على رأس سلسلة التقارير التي تعدها نسمات بالتشارك مع موقع زمان عربي، يأتي هذا التقرير ليكشف عن الانتهاكات غير المسبوقة التي تتعرض لها المنظومة القضائية في تركيا لا سيما عقب محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو/تموز 2016.

يستمد التقرير مادته من تقارير المنظمات الحقوقية العالمية التي تؤكد على غياب دور القانون في تركيا، وارتباط عمل المحاكم بأجندة الحكومة السياسية، والتدهور المستمر في الأوضاع القانونية منذ تحقيقات الفساد في ديسمبر/كانون الأول 2013.

يتكون التقرير من مقدمة وخمس نقاط وخاتمة، ويركز في النقاط الخمس على رصد التجاوزات -بالأرقام والأدلة والشواهد- التي ارتكبها النظام الحاكم في حق آليات المنظومة القضائية بشكل كامل، والتي تتكون من الهيئة القضائية وهيئة الدفاع والمحاكم ومجلس القضاء الأعلى، كما يتعرض للجان المنشأة حديثًا بموجب مراسيم الطوارئ للنظر في تلك التجاوزات، مثل ديوان المظالم ولجنة تظلمات حالة الطوارئ ويشير إلى أنها مسيسة أيضا بما يعني عدم جدواها.

مقدمة

هناك ما يشبه الإجماع لدى الحقوقيين والمحلِّلين على تراجع الديموقراطية بشكل متسارع في تركيا -العضو في المجلس الأوروبي (COE)-خلال السنوات الأخيرة. فهل فعلا يطبّق القانون في ظل حالة الطوارئ القائمة، وفي ظل نظامٍ بسط هيمنته على منظومة القضاء، وفي ظل رئيس لا يتوانى عن تهديد منظومة القضاء الجنائي إذا ترددت في إصدار قرارات وأحكام تقضي باعتقال منتقديه ومعارضيه؟

إن أكثر من 300 صحفي يقبعون حاليا في السجون التركية من دون أيّة تهمة أو محاكمة، لفقت لهم اتهامات من قبيل الانقلاب على السلطة أو الإرهاب أو التجسس، كما يوجد حوالي 50.000 شخص آخرين معتقلين بالتهم عينها، منهم قضاة، ونواب عموميون، ومدرسون، وأطباء، وعمال نقابات.. كل هؤلاء تم اعتقالهم خلال عام 2017 المنصرم، هذا فضلا عما يقرب من 150.000 موظف عمومي فُصلوا من وظائفهم دون إجراء أيّ تحقيق إداري أو سبب قضائي.

وفي ظل ما سبق، ترسخت قناعةٌ بأن القضاء التركي بكل درجاته وصولا إلى المحكمة الدستورية العليا الملزمة بالنظر في قضايا من انتهكت حقوقهم الأساسية، لن يتمكن –في ظل هكذا نظام- من تحقيق العدالة وتطبيق القانون والدستور، بل وصل الأمر إلى أن هذه المحاكم صارت شريكة في تغييب قيم العدالة وتضييع الحقوق، وذلك عبر عدة إجراءات إدارية متعمدة تسهم في ذلك، منها: إطالة مدة التقاضي، وتعليق القضايا إلى أجَلٍ غير مسمى، أو ربطها بملء استمارات قضائية وإجراءات إدارية متعددة تستغرق آجالا طويلة.

إن اشتراط محكمة حقوق الإنسان الأوروبية ضرورة استيفاء جميع درجات التقاضي أمام المحاكم المحلية، يقصد منه منح الدولة العضو الفرصة لتعديل وتصحيح الانتهاكات التي حدثت داخل منظومتها القضائية، حسبما أكدت على ذلك المحكمة في مناسبات متعددة[1]، ولكنَّ الواضح أن تركيا –في ظل نظامها الحالي- لا تنتوي تصحيح تلك الانتهاكات التي وقعت، بل على العكس يلاحظ تزايدا مضطردا في عمليات الانتهاك هذه، وخاصة ضد منتقدي هذا النظام ومعارضيه.

وبالعودة إلى اللائحة رقم 35، فقد نصّت محكمة ستراسبورغ على إلزام مقدم الطلب باتباع كل الطرق القضائية العادية (الطبيعية) الكافية والفعالة التي يمكن الوصول إليها. وقد أكدت المحكمة في لائحتها أيضًا على أهمية وجود قضاء محلّي ليس فقط بالصورة النظرية بل يجب أن يكون القضاء المحلّي عمليا وفعالا[2]، وأن يكون هناك فشل في العملية القضائية ناتج عن الافتقار في الوصول للحقوق أو عدم الفاعلية[3]. علاوة على ذلك، فإن المحكمة أكدت على “القواعد العامة المنظمة للقانون الدولي”، ونصت على أنه في بعض الحالات والظروف الاستثنائية ستُعفي المحكمة مقدم الطلب من شرط استنفاذ طرق التقاضي المحلية.

إن ضحايا انتهاك حقوق الإنسان في تركيا لم يحصلوا على محاكمات عادلة في القضايا المتعلقة بالاضطهاد، ومع إعلان أردوغان على الملأ عزمه ملاحقةَ واضطهاد كل من ينتمي إلى حركة كولن، نجد أن القضايا الملفقة ضد الأفراد المتهمين وراءها غرض سياسي، وتفتقر إلى تهم وأدلة حقيقية، وأن القُضاة وأعضاء النيابة العامة يمتثلون تماما للخط الذي رسمته لهم الحكومة؛ خوفا من إعفائهم من مناصبهم وفصلهم فصلا تعسفيا من وظائفهم، أو حتى اعتقالهم كما حدث لأكثر من 4.463 قاضٍ ونائب عمومي تم تسريحهم من عملهم أو اعتقالهم وتجميد أموالهم.

وبالتالي فعلى محكمة العدل الأوروبية، أن تغيث ضحايا الاضطهاد الجماعي في تركيا، وأن تعفيهم من شرط التوجه إلى القضاء المحلي الذي يقفز على القانون ويتحايل عليه، لا سيما بعدما أصبح أداة في يد السلطة القمعية التي تديرها عقلية النظام الحاكم في تركيا. وبالفعل فقد خطت محكمة حقوق الإنسان الأوروبية أولى الخطوات في هذا المجال؛ حينما فرضت على تركيا غرامة تبلغ قيمتها 21 ألف و500 يورو تدفع لكل من الصحفيين “محمد ألتان” و”شاهين آلباي”، وذلك لتعرض حقوقهما للانتهاك واعتقالهما بذريعة المشاركة في الانقلاب الفاشل. وقد صدر القرار بموافقة 6 أعضاء من محكمة حقوق الإنسان الأوروبية ورفض عضو واحد فقط. وهو ما يعد إشارة هامة إلى تنبه الاتحاد الأوروبي للانتهاكات الحقوقية التي تمارس في تركيا.

إن الأزمة الحقيقية تكمن في فقدان القضاء التركي لاستقلاله ونزاهته، فمنذ عام 2013 وبعد الكشف والتحقيق في قضايا فساد مالي ضخم، ظهر لاحقا أن أردوغان والدائرة الضيقة التي تعمل معه متورطة -وبشدة- في قضايا الفساد تلك، ومن ثم نظّم أردوغان -مستخدما صلاحياته- حملة واسعة أقال فيها كل القضاة وأعضاء النيابة العامة، وضباط الشرطة الذين تولوا التحقيق في هذه العمليات والتي أسفرت عن فساد مالي ضخم يبلغ البلايين من الدولارات، ثم بلغت هذه الحملة ذروتها عقب محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو 2016، التي اتضح فيما بعد أنها لعبة شارك فيها أردوغان من أجل توسيع نطاق عمليات القمع والاضطهاد والاعتقال الجماعي لكل مخالفيه ومنتقديه دفعة واحدة وتحت غطاء الانقلاب وقوانين الطوارئ، وقد استدعت كل هذه التطورات الدور الفرعي والإشرافي لآليات القانون الدولي ووضعته في المقدمة.

إن هذا التقرير يسعى إلى تقديم نماذج واقعية يتبين -من خلالها- أن القانون في تركيا لم يعد يطبّق، وأن القضاء التركي المحلي أصبح غير فاعل، وأن عمل المحكمة بات مقيدًا بأجندة الحكومة السياسية، فالحكومة الآن تتحكم وتتدخل في إجراءات الطعون المقدمة للسلطة القضائية العليا، وليس هذا فحسب، بل تواجه عمليةُ الدفاع نفسها مشاكل خطيرة يتمثل بعضها في عدم قدرة المحامين على التواصل مع موكليهم. وكذلك فإن لجنة المظالم التي استحدثت بمرسوم طوارئ رقم 685 يقضي بمراجعة ما يقرب من 100.000 حالة فصل تعسفي لم يعد بإمكانها أن تمارس صلاحياتها وأن تطبق قانون حقوق الإنسان في ظل ما يحدث في تركيا من انتهاكات.

إن المحددات الرئيسية لأي محاكمة عادلة تتكون من: هيئة الدفاع، وهيئة النيابة العامة، وهيئة المحكمة. وقد سقطت هذه المنظومة بكاملها في السنوات الأخيرة نتيجةً لتحويل السلطة القضائية إلى جزء تابع للسلطة التنفيذية، التي تحبط كل عمليات الدفاع عن المتهمين، وتعمل في الوقت نفسه على توظيف قضاة مؤيدين للحزب الحاكم وموالين للحكومة في هيئة النيابة العامة وأجهزة القضاء المختلفة، وتخول لهم النظر في تلك الدعاوى، وبالتالي فإن هؤلاء المعينين من الموالين في النيابة والقضاء، لن يُسمح لهم بتجاوز الخطوط التي رسمها لهم النظام، ولن يلتفتوا إلى مصداقية التهم الموجهة ضد المتهمين من عدمها. ونتيجة لكل ذلك، فقد تجاوزت السلطة التنفيذية صلاحياتها وأساءت استخدام السلطة القضائية، حيث اتخذت منها أداة لمعاقبة خصومها والزج بهم في المعتقلات دون أي اتهام أو دليل، مما يعد انتهاكًا خطيرًا لحقوق الإنسان في تركيا.

وسوف نعرض في ثنايا هذا التقرير، نماذج موثقة من تلك الانتهاكات التي طالت كل عناصر السلطة القضائية وأفقدتها استقلاليتها، وجعلتها سلطة خاضعة لأوامر وتعليمات السلطة التنفيذية.

1- الضغط على الهيئة الدفاعية

حسب المبادئ التي أقرّتها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، فإن الدفاع يمثل طرفا مهمًّا ومساويا للنيابة العامة في جلسات المحاكمة العادلة، لكن في السنوات الأخيرة بتركيا وتحت ذريعة مكافحة الإرهاب، لم يفقد محامو الدفاع قدرتهم على أداء مهمتهم في الدفاع عن موكّليهم فحسب، بل صار أداء هذه المهمة جريمة. فعقب الانقلاب الفاشل في يوليو 2016 احتجزت الحكومة التركية أكثر من 1000 محام، وتم اعتقال 114 آخرين، ووجهت إليهم مجموعة من الاتهامات من أمثال ارتباطهم بحركات اجتماعية معينة، أو الزعم بأنهم متواطئون في الجرائم الموجهة ضد المتهمين الذين يمثّلونهم، وأحيانا أخرى يكون الاتهام الموجه إليهم أنهم دافعوا بحرارة عن موكليهم.

ولم يتوقف الأمر عند حد الاعتقال، بل تعرّض هؤلاء المحامون المعتقلون في أثناء التحقيقات لضغوطات وتهديدات، وأجبروا على الاعتراف بالتهم الموجهة ضد موكّليهم، مما يعدّ انتهاكا للعلاقة الخاصة التي أقرّها القانون بين المحامي وموكّله. وبسبب هذه الانتهاكات الواسعة التي يتعرض لها الدفاع في تركيا، هرب كثير من هؤلاء المحامين خارج البلاد خوفا من التعرض لنفس المصير. وبالتالي يقبع عدد كبير من المتهمين والمحامين في المعتقلات عاجزين عن إيجاد محامين للدفاع، ومحرومين في الوقت نفسه من أبسط حقوق الدفاع عن النفس[4]. وفي تقرير أعدّته اللجنة البرلمانية لمجلس أوروبا (PACE)عنونته بـ”ضمان (تأمين) اتصال المحتجزين بالمحامين” أعربت فيه عن قلقها إزاء الوضع الحالي في تركيا، لا سيما عقب الانقلاب الفاشل. كما جاء في التقرير على لسان الصحافية “مارياتا كارامانلي” من فرنسا: “بغض النظر عن الضغوط التي يتعرض لها المحتجزون وسوء معاملتهم، فإن أكثر ما يقلق هو عدم قدرتهم على إيجاد محامي دفاع يمثلهم أمام المحكمة”[5].

الأسوأ من ذلك، هو مطالبة المحامين بأتعاب باهظة تقدّر بعشرة أضعاف الأتعاب العادية من أولئك المحتجزين الذين قبض عليهم بلا جريمة وبسبب سياسي بحت، وما يجعل الوضع أكثر مأساوية هو مصادرة الحكومة لأموال وممتلكات كثير من هؤلاء المحتجزين، دون انتظار حكم قضائي باتٍّ أو نافذ فيما وجه إليهم من اتهامات، مما يجعل مسألة دفع أتعاب الدفاع شبه مستحيلة. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أصبح من المعتاد والروتيني أن يتم الزج بمحامي الدفاع في السجن عند زيارته لموكّله، وكذلك إجبار محامي الدفاع على الانتظار لساعات قبل أن يلتقي بموكّله ولو لفترة قصيرة[6].

ومن أكثر العوامل إثارة للقلق في هذا الملف أيضا، هو عمل بعض المحامين ضد مصلحة موكّليهم، فقد خاب أمل عدد كبير من المتهمين ممن تقدموا بطلبات وجهزوا ملفات من أجل تقديمها للمحكمة الدستورية؛ حيث اكتشفوا أن المحامين الممثلين لهم لم يتقدموا بهذه الملفات إلا بعد انقضاء المهلة القانونية، مما أضرّ بحقوقهم في التقاضي العادل.

لقد أصاب اليأس عددا كبيرا من حالات ضحايا انتهاك حقوق الإنسان، بسبب استحالة العثور على محامي دفاع يمثلهم ويقدم طلباتهم أمام المحكمة الدستورية أو أية محكمة تركية للعوامل السابق ذكرها ولما سنورده من أسباب لاحقة.

1/1 الحواجز الأيدولوجية

من أهم العوامل التي تقوض حقوق المتهمين وتحول دون ممارستهم لحقوقهم في الدفاع عن أنفسهم، التوجهات السياسية والنزعات الأيدلوجية لدى فريق من المحامين ونقاباتهم التي تمثلهم، حيث تفرض تلك العوامل نفسها عليهم وتؤثِّر على مهنيتهم. فكثير من هؤلاء المؤدلجين يميلون إلى تأييد الحكومة في سياساتها ضد معارضيها، ويتبنون تلك الإجراءات ويرجحون ذلك على ما يقتضيه ميثاق الشرف القانوني من الدفاع عن المتهمين بجرائم واتهامات خطيرة تنسبها إليهم الحكومة، فمن ذلك -على سبيل المثال- تصريحات “محمد صاري” رئيس جمعية الوحدة القضائية (YBD)-وهي مجموعة موالية للحكومة- التي قال فيها على الملأ: “إن عشرات الآلاف من الأشخاص الذين قبضت عليهم الدولة عقب أحداث الانقلاب الفاشل، ليس لديهم أي حق في الدفاع عن أنفسهم”، وقال أيضا: “كثير من الناس يبحثون هذه الأيام عن محامي دفاع لأقربائهم الذين اُعتُقلوا بتهمة محاولة الانقلاب، وما نسميه بحق الدفاع فهو حق للبشر باعتبارها كائنات تفكر، وما يسمونه في الغرب بكرامة الإنسان لا يمكن أن يستفيد منه جناة الانقلاب، لأن الكرامة تكون للإنسان أما هؤلاء فلا نعتبرهم بشرا أصلا، لذلك نرفض طلباتهم ولن نقبلها بأية حال”.

بل يذهب إلى أبعد من ذلك، حيث يصرح برفض القانون الذي يُلزم المحكمة بتعيين محامي دفاع عن المتهم في حالٍ عجزَ عن إيجاد محام يمثله أمام القضاء طبقاً لما ينص عليه “قانون الإجراءات الجنائية”، ويلزم القانون نقابةَ المحامين بتعيين هذا المحامي إذا طلبت المحكمة، وعليه أن يتواجد في المحكمة قبل أن تبدأ الجلسات. لكن صاري يرفض في تصريحات له امتثال النقابة لهذا القانون مرددا: “نحن -جمعية الوحدة القضائية- نؤمن بأن هؤلاء المتهمين ليس لهم أي حق في الدفاع عن أنفسهم، ومن ثم يجب ألا يُعامَلوا طبقًا لما ورد في قانون الإجراءات الجنائية”[7].

وفي خطاب مشابه خلال مراسم انتهاء فترة رئاسته نقيبا لمحامي نقابة إسطنبول قال كوجاساكال: “يطلبون منَّا أن نُرسل إليهم محامي دفاع، نحن لن نرسل إليهم، هل يظنوننا حمقى؟”[8].

لا شك أن تصريحا كهذا يصدر من نقيب سابق لواحدة من أكبر نقابات المحامين على مستوى العالم تضم 26.000 محام، قد مثَّل صدمة حقيقية للكثيرين، وهو دليل دامغ في حد ذاته على تعرض حقّ الدفاع أمام المحاكم للانتهاك، بالإضافة إلى أن نقابة المحامين قد ألغت النسبة التي يشترطها القانون لانتداب محامين يمثلون المتهمين في حال عدم وجود من يمثلهم في الدفاع، وبذلك صار المدانون بلا ممثل دفاع في أثناء جلسات المحكمة. ويرجع ذلك إلى العوائق الأيدلوجية والضغوطات التي تمارسها الأحزاب السياسية على الموالين لهم[9].

1/2 عجز المحامين عن وقف تعذيب المشتبه بهم

لقد سجلت مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة هيومان رايتس ووتش (HRW)حالات التعذيب في السجون التركية في تقريرها الذي عنونته بـ”شيك على بياض: ضمانات تركيا بعدم استخدام التعذيب بعد الانقلاب”[10]. وقد احتوى التقرير على بعض الحوادث التي عجز فيها محامو الدفاع عن وقف تعذيب موكليهم في أقسام الشرطة.

ففي إحدى هذه الحالات ذكرت محامية تركية لمنظمة حقوق الإنسان، أن موكلها تعرّض للضرب بالعصا على وجهه وفي أماكن عدة من جسده، وهو مقيّد اليدين لا يستطيع الدفاع عن نفسه، ولم تستطع هي أيضا أن توقف ما يتعرض له موكلها من تعذيب، ووصفت ذلك بالقول: “…وفي لحظة، لم أعد أتحمل أن أشاهد ما يحدث لموكلي وأدرت وجهي، لقد كان وضعًا مريعًا؛ لم يعد باستطاعتي إحصاء الضرب الذي وُجِّه إليه، وما كان بإمكاني وقف ما يتعرض له من تعذيب، وفي النهاية استلبوا منه الاعتراف الذي أرادوه”. لقد أخبرت المحامية مفوضية حقوق الإنسان أنه في الأحوال العادية لا يعول على أي أقوال تنتزع تحت التعذيب، أو يُدون ذلك كملحوظة في التقرير الذي يُقدَّم إلى المحكمة، ولكنها ما استطاعت أن تفعل هذا ولا ذاك لخوفها الشديد من العاقبة الوخيمة التي قد تتعرض لها.

تقول المحامية: “كان العنف والتعذيب في كل مكان، ولم يكن ضباط الشرطة سعيدين لرؤيتي على الإطلاق، وكانوا يقولون: “لِمَ يحتاج هؤلاء إلى محامٍ؟”. وقالت المحامية: “في أثناء جلسة الاستماع، لم يذكر ضابط الشرطة ما مارسوه من تعذيب للمتهم في أثناء احتجازه، ومن بعد هذه الحادثة لم أعد أقبل قضايا جديدة كهذه”.

1/3 قضايا تم التعدّي فيها على المحامين

حالات الاعتداء الجسدي التي يتعرض لها المحامون، هي جزء من حملات التخويف والإرهاب التي تقوم بها الحكومة ضد المحامين والمدافعين عن حقوق الإنسان. “توجاي بك” هو واحد من هؤلاء المحامين الذين تعرضوا للاعتداء في سبتمبر 2016، وهو أحد المدافعين عن حقوق الإنسان ورئيس لجنة مراقبة السجون في نقابة المحامين بمحافظة “أضنة”، وقد ذكر رئيس نقابة المحامين في أضنة “ولي كوجوك”، أن “توجاي” تعرض للضرب المبرح على أيدي 40 شرطيًّا، انقضوا عليه بالقبضات والركلات وهو مقيدٌ من خلف ظهره، وانهالوا عليه بالشتم والسباب[11].

وفي حادثة أخرى تعرض المحامي “إبراهيم أرن” للضرب والتقييد من الخلف، وعندما قامت الشرطة بمداهمة مكتبه سألهم: هل معكم إذن بالتفتيش؟ فكانت الإجابة أن انهال عليه 10 ضباط شرطة بالضرب، وأجبروه على أن ينام على الأرض، وقيدوا يديه من الخلف ووضعوا أحذيتهم فوق رأسه[12].

تذكر اللائحة 13 المنظمة لحقوق وسلطة الضباط، أنه يمكن تقييد الشخص من الخلف فقط في حالة ما إذا قرر الفرار أو مهاجمة الشرطة، أما في الأحوال العادية فالإجراء المفترض اتباعه ليس فيه أي تقييد لليدين. فمثلا، أغلب الحالات التي قُبض فيها على أشخاص يشتبه في انضمامهم للدولة الإسلامية (داعش) لم تقم الشرطة أثناء القبض عليهم بتقييد أيديهم، بينما أصبح تقييد المحامين من الخلف سلوكًا عاديًّا في تركيا، وينظر له كنوع من العقاب الذي يسبق المحاكمة.

1/4 فرض قيود جديدة بدعوى حالة الطوارئ

إن حقوق المتهم في الدفاع أمام القضاء قد تعرضت -بسبب ما سبق- لانتهاكات أزالت كل أثر للمحاكمات العادلة، ولم يتوقف الأمر عند ذلك وكأنه لم يكن كافيا، بل لقد تقدمت الحكومة بمشاريع قوانين تفرض قيودًا جديدة على هذه الحقوق، فإذا استطعت أن تجتاز عوائق التواصل مع محامي دفاع، فهذا أيضا مع الأسف لن يسهم في حل هذه المعضلة؛ فالتعديلات التي تم إجراؤها على التشريعات القانونية، من شأنها تقليص صلاحيات وحقوق المحامين في الدفاع عن موكليهم، ومنعهم من القيام بعملهم بصورة فعَّالة. ونشير هنا إلى نموذج من هذه التغييرات وهو مرسوم طوارئ رقم [13]676، فطبقًا لهذه التعديلات انتفت خصوصية اللقاء الذي يعقده المحامون مع موكليهم، وأصبح من حق السلطة تسجيل كل هذه اللقاءات والتأكد من وجود ضابط مسؤول لحضور اجتماع محامي الدفاع بموكله، وللسلطة أيضا أن تصادر ما تراه من مستندات وتقوم بمحوها إن أرادت، ولها كذلك الحق في منع المحبوس على ذمة التحقيقات احتياطيًّا من مقابلة من لا ترغب فيه من محامي الدفاع، وأي محامي خضع من قبل للتحقيق أو المحاكمة، ليس له الحق في الدفاع عن موكله[14].

وكذلك لم يعد إجراء تحقيق مع أي محامٍ أمرًا سهلاً فحسب، بل لقد رُفعت الحصانة التي كان يمنحها القانون للمحامين، ومن ثم أمكن منع المحامين من تقديم المشورة القانونية من خلال إجراء تحقيق تعسفي معهم، وصارت مداهمة مكاتب المحاماة والقبض على المحامين أمرًا سهلاً، بعدما كانت الحصانة القانونية تمنع ذلك.

ولم يعد أيضا من حق هيئة الدفاع التدقيق في أوراق القضية، وليس لهم أدنى حق في استخراج نسخة منها، وأصبح منع المحبوس احتياطيًّا من رؤية محامي الدفاع لخمسة أيام على التوالي أمرًا قانونيًّا.

وعند اعتقال مشتبه به، فللسلطة الحق الكامل في منعه من رؤية محاميه لمدة ستة أشهر، بل للسلطة الحق في منعه من اختيار محامٍ لا ترغب فيه، وبهذا بطلت حرية المتهمين في اختيار من يمثلهم في الدفاع. كما بطل اشتراط ذكر الادعاء الموجَّه للمدعى عليه في أثناء جلسات المحاكمة، وتم منع المتهم من حقه في معرفة الاتهامات الموجهة إليه حتى في قاعة المحكمة. فعلى سبيل المثال، خلال محاكمة 270 محتجزًا في 31 يناير 2017 أمام محكمة أزمير، طلب المحتجزون من القاضي الذي يمثلون أمامه، معرفة الاتهامات الموجهة إليهم، لأنه لم يتم إخبارهم بطبيعتها، فتلا عليهم القاضي 14 صفحة هي ملخص الاتهامات، أما عريضة الدعوى فكانت مسجلة في 1300 صفحة[15].

كما صدر مؤخرًا مرسوم طوارئ بإغلاق مؤسسات حقوقية عريقة دون حاجة لانتظار حكم من المحكمة، وفور صدور هذا القانون تمت مداهمة هذه المؤسسات وكُسرت أبوابها، وتم الاعتداء بالضرب في بعض الحالات على المحامين العاملين في هذه المؤسسات.

1/5 تقارير المنظمات الحقوقية ونقابات المحامين الدولية

لقد احتشدت المنظمات الدولية المتخصصة وأصدرت مذكرات قلق، وشجبت ما يحدث في تركيا، وطالبت الحكومة التركية بوقف الحملات المنظمة ضد المحامين، وطالبت أيضا بإخلاء سبيل المسجونين منهم، وأصدر “نيلس موزينيكس” مفوض المجلس الأوروبي لحقوق الإنسان (COECFHR)مذكرةً أدان فيها القيود المفروضة على المحامين وتواصلهم مع موكليهم، كما أدان القيود التي تعوق خصوصية العلاقة بين محامي الدفاع وموكله[16].

كما أرسل رئيس مجلس نقابات المحامين والجمعيات القانونية الأوروبية (CCBE)“ميتشل بينتشو” خطابًا للرئيس رجب طيب أردوغان بخصوص إطلاق سراح نائب رئيس جمعية الحقوقيين “منيب أرميش” و 22 محاميًا آخرين[17]. وطالب “بينتشو” الحكومة التركية باتخاذ الخطوات اللازمة لإخلاء سبيل المحامين المحتجزين، وتمكينهم من ممارسة عملهم وتمثيلهم لموكليهم أمام القضاء. وجاء في الخطاب: “على الحكومة التركية تحت كل الظروف، أن تمكن المحامين من ممارسة عملهم، دون الخوف من احتجازهم أو القبض عليهم، ودون معوقات ومضايقات”.

وفي السياق ذاته وجهت النقابة الفيدرالية الألمانية للمحامين (GFBA)انتقادات لاذعة لاحتجاز العاملين في مجال القانون، وأرسل رئيس النقابة “أكهارت سكافر” خطابًا لوزير العدل التركي “بكير بوزداغ” أعلن فيه عن قلقه الشديد تجاه إغلاق مؤسسات المجتمع المدني واعتقال المحامين[18]. وكذلك توجه “أندريه ماتشرين” رئيس النقابة الوطنية الإيطالية (NCOBA)-وهي نقابة تضم في عضويتها 250.000 محام ولها أكثر من 139 فرعًا في إيطاليا– بخطاب رسمي إلى وزير العدل التركي، انتقد فيه الأعمال غير القانونية التي تمارسها الحكومة ضد المحامين[19].

وأدان الخطاب بشدة الطريقة التي تعاملت بها السلطات التركية مع المحامية “باربرة سيبيناللي”، حيث احتُجزت في “مطار صبيحة جوكشن” لأكثر من 17 ساعة قبل أن يتم ترحيلها من تركيا، بعد أن قَدِمَت من أجل المشاركة في مؤتمر دولي بعنوان “النظام القضائي التركي في ظل حالة الطوارئ”، والذي عقد في 14/15 من يناير [20]2017. كما انتقد الخطاب بشدة إغلاق الحكومة للمؤسسات الحقوقية، وزج الحقوقيين والمحامين في السجون.

وفي خطاب مشترك أرسله كلٌّ من مجمع حقوقيِّي إنجلترا وويلز ونقابة محامي إنجلترا وويلز، ومجمع حقوقيِّي إسكتلندا واللجنة العامة لنقابة المحامين الإسكتلندية، ومجمع حقوقيِّي شمال إيرلندا وكذلك نقابة محامي إيرلندا، وكذلك مجمع حقوقيِّي إيرلندا ونقابة المحامين الخاصة بها، تضمّن خطابهم القلقَ الشديد إزاء تردِّي الأوضاع في تركيا، لا سيما الفصل التعسفي لأزيد من 4000 قاضٍ ووكيل نيابة[21]. كما أكد المحامون البريطانيون على المبدأ الذي قررته الأمم المتحدة المتعلق بـ”استقلالية القضاء”، وعلى مبدأ الأمم المتحدة الذي ينص على “أهمية دور المحامين”، وطالبت بإعادة القضاة الذين تم فصلهم تعسفيًّا إلى عملهم، وكذلك وكلاء النيابة، وإخلاء سبيل المحامين المحتجزين.

-2 الضغط على الهيئة القضائية

لقد تعددت أشكال الضغوط على الجهاز القضائي بأكمله ما أفقده استقلاله ونزاهته، وحولته إلى جهاز خاضع للسلطة التنفيذية عبر وسائل وآليات متعددة وممنهجة، بدءًا من عام 2013 بعد الكشف عن فضائح الفساد المالي الضخم الذي طال عددا من الوزراء وأبنائهم في النظام الحاكم، حتى بلغ ذروته بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016 التي مكنت النظام التركي الحاكم من تنفيذ كل أجندته، وقد تم له كل ما أراد من خلال ما يلي:

2/1 الفصل التعسفي الجماعي

إن ممارسات الفصل التعسفي للقضاة ووكلاء النيابة واعتقالهم، أنشأ جوًّا من الضغط أدَّى إلى تطورات خطيرة تَحُدُّ من حصول الأفراد على محاكمات عادلة في تركيا، وأدى إلى عدم حصول الأفراد على حقوقهم أمام القضاء المحلي. فأكثر من 4.400 قاض ووكيل نيابة تم فصلهم تعسفيًّا من وظائفهم، وما يقارب الثلثين منهم شُطبت عضويته من النقابة يوم 16 يوليو 2016 وهو اليوم التالي لمحاولة الانقلاب، كما جمَّدت الدولة حساباتهم البنكية قبل أن توجِّه إليهم أي اتهامات، وأذاعت الدولة أسماءهم في وسائل الإعلام فأصبحوا مدانين قبل أن يَعرفوا ماهية التهم الموجهة إليهم.

ولمزيد من الاضطهاد الجماعي، فصلت الحكومة أزواجهم أو زوجاتهم من العاملين والعاملات في القطاع الحكومي، واستولت على مدخراتهم وممتلكاتهم، ورُفعت عن القضاة الحصانة التي يقررها لهم القانون. وصار أي وكيل نيابة يرفض أن يُعامِل المحتجزين معاملة سيئة، أو أي قاض يرفض إعطاء إذن اعتقال من تطالبت الحكومة اعتقاله، يعامَل على أنه خائن.

وبعد ساعات قليلة من محاولة الانقلاب الفاشل، أصدر المجلس الأعلى للقضاء (HSYK)قائمة تضم 2745 قاضيا ووكيلا للنيابة العامة، حيث تم إيقافهم عن عملهم وأجري التحقيق معهم في إطار ما وصفته الحكومة بـ”منظمة كولن الإرهابية/الدولة الموازية”. ثم ألقت الشرطة القبض على هؤلاء القضاة ووكلاء النيابة المذكورين في القائمة، وبعد ذلك تصاعد العدد حتى بلغ 4463 من القضاة ووكلاء النيابة. وبهذا فُصِل من القضاة ووكلاء النيابة ما يقارب الـ 30% من إجمالي العاملين في السلطة القضائية، وهم آنذاك 14.661. أما الذين تم اعتقالهم فهم يمثلون 17.6% من إجمالي القضاة ووكلاء النيابة العاملين في تركيا.

لقد أدت هذه الممارسات القمعية إلى احتجاج دولي كبير، فخبيرة الأمم المتحدة “مونيكا بينتو” ومفوض الأمم المتحدة لاستقلال القضاء “كريستوف هاينس” ومفوض الأمم المتحدة عن التعذيب وسوء معاملة المسجونين “دافيد كاي” ومفوض الأمم المتحدة عن حرية التعبير “ستوندجي رونالد، و”جين بابتيست ادجوفي”، طالبوا جميعًا تركيا باحترام حرية القضاء ومبادئ القانون لا سيما وقت الأزمات، وطالبوا السلطات التركية بالحفاظ على حرية المحتجزين في اختيار محامي دفاع يمثِّلهم أمام العدالة[22].

وفي 12 ديسمبر 2016 أعلن وزير العدل التركي “بكير بوزداغ” أن الذين رُفعت ضدهم دعاوى قضائية من القضاة ووكلاء النيابة، وصل عددهم إلى [23]3820 وأن 2430 منهم لا زالوا في السجون، ولأجل ذلك تم فتح باب التعيين لـ3940 قاضيا ووكيل نيابة جدد، وقد أعدت الحكومة معايير اختيارهم بنفسها[24]. بالإضافة لهذا، فإن كثيرًا من القضاة الذين تم اختيارهم للنظر في قضايا بعينها، كانوا ينتمون لحزب العدالة والتنمية الحاكم، وهو مما يؤثر بالطبع على استقلالية القضاء، ويجعل هذه المحاكمات مسيسة.

وجدير بالذكر أنه في الوقت الحالي، يقبع الآلاف من الناس في الحبس الاحتياطي خلف القضبان، دون أن يعرفوا ماهية التهم الموجهة ضدهم. ومن جانب آخر، فإن الحكومة التركية تستخدم الحبس الاحتياطي كنوع من العقاب لغير المدانين. وطبقا للقانون، لا يجب إيداع المشتبه به في الحبس الاحتياطي لفترة طويلة متى أصبح ملف اتهامه جاهزًا، ولذلك نجد السلطات تتعمد التأخير في الانتهاء من إعداد ملفات الاتهام، ليظل المتهم في الحبس الاحتياطي أطول فترة ممكنة.

2/2 القبض بمجرد الاشتباه

مع تمتع القضاة ووكلاء النيابة بحصانة قضائية لحساسية عملهم، فإن ذلك لم يحلْ دون إلقاء القبض عليهم بصورة تعسفية بلا سبب ولا دليل، ومع أنه من المفترض وجود ضمانات قانونية أخرى تحميهم من الفصل التعسفي منعًا من تغول السلطة التنفيذية في أعمال السلطة القضائية، إلا أن كل هذه المبادئ القانونية الأساسية سُحقت ولم يعد لها وجود في تركيا. فالإجراءات القانونية والإدارية لم تعد تُحترم، ولم يعد هناك تأييد لحق الدفاع أمام المحكمة، وكثير من القضاة يشعرون بأنهم ملزمون بإصدار قرارات اعتقال بحق زملائهم القضاة، أو عدم إطلاق سراحهم لئلا يلاقوا المصير ذاته.

وفي أثناء الاستجواب لا يُسأل الشخص عن التهم الموجهة ضده، فورود اسم القضية في القائمة التي أصدرها المجلس الأعلى للقضاة ووكلاء النيابة في حد ذاته كاف للاشتباه في القاضي أو وكيل النيابة والقبض عليه، هذا فضلا عما يعانيه هؤلاء المعتقلون من القضاة ووكلاء النيابة من صعوبة في إيجاد محام يمثلهم أمام القضاء[25].

وفي البيان الذي أصدره نائب رئيس المجلس الأعلى للقضاة ووكلاء النيابة “محمد يلماز”، أكبر دليل على أن فصل القضاة من عملهم كان تعسفيَّا، حيث يقول فيه: “لقد أصدرت بيانًا مفاده أن القضاة ووكلاء النيابة الذين سيرشدون عن آخرين بأنهم ينتمون للكيان الموازي سيخفف عنهم العقوبة، ولقد نجحنا في ذلك بصورة كبيرة؛ فلقد أرشد 200 من القضاة على أكثر من 2400 قاض ووكيل نيابة”[26].

إن هذا البيان يؤكد أن هؤلاء القضاة المقبوض عليهم قد تم تصنيفهم مسبقا. كما يدلل على أن كل القضاة الذين تم فصلهم بشبهة الانتماء لما يسمونه “الكيان الموازي”، لن يعودوا لوظائفهم بأي حال من الأحوال. وقد أقرّ “يلماز” في هذا البيان -أيضا- بعدم وجود أدلة تثبت أن أيًّا من هؤلاء القضاة شارك في محاولة الانقلاب الفاشلة[27]، وهو بهذا يعترف بأن القضاة الذين تم فصلهم واعتقالهم ليس لهم أي علاقة بالانقلاب، وكذلك لم يثبت انتماؤهم لأي تنظيم إرهابي.

إن القانون التركي رقم 2802 ينصّ على أنه “لا يجوز القبض على القضاة ووكلاء النيابة إلا في حالة تلبسهم بجناية ذات عقوبة مشددة”، لكن ما حدث، هو أن قضاة تركيا قد تم اعتقالهم في اليوم التالي من محاولة الانقلاب الفاشلة، دون وجود دليل على أنهم شاركوا فيه بأي شكل من الأشكال، فضلا عن أنه في الوقت الذي قبض فيه عليهم، لم يثبت انضمامهم لأي تنظيم إرهابي، أما ما يُزعم ظهوره من أدلة ملفقة بعد خمسة أشهر من حبسهم، فهي ليست أكثر من اعترافات انتزعت من معتقلين تحت التعذيب.

وخلاصة ما سبق؛ إن هناك قضاة ووكلاء نيابة تم اعتقالهم من غير وجه حق، ودون أدلة قاطعة أو حالة تلبس، وذلك بالمخالفة للقانون. فطبقًا للائحة رقم 95 من القانون رقم 2802 أنه في حالة القبض على العامل في الهيئات القضائية، فإن من حقِّه أن يعرف الاتهامات الموجهة ضده خلال خمسة أيام، وأن تعقد له جلسات محاكمة خلال 3 أشهر من يوم القبض عليه. وقد مر حتى الآن ما يقارب العامين على اعتقال القضاة ووكلاء النيابة، ولم يتم الانتهاء من إعداد مذكرة الادعاء الموجهة ضدهم.

2/3 القضاة ما بين العصا والجزرة

هناك شبه إجماع من المتابعين لما يحدث في تركيا، بأن القضاة يقبعون تحت ضغط عام وضغط خاص من الرئيس رجب طيب أردوغان، ولقد ذكرت كثير من التقارير التي أعدتها المجموعات الحقوقية والمنظمات غير الحكومية والمنظمات الحكومية الدولية، أن القاضي الذي يعارض القرار الموجه إليه من أردوغان يصبح مستهدفًا وعرضة للاعتقال والحبس، وأن من يخضع لما تمليه عليه الحكومة من أوامر –وإن كانت مخالفة للإجراءات القانونية المتبعة- يتم مكافأته وترقيته.

ومما يؤكد ذلك أنه وبعد عودته من زيارته لأوكرانيا 20 مارس 2015 ذكر الرئيس أردوغان في تصريحات أدلى بها: “إننا نراقب بدقة كل القضاة الذين ينظرون في القضايا المتعلقة بمنظمة الكيان الموازي”، وفي يوم 26 يوليو 2015 نشرت جريدة “صباح” -وهي جريدة موالية للحكومة ويسيطر عليها أفراد من عائلة أردوغان- مقالا بعنوان: “الحد من قوة وسلطة القضاة الذين يرفضون اتخاذ موقف عدائي تجاه الدولة الموازية”[28].

أما القضاة الذين ترأسوا دعاوى ضد الرئيس أردوغان في المحكمة الجنائية العليا، فقد خفضت درجاتهم الوظيفية، فضلا عن ورود أسمائهم في القائمة المعدة سلفا من قبل المجلس الأعلى للقضاء لفصل 2.664 قاضيا ووكيل نيابة[29].

وفي 12 مايو 2015 شطب المجلس الأعلى للقضاء، قاضيا وأربعة وكلاء نيابة من النقابة، كانوا قد شاركوا في تحقيقات الفساد الكبرى في الفترة من 17-25 من ديسمبر 2013، التي أسفرت عن تورط عدد من وزراء الحكومة وأبنائهم، كما طالت الاتهامات أردوغان وأفرادًا من أسرته.

وفي 29 مايو 2015 نشر رئيس تحرير جريدة جمهوريت “جان دوندار”، تحقيقا صحفيا يتحدث عن شاحنات كانت في طريقها للعبور إلى الأراضي السورية، محمّلة بأسلحة ثقيلة لتسليح الدولة الإسلامية (داعش)، وورد في التحقيق أن جهاز الاستخبارات التركي (MIT)هو المسؤول عن حمولة هذه الشاحنات. وبعد نشر هذا التحقيق، خرج الرئيس أردوغان في أحد البرامج التلفزيونية متوعدا هذا الصحفي بالقول: “لن أترك الشخص الذي أعدّ هذا التقرير دون عقاب، وسيدفع ثمن ما فعل”[30]، وأصدر على إثر ذلك نائب المدعي العام “عرفان فيدان” -وهو صديق لأردوغان- قرارًا بالقبض على كل من “جان دوندار” وزميله “أردم جول”، وتم القبض عليهما من قبل محكمة الصلح الجزائية يوم 26 نوفمبر2015.

وفي سياق تدخل السلطة التنفيذية في عمل القضاء، تم نقل كل من القاضي “ألتار جوكتشيمن” والقاضي “أرسين أوغوتالان” من مقر عملهما إلى محافظة أخرى، بعدما أصدرا حكمًا ضد أحد أصحاب مناجم التعدين المقربين من أردوغان[31]، فقد كانت ملابسات القضية تدور حول حق الحكومة في منح ترخيص للتنقيب عن الذهب والنحاس في أكثر المناطق جمالا وخضرة في شمال تركيا. ورغم الوقفات الاحتجاجية التي نظمها مهتمون بالبيئة لإلغاء هذا الترخيص الذي منحته الحكومة لمقربين من الرئيس أردوغان ووقف أعمال التنقيب حفاظا على البيئة، فإن الحكومة لم تلق بالا لتلك الاحتجاجات. ثم تم رفع الأمر إلى القضاء الذي قضى بإلغاء هذا الترخيص ووقف أعمال التنقيب، لكن بسبب تدخل الرئيس أردوغان، لم ينفذ هذا الحكم وتم التعامل معه كأن لم يكن، وعوقب القضاة الذين أصدروا هذا الحكم بالعقاب السابق ذكره.

 ومن الأمثلة -أيضا- على التدخل الصارخ في عمل السلطة القضائية، القبض على القاضيين “متين أوزجليك” و”مصطفى بشر” في 30 أبريل و 1 مايو 2015 لقرارهما بالإفراج عن 63 شخصًا محبوسين احتياطيَّا، ومن ضمنهم الصحفي “هدايت كاراجا” رئيس “مجموعة سمان يولو” الإعلامية، وكذلك الإفراج عن زوجاتهم، وعن باحثين أكاديميين.

لقد فقد هذان القاضيان وظيفتيهما أولا، وتم اعتقالهما مع حملة إعلامية شعواء أطلقتها السلطات الحكومية على القضاة، علّق فيها المتحدث الرسمي باسم الحكومة على ما حدث لهما بالقول: “كيف يَتَجَرَّآن على الإفراج عن المشتبه بهم؟”[32]. ونتيجة لهذا الضغط فإن قرار الإفراج عن المتهمين لم ينفَّذ، وتم القبض على القاضيين اللذين أصدرا القرار بعد خمسة أيام. هذه أمثلة واضحة على الضغط الذي يتعرض له القضاة من قبل السلطة التنفيذية.

لقد أعلنت اللجنة الأوروبية المنعقدة في فينسيا (COEVC)على قرار القبض على القاضيين وقالت: “لم يقتصر الأمر على عدم تنفيذ حكم صحيح ونافذ صدر عن هيئة المحكمة، بل تعدَّى ذلك إلى تعليق عضوية القاضيين اللذين أصدرا هذا الحكم وبعد يومين فقط من قبل المجلس الأعلى للقضاء، مما سهل من عملية إلقاء القبض عليهما”. كما أدانت اللجنة رئيس الغرفة الثانية للمجلس الأعلى للقضاء لتصريحه: “إننا نعتذر للشعب على تأخرنا في اتخاذ الإجراءات اللازمة ضد هؤلاء القضاة”[33].

وخلال الجلسة التي أُعدت للنظر فيالمقبوض عليهم من القضاة يوم 24 يوليو 2015 أمام المحكمة الجزائية الثانية، اقترحت القاضية “نيلجون جولدالي” حكما بالإفراج عن القاضيين، وبعد يوم واحد قام المجلس الأعلى للقضاء بنقلها وإبعادها عن المحكمة[34].

وفي الوقت الذي يتم فيه التنكيل بالقضاة الذين يصدرون أحكاما وقرارات لا تتطابق مع ما تراه السلطة التنفيذية الحاكمة، يتم ترقية وتكريم قضاة آخرين أصدروا أحكاما تلائم أهواء السلطة؛ فمن ذلك، ترقية “خولوصي بور” قاضي محكمة الصلح الجزائية رقم 2 رئيسا لمحكمة إسطنبول الجنائية العليا رقم 17 بعدما كان قاضيا من الدرجة العادية، وذلك عقب إصداره قرارا بإخلاء سبيل 6 أشخاص، منهم الرئيس التنفيذي لبنك الشعب التركي الذي ألقي القبض عليه عقب تحقيقات الفساد المالي الضخمة في 17 ديسمبر 2013، وكذلك إطلاق سراح “عبدالله حباني” الذي كان يعمل مع الإيراني الأصل “رضا ضراب” أحد المتهمين الرئيسين في قضايا الفساد المالي 2013، والخاضع حاليا لقانون حماية الشهود في الولايات المتحدة الأمريكية لاعترافه بارتكابه ومسئولين بارزين في النظام التركي الحاكم بعمليات غسيل أموال عالمية والمساعدة على خرق العقوبات الدولية المفروضة على إيران.

ومن ذلك أيضا، ترقية وكيل نيابات إسطنبول “محمد دمير” إلى منصب نائب رئيس النائب العام في منطقة “بكير كوي” بإسطنبول، وذلك إثر افتعاله تحقيقًا ضد رئيس حزب الشعب الجمهوري “كمال كليجدار أوغلو” بعدما قرأ علنا تسجيلات صوتية مسرّبة لمكالمة بين أردوغان ونجله “بلال” تتعلق بقضايا الفساد المالي السالف ذكرها، حيث رفع “بلال” دعوى ضد “كمال كليجدار أوغلو”، ورغم الحصانة البرلمانية التي يتمتع بها الأخير، فإن ذلك لم يمنع “محمد دمير” وكيل نيابة إسطنبول من استدعائه ليدلي بإفادته كمشتبه به[35].

وفي المقابل فإن “مراد أيدن” القاضي في “كارشي ياكا” بأزمير ونائب رئيس جمعية القضاة ووكلاء النيابة (YARSAV)، قد أعيد انتدابه ونفيه إلى مدينة “طرابزون” أقصى شمال البلاد، بعدما طالب المحكمة الدستورية بإلغاء نص القانون المتعلق بـ”الإساءة إلى رئيس الجمهورية”[36].

والجدير بالذكر أن هذه الجمعية (YARSAV)قد تم إغلاقها واعتقال رئيسها “مراد أصلان” بقرار من السلطات الحاكمة، بعدما كانت الوحيدة في تركيا التي لها اعتماد دولي، كما كانت بمثابة الند الحقيقي للمجموعة الموالية للرئيس أردوغان في جمعية الوحدة القضائية (YBD)داخل منظومة السلطة القضائية. وهكذا تم إخضاع النظام القضائي تماما -على كافة الأصعدة- لسيطرة السلطة التنفيذية الممثلة في حكومة أردوغان[37].

أما القاضية بالعاصمة أنقرة “عائشة نشا جول” التي ترشحت كعضو مستقل في انتخابات المجلس الأعلى للقضاء (HSYK)، وحصلت على دعم 4816 قاضيا ووكيل نيابة، فقد تم نقلها مباشرة بعد انتهاء الانتخابات بـ45 يومًا إلى مدينة “أدرنة” الحدودية من غير أن تطلب مثل هذا النقل.

وبعد فترة قصيرة من الانتخابات التشريعية العامة بالبلاد التي أجريت في الأول من نوفمبر 2015، قامت منصة البث الفضائي (DIGITURK)بضغط من السلطة الحاكمة، بإزالة ترددات بعض القنوات الفضائية إثر انتقادات وجهت للحكومة عبر هذه الفضائيات، ثم توجه أصحاب هذه القنوات إلى القضاء الذي أصدر حكما بعدم قانونية إلغاء البث، فقامت السلطات مباشرة يوم 7 نوفمبر 2015 بنفي القاضي “مصطفى جولاك” الذي نطق بهذا الحكم، إلى مدينة “تشوروم” في أقاصي البلاد[38].

كما تم اعتقال القاضي “سليمان كراجول” الذي شارك في تحقيقات الفساد المالي الشهيرة في 17-25 ديسمبر 2013 بذريعة عضويته في جماعة إرهابية وسعيه إلى قلب نظام الحكم[39].

وقد وجهت مفوضية فينسيا انتقاداتها لتركيا لاعتقالها قضاة شاركوا في واحدة من أهم قضايا الفساد المالي، وقالت المفوضية: “إن الحكومة لم تفشل فقط في تطبيق القرارات القضائية النافذة والصحيحة قانونًا التي صدرت من قضاة ووكلاء نيابة، بل تمادت في فشلها كذلك عندما اعتقلتهم مما يعد إجراء غير طبيعي وغير مفهوم”[40].

كما ظهرت أيضا إجراءات غير طبيعية في دولة يفترض أنها دولة قانون، ففي حالات مسجلة داهمت قوات الشرطة جلسة المحكمة وقبضت على القاضي أثناء أداء عمله، ولا تفسير لذلك إلا بأنه حملة منظمة لتخويف وإرهاب القضاة المستقلين، بينما في الحالة الطبيعية لا يمكن حدوث ذلك[41].

وفي نموذج آخر اعتقلت السلطات التركية الصحفية الألمانية “فريدريكا جيردينك” التي كانت تغطي الأحداث في مدينة “ديار بكر”، بتهمة “القيام بدعاية إرهابية”، إلا أن السلطات أطلقت سراحها عقب انتقادات لاذعة وجهها وزير خارجية ألمانيا لها أثناء زيارته لأنقرة، واتضح فيما بعد أن اعتقالها كان بدعوى الإساءة لزوجة الرئيس التركي، ورغم إخلاء سبيلها لم تسقط الدعوى الموجهة ضدها، وحكمت المحكمة عليها بالسجن خمس سنوات، والشاهد في هذا النموذج أن القضاة الذين أصدروا حكما بحبس هذه الصحفية تمت ترقيتهم للموقع الذي يطلبونه، بينما تم فصل قضاة آخرين طالبوا بالإفراج عنها. ولا شك أن هذا النموذج يعطينا فكرة عن الضغط الذي يمارس على المنظومة القضائية، لا سيما ضد من تخالف قراراتهم رغبات السلطة التنفيذية[42].

ومن أغرب ما يمكن عرضه في هذا الإطار، أن ثلاثة قضاة ممن تمت ترقيتهم سابقا لإصدارهم أحكاما قضائية توافق رغبات الحكومة، قد عزلوا من مناصبهم لاحقا في 3 أبريل 2017، عندما أصدروا قرارًا بإخلاء سبيل 21 صحفيا أمضوا 8 أشهر في الحبس الاحتياطي أدينوا بسبب تغريداتهم على “تويتر” أو لمقالاتهم المنشورة. والأمر عينه حدث مع “جوكسل توران” وكيل النائب العام بعدما أصدر قرارا بإخلاء سبيل بعض الصحفيِّين.

ثم تَبيّن لاحقا أن المجلس الأعلى للقضاء، قد خصص لجنة لمراقبة قرارات إخلاء السبيل التي تصدر في حق من تريد الحكومة حبسهم من المعارضين[43].

-3 أدوات الضغط

لم تسلم المحاكم التركية وقوانينها التي تنظمها، من انتهاكات السلطة الحاكمة سواء قبل محاولة الانقلاب الفاشلة أو بعدها؛ فقد تم استحداث محاكم خاصة عَينت السلطة الحاكمة أعضاءها من موالين لها، كما وَظفت حالة الطوارئ التي فُرضت على البلاد في إصدار حزمة من القرارات والمراسيم التي حدَّت من صلاحيات السلطة القضائية وزادت من خضوعها للسلطة التنفيذية، فمن ذلك ما يلي:

3/1 محكمة الصلح الجزائية

في 22 يونيو 2014 ذكر رئيس الوزراء التركي آنذاك ورئيس الجمهورية الحالي رجب طيب أردوغان في تصريحات له: “إن السلطة القضائية “الموازية” تعرقل الخطوات الإصلاحية التي تقوم بها السلطة التنفيذية، لكن هناك الآن بعض الاقتراحات التي سيتم إقرارها عن طريق الرئيس (عبد الله جول آنذاك)، وبعدها يمكننا أن نشهد تقدما واسعا في هذا المجال، إننا نعمل على تطوير مشروع ونقوم الآن بوضع أساساته”، وقد كان هذا الكلام مؤشرا على النية باستحداث محاكم خاصة من أجل تحقيق أغراض سلطوية معينة.

ومما يعزز هذا، ما ورد على لسان نائب رئيس حزب الوحدة الكبرى (BBP)“رمزي جايير” في لقاء تليفزيوني، أن أردوغان صرح له قائلا: “لقد قدمنا اقتراحًا بإنشاء نوع خاص من المحاكم سنسميه “محكمة الصلح الجزائية”، وقدمنا طلبًا لإقرارها وهو على مكتب الرئيس “عبد الله جول”، وعقَّب (أي أردوغان) بقوله: سأقوم بمَحْوِهم -يقصد حركة كولن- خلال أسبوع أو عشرة أيام من إقرار هذه المحكمة”[44].

وبالفعل تم تأسيس هذه المحاكم بالقانون رقم 6545 بتاريخ 18 يونيو 2014، وبدأت عملها في 28 يونيو 2014. ثم صرّح أردوغان بعدها يوم 20 يوليو 2014 قائلا: “والآن تبدأ الإجراءات القضائية، هذه الإجراءات ستقوم بها محكمة الصلح الجزائية”[45]، وبالفعل أصبحت تلك المحكمة أداة لقنص كل من يراه أردوغان خطرًا على سياسته، أو من تسول له نفسه بانتقاده ولو على موقع “تويتر”. وتخضع قرارات هذه المحكمة لهيمنة السلطة التنفيذية مباشرة، وفي حال صدور قرار لا يتوافق مع السلطة التنفيذية يتم إقصاء القاضي الذي أصدر القرار مباشرة عبر نقله منها.

وبعد تعامل مفوضية فينسيا مع هذه المحكمة الخاصة، قدم رئيس لجنة الرصد التابعة للمجلس البرلماني للاتحاد الأوروبي (PACE)“سيزار فيلورين” طلب إحاطة حول هذه المحكمة والإجراءات القضائية التي تتبعها، وقد أجابت مفوضية فينسيا في 13 مارس 2017 بأن ممارسات هذه الهيئة القضائية تثير القلق بشدة[46]، وصرّحت قائلة: “إن نظام الطعون الأفقي الموجود في هذه المحكمة يتم بين عدد قليل من قضاة المحكمة نفسها الموجودين في كل محافظة، مما يعدّ مشكلة في حد ذاته، لأن هذا يمنع توحيد السوابق القضائية، ويخلق دائرة مغلقة لا يمكنها أن تلبي الاحتياج في الحفاظ على حقوق المتقاضين أمامها”. وقد أوصت المفوضية الحكومة التركية بوضع معايير تحفظ الحيادية القضائية لمحكمة الصلح الجزائية، واستبدال نظام الطعن الأفقي الذي يدور بين نفس القضاة داخل المحكمة، إلى نظام الطعن الرأسي، وأن يُقدَّم الطعن لمحكمة جنائية أخرى، كما طالبت المفوضية وكلاء النيابة، بالإفراج عن المحتجزين لأسباب غير قانونية لا سيما في حالة عدم وجود أدلة كافية.

وبالنظر لقضاة هذه المحكمة، يتبين أن أغلب قضاتها من أعضاء الحزب الحاكم، أو من المعروفين بموالاتهم لأردوغان ذاته، وبالنظر كذلك إلى 112 شخصية ممن تقدموا للترشح لشغل مناصب القضاة في هذه المحكمة، يتبين أنهم من أعضاء جمعية “الوحدة القضائية” (YBD)التي تأسست عام 2015 بدعم من النظام الحاكم.

ورغم ذلك كله لم يسلم هؤلاء الذين تثق الحكومة في ولائهم لها، من بطش السلطات؛ فقد أُبعد “عثمان دوغان” أحد قضاة محكمة الصلح الجزائية بمدينة أنقرة عن وظيفته، لأنه قضى بإطلاق سراح 18 من رجال البوليس الذين كانوا يعملون في جهاز الاستخبارات المركزية، ممن اتهموا بالخيانة رغم انتفاء أي دليل على هذا الاتهام، وكذلك نُقل “رمضان كانماز” قاضى محكمة الصلح الجزائية الرابعة من عمله، إلى دائرة أخرى قبل أن يستكمل عامه الأول في هذه المحكمة، لأنه قضى بإطلاق سراح 25 محتجزًا احتياطيًّا.

ويرجع نقل هؤلاء القضاة أو عزلهم لأحد سببين: إما إصدارهم قرارات إفراج، أو رفضهم إصدار قرارات اعتقال لأشخاص بعينهم في فبراير ومارس ويوليو من عام [47]2015.

3/2 الهيئة القضائية العليا

إن منظومة القضاء التركي تتكون من مستويين رئيسيين: المحاكم الابتدائية، والمحاكم العليا. وإذا أراد المواطن التركي التقدم بدعواه إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECTHR)فعليه –طبقا لشروط هذه المحكمة- أن يستوفي كل مستويات التقاضي المحلية. وبالتالي فإن أي مواطن يريد التظلم من قرارات المحاكم الابتدائية -مثلا- أن يتقدم بطلباته تلك، إلى هيئة قضائية أعلى مثل محكمة النقض أو محكمة هيئة قضايا الدولة. وطبقا للتعديلات الدستورية التي أقرت في 2010، فللشخص أن يتوجه للمحكمة الدستورية العليا في حال تعرضه لانتهاكات تطال حقوقه التي يكفلها له الدستور.

لكن الأوضاع الحالية جعلت من الصعوبة بمكان أن يتقدم الشخص بطعن أمام المحاكم العليا، وذلك لما تم في اختصاصاتها وتكوينها من تلاعب، ووقوع أعضائها تحت ضغط وتهديد السلطة التنفيذية؛ فقد بلغ عدد قضاة محكمة النقض الذين تم القبض عليهم واحتجازهم وتوجيه تهم جنائية ضدهم حتى الآن 170 قاضيا، مما يجعل نظراءهم من باقي قضاة المحاكم العليا، في قلق من مواجهة نفس المصير.

كما أطاحت -كذلك- الهيئة القضائية المشكلة بعد الانقلاب الفاشل، بالشكل المتعارف عليه في المنظومة القضائية، وهذا التغيير الذي طرأ على المنظومة القضائية، تم بتخطيط الرئيس أردوغان نفسه بمعاونة مجلس الأمن القومي (MGK). ونستطيع القول: إن الرئيس أردوغان تمكن من إزاحة السلطة القضائية وإعادة تشكيلها وهيكلتها طبقا لرغباته متذرعًا بمحاولة انقلاب فاشلة أثبتت كثير من الأدلة أنه مفبرك، وقد يكون من إنتاج أردوغان ذاته. ولعل ما ورد في الفقرة الثالثة من مرسوم الطوارئ رقم 667 لسنة 2016 بخصوص السلطة القضائية العليا، ما يبرز ذلك فقد ورد فيها: “إن القضاة الذين يشتبه في انتمائهم، أو لديهم علاقات مع أي منظمة إرهابية، أو أي تجمع أو هيئة يصنفها مجلس الأمن القومي على أنها تعمل ضد مصلحة الدولة، سيتم عزلهم مباشرة من مناصبهم القضائية”[48].

ويمكن استعراض بعض نماذج الانتهاكات التي تعرضت لها عناصر هذه الهيئة القضائية العليا فيما يلي:

أولا: المحكمة الدستورية

المحكمة الدستورية العليا مهمتها مراجعة دستورية القوانين، وكذلك تختص بالنظر في قضايا الأفراد الذين يتعرضون لانتهاك حقوقهم الدستورية، وهي أعلى قضاء محلي يلجأ إليه المواطن قبل توجهه إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وقد نجح أردوغان في تحويلها إلى محكمة لا تحكم، وذلك من خلال حملات من التهديد والتشويه المنظمة ضد قضاتها، ما أدى إلى خلل في طريقة عملها. وسنذكر فيما يلي طرفا من تلك الحملات والإجراءات التي استهدف أردوغان من خلالها المحكمة الدستورية وقضاتها.

فمن ذلك تعقيب أردوغان على الإفراج الذي قضت به المحكمة الدستورية في 28 فبراير 2016 عن كل من الصحفيَينِ “جان دوندار” و”أردم جول” قائلا: “إن هذه الحالة ليس لها أي علاقة بحق حرية التعبير، هذه قضية خيانة عظمى، ولا يتوجب عليَّ أن أقبل قرار المحكمة الدستورية، ولا أطيع قراراتها ولا أحترم تلك القرارات، ولمحاكم الدرجة الأولى الحرية في عدم الامتثال لقرار المحكمة الدستورية”[49]، ونتيجة لذلك صدر الحكم على الصحفيين بالسجن لمدة خمس سنوات من قبل محكمة درجة أولى دون أدنى اعتبار لقرار المحكمة الدستورية[50].

وعندما أصدرت المحكمة الدستورية قرارها بعدم دستورية قرار حجب موقع “تويتر” قال أردوغان: “أنا لا أحترم قرار المحكمة هذا، كما أن هذا ليس من اختصاصها؛ لأنه قرار يتعلق بالأمن الوطني”[51]. وعندما قبلت المحكمة دعوى متعلقة بالانتخابات في أغسطس 2014، قال أردوغان: “هذا القرار من قبيل القرارات السيادية التي ليس من حق المحكمة النظر فيها”[52].

كما شنت وسائل الإعلام الموالية للحكومة حملات دعائية استهدفت المحكمة الدستورية والنيل من نزاهتها، وذلك مثل اتهامها بالارتباط بما يسمونه “الكيان الموازي” أو ارتباطها “بتوجهات خارجية”. هذا بالإضافة إلى الهجوم الإعلامي الشنيع على كل قرار تصدره المحكمة لا يتفق وسياسات الحكومة، هذه بعض التهديدات البسيطة التي يتعرض لها القضاة.

كما تدخل أردوغان في التنظيم الداخلي للمحكمة الدستورية، ورفض وضع أي شروط موضوعية لاختيار قضاة المحكمة الدستورية، وعيَّن مستشاره الخاص قاضيا في المحكمة الدستورية، وهو واحد من اثنين رشحهما في 25 أغسطس 2016، مما زاد من نفوذ أردوغان داخل المحكمة الدستورية العليا[53].

وباتهام واعتقال اثنين من أعضاء المحكمة الدستورية العليا وهما “ألب أرصلان ألتان” و”أردال ترجان”، تم القضاء نهائيا على ما تبقى من استقلالية للمحكمة الدستورية، وانتُهك القانون الذي يقر باختصاص المحكمة الدستورية وحدها بحق اتهام ومحاكمة أحد أعضائها[54].

بل إن المحكمة الدستورية ذاتها هي من ساعدت على انتهاك القوانين الخاصة بها أيضا عندما أقرت القبض على أعضائها، ففي قرار العزل الذي اتخذته المحكمة بأغلبية بسيطة ضد أحد أعضائها قالت: “لم يكن من الضروري ربط قرار عزل الأعضاء بأن لهم علاقة بمنظمة إرهابية أو أنهم ارتكبوا أعمالا إرهابية وشاركوا في الانقلاب، بل كان مجرد وجود علاقة بينهم وبين منظمات أو مؤسسات يعتبرها مجلس الأمن القومي تضر بالمصلحة الوطنية كافيا في اتخاذ هذا القرار”[55]وأضافت: “ولا يقصد من العلاقة بين العضو وهذه المؤسسات وجود عضوية، أو المشاركة بفاعلية في التنظيم، بل يكفي –لعزله- وجود علاقة ما بينه وبين مؤسسات هذا التنظيم… كما لا يشترط التأكد بالأدلة من هذه العلاقة، ولكن الاشتباه وحده يعد كافيا لعزل العضو”.

أما تصريحات رئيس المحكمة الدستورية “زهدي أرسلان” فقد قضت على كل آمال الضحايا الذين يبحثون عن الإنصاف لدى هذه المحكمة، حيث قال: “ليس شرطًا في تحقيق العدالة أن تعامِل كل الناس على قدم المساواة، لأن هذا قد يؤدي إلى عدم المساواة. فسقي الشجر بالماء يعد عدالة، ولكن سقي الشوك بالماء يعد ظلمًا”[56]. وهذا الذي ذكره رئيس المحكمة الدستورية هو في الحقيقة مخالفة واضحة لما ينص عليه الدستور التركي في المادة 10 منه ونصها: “إن جميع المواطنين أمام القانون متساوون ولا يجوز التمييز بينهم، وذلك بغض النظر عن لغتهم أو عرقهم أو لونهم أو جنسهم أو رأيهم السياسي أو اعتقادهم الفلسفي أو دينهم أو أي اعتبار آخر. وعلى كل مؤسسات الدولة والسلطة التنفيذية أن تتعامل مع كل المواطنين وفي كل الإجراءات، وفق مبدأ المساواة”.

كما رفضت المحكمة أيضًا في 2 نوفمبر 2016 طلبًا مقدما من حزب الشعب الجمهوري المعارض يطعن على مرسوم طوارئ، وقالت: “إنه ليس من اختصاصاتها النظر في دستورية القوانين أثناء حالة الطوارئ”[57]. وأوضح حزب الشعب الجمهوري المعارض، أن عدم وجود مراجعة قضائية لإجراءات السلطة التنفيذية، يعدّ انتهاكًا واضحًا للقانون، وهذا يدل على أن تركيا تعاني من مأزق قانوني خطير، وأضاف: إنه يلزم إنشاء هيئة أو جهاز ما -فالمحاكم أصبحت بلا جدوى- لمراجعة مراسيم القوانين على أن تضم هذه الهيئة في عضويتها معارضين ومستقلين. وقد أشارت مفوضية فينسيا إلى أنها تتفق مع وجهة النظر هذه[58].

فإذا كانت المحكمة الدستورية العليا لا تستطيع مراجعة القوانين، فمَن سيقوم بهذا العمل؟ وإلى أين يتوجه مَن يريد التظلم من هذه القوانين؟ وإذا كانت المحكمة الدستورية تطبق قانونا مخالفا للدستور على أعضائها، فإلى أيّ جهة سيتوجّه هؤلاء الأعضاء؟

بل لقد بلغ الأمر حدًّا أن تتحدى محكمة محلية -لأول مرة في تاريخ الجمهورية التركية- قرارا لمحكمة أعلى وترفض تنفيذ هذا القرار، وتعود وقائع هذه القصة إلى يوم 8 سبتمبر 2016، حيث قدم “فيسل أوك” محامي الصحفي التركي “شاهين ألباي” طلبا للمحكمة الدستورية بإطلاق سراح موكله، فأعرضت المحكمة عن تقييم طلب “ألباي” لفترة طويلة، ونتيجة لذلك قدم المحامي طلبه هذه المرة إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان يوم 28 فبراير 2017، مستندا على أن موكله قد تعرضت حقوقه للانتهاك وفقا للمادة الخامسة من المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان التي تخص “حرية وسلامة الفرد”، وأيضا المادة العاشرة من نفس المعاهدة التي تخص “حرية التعبير”. وبعد تقديم الطلب، سألت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان الحكومة التركية: هل جرى استنفاد كل التدابير المحلية في القضية؟ وفي ردها قالت أنقرة: إن طلب “ألباي” إلى المحكمة الدستورية لا يزال يخضع للتقييم، وإنه لا ينبغي للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان اتخاذ قرار في القضية قبل صدور حكم المحكمة الدستورية.

وفي 11 يناير 2018، أصدرت المحكمة الدستورية قرارا يطالب بالإفراج عن الصحفيَين “شاهين ألباي” و”محمد ألتان”، وخلصت المحكمة في قرارها الذي صدر بموافقة 11 عضوا واعتراض ستة إلى أنه قد تم انتهاك حق ألباي في التعبير والسلامة الشخصية، وحقه وفقا لحرية الصحافة مؤكدة أنه “لا توجد أدلة كافية تبرر استمرار احتجازه”، ورغم ذلك رفضت المحكمة المحلية في سابقة تعد الأولى من نوعها في تاريخ الجمهورية التركية الحديثة، تنفيذ قرار إطلاق السراح هذا الصادر من جهة قضائية عليا في مستوى المحكمة الدستورية[59].

ومع تصريح المحكمة الدستورية بعدم اختصاصها النظر في القضايا التي ترفع إليها في ظل حالة الطوارئ فإنها تحتفظ بآلاف القضايا التي قُدِّمت إليها دون ردها لعدم الاختصاص أو البت فيها. ومن الواضح أن المحكمة الدستورية تقوم بذلك عمدًا حتى لا يتمكن أصحاب هذه الدعاوى من التوجه إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التي تشترط نفاد كل طرق التقاضي المحلية. وهذا في حد ذاته عامل آخر من العوامل التي تشير إلى مدى التراجع الحاد في مستوى النزاهة والعدالة في المنظومة القضائية في جميع مستوياتها في ظل القيادة الحاكمة الآن للبلاد.

ثانيا: مجلس الدولة

إن انتهاك حقوق الإنسان في تركيا وخاصة بعد أحداث الانقلاب الفاشل، تتركز في أمرين: الإجراءات الجزائية، والإجراءات الإدارية. ولقد وصل عدد المفصولين من وظائفهم الحكومية -من غير أي حكم قضائي أو تحقيق إداري- إلى 151.967 موظفًا، منهم 7.317 أكاديميا و4.463 قاضيا ووكيل نيابة[60].

وقد نُفذت كل قرارات الفصل التعسفي هذه في أثناء حالة الطوارئ، وطبقا للدستور التركي فكل الإجراءات التنفيذية يمكن مراجعتها من خلال مجلس الدولة، وهي أعلى جهة قضاء إداري في تركيا، ولكن مجلس الدولة أعلن أيضا -على غرار المحكمة الدستورية- عدم اختصاصه النظر في القرارات الإدارية التي تصدر في أثناء حالة الطوارئ.

ومن جهة أخرى فقد بذل الحزب الحاكم في تركيا ما بوسعه لتقويض صلاحيات القضاء الإداري، وقام بكل ما يلزم للحيلولة دون مراجعة القضاء الإداري لما تصدره الحكومة من قرارات، فأغلب القضاة المفصولين تعسفيا من مناصبهم، والمقبوض عليهم كانوا من قضاة القضاء الإداري، ونتيجة للتعديلات القانونية التي أجرتها الحكومة على القانون المنظم لمجلس الدولة والقضاء الإداري، بموجب قانون رقم[61]6723 في 23 يوليو 2016، تم عزل العاملين في هيئة قضايا الدولة من وظائفهم، وتم تعيين موظفين جدد في أماكنهم بالتنسيق بين الحكومة والمجلس الأعلى للقضاء، وقام الرئيس أردوغان ذاته بالإشراف على عملية الاختيار هذه.

وقد تمت هذه التعيينات الجديدة خلال العشرة أيام الأولى التي أعقبت محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو [62]2016. وبالطبع فقد كان المعيار الأساسي للتعيين هو العمل مع الحكومة بتناغم، وأصبح القضاء الإداري المشكَّل على هذا النحو، يخول إليه النظر ومراجعة القرارات التي تتخذها حكومة أردوغان.

ليس هذا فحسب، بل لقد خُفضت صلاحيات القضاء الإداري بقانون، ففي مرسوم طوارئ رقم [63]667 الذي نشرته الجريدة الرسمية الصادرة في يوم 23 يوليو 2016 في العدد رقم 29779، تم إبطال صلاحية محاكم مجلس الدولة في إصدار الحكم بإيقاف تنفيذ قرارات السلطة التنفيذية التي ترى المحكمة أنها تعود بالضرر على الموظف. وبهذا الشكل جردت الحكومة الموظفين من كافة حقوقهم حتى حق الضمان الاجتماعي، وأبطلت أيّ حكم يصدره القضاء الإداري لصالح الموظفين يمنحهم حق استعادة وظائفهم إذا ما ثبت بطلان الاتهامات الموجهة ضدهم. وصار فصل الموظف من عمله وتجريده من كافة حقوقه، أمرا قانونيا حتى وإن تم بدون إجراء أية تحقيقات[64].

وعلى صعيد آخر استغرقت الحكومة خمسة أشهر كاملة لتحدد الجهة التي يتوجب على الموظف التوجه إليها في حال تظلمه من أي قرار حكومي يصدر بحقه. ففي 5 نوفمبر 2016 أقرت مجلس الدولة بعدم اختصاصه بالنظر في هذه الدعاوى، ووجَّه المتظلمين إلى رفع تظلماتهم أمام المحاكم الإدارية. وهذا القرار لم يؤخر سير العدالة خمسة أشهر فقط، بل أتاح للحكومة الاعتراض على القرارات التي ستصدرها المحكمة الإدارية، وذلك طبقا لمرسوم الطوارئ الذي قدم للمحكمة الإدارية برقم 658. وبهذا الشكل بات حصول المتظلمين على حقهم في محاكمات عادلة أمرا شبه مستحيل.

وفي تقرير أعدته مفوضية فينسيا، وردت فيه الملاحظة التالية: “لقد قامت الحكومة التركية بتوسيع سلطاتها التنفيذية وبسط سلطتها على المنظومة القضائية بما يتعارض مع الدستور التركي والقانون الدولي”، وأشارت إلى أنه حتى في أثناء حالة الطوارئ هناك حقوق لا يمكن انتهاكها، وذكرت أن “كل الإجراءات التي تتخذ في أثناء حالة الطوارئ، يجب أن تكون مقيدة بضروراتها وفي ضوء الحاجة الملحة لها”[65].

وأفادت المفوضية: “إن الحكومة التركية تتخذ تدابير دائمة تتجاوز حدود حالة الطوارئ”، فبدلا من وقف الموظف عن عمله بصورة مؤقتة لحين البت في أمره، تم فصله نهائيا وبصورة تعسفية من هذا العمل، ولم يقتصر الأمر على أفراد منسوب إليهم اتهامات بعينها، بل لقد تم فصل المئات من الموظفين العموميين بصورة جماعية دون النظر في كل حالة على حدة، وقد ذكر التقرير أنه: “لم يتم اتباع الإجراءات القانونية الإدارية المنظمة لفصل الموظفين العموميين عن عملهم، ولم يتم احترام الحقوق الأساسية للموظفين العموميين”.

وأفاد التقرير أيضا بأن “فصل الموظفين بصورة جماعية عن طريق القوائم المعدة مسبقًا بمرسوم طوارئ، قد حرم وبصورة تعسفية الآلاف من حق اللجوء إلى القضاء الإداري للتظلم من فصلهم التعسفي”، وجاء في التقرير أيضًا: “بسبب علاقة مزعومة بين الموظف العام ومؤسسات حركة كولن أو أي حركة أخرى تعتبرها الدولة (إرهابية)، يتم فصل الموظف، مع أن القانون لم يحدد ماهية العلاقة التي قد تؤدي للفصل، وكذلك لم تحدد الأوصاف اللازمة لجعل حركة أو منظمة أو مؤسسة إرهابية”.

