مقومات وشروط البناء الحضاري في فكر فتح الله كول
يقع الإنسان -بوصفه خليفة الله في هذه الأرض- في لبِّ المشروع الحضاري الذي يسعى الأستاذ كولن -عبر أفكاره المبثوثة في كتبه، وعبر مشاريع الخدمة التي يرودها- إلى إنضاج المنهج الذي يُمكِّن من إعادة بناء هذا الإنسان وصياغته بشكل يؤهله لمسؤوليات هذا الاستخلاف. وقد أجملت الكاتبة معالم وأسس هذه الرؤية المتكاملة للأستاذ كولن في العناصر الآتية:
1- التربية أساس بناء الإنسان، حيث يعتقد الأستاذ كولن أن الرؤية التربوية هي خطة العمل الاستراتيجية لعملية بناء الإنسان، ويعتبر التوبة أول خطوات التربية.
2- تأصيل الثقافة لتشييد الحضارة، إذ لا سبيل لبناء حضارة الأمة دون تأصيل الثقافة الإسلامية.
3- منهج البناء من الداخل، الذي يبني منطق الأمة من داخل مقوماتها الذاتية وليس من خارجها.
4- روح المسؤولية، فأخلاق المسؤولية -كما عبر عنها الأستاذ كولن- أول وسيلة لتحقيق رؤيانا وخيالنا.
[gdlr_divider type=”solid” size=”50%” ]
يتميز الخطاب الفكري للأستاذ فتح الله كولن بكونه خطابًا إصلاحيًا ذا طابع قيميٍّ أخلاقيٍّ تربويٍّ مركزُه الإنسان، فمشروعه الفكري عبارة عن محاولات جادة لإنضاج المنهج الذي يمكِّن من إعادة بناء وصياغة الإنسان، بشكل يؤهله لمسؤولياته في الحياة، فيتحدث كولن عن الإنسان الجديد وخاصياته، الإنسان الذي يوازن ويدقق ويستفيد من التجارب ويرغب في الوصول للكمال، الإنسان الذي يستحضر البعد الأخروي في حياته اليومية ويوازي بين الدنيا والآخرة في سعيه، الإنسان الذي يسعى للحرية ويقدّرها، ويهتم بتحقيق وحدة المسلمين، ويتخذ القيم والأخلاق أسسًا لحياته. الأخلاق التي تتأسس على الدين باعتبار راهنية دوره وأثره اليوم في التغيرات العالمية، وقدرته على الإجابة عن أسئلة الإنسان بناءً على السمة التجاوزية والاستيعابية للدين، كأحد أبرز مقومات البناء والبعث الحضاري. ذلك أن قدرة الدين الإسلامي التجاوزية والاستيعابية، تُمكِّنه من التجاوب مع قضايا الإنسان والانفتاح على الآخر من غير ذوبان في ثقافته، باعتبار الدين كلاًّ لا يتجزأ.
الخطاب عند محمد فتح الله كولن تميز بحضور كبير للوجدان والجمالية، من خلال تركيزه على الروح والقلب والتوبة والمحبة… وعلى الرغم من الطابع الوجداني الذي يغلب عليه إلا أنه لا يخلو من الخصائص العقلية.
و يركز كولن على التعامل مع مجريات الواقع، وعدم التعالي على العصر، وقد وضع تحقيبًا لمراحل النهضة يستبشر من خلاله بالمستقبل، يقول “لقد كان القرن الثامن عشر قرن التقليد الأعمى وكان القرن التاسع عشر قرن الذين انجرفوا خلف شتى أنواع الفنتازيات واصطدموا بماضيهم وبمقوماتهم التاريخية. وكان القرن العشرون قرن الذين اغتربوا عن أنفسهم وذواتهم، ينقبون عن من يرشدهم وينير لهم الطريق في عالم غير عالمهم، ولكن جميع الأمارات والعلامات التي تلوح في الأفق تبشر بأن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن الإيمان والمؤمنين، وعصر انبثاق نهضتنا من جديد”(1)، ومن هنا تأتي دعوته إلى التعامل مع العصر الراهن بأسئلته وإشكالاته وكذلك بفرصه التي يمنحها. إن رؤية فتح الله كولن تقوم على أسس متكاملة نُجملها في ما يلي:
1- التربية أساس بناء الإنسان
يعتقد كولن أن الرؤية التربوية هي خطة العمل الاستراتيجية لعملية بناء الإنسان، بحيث يركز على النموذج الأخلاقي، لأن الأخلاق في نظره كفيلة ببناء الإنسان “إن إصلاح أي أمة لا يكون بالقضاء على الشرور، بل بتربية الأجيال تربية صحيحة وبتثقيفها ثقافة صحيحة، ورفعها إلى مستوى الإنسانية الحقة. وعندما تُبذر البذور المقدسة التي هي عبارة عن خليط من الشعور الديني والتاريخي والأعراف في أرجاء الوطن، فستُرى نبْتات وشتلات عدة وهي تنبت في موضع كل شر محته”(2).
ويعتبر التوبة أول خطوات التربية:
توبة الأشخاص، ويقصد بها توبة كل فرد، يقول: “أول منزل للسالك وأول مقام للطالب هوالتوبة”(3).
توبة مؤسسات الدولة: “إنَّ على كل مؤسسة تمثل المجتمع أن تتوب، وتكون توبتها بفهم أنواع الأخطاء التي اقترفتها وأنهكتها وأفلستها، والقيام من ثم بتلافيها. وتكون توبة الكادر الإداري بفهم وفحص جرائمه وأخطائه وذنوبه، ثم اتخاذ موقف آخر مضادٍّ تجاهه ومعاكس، وتجديد نفسه وإحيائها. وإلا فإن عُقَد خمسين ألفًا من مراسيم الندامة وشعائرها لا تفيد. ولا تقطع بها خطوة واحدة إلى الأمام. فتبًّا وألف تبