تطلَّب إنجاز المشروعات التعليمية التي رسمها الأستاذ كولن مواردَ بشريةً ومالية. فكانت هناك حاجة لمدرسين ومديري مدارس مُتفانين ومُلتزمين بتعليمٍ جيدٍ، ومستعدين للقيام بتضحيات لتحسين تعليم طلابهم. وتَعيَّن على الآباء أن يكونوا راغبين في العمل مع المدرسين وإداريي المدارس، من أجل تحقيق الأهداف التعليمية المشتركة. ولتحقيق تلك الأهداف؛ كان من الضروري التبرُّع بمقادير كبيرة من خلال إنشاء أوقاف خيرية.

حثَّ كولن المؤمنين في تركيا وخارجها أن يصيروا أثرياء ليس لمنفعتهم الشخصية فحسب؛ ولكن ليدعموا المشروعات الخدمية النافعة.

مدارس عالية الجودة

ولذلك، بدأ الأستاذ كولن في الأيام الأولى للحركة يكلم الناس من جميع طبقات المجتمع التركي. وجالس الناس في أي مكان استطاع الوصول إليهم فيه؛ المقاهي والمساجد وفي البيوت والقرى الصغيرة والبلدات والمدن، في شتى أنحاء تركيا. وبغض النظر عمن كان يُخاطب، فقد كانت رسالته واحدة؛ وهي: تعليم صحيح في مدارس عالية الجودة، ولتحقيق ذلك فهناك ضرورة للخدمة التطوعية والمساهمات المالية[1]

بينما ظلَّ الأستاذ كولن نفسه فقيرًا ماديًّا، فإن زُهدَه وأهدافه المتجردة قد حفَّزا المدرسين والآباء والداعمين للمساهمة لأجل الصالح العام، بأي الطرق استطاعوا.

وقد استمر في تشجيع النخبة الاجتماعية ووجهاء المجتمع والصناعيين الأثرياء ورجال الأعمال الصغار، على حد سواء؛ على دعم التعليم الجيد. وبتبرعاتٍ من هؤلاء الأفراد؛ تأسست أوقاف تعليمية لدعم مئات المدارس في كل من تركيا وخارجها.

تنمية الاقتصاد الإسلامي

ولجأ الأستاذ في خطبه ومناشداته؛ لأفكار وقيم مشتركة في العديد من التقاليد الدينية: الواجب، والالتزام الأخلاقي، والمساهمات المخلصة، والخدمة التطوعية[2]. وكما يُبيّن البعض؛ فقد آمن الأستاذ كولن ابتداءً بالمشروعات الحرة، وشجّع عليها، وهو يدعو لوجوب أن يصير المؤمنون أغنياء ويعملوا على إنماء تجاراتهم قدر استطاعتهم، خصوصًا على المستوى العالمي؛ الذي يرى فيه مستقبل الاقتصاد في العالم. وبالتالي؛ فجزء من الثروة المتراكمة يجب أن يُستخدم في دعم المشروعات التعليمية العديدة، التي ستكافح الجهل والفقر والرذيلة. ويحتج الأستاذ كولن باستمرار على أن وجود سوق حر قوي أمر ضروري لتنمية الثروة الاقتصادية، والتي يمكن استخدامها في إقامة وتدعيم نظام تعليمي حديث سيقوي المسلمين والدولة التركية آخر الأمر[3]

يحتج الأستاذ كولن باستمرار على أن وجود سوق حر قوي أمر ضروري لتنمية الثروة الاقتصادية، والتي يمكن استخدامها في إقامة وتدعيم نظام تعليمي حديث سيقوي المسلمين والدولة التركية آخر الأمر

طبقة جديدة من رجال الأعمال

وفي الثمانينيات، وتحت حكم الرئيس أوزال، أدى تحول الاقتصاد التركي إلى الليبرالية لظهور طبقة جديدة من رواد الأعمال، التي راكمت ثروتها من الاستثمار في الأعمال التجارية والمشروعات الرأسمالية في كل من تركيا والعالم. وكثير من رجال الأعمال هؤلاء كان مُنجذبًا لأفكار الأستاذ كولن حول ريادة الأعمال ومراكمة الثروات، جنبًا إلى جنب مع مسؤولية اجتماعية ودينية بدعم المشروعات الخدمية، خاصة ما تعلق بالتعليم الجيد، والمشروعات التي ستسهم في تحسين التعليم بين الشباب التركي. وإلى جانب تعليم المواد العلمانية في المدارس التي استلهمت فكر كولن، يأتي التعليم الأخلاقي وتطور هوية المسلم-تركية قومية.

حثَّ كولن رجال الأعمال على حشد مصادرهم وطاقاتهم في أوقافٍ خيريةٍ؛ فلا يستفيد منها سوى الطلاب أنفسهم. وصار بناء المدارس مُعادلاً حديثًا لبناء المساجد في روع العديدين من رجال الأعمال

وقد شجّع الأستاذ كولن طبقة أصحاب الأعمال الجديدة، أولاً؛ لدعم بيوت للطلبة يُمكن لهم الإقامة فيها والدراسة سويًّا تحت إشراف معلمين متفرغين. الخطوة التالية التي روَّج لها الأستاذ كولن كانت تمويل المعاهد التحضيرية للجامعة، لإعداد الطلاب لاختبار القبول الإجباري للكليات.