وفي نوفمبر2016 وجَّه الاتحاد الأوروبي انتقادًا لاذعا لفصل الموظفين واعتقالهم، من خلال التقرير الذي أعده عن تطور الأحداث في تركيا، حيث جاء في التقرير ما يلي: “بالنسبة للتدابير التي اتُّخذت بعد أحداث الانقلاب، طالب الاتحاد الأوروبي السلطات التركية، بأن تكون التدابير التي تتبعها موافقة للقانون ولا تتعارض مع الحقوق الأساسية للمواطنين. فالعلاقة الموجودة بين الموظف العام والدولة، قائمة على الثقة والولاء، وهناك تدابير وإجراءات لضمان ذلك، وأي زعم يوجه للموظف بأنه أخل بواجبه، يجب أن يتم من خلال الإجراءات المعدة لذلك وينظر في كل حالة على حدة، وأي مسؤولية جنائية توجه ضد الفرد، لا يمكن أن تكون صحيحة إلا في ظل مبدأ الفصل بين السلطات، وأن يكون القضاء مستقلاًّ مع الحفاظ على حق المواطن في المحاكمة العادلة وبما يتضمن سهولة التواصل بين محامي الدفاع والمتهم. فيجب على تركيا أن تراعي الضرورة الملحة في الإجراءات والتدابير التي تتخذها في أثناء حالة الطوارئ”[66].

ثالثا: محكمة النقض

محكمة النقض في تركيا هي أعلى محكمة تختص بالنظر في استئناف القضايا المدنية والجنائية، ويشترط في اختيار أعضائها أن يكونوا من قضاة ووكلاء نيابة أكفاء، ولديهم خبرة عمل في المحاكم لـ 15 عاما. إلا أن هذه الشروط لم يعد لها وجود، لا سيما بعدما سيطرت الحكومة على مؤسسة القضاء في الدولة.

وهذا الواقع هو ما أكده الاتحاد الأوروبي في تقريره الذي جاء فيه ما يلي: “إن تغيير النظام الداخلي لمحكمة النقض ولمجلس الدولة بالصورة التي حدثت في يوليو 2016، يثير مخاوف شتي وقلقا على استقلالية القضاء لا سيما محكمة النقض، ما يؤدي إلى حالة من عدم اليقين القانوني”[67].

كما وجه الاتحاد الأوروبي انتقادًا شديد اللهجة لمحكمة النقض على البيان الذي أعدته وما زال منشورًا على صفحتها جاء فيه: “الانقلاب الفاشل الذي شهدته البلاد، انقلاب على الديمقراطية قام به أعضاء من حركة كولن، ولذلك فإننا كمحكمة نعتبر هذا التنظيم إرهابيًّا”[68]، وجاء في تقرير الاتحاد الأوروبي “إننا نشعر بالأسف الشديد على هذا البيان الصادر من محكمة النقض الذي تتهم فيه جماعة بأنها قامت بالانقلاب وتحكم عليها بالإرهاب دون وجود أي أدلة صريحة تثبت هذا الاتهام”[69].

إن بيان محكمة النقض هذا ينتهك عددًا كبيرًا من المبادئ القانونية الدولية، ويدل أيضا على أن القضاء المحلي التركي أصبح موجهًا من الحكومة وبلا تأثير. وفي الحقيقة هذا البيان ينتهك المبدأ القانوني المقرر عالميًّا بأن “المتهم بريء حتى تثبت إدانته”، فقد قضت المحكمة بإدانة المتهمين حتى قبل أن يتم توجيه الاتهام للأفراد، مما يجعلنا نتساءل عن حيادية المحكمة، وهل سيكون حكمها عادلا، أم ستفتقد العدالة لحكمها المسبق على المتهمين بإدانتهم قبل النظر في القضية وسماع الدفاع؟

فضلاً عن أن صدور هذا البيان من محكمة النقض، يمثل في حد ذاته ضغطًا على المحاكم الأدنى، ويؤثر بصورة مباشرة على قرارات هذه المحاكم. أما عن قاعدة “المتهم بريء حتى تثبت إدانته”، فقد انتهكتها المحكمة عندما وسمت المتهمين وكل حركة كولن بأنهم إرهابيون من غير دليل معتبر أو حكم قانوني نافذ.

ولقد استثمرت الحكومة الانقلاب الفاشل وقامت بتعديل هيكلي لمحكمة النقض، أزاحت من خلاله كل القضاة المستقلين والمعارضين، منتهكة بذلك مبادئ العدالة والحصانة القضائية للقضاة. وعُيِّن بدلاً منهم قضاة من أعضاء جمعية الوحدة القضائية (YBD)الموالية للحكومة. وقد تم هذا خلال العشرة أيام الأولى من الانقلاب الفاشل. كما تم تعيين 267 عضو محكمة نقض و75 عضو مجلس الدولة، بالتنسيق بين الحكومة والمجلس الأعلى للقضاء.

أما عن جمعية الوحدة القضائية (YBD)فهي اتحاد قضائي موالي للحكومة، وأغلب أعضائها من الحزب الحاكم، وهي بهذا المعنى اتحاد شبه حكومي وليس مستقلا، ولذلك رفضت منظمات دولية عديدة طلبات قدمت لها من قبل هذا الاتحاد للشك في حياديته، فقد رفضت منظمة القضاة الدولية (IEJ)طلب العضوية المقدم من قبلها لعدم استقلاليتها، وللسبب نفسه لم تقبل منظمة القضاة الأوروبية (EAJ)طلب عضويتهم أيضًا، كما جدد المجلس الأوروبي للقضاء (MEDEL)رفضه مرتين دعوة توجهت له من طرفه للمشاركة في اجتماع مشترك[70].

وقد وجَّه الاتحاد الأوروبي انتقادًا لاذعا للحكومة التركية جاء فيه: “لقد شهدنا في السنوات الأخيرة تراجعًا حادًّا في تركيا، لا سيما فيما يتعلق باستقلالية القضاء. كما أن التغييرات الهيكلية للنظام الداخلي للمحاكم العليا في تركيا، لا يتوافق مع المعايير التي أقرها الاتحاد الأوروبي. بالإضافة إلى أن فصل القضاة من عملهم يحدث يوميًّا، ليس هذا فحسب بل يتم القبض عليهم أيضًا بادعاء أن لهم علاقة بحركة كولن”.

وذكر التقرير أيضًا: “إن الأوضاع ازدادت سوءًا بعد أحداث الانقلاب الفاشل، وفُصِل خُمْس القضاة ووكلاء النيابة، مع الأخذ في الاعتبار أن القضاء يجب أن تتوفر له ظروف تمكنه من أداء مهامه باستقلالية دون إملاءات حكومية، كما يجب أن يكون مبدأ الفصل بين السلطات ساريًا وفعالا. ولكن الأحداث في تركيا تنحو منحى خطيرا، حيث يودع المتهمون قيد الحبس الاحتياطي دون العرض على القضاء لأكثر من 30 يوما، هذا فضلا عن الوضع المتردي الذي آل إليه مجلس القضاء الأعلى”[71].

رابعا: مجلس القضاء الأعلى (HSYK)

مجلس القضاء الأعلى هو هيئة قضائية عليا تقوم بتنظيم كل ما يتعلق بالقضاة ووكلاء النيابة، من تعيينهم ونقلهم ووقفهم مؤقتا وعزلهم. ومن اختصاصاته إنشاء محاكم جديدة وتوسيع صلاحيات القضاة. وقد تم إعادة هيكلة النظام الداخلي للمجلس من خلال التعديلات الدستورية التي تم إقرارها في استفتاء 2010، وكانت تنص على أن يتكون المجلس الأعلى للقضاء من 22 عضوا، يتم اختيارهم على النحو التالي:

عشرة أعضاء منهم ينتخبهم القضاة ووكلاء النيابة، وأربعة أعضاء يختارهم رئيس الجمهورية، وستة أعضاء تختارهم الهيئات القضائية المختلفة. أما العضوان الباقيان فأحدهما وزير العدل والآخر مستشاره، هذا بخلاف الأعضاء الاحتياطيين الذين يصلون إلى عشرة أعضاء.

وبهذه التعديلات خطت تركيا خطوات واسعة ديمقراطيا في القضاء، حيث زاد عدد أعضاء هذا المجلس إلى 22 عضوا، بعدما كان عددهم سابقا مقصورا على سبعة أعضاء يعينهم جميعا رئيس الجمهورية وحده.

ومع تكشف فضائح الفساد المالي في 17-25 ديسمبر 2013 التي أظهرتها تحقيقات القضاء، صار هدف أردوغان الأول هو السيطرة على المنظومة القضائية، بما فيها المجلس الأعلى للقضاء، لأنه الرأس المنظم للسلطة القضائية.

وفي فبراير 2014، أي بعد أربعة أشهر فقط من تحقيقات الفساد المالي، وافق رئيس الجمهورية آنذاك (عبد الله جول) على حزمة من التعديلات القانونية التي تتعلق بإعادة هيكلة المجلس الأعلى للقضاء، وتُوسع من سيطرة الجهاز التنفيذي ممثلا في وزير العدل على صلاحيات المجلس. ورغم إقراره صرح عبد الله جول بمناقضة بعض هذه المواد للدستور، وأحال النظر فيها إلى المحكمة الدستورية، وبالفعل حكمت المحكمة الدستورية لاحقا بعدم دستورية هذه التعديلات، إلا أن الحكومة بمسارعتها بتفعيل هذه التعديلات وتشكيل مجلس القضاء الأعلى على أساسها قفزت على حكم المحكمة الدستورية قبل صدوره، بدعوى أن ما قضت به المحكمة الدستورية لا يتم تطبيقه بأثر رجعي[72].

ومن أبرز المواد التي تنص عليها هذه التعديلات، إعطاء وزير العدل صلاحية فتح تحقيق مع من أراد، وإغلاق أي تحقيقات جارية، وبناء على هذا التعديل، تم إتلاف عدد كبير من أدلة الإثبات في قضايا الفساد المالي في 2013 وأفرج عن المتهمين فيها، وأغلق ملف القضية.

وظهر مدى رغبة الحكومة السيطرة على المجلس تماما من خلال انتخابات مجلس القضاء الأعلى التي انعقدت في أكتوبر 2014، حيث مارست الحكومة ضغطا على الهيئات القضائية لإنجاح القائمة الموالية لها. فقد وعد وزير العدل “بكير بوزداغ ” القضاة برفع المرتبات في حال فوز القائمة التي أعدها[73]، كما هدد السكرتير العام لهيئة القضاء الأعلى “بيلجين بشاران” الناخبين بقوله: “إذا أدليتم بأصواتكم للقوائم الأخرى فسيكون هذا بمثابة صب الزيت على النار وإشعال الحرائق”[74]. وتم الكشف عن أسماء القضاة الذين لم يصوتوا للقائمة الحكومية، وبهذا يتضح المعيار الذي على أساسه يتم القبض على القضاة ووكلاء النيابة.

أما الدعاية التي تم الترويج لها فكانت “سلطة قضائية متناغمة مع السلطة التنفيذية”، هذه الدعاية في حد ذاتها كانت منذرة بحقبة من سيطرة الجهاز التنفيذي على السلطة القضائية.

وبعد أن صار الجهاز القضائي مُسَيَّسا تماما، قام المستشار القضائي لرئيس الوزراء “محمد يلماز” بفصل القضاة المستقلين فصلا جماعيًا، وأقر بذلك عندما ذكر أنه قام بخداع القضاة المحتجزين، وطلب منهم الاعتراف على قضاة آخرين من زملائهم بارتكابهم أعمالاً إرهابية، ووعدهم إن فعلوا ذلك باستعادة وظائفهم، وقال: “أنا أقدم اعتذاري عن التأخر في اتخاذ هذه الخطوات (يقصد اعتقال هؤلاء القضاة وعزلهم)”[75].

وقد لاحظت المراكز الدولية ما طرأ على مجلس القضاء الأعلى من تغييرات أفقدته استقلاليته، لذا علَّق مجلس القضاء الأعلى الأوروبي (ENCJ)عضوية مجلس القضاء الأعلى التركي بعدما كان عضوا مراقبا. وقال مجلس القضاء الأوروبي في البيان الذي أصدره بهذا الشأن: “بالنسبة للأعضاء والعضو المراقب، فإننا نؤكد على مسؤولية الأعضاء عن استقلالية القضاة ووكلاء النيابة، وندعم بقوة استقلالية القضاء لأهميتها القصوى”، وعلَّق على وضع مجلس القضاء الأعلى التركي بقوله: “إننا نعبر عن عدم رضانا عن الوضع الحالي لمجلس القضاء الأعلى التركي”[76].

وفيما يتعلق بالتعديلات الدستورية الأخيرة التي تم إقرارها بعد استفتاء أبريل 2017، صار يحق لرئيس الجمهورية تعيين 6 أعضاء من أصل 13 عضوًا، والباقون من الأعضاء ينتخبهم البرلمان. وإذا وضعنا في الاعتبار أن الأغلبية البرلمانية يمتلكها الحزب الحاكم، تبين أن أيّ أمل في استقلالية القضاء التركي قد تم القضاء عليه نهائيًّا.

وبالعودة إلى ما صرّح به “متين يندرماز” نائب رئيس مجلس القضاء الأعلى وأحد أعضاء جمعية الوحدة القضائية (YBD)الموالية للحكومة لجريدة “حريت”[77]قبل محاولة الانقلاب الفاشلة بأربعة أشهر التي قال فيها: “إن الهيئة العليا للقضاء قد أعدت قوائم بأسماء 5000 (خمسة آلاف) قاض ووكيل نيابة، تمهيدا لعزلهم بسبب شكاوى قدمت ضدهم من قبل جهاز الرئاسة ورئاسة الوزراء”، يتضح أن المحاولة الانقلابية الفاشلة كانت ذريعة للقيام بعملية فصل جماعي للقضاة ووكلاء النيابة الذين لم يحظوا برضا الحكومة.

لقد كتب “كريستوف ريجنارد” القاضي بمحكمة النقض بباريس ورئيس المؤسسة العالمية للقضاة (IAJ)مقالا شرح فيه ما حدث من تغييرات لمجلس القضاء الأعلى في تركيا، وكيف استطاعت الحكومة أن تفرض سلطتها على القضاء وتعتدي على استقلاليته تماما، كما شرح أن محاولات الحكومة السيطرة على مجلس القضاء الأعلى وتحويله إلى هيئة تابعة للحكومة تنقاد تماما لما تقرره، قد بدأت منذ عام 2013 من خلال الأغلبية البرلمانية ولكنها فشلت وقتذاك، فقامت بإنشاء جمعية الوحدة القضائية (YBD)لتحل محل مجلس القضاء الأعلى، كما افتعلت نظام الانتخاب لحصر القضاة المعارضين ثم عزلهم.

أما عما حدث بعد الانقلاب فقال: “لقد تم عزل القضاة ووكلاء النيابة والقبض عليهم، دون إجراء تحقيقات فردية، ودون شكاوى ضدهم، كما حرموا من حق الدفاع. والحق لقد كان واضحًا أن هؤلاء القضاة تم تحديد أسمائهم في قوائم قبل الانقلاب بفترة طويلة، وهم الآن محتجزون في وضع سيء، ولقد وصلتنا أخبار تفيد بممارسة التعذيب داخل السجون”[78]. وأضاف أيضا: “الحقيقة أن كل الحدود القانونية قد تم تجاوزها بصورة صارخة، وصَمْتُ الاتحاد الأوروبي على هذه التجاوزات أسبابه جيوسياسية وهو ما يمثل صدمة بالنسبة لي”.

