (دار النيل – 2013م).

[5]     لقد اتُّهم كولن بالفعل في عدة مراحل من حياته بتنفيذ نشاطات دينية تضر بالجمهورية التركية، وقد أنكر كولن –المعروف بدعوته للتسامح والتقدم– هذه الاتهامات قائلًا إنها لُفقت من قبل مجموعات متطرفة تشكك في حركته الدينية ومن قبل آخرين يحقدون عليه لشعبيته. وقد انتقل كولن إلى الولايات المتحدة منذ 1999م. وللاطلاع على إشارات كولن الأخيرة عن الاتهامات الموجهة إليه انظر لقاءه مع “نورية أكمان (Nuriye Akman)” “استخدام أشخاص ذوي مناصب رفيعة لحادثة الكاسيت كأداة للابتزاز” (High-ranking People Used the Cassette Incident as a Tool for Blackmail).

[6]     هذا المعلم الصوفي، والذي كان له ديوان شعر، كان يعرف بعد ذلك باسم “أفَه حضرتلري (Efe Hazretleri)” أو ” ألوارلي أفه (Alvarlı Efe)”. انظر: كتاب “فتح الله كولن: قصة حياة ومسيرة فكر”، ص. 20.

[7]     حول اطلاع كولن على الأعمال الغربية في الفلسفة والأدب انظر كتاب داعية الحوار، ص. 28-30. من بين فلاسفة وعلماء الغرب المعاصرين الذين لفتوا انتباه كولن نجد “ديكارت (Descartes)” و”إيمانويل كانط (Immanuel Kant)” و”سير جيمس جينز (Sir James Jeans)” و”سير آرثر س. إدينجتون (Sir Arthur S. Eddington)”، وفي الأدب قرأ الكثير من أعمال “شيكسبير (William Shakespeare)” و”فيكتور هوجو (Victor Hugo)” و”تولستوي (Tolstoy)”.

[8]     انظر في ظلال الإيمان، فتح الله كولن، ص. 308. وقد أشار كولن إلى وجهة نظر “بوبر” التي قال فيها إن “نيوتن” و”أينشتاين” لا يمكن أن يكون كلاهما صوابًا في نفس الوقت. ومن الواضح
أن الإشارة كانت إلى الرأي الذي يؤكد على حجته بأن العلم يمكنه أن يسعى إلى الاقتراب من الحقيقة فقط لا أن يصل إلى الحقيقة بذاتها.

[9]     كان “جونون” مؤيدًا رئيسيًّا في القرن العشرين للفلسفة الخالدة، كما كان ناقدا للعلم الحديث. وقد استشهد كولن بتأكيد جونون على عدم قدرة العلم على معرفة الحقيقة المتعلقة بكنه الوجود؛ حيث كان كولن يريد بهذا تأييد حجته الرئيسة حول أسباب حاجة العلم إلى الدين.

[10]      فتح الله كولن: التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح، دار النيل – 2011م.

[11]      فتح الله كولن: في ظلال الإيمان، ص. 308.

[12]      المصدر السابق، ص. 307.

[13]      المصدر السابق، ص. 335.

[14]      المصدر السابق، ص. 306.

[15]      المصدر السابق، ص. 318-319.

[16]      المصدر السابق، ص. 334.

[17]      المصدر السابق، ص. 334-335.

[18]      المصدر السابق، ص. 335.

[19]  يعتبر أبرز الأشخاص الذين ارتبطت أسماؤهم بالنزعة العلمية في العالم الإسلامي المعاصر هو عالم الطب الراحل “موريس بوكاي” (Maurice Bucaille)، فرنسي المولد، والذي نُقل أنه اعتنق الإسلام. وقد تم ترجمة أعماله، التي تركزت على قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، تمت ترجمتها إلى العديد من لغات العالم الإسلامي، ويعتبر أكثر كتبه انتشارًا وشهرة هو الكتاب المقدس والقرآن والعلم (The Bible, The Qur’an and Science) (باريس: سيجرز، 1978م). ولمزيد من الأعمال النقدية لعلمية موريس بوكاي، انظر كتاب ليف ستينبريج بعنوان ” The Islamization of Science: Four Muslim Positions/أسلمة العلم: أربعة مواقف إسلامية تطور الحداثة الإسلامية”، دراسات لند في تاريخ الأديان، المجلد السادس، لعام 1996م.

[20]      فتح الله كولن: في ظلال الإيمان، ص. 333.

[21]      المصدر السابق، ص. 334.

[22]      المصدر السابق، ص. 308، ولمزيد من المناقشات المفصلة حول أوجه النقد الإسلامي للمنهجية العلمية الحديثة، انظر كتاب: التاريخ وفلسفة العلم (The History and Philosophy of Science)، تأليف عثمان بكار (كامبريدج: جمعية النصوص الإسلامية، 1999م)، الفصل الثاني. انظر أيضا كتاب سيد حسين نصر بعنوان: تأملات في المنهجية في العلوم الإسلامية (Reflections on Methodology in the Islamic Sciences)، (Hamdard Islamicus)، 3: 3 (1980م)، ص. 3-13.

[23]  فتح الله كولن: في ظلال الإيمان، ص. 310.

[24]  فتح الله كولن: في ظلال الإيمان، ص. 308.

[25]      تناول كولن هذا السؤال في كتابه “في ظلال الإيمان”، ص. 301-307. وتناوله كذلك في معرض معالجته للخصائص العامة للقرآن الكريم، انظر المصدر نفسه ص. 288-300.

[26]      المصدر السابق، ص. 302.

[27]      السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، 4/28 (الناشر: الهيئة المصرية العامة، 1394هـ/ 1974م)

[28]      المصدر السابق، 4/31.

[29]      فتح الله كولن: في ظلال الإيمان، ص. 303-304.

[30]      المصدر السابق، ص. 313.

[31]      المصدر السابق، ص. 313.

[32]      المصدر السابق، ص. 303.

[33]  للاطلاع على المزيد حول تناوله لمصطلح “العلم الحقيقي”، انظر المصدر السابق، ص. 312-315.

[34]      المصدر السابق، ص. 313.

[35]  المصدر السابق، ص. 312.

[36]      المصدر السابق، ص. 323.

[37]     المصدر السابق، ص. 323.

[38]      فيما يتعلق بالحوارات بين الأديان التي اشترك فيها كولن مع العديد من القادة الدينيين في العالم، انظر كتاب “داعية للحوار” وكتابَ “فتح الله كولن، قصة حياة ومسيرة فكر”.

[39]      فتح الله كولن: في ظلال الإيمان، ص. 312.

فهرس الكتاب

Leave a Reply

Your email address will not be published.