الثراء لنفع الغير

لقد خطب الأستاذ كولن مؤكدًا أن لكل فردٍ دورًا يلعبه في إقامة مدارس على أعلى مستوى في تركيا. ووجَّه الدعوة إلى القادرين والمتحفزّين للمشروع ليكونوا إداريين ومدرسين في المدارس. أما أصحاب الأعمال التجارية، ومَنْ يعملون في وظائف احترافية؛ فتعين عليهم إنماء ثرواتهم قدر الاستطاعة، ليدعموا المشروعات التعليمية ماليًّا. فيجب على المؤمنين في تركيا وخارجها أن يصيروا أثرياء ليس لمنفعتهم الشخصية فحسب؛ ولكن ليدعموا المشروعات الخدمية النافعة[4]. وقد حثَّ رجال الأعمال على حشد مصادرهم وطاقاتهم في أوقافٍ خيريةٍ؛ فلا يستفيد من دخل تلك المؤسسات سوى الطلاب أنفسهم. وصار بناء المدارس مُعادلاً حديثًا لبناء المساجد في روع العديدين من رجال الأعمال[5].

لقد غيَّر الأستاذ كولن أفهام الجماهير من خلال تطوير فهم جديدٍ للدين والعلم والعلمانية والخدمات الاجتماعية والتعليمية.

كولن الزاهد نموذجًا

وبينما ظلَّ الأستاذ كولن نفسه فقيرًا ماديًّا، فإن زُهدَه وأهدافه المتجردة قد حفَّزا المدرسين والآباء والداعمين للمساهمة لأجل الصالح العام، بأي الطرق استطاعوا. ورغم استنفاره الجمهور للتبرع؛ ابتعد الأستاذ كولن عن الإدارة المالية لكل المؤسسات المرتبطة بالحركة. بل شجّع داعمي تلك المؤسسات على الإشراف الفعال على طريقة توظيف أموالهم، الأمر الذي رسّخ ثقة كبيرة في نزاهة الأستاذ كولن وأمانته[6].

 ابتعد الأستاذ كولن عن الإدارة المالية لكل المؤسسات المرتبطة بالحركة. وشجّع داعمي تلك المؤسسات  للإشراف الفعال على مؤسساتهم، الأمر الذي رسّخ ثقة كبيرة في نزاهة الأستاذ كولن وأمانته

ويُشير الأستاذ كولن دائمًا إلى قول عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) رابع الخلفاء الراشدين: “إن الناس صنفان؛ إما أخ لك في الدين أو نظيرُ لك في الخلق”؛[7] فالبشر أشرف المخلوقات، وعلى من أراد أن يزداد شرفًا أن يقوم بخدمة هذا المخلوق المشرَّف.

وبالنسبة للأستاذ كولن؛ فإن توفير التعليم الجيد، من خلال المشروعات الطوعية والأوقاف الخيرية؛ واحدٌ من أكثر الطرق نُبلاً لإظهار الاحترام والإجلال لأُخُوّة الإنسانية. ليصير العمل عبادة لله، حتى لو كان ذلك العمل قليلاً من دخل المرء يتبرّع به لأحد مشروعات الخدمة. إن العمل التربوي ودعم التعليم، على وجه الخصوص؛ مرتبطان بالقيم الإسلامية الرفيعة.

أكَّد كولن أن تركيا، فضلاً عن الإنسانية؛ يلزمها المزيد من الأفراد المتسامحين والمتحلين بقلوب رَحبة وعقول تحترم التفكير الحر، وتنفتح على العلم الطبيعي، قادرة على تصور التناغم بين الشرائع المقدسة للكون والحياة.

إحياء القيم النبيلة

لقد أحيت أفكار الأستاذ كولن الخدمية الديناميات الخيِّرة وسمات الإيثار والإحسان المتأصّلة في الثقافة التركية، لتملأ الفجوة التي خلفتها السياسات الحكومية. لقد غيَّر الأستاذ كولن أفهام الجماهير من خلال تطوير فهم جديدٍ للدين والعلم والعلمانية والخدمات الاجتماعية والتعليمية. وأكَّد على أن تركيا، فضلاً عن الإنسانية؛ يلزمها المزيد من الأفراد المتسامحين والمتحلين بقلوب رَحبة وعقول مُتفتحة تحترم التفكير الحر، وتنفتح على العلم الطبيعي والبحث العلمي، وتكون قادرة على تصور التناغم بين الشرائع المقدسة للكون والحياة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] Aslandogan and Cetin (2006)

[2] Gülen (2005)

[3] Yavyz (2003)

[4] Sevendi (2008)

[5] Cetin (2010)

[6] Woodhall (2005)

 [7] من كتاب الإمام علي رضي الله عنه لمالك الأشتر النخعي حين ولاه مصر.

المصدر: هيلين روز، حركة فتح الله كولن تحليل سوسيولوجي لحركة مدنية متجذرة في الإسلام المعتدل، تنوير للنشر والإعلام، القاهرة، طـ1، 2015م، صـ69/ 70/ 71/ 72.

ملحوظة: عنوان المقال، والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.