كما أرسل ” ريجنارد” خطابًا إلى “بيرول كيرماز” رئيس جمعية الوحدة القضائية (YBD)الموالية للحكومة، التي لعبت دورًا في الانتهاكات القضائية في تركيا، وقال في خطابه منتقدا: “لا يمكن مناقشة تعسفية هذا الفصل الجماعي لوضوحها الشديد، فقد كان مجرد ورود اسم القاضي في القائمة التي أعدت من قِبَل الحكومة كافيًا لفصله”[79]، ثم أصدر “ريجنارد” بيانًا باسم المؤسسة العالمية للقضاء في 24 مارس 2017 قرر فيه: “انتهاء دور القانون في تركيا”[80].

-4 ديوان المظالم

هي هيئة عامة تختص بتلقي المظالم والشكاوى المتعلقة بالخدمات العامة للبحث في مسبباتها وتصحيح أخطائها. وقد تم تأسيس هذه الهيئة مع التعديلات الدستورية في 2010، للحفاظ على حقوق المواطنين من أي تعدٍّ قد تقوم به مؤسسات الدولة، إلا أن الحكومة -وفي هدوء تام- قد فرضت سيطرتها على هذه الهيئة، حتى صارت تمارس دورًا ضاغطًا على المحققين الذين كانوا يحققون في قضايا الفساد المالي في ديسمبر 2013.

وبانتخاب ” شرف مالكوتش” في ديسمبر 2016 رئيسا لهذه الهيئة، فقدت كل اختصاص لها وصارت هيئة شكلية فقط؛ فـ”مالكوتش” كان كبير مستشاري أردوغان وصديقه المقرب، كما كان ممثلا للحزب الحاكم في الهيئة العليا للانتخابات (YSK) لسنوات عديدة، وحامت حوله شبهات فساد متعددة[81]. كما صرح بأن مراسيم الطوارئ هي جزء لا يتجزأ من المنظومة القضائية، ولذلك فإن ديوان المظالم الذي يتولى رئاسته، لن يصغي إلى أي شكاوى من انتهاكات حقوقية تتعلق بمراسيم الطوارئ[82]، بل أثنى على مراسيم الطوارئ المتعلقة باعتقال القضاة، واعتبرها تغييرا إصلاحيا كبيرا، وأعلن أنه لن يستمع لانتقادات الاتحاد الأوروبي بخصوص هذه المراسيم[83].

-5 لجنة تظلمات حالة الطوارئ

بعد ضغط من الاتحاد الأوروبي، أنشأت الحكومة التركية بموجب مرسوم طوارئ رقم 685 نشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 23 يناير 2017، لجنة متخصصة لتلقي التظلمات من مراسيم الطوارئ، وكان من المفترض أن تمارس مهامها خلال شهر، لكنها لم تبدأ عملها إلا بعد أربعة أشهر من تاريخ تأسيسها، ثم بدأت في تلقي الطلبات في يوليو 2017، حيث تقدم 17 ألف مواطن إلى اللجنة بطلبات خلال الأسبوع الأول، و108 ألف و174 ألف في الفترة التي تليها حتى 14 سبتمبر[84].

وقد شهد عمل هذه اللجنة بطئًا كبيرًا في كل مراحل عملها، وتأخرًا في كافة توقيتات صدور قراراتها. ورغم انتظار عشرات الآلاف من الناس القرار الذي ستصدره اللجنة بشغف شديد، فإن اللجنة لم تُراجع حتى الآن إلا 12 ألف تظلم، رفضت قبول تظلمات 9 آلاف منهم، وقررت إعادة 310 فحسب إلى وظائفهم مجددا، وما زال 96 ألف متظلم في انتظار مراجعة طلباتهم والبت فيها[85].

ونتيجة لكون معايير تقييم اللجنة للطلبات، وسرعة البت بها، ما زالا موضوع تساؤل، فإن مدى استقلالية اللجنة يشكل علامة استفهام كبيرة في الأذهان.

والحقيقة أن كثيرًا من الباحثين يعتقد أن هذه اللجنة لن تتمكن من القيام بمهامها على كل حال، وأن الحكومة تستخدمها لتعطيل المتضررين عن التوجه إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية. فقد أفاد كل من “عزت أوزجنش”[86]المتخصص في القانون الجنائي و”كريم التيبارماك”[87]مدير شؤون مركز حقوق الإنسان، أن هذه اللجنة لن تكون إلا بمثابة تضييع وقت المتظلمين وتعطيلهم عن الوصول إلى حقوقهم القانونية.

وهذا ما أكد عليه أيضا “متين جونداي” العضو بكلية الحقوق بجامعة أتيليم والمتخصص في القانون الإداري، حيث قال: “إن هذه اللجنة مفبركة وغير قادرة على أداء الوظيفة المنوطة بها كاللجان التي تم إنشاؤها في سبتمبر 1980 قبل 30 عاما”[88].

الخاتمة

لقد أصبح واضحا -من خلال ما سبق- مدى تغول السلطة التنفيذية على صلاحيات السلطة القضائية، وسيطرة الأولى على الأخيرة تماما، لذلك على المؤسسات الدولية لا سيما المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، أن تقوم بدورها في إنقاذ المواطنين الأتراك بشكل عاجل، وترشد الدولة التركية في الوقت نفسه إلى ضرورة التراجع عن الانتهاكات التي تمارسها ضد مواطنيها.

لقد وجه “سالجوك كوزاجلي” رئيس مؤسسة الحقوقيين المعاصرين (CHD)خطابًا إلى الجمعية العامة لنقابة أنقرة ذكر فيه: “هناك تعذيب ممنهج يمارس في السجون التركية، وخاصة ضد القضاة ووكلاء النيابة، فضلا عن المواطنين العاديين الذين صنفوا على أن لديهم ارتباطا بتنظيم “الدولة الموازية”، وذلك دون دليل على وجود هذه العلاقة. فهل أنتم على وعي بحدوث هذا التعذيب الممنهج أم لا؟”[89]

إن المحكمة الإدارية خاضعة كما تبين للسلطة التنفيذية تماما، فإذا توجه المواطن إلى المحكمة الدستورية للطعن على ما صدر ضده من أحكام بلا بينة أو دليل، قضت بعدم اختصاصها في قضايا انتهاك الحقوق بموجب قانون صدر بمرسوم طوارئ، وأحالته مرة أخرى إلى القضاء الإداري، وهكذا أصبح المواطن يدور في دائرة مفرغة لا تنتهي، فإلى مَن يلتجئ؟

لقد ذكر ” نيل ميوزينكس” مفوض المجلس الأوروبي لحقوق الإنسان في تقريره المعد عن الوضع التركي، أن الأوضاع القانونية في تركيا ومنذ تحقيقات الفساد في ديسمبر 2013 وهي في تراجع مستمر، فالحكومة تمارس ضغطا ممنهجا لتقويض صلاحيات القضاة ووكلاء النيابة عبر تهديدهم وفصلهم تعسفيا من مناصبهم واعتقالهم، ومن ثم تخلت الحكومة التركية عن دورها في حماية حقوق الأفراد، ولم تعد تركيا دولة ديمقراطية، لانتهاكها مبادئ قانونية أساسية عديدة أهمها مبدأ الفصل بين السلطات[90].

ولعل الأزمة الدبلوماسية بين الحكومة التركية والأمم المتحدة التي أحدثتها عملية القبض على “صفا أكاي” القاضي المنتدب للأمم المتحدة[91]،  تجعلنا نتساءل: إذا كان القاضي الدولي الذي لديه حصانة دبلوماسية من الأمم المتحدة يقبض عليه بهذه الطريقة حتى بات لا يشعر بالأمان في تركيا، فماذا عن سائر أعضاء الهيئات القضائية المحلية، بل ماذا عن سائر الأفراد العاديين؟

لقد بات الحديث عن دور القانون في تركيا بمثابة اللغو الذي لا يفيد شيئا، وباتت الهيئة العليا للقضاء بما تمثله من قيمة قانونية، ليست بمنأى عن حملات الإرهاب والتخويف والاعتقال، لكل عضو فيها تحدثه نفسه أن يصدر قرارًا لا يتوافق مع الاتجاه الذي رسمته الحكومة. وهذا ما أكدت عليه الأمم المتحدة في تقريرها الصادر عن حقوق الإنسان بتركيا مارس 2018 تحت عنوان: “التأثير السلبي لحالة الطوارئ في تركيا على حقوق الإنسان في الفترة من يناير إلى ديسمبر 2017”[92].

إن النتيجة الطبيعية لكل المعطيات السابقة، هي الإقرار بأن دولة القانون في تركيا قد انهارت، وأن العدالة لا تجري في مجراها الصحيح.

حملات التصفية التي قام بها النظام التركي

منذ 15 يوليو 2016

4.463

قاضيا ومدعي عموم تم عزلهم

24.419

شرطيا تم فصلهم من جهاز الأمن العام

16.409

طالبا عسكريا فصلوا من الأكاديميات الحربية

7.159

طبيبا وموظفا فصلوا من وزارة الصحة

5.210

محافظا وإداريا تم فصلهم

6.168

موظفا تم فصلهم من وزارة العدل

3.090

إماما وواعظا وموظفا فصلوا من رئاسة الشؤون الدينية

151.967

فصلوا من وظائفهم

3.003

جامعة ومدرسة خاصة، وسكنا طلابيا تم إغلاقها

319

صحفيا معتقلا

189

وسيلة إعلامية تم إغلاقها

77.524

معتقلا

136.995

محتجزا

8.573

أكاديميا فقدوا أعمالهم

44.385

مدرسا ومديرا فصلوا من وزارة التعليم

10.841

ضابط جيش تم تسريحهم

لقد تم رصد هذه الأرقام بناء على ٣١ مرسوم طوارئ أصدرته السلطة الحاكمة في تركيا بدءا من ٢٣ يوليو ٢٠١٦ إلى ٢٠١٨.

كما تم الاعتماد على تقارير منظمات دولية مستقلة. لمزيد من التفاصيل: https://turkeypurge.com/purge-in-numbers-2

 

[1]      https://hudoc.echr.coe.int/eng#{%22documentcollectionid2%22:[%22GRANDCHAMBER%22,%22CHAMBER%22]}

[2]      Dalia v. France, (1998, February 19)

http://hudoc.echr.coe.int/eng#{“fulltext”:[“Dalia%20v.%20France,%2019%20 February%201998”],”documentcollectionid2”:[“GRANDCHAMBER”,”CHAMBER”],”itemid”:[“001-58130”]}

Aksoy v. Turkey (1996, December 18)

http://hudoc.echr.coe.int/eng#{“fulltext”:[“Aksoy%20v.%20Turkey,%2018%20December%201996”],”documentcolle¬ctionid2”:[“GRANDCHAMBER”,”CHAMBER”],”itemid”:[“001-58003”]}

[3]      http://www.refworld.org/cases,ECHR,3ae6b67518.html

[4]      http://www.haberler.com/feto-nun-izmir-deki-avukat-yapilanmasi-cokertildi-8702295-haberi/

http://www.hurhaber.com/siirt-baro-baskani-feto-den-tutuklandi-haberi-199838.html

http://t24.com.tr/haber/trabzon-baro-baskani-fetoden-tutuklandi,361878

[5]      Securing access of detainees to lawyers, (2017, February 15) http://assembly.coe.int/nw/xml/XRef/Xref-XML2H¬TML-en.asp?fileid=23244&lang=en

[6]      50 bin sanıklıdavalar geliyor,(2016, December 27), http://www.sozcu.com.tr/2016/yazarlar/saygi-oz¬turk/50-bin-sanikli-davalar-geliyor-1587652/

[7]      Avukatlar darbecileri savunmak istemiyor, (2016, August 2), http://m.karar.com/gundem-haberleri/avukatlar-dar¬becileri-savunmak-istemiyor-206052

[8]      SözcüNewspaper (2016, 22 October)

[9]      İzmir’de FETÖdavası: 30 avukat çekildi, (2017, January 31) http://www.hurriyet.com.tr/izmir-feto-davasi-30-a¬vukat-cekildi-40352133 & Avukatlar FETÖ’cülere müdafi olmakistemiyor, (2016, August 3) http://ajansurfa.com/ tr-tr/haberler/4730/avukatlar-fetoculere-mudafi-olmak-istemiyor )

[10]     A Blank Check: Turkey’s Post-Coup Suspension of Safeguards Against Torture (October 24, 2016), https:// www.hrw.org/report/2016/10/24/blank-check/turkeys-post-coup-suspension-safeguards-against-torture

[11]     Avukat Tugay Bek, ters kelepçetakılarak darp edildi (2016, December 15) http://t24.com.tr/haber/avukat-tu¬gay-bek-ters-kelepce-takilarak-darp-edildi,377163

[12]     Çağlayan’da ÇHD üyelerine polis saldırısı: Bir avukatın beli kırıldı(2016, March 30) http://www.diken.com.tr/ caglayanda-chd-uyelerine-polis-saldirisi-bir-avukatin-beli-kirildi/

[13]     676 sayılıKanun Hükmünde Kararname, (2016, October 29) http://www.resmigazete.gov.

tr/main.aspx?ho-me=http://www.resmigazete.gov.tr/eskiler/2016/10/20161029.htm

[14]     Müvekkilleri ile görüşmek isteyen avukatlara KHK engeli, (2016, December 16) http://demokrasi2. com/2016/12/16/muvekkilleri-ile-gorusmek-isteyen-avukatlara-khk-engeli/

[15]     https://15julyfacts.com/wp-content/uploads/2017/07/human-right-violations-against-turkish-military-personnel.pdf

[16]     The Commissioner publishes a memorandum on the human rights implications of the emergency measures in Turkey (2016, October 7) http://www.coe.int/cs/web/commissioner/-/the-commissioner-publishes-a-memoran¬dum-on-the-human-rights-implications-of-the-emergency-measures-in-turkey

[17]     https://defendlawyers.wordpress.com/2016/09/12/turkey-concerns-regarding-the-situation-of-turkish-lawyers-including-munip-ermis-vice-president-of-the-progressive-lawyers-association-ccbe/http://www.ccbe.eu/fileadmin/speciality_distribution/public/documents/ HUMAN_RIGHTS_LETTERS/Turkey_-_Turquie/2016/EN_HRL_20160912_Turkey_Concerns_regarding_the_situati-on_of_Turkish_lawyers__including_Muenip_Ermis__Vice_president_of_the_Progressive_Lawyers_Association.pdf

[18]     Letter of the German Federal Bar Association to Turkish Ministry of Justice, (2017, January 18) http://www.brak. de/w/files/newsletter_archiv/berlin/2017/170118-letter-to-minister-bozdaaeg-from-president-schaefer.pdf

[19]     Letter of the Italian Bar Association to Turkish Ministry of Justice, (2017, January 31) http://www.consiglionazionale-forense.it/documents/20182/315569/2017.01.31+Oper_Letter_Minister_Turchia.pdf/e436d7d4-b3fc-4b26-a693-b75bd¬d559a4f

[20]     Yabancıkonukların OHAL konferansına katılımıengellendi, (2017, January 14) https://www.evrensel.net/ha¬ber/304048/yabanci-konuklarin-ohal-konferansina-katilimi-engellendi

[21]     (2017, March 13) http://communities.lawsociety.org.uk/download?ac=24273

[22]     http://www.ohchr.org/EN/NewsEvents/Pages/DisplayNews.aspx?NewsID=20285http://www.ohchr.org/en/NewsEvents/Pages/DisplayNews.aspx?NewsID=20285&LangID=E

[23]     Adalet Bakanı: FETÖ’cühakimlerin geçmişkararlarıyla ilgili düzenleme kaosa yıl açar (2016, December 10) http:// t24.com.tr/haber/adalet-bakani-fetocu-hakimlerin-gecmis-kararlariyla-ilgili-bir-duzenleme-hukuk-kaosuna-yol-a¬car,376025

[24]     Atanan hakim ve savcıların listesi (2016, November 29) http://www.resmigazete.gov.tr/main.aspx?ho-me=http://www.resmigazete.gov.tr/eskiler/2016/11/20161129.htm&main=http://www.resmigazete.gov.tr/eski¬ler/2016/11/20161129.htm

[25]     FETÖ’ye avukat aranıyor! (2017, March 25) Retrieved from http://www.halkinsesi.com.tr/m/zonguldak/fetoye-a¬vukat-araniyor-h29261.html

[26]     HSYK Başkanvekili Mehmet Yılmaz: İtirafçıhâkim-savcılar mesleğe dönemeyecek, (2016, December 29), http:// www.haberturk.com/gundem/haber/1342282-hsyk-baskanvekili-mehmet-yilmaz-itirafci-hkim-savcilar-meslege-do¬nemeyecek

[27]     HSYK Başkanvekili Mehmet Yılmaz: Niyetim itirafçılığıteşvik etmekti. (2016, December 28) http://www.haber¬turk.com/yazarlar/sevilay-yilman-2383/1341844-hsyk-baskanvekili-niyetim-itirafciligi-tesvik-etmekti

[28]     HSYK’dan yargıya “yetki” ayarı, (2016, July 26), http://www.sabah.com.tr/gundem/2015/07/26/hsykdan-yargi¬ya-yetki-ayari

[29]     Hakim ve Savcılar tayin şoku yaşadılar !, (2016, June 13), http://www.balikesirhaberajansi.com/haber-3770–ha¬kim-ve–savcilar-tayin-soku–yasadilar-.html

[30]     Erdoğan Can Dündar’a sert çıktı: Bedelini ağır ödeyecek (2015, January 6) https://tr.sputniknews.com/turki¬ye/201506011015746756/

[31]     Cerattepe’de madene “DUR” diyen hakimlere tenzili rütbe, (2016, February 27) http://www.radikal.com.tr/cevre/ cerattepede-madene-dur-diyen-hakimlere-tenzili-rutbe-1518808/

[32]     Arınç: Gözükaralıpın bu kadarına pes denir, (2015, April 27), http://m.gazetevatan.com/amp/hukumet-sozcusu-a¬rinc-gozu-karaligin-bu-kadarina-pes-denir–784671-gundem/

[33]     Davutoğlu: Yargıda darbe yapmaya kalktılar, (2015, April 26), http://www.gazetevatan.com/davutoglu-yargi¬da-bir-darbe-yapmaya-kalkistilar-784177-gundem/

[34]     HSYK’dan paralele nokta atışı, (2015, July 26), http://www.kontrgerilla.com/m/mansetgoster-mob.asp?haber_ no=7060

[35]     BakırköyBaşsavcıvekili Mehmet Demir oldu, (2016, June 6), http://www.sozcu.com.tr/2016/gundem/bakir¬koy-bassavci-vekili-mehmet-demir-oldu-1263393/

[36]     ‘Cumhurbaşkanı’na hakareti AYM’ye götüren hakim sürüldü. (2016, June 6) http://www.sozcu.com.tr/2016/gun¬dem/cumhurbaskanina-hakareti-aymye-goturen-hakim-suruldu-1263330/

[37]     YARSAV Eski BaşkanıMurat Arslan FETÖ’den tutuklandı(2016, October 26) http://www.haberturk.com/gun¬dem/haber/1315712-yarsav-eski-baskanina-fetoden-tutuklandi

[38]     Hsyk’dan o hakim için sürgünkararı, (2015, December 9) http://www.politikakulvari.com/haber/guncel_1/hsyk¬dan-o-hakim-icin-surgun-karari/7926.html

[39]     http://www.cnnturk.com/turkiye/suleyman-karacol-tutuklandi (http://www.hurriyet.com.tr/17-25-sanikla¬ri-28355122

[40]     Venice Commission Declaration on Interference with Judicial Independence in Turkey (2015, June 20) http://ve¬nice.coe.int/files/turkish%20declaration%20June%202015.pdf

[41]     Hakim FETÖ’cüleri yargılarken açığa alındı(2017, February 2) http://www.haberturk.com/gundem/ha¬ber/1376040-hakim-fetoculeri-yargilarken-aciga-alindi

[42]     FETÖ’nündarbe girişimi (2016, July 21) http://www.haberler.com/feto-nun-darbe-girisimi-2-8634290-haberi/

[43]     Gov’t suspends judges who released journalists (2017, April 3), https://www.turkishminute.com/2017/04/03/go¬vt-suspends-judges-released-journalists/

[44]     “Erdoğan Cemaatle ilgili gerekeni yapacağız dedi“ (2015, March 2016), https://www.youtube.com/wat¬ch?v=ok1R_ne8I1M

[45]     Yargının Yeni Hakimlerinden İlk İcraat Cemaate, (2014, July 22) http://www.internethaber.com/yarginin-ye¬ni-hakimlerinden-ilk-icraat-cemaate-1227131y.htm

[46]     CDL-AD(2017)004-e Turkey – Opinion on the duties, competences and functioning of the criminal peace

[47]     Ankara’da 3, İstanbul’da bir hâkim görevden alındı(2015, March 10) http://www.haberturk.com/gundem/ha¬ber/1051674-ankarada-3-istanbulda-bir-hkim-gorevden-alindi

HSYK’dan Nokta AtışıKararname! (2015, July 27) http://www.baroturk.com/hsykdan-nokta-atisi-kararna¬me-10842h.htm

HSYK’da 8 eski üyenin görev yeri değiştirildi, (2015, February 7) http://t24.com.tr/haber/hsykda-8-eski-uyenin-go¬rev-yeri-degistirildi,286354 )

[48]     OlağanüstüHal kapsamında alınan tedbirlere ilişkin Kanun Hükmünde Kararname, (2016, July 23) http://www. resmigazete.gov.tr/eskiler/2016/07/20160723-8.htm

[49]    Erdoğan: Anayasa Mahkemesinin kararına uymuyorum, saygıda duymuyorum (2016, February 28) http://www. milliyet.com.tr/cumhurbaskani-Erdoğan-anayasa-mahkemesi-istanbul-yerelhaber-1237210/

60] Can Dündar’a 5 yıl 10 ay, Erdem Gül’e 5 yıl hapis cezası, (2016, May 6) http://aa.com.tr/tr/turkiye/can-dundara-5- yil-10-ay-erdem-gule-5-yil-hapis-cezasi/567900 )

[50]     Erdoğan’dan Can Dündar ve Erdem Güliçin mahkemeye direktif, (2016, March 11) http://www.cumhuriyet.com. tr/haber/turkiye/496255/Erdoğan_dan_Can_Dundar_ve_Erdem_Gul_icin_mahkemeye_direktif.html.

[51]     Başbakan Erdoğan: “Anayasa Mahkemesi kararına saygıduymuyorum”, (2014, April 4) http://www.cnnturk. com/haber/turkiye/basbakan-Erdoğan-anayasa-mahkemesi-kararina-saygi-duymuyorum.

[52]     Egemenlik milletindir, AYM’nin değil,(2014, December 3), http://www.sabah.com.tr/gundem/2014/12/03/kim¬se-siyasete-yon-veremez

[53]     Erdoğan AYM üyeliğine bakın kimleri seçti, (2016, August 25), http://odatv.com/Erdoğan-aym-uyeligine-ba¬kin-kimleri-secti-2508161200.html

[54]     AYM’den Yargıtay ve HSYK’ya yüksek yargıda tutuklamalar,(2016, July 20) http://t24.com.tr/haber/aym-uyele¬ri-alparslan-altan-ve-erdal-tercan-tutuklandi,351034

[55]     Press release regarding the reasoned decision on the dismissal of two members of the Constitutional Court, Alparslan Altan and Erdal Tercan from profession (2016 August 9) http://constitutionalcourt.gov.tr/inlinepages/press/ PressReleases/detail/31.html

[56]     Adalet herkese eşit davranılmasınıgerektirmez, (2016, December 19) http://www.hurriyet.com.tr/adalet-herke¬se-esit-davranilmasini-gerektirmez-40311803

69] Anayasa Mahkemesi KHK red gerekçesi (2016, November 2) http://www.resmigazete.gov.tr/eski¬ler/2016/11/20161108-26.pdf

[57]     Anayasa Mahkemesi KHK red gerekçesi (2016, November 2) http://www.resmigazete.gov.tr/eski-ler/2016/11/20161108-26.pdf

[58]     Opinion on Emergency Decree Laws Nos.667-676 adopted following the failed coup of 15 July 2016 (2016, De¬cember 12) http://www.venice.coe.int/webforms/documents/default.aspx?pdffile=CDL-AD(2016)037-e

[59]     https://ahvalnews.com/turkey/echr-turkish-government-explicitly-violated-journalists-rights

[60]     Turkey widens post-coup purge, (As of April 8, 2017), https://turkeypurge.com

[61]     Danıştay Kanunu ile bazıkanunlarda değişiklik yapılmasına dair kanun (2016, July 23) http://www.resmigazete. gov.tr/eskiler/2016/07/20160723M2.pdf )

[62]     HSYK gizli oylamayla 4 saatte 342 üye atadı… İşte Yargıtay ve Danıştay’ın yeni üyeleri (2016, July 25) http://www. cumhuriyet.com.tr/haber/turkiye/573873/HSYK_gizli_oylamayla_4_saatte_342_uye_atadi…_iste_Yargitay_ve_Danis¬tay_in_yeni_uyeleri.html )

[63]     Karar Sayısı: KHK/667, (2016, July 23) http://www.resmigazete.gov.tr/eskiler/2016/07/20160723-8.htm

[64]     Karar Sayısı: KHK/675, (October 29, 2016) http://www.resmigazete.gov.tr/eskiler//2016/10/20161029-4.htm

[65]     Opinion on Emergency Decree Laws Nos.667-676 adopted following the failed coup of 15 July 2016 (2016, De¬cember 12) http://www.venice.coe.int/webforms/documents/default.aspx?pdffile=CDL-AD(2016)037-e

[66]     Turkey 2016 Report (2016, November 9) https://ec.europa.eu/neighbourhood-enlargement/sites/near/files/pdf/ key_documents/2016/20161109_report_turkey.pdf

[67]     Ibid. page 18.

[68]     Yargıtay’ın Basın Açıklaması, (2016, November 21) http://www.yargitay.gov.tr/sayfa/basin-aciklamasi/document¬s/21112016BasinAciklamasi.pdf )

[69]     Ibid. page 18.

[70]     Avrupalıyargıçlar Yargıda Birlik Platformunu iki kez reddetti, (2015, September 13), http://m.baroturk.com/avru¬pali-yargiclar-yargida-birlik-platformunun-davetini-iki-kez-reddetti-12309h.htm

[71]     Turkey 2016 Report (2016, November 9) https://ec.europa.eu/neighbourhood-enlargement/sites/near/files/pdf/ key_documents/2016/20161109_report_turkey.pdf

[72]     Abdullah Gültopu Anayasa Mahkemesi’ne attı, (2014, February 26) http://www.bbc.com/turkce/haber¬ler/2014/02/140226_hsyk_gul_onay

[73]     Hakim ve savcılara seçim zammı, (2014, September 9) http://m.radikal.com.tr/turkiye/hakim_ve_savcilara_1155_ lira_secim_zammi-1211728

[74]     Başaran: YARSAV ve paralele oy vermek ateşe benzin dökmektir,(2014, September 28)http://www.star.com.tr/ politika/basaran-yarsav-ve-paralele-verilen-oy-atese-benzin-dokmektir-haber-945332

[75]     Erdoğan ‘HSYK’nın toplantısıgecikti’ dedi, HSYK 2.Daire Başkanıözürdiledi, (2015, April 27) http://t24.com.tr/ haber/Erdoğan-hsyknin-toplantisi-gecikti-dedi-hsyk-2-daire-baskani-ozur-diledi,294817 )

[76]     ENCJ votes to suspend the Turkish High Council for Judges and Prosecutors, (2016, December 8) https://www. encj.eu/index.php?option=com_content&view=article&id=227%3Ahsyk-suspended&catid=22%3Anews&lang=en, www.hurriyet.com.tr/avrupa-hsyknin-statusunu-askiya-aldi-40302364

[77]     5bin halim ve savcıtespit ettik, (2016, March 6) http://www.hurriyet.com.tr/5-bin-hakim-savci-tespit-et¬tik-40064585

[78]     Türkiye: Hukuk Devletinin Sonu, (2016, November 7), http://researchturkey.org/tr/turkey-the-end-of-the-rule-of-law/ )

[79]     İnternational Association Of Judges, (2016, November 24), http://dommerforeningen.dk/media/74663/answer-to-ypd-president-nov-2016.pdf

[80]     Appeal: The End of the Rule of Law in Turkey (2017, March 24), http://www.iaj-uim.org/iuw/wp-content/uploa¬ds/2017/03/IAJ-Appeal-for-Turkey-_March-2017.pdf

[81]     CumhurbaşkanıBaşdanışmanıŞeref Malkoç: “Darbeye KarşıMilletin SilahlanmasıSağlanacak, (2016, July 17), https://onedio.com/haber/cumhurbaskani-basdanismani-seref-malkoc-darbeye-karsi-milletin-silahlanmasi-saglana¬cak–721612)

[82]     Şeref Malkoç, KHK’larıyorumladı, (2016, July 31), http://www.borsagundem.com/haber/seref-malkoc/1106978

[83]     CumhurbaşkanıBaşdanışmanıŞeref Malkoç:AB’ye değil milletin sesine kulak verilecek, (2016, July 20), http:// www.abhaber.com/cumhurbaskani-basdanismani-seref-malkocabye-degil-milletin-sesine-kulak-verilecek/

[84]     https://ahvalnews.com/tr/node/1948

[85]     http://www.hurriyet.com.tr/gundem/ohal-komisyonu-12-bin-basvurunun-sonuclarini-acikladi-40804247

[86]     ProfesörÖzgençUyardı: KHK Komisyonu ile mağduriyetler ötelenecek, (2017, January 25), http://www.tr724. com/profesor-ozgenc-uyardi-khk-komisyonu-ile-magduriyetler-otelenecek/

[87]     OHAL komisyonu nasıl karar verecek? (2017, January 23), http://www.gazeteduvar.com.tr/gundem/2017/01/23/ ohal-komisyonu-nasil-karar-verecek/

[88]     Prof. Metin Günday: Biz bu filmi 30 yıl önce de gördük, OHAL Komisyonu aldatmacadan ibaret! (2017, Febru¬ary 16), http://t24.com.tr/haber/prof-metin-gunday-biz-bu-filmi-30-yil-once-de-gorduk-ohal-komisyonu-aldatma¬cadan-ibaret,389313

[89]     ÇHD Başkanı: Emniyet ve hapishanede tecavüzler yaşanıyor, (2016, October 16) https://www.evrensel.net/ha¬ber/293062/chd-baskani-emniyet-ve-hapishanede-tecavuzler-yasaniyor

[90]     Memorandum on freedom of expression and media freedom in Turkey, by Nils Muižnieks, Council of Europe Commissioner for Human Rights (2017, February 15) https://wcd.coe.int/com.instranet.InstraServlet?command=com. instranet.CmdBlobGet&InstranetImage=2961658&SecMode=1&DocId=2397056&Usage=2

[91]     The mechanism orders turkey to release judge Aydin Sefa Akay, (2017, January 31) http://www.unmict.org/en/ news/mechanism-orders-turkey-release-judge-aydin-sefa-akay

[92]     http://www.ohchr.org/Documents/Countries/TR/2018-03-19_Second_OHCHR_Turkey_Report.pdf