عندما يرى الإنسان نتائج أعماله على أرض الواقع قد يظنّ أنه يقوم بأعمال محمودة، وقد يبدو ذلك عاديًّا وبريئًا جدًّا بالنسبة له، لكن الخطيئة قد تجد مكانًا لها حتى في قلب أكثر المشاعر والأفكار براءة، ومن ذلك على سبيل المثال أنه حين تتسلط على خلايانا العصبية أفكارٌ مثل: “نحن من خططنا لهذا، ونحن من أنجزناه”؛ فإننا قد لوّثنا العمل الذي نقوم به؛ وتستحيل الاستقامة على هذا المنوال، وإنكم إذا ما أنجزتم أشياءَ عظيمةً، وفتحتم عوالم جديدةً، وعثرتم على كنوز في أعماق الأرض ثم حدَّثَتْكم أنفسكم بأنَّ الفضلَ في ذلك يعود إليكم أيضًا؛ فإنكم خاسرون لا محالة.

استحالةُ الشَّرَاكَةِ في عمليّة الخَلق

إن إرادة الإنسان عامل أساسي عند بدء العمل، ولذا فإن واجبه هو أن يمنحَ إرادته حقها، ويتخذَ جميعَ الأسباب التي تؤدي إلى النتيجة، ويستنفذَ في سبيل ذلك طاقتَه وجهدَه وعزيمتَه.. وبعد أداءِ واجبِه عليه ألا ينسب إلى نفسه النتيجة التي تتحقق كمظهر من مظاهر الإرادة الإلهية، وألا يعتبرها من عند نفسه؛ لأن خالق كل الموجودات والحوادث التي في الكون هو الله سبحانه وتعالى، وعمليةُ الخلقِ هذه لا تحتمل ولا تقبل الشراكة قطعًا، والدخول في فكرة المشاركة هنا -في مسألة إنجاز هذه النجاحات التي أنعم الله بها علينا- إنما هو نوعٌ من الشرك بالله تعالى.

لا ينبغي أن نقلل ونحقر من شأن أي عمل يُنجزُ من أجل الله، إلّا أنه يجب علينا أن نراه في أعيننا صغيرًا.

فعندما يبدأ الناس في الاعتقاد بأن النعم التي منَّ الله تعالى بها عليهم إنما هي من عند أنفسهم فإنهم يفقدونها، وحتى وإن استمرّ التوسع بفعل قوته المركزية بسبب الإخلاص الذي كان في بداية الأمر لمدة معينة فإن هذا التوسع يتوقف بعد فترة ما بسبب فقدان الإخلاص، وإنَّ مَنْ يبدؤون في نسبة العمل إلى أنفسهم بعد أن تقلّدوا وظيفتهم المباركةَ بإخلاص لَيَخْسرون حتى وإن كانوا أعظم الأولياء، وسيتعثرون إن عاجلًا أو آجلًا.

لهذا السبب فإن الأستاذ بديع الزمان يوصي بقراءة رسالة الإخلاص مرة كل خمسة عشر يومًا في الأقل[1]، بغيةَ محوِ الشرك الثقيل وهو الأنانية، والابتعاد عنه إلى ما هو أخف منه بدرجة وهو “نحن”، ثم محو “نحن” أيضًا بتفكير أكثر صدقًا، والارتباط بـ”هو” جل جلاله.

إن الطريق الذي نسير فيه هو طريق التوحيد.. طريق إعادة بعث العقائد المتعلقة بوجود الله ووحدانيته من جديد؛ بعد أن تضررت مقوّماته الأساسية على مرّ السنين ونُسيت من قِبلِ الكثيرين، ويجب العلمُ بأن حاملَ فكرةِ الشِّرك لا يمكنه السير في طريق التوحيد، فإنْ هَمَمْتُم وربَطْتُم -في مثل هذا الطريق- بعضَ النجاحات بغير الله وبالأسباب وبأنانيتكم؛ فإن الله تعالى يأخذها من أيديكم شيئًا فشيئًا، وبينما تظنون أنّكم أنْشَأتُم عالَمَكم الخاص إذا به ينهار فوق رؤوسكم؛ فترزحون وتنسحقون تحته أنتم أيضًا.. ولذا فكلّما زادت أنعم الله وإحساناته عليكم كلما توجَّبَ عليكم أن تقووا الصلة والارتباط به عز وجل، وأن تمحوا كل شيء من العقل سوى الله تعالى.

ويلخص الأستاذ بديع الزمان منزلة الأسباب بالعبارات التالية: “إنّ الأسباب حجابُ تصرّف القدرة؛ إذ العزةُ والعظمة تقتضيان الحجابَ، لكنَّ المتصرف الفعال هو القدرة الصمدانية؛ إذ التوحيد والجلال هكذا يقتضيان، لا مؤثر إلا الله وحده”[2]، ويقول في موضع آخر: “فالأسباب لا تأثير لها تأثيرًا حقيقيًّا، وإنما هي ستائر أمام عزة القدرة وعظمتها، لئلا يرى العقل مباشرةً يد القدرة بالأمور الخسيسة بنظره الظاهر”[3]، وكما تبين فالأسباب أستارٌ ليس إلا، وعلى الرغم من أن الإنسان قد شُرِّف بنعمة العقل والتكريمِ و”أحسن تقويم”؛ فإن أفعاله لا تعدو كونَها سببًا، لذلك فإن استبدالَ “هو” بـ”أنا” سوءُ أدبٍ كبير مع الله تعالى.

إنَّ الله سيوفق مَنْ لا يهتمون بتحقيق فائدة شخصية من وراء أعمالهم الصالحة، ولا يضعون أنفسهم في الحسبان، ولا يطلبون الدنيا، ويتواضعون ويخدمون بإخلاص.

ولا ينبغي للمرء أن يسمح حتى لأصغر الأفكار الخاطئة بأن تتسلّط على عقله في هذا الشأن؛ لأنها قد تنمو رويدًا رويدًا وتُحوِّل مُعتنِقَها إلى رمز للأنانية، ومَن ينحدرُ إلى هذه الدركة من الشرك يستحيل عليه أن يُحطِّم -بسهولة- هذا الصنم الضخم الذي بناه بيديه.

إن الله لا يحب من يقول “أنا”

يقول الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ (سورة الصَّافَّاتِ: 37/96)، ربما لا يشعر الإنسان بهذا دائمًا، وقد يعتبر النتيجة المتحقّقة من عند نفسه أحيانًا، بيد أنه بمجرد أن ينتبه لذلك فعليه أن يستغفر فورًا، ويتجنب الآراء والملاحظات الخاطئة، وألَّا يسمح حتى لخياله أن يتلوث بهذه الأشياء؛ وإلى اليوم لم نرَ من بين مَن يقولون “أنا.. أنا..” مَن حقّقَ نجاحًا أو فلاحًا، وحتى وإن ارتقى أحدهم بعضَ الشيء إلا أنه يقع سريعًا ويخرُّ منكبًّا على وجهه، وينقلب رأسًا على عقبٍ.. فإن تعيشوا الحياة بإحساسٍ وتفحُّصٍ جادّين فستجدون كثيرًا من أعمالكم التي داخَلَتْها الأنانيةُ وأَثنيتُم عليها قد باءت بالفشل، فالله يمقتُ الأنانيةَ ولا يحبّها.. فإذا كنا ننشدُ النجاح فيما نقوم به من خدمات فعلينا أن ننفّذَ أعمالنا كلها في مدار الإخلاص وفلكه.

إن النفس تريد أن ترى ذاتها مستقلة وأن تفخر بإنجازاتها، ولكن النفسَ أمّارةٌ بالسّوء كما قال سيدنا يوسف عليه السلام في القرآن الكريم: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ (سورة يُوسُفَ: 12/53)، ولذا فلا يمكن الوثوق بها، وعندما نقوم بشيءٍ ما من أجلها أو نربط ذلك الشيءَ بها؛ فإننا نقلل من قيمة العمل المنجَزِ ونقضي على تأثيره، إذ إن ما يُقامُ به من أعمالٍ من أجل النفس محكومٌ عليه بأن يكون عقيمًا لا قيمة له في الآخرة أيضًا، ولذلك طالما تحرَّكْتم لصالح النفس فلن تحصلوا على أجر من الله تعالى حتى وإن فتحتم عوالم جديدة.

علاوة على ذلك، فإن هذه المواقف المرتبطة بالأنا حينما تصطدم بالعباد المخلصين فسيصدر عنهم ردّ فعل كاره لها، وستصطدم بكراهيتهم إياها فليس هناك شكٌّ في أنها ستدفع أيضًا مَنْ يسيرون معكم على الخط نفسه إلى الحسد والغيرة منكم، فيجب التذكير أنه بقدر ما يُعجَبُ الإنسان بنفسِهِ وبأعمالِه بقدر ما يبغضه الناس ويرفضونه ويبتعدون عنه.

عدمُ استعظام العمل عبادةٌ

من ناحية أخرى فإن الأعمال المنجَزَة تُصبح كبيرة وعظيمة -حتى وإن كانت صغيرة- إذا ما نُفّذت بإخلاص، فما يُفعل في سبيل الله لا يكون صغيرًا.. والحقيقة أن نبيَّنا صلى الله عليه وسلم يبين أنه لا ينبغي التقليل من شأن العمل الصالح مهما كان بسيطًا، فقد قال صلى الله عليه وسلم: “تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ البَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ“[4].

نعم، لا ينبغي أن نقلل ونحقر من شأن أي عمل يُنجزُ من أجل الله، إلّا أنه يجب علينا أن نراه في أعيننا صغيرًا، وهذا المعنى يتوافق مع الدعاء المنسوب إلى نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم حينما دعا فقال: “وَاجْعَلْنِي فِي عَيْنَيَّ صَغِيرًا وَفِي أَعْيُنِ النَّاسِ كَبِيرًا“[5]، إذن يجب على المؤمن أن ينظر من هذا المنظور إلى جميع الأعمال التي يحاول القيام بها، وألا يستعظم أيًّا من أعماله، وأن يستقِلَّ العبادات التي يؤدّيها في سبيل الله، ويستقِلَّ أيضًا معرفته، وكذلك جهودَه في سبيل إعلاء كلمة الله، وألا يرى الوقتَ الذي كرَّسه لله تعالى والجهودَ التي بذلها في سبيل الإرشاد والتبليغ كافيًا وافيًا.. والحقيقةُ أن مثل هذا الرأي يُعتبر عبادةً من زاوية مختلفة، دَعُونا نُسَمِّها “عبادةُ عدمِ استعظام العمل”.. وإن كانت العظمة واردة فإنها في العمل من أجل البشرية وفي ربطه برضاء الله جل وعلا؛ ذلك لأننا نؤمن بأن الله قد يوفق حتى الجهود الصغيرة إلى انفتاحات عظيمة وخيرات كبيرة.

إن الطريق الذي نسير فيه هو طريق التوحيد.. طريق إعادة بعث العقائد المتعلقة بوجود الله ووحدانيته من جديد؛ بعد أن تضررت مقوّماته الأساسية على مرّ السنين ونُسيت من قِبلِ الكثيرين.

فمثلًا إن بضعَةَ منازل طلابية أنشأتموها بنيَّات صادقة في فترة ما يمكن أن تُصبح وسيلةً لتوسّعات كبيرة في المستقبل، وقد تتحوّل البذور التي بذرتموها إلى فسائل، فتتحوّل إلى أشجار، وتبدأ تمد أغصانها في كل مكان، ثم يتحول العالم إلى بستان وردٍ؛ حتى إنَّ منْ بذر البذور تسيطر عليه الدهشة والحيرة إزاء هذه النتيجة.. يكفي أن تُنجز الأعمال من أجل رضا الله وألَّا يحاول المرء التعبير عن نفسِه من خلالها.

ونتيجة لذلك يمكننا القول إنَّ الله سيوفق مَنْ لا يهتمون بتحقيق فائدة شخصية من وراء أعمالهم الصالحة، ولا يضعون أنفسهم في الحسبان، ولا يطلبون الدنيا، ويتواضعون ويخدمون بإخلاص، وكما ورد في الآية الأولى من سورة الفتح: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ (سورة الفَتْحِ: 1/48)، فإنه سيفتح طريقهم، ويحول الممرات الضيقة أمامهم إلى طرق سريعة واسعة.

من ناحية أخرى فإن من يقول: “إنني أعمل، وأركض، وأهاجر، ثم بعد ذلك أعاني من أنواع الحرمان المختلفة؛ أين مردود كل هذه الجهود والتضحيات؟!”، ويتطلع إلى نسج عالمه الخاص مثل العنكبوت فإنه سوف يقع في شِباكِ هذه الخطوط العنكبوتية التي نسجها، هذه هي مصيدةُ الأنانية، وإذا ما وقع في هذه المصيدة فلن يتمكن من الخروج منها مرة أخرى، وسيكون طعمة للآخرين.. سلَّمَنا الله جميعًا ورزقنا حسن الخاتمة..

ملحوظة: تم إعداد هذا المقال من كلمة ألقاها الأستاذ فتح الله كولن في تاريخ 5 مارس 2010م.


[1]  بديع الزمان سعيد النُّرسي: اللمعات، اللمعة الحادية والعشرون، ص 219.

[2] بديع الزمان سعيد النورسي: المثنوي النوري، ص 55.

[3] بديع الزمان سعيد النورسي: المثنوي النوري، ص 423.

[4] سنن الترمذي، البر والصلة، 36.

[5] مسند البزار، 10/315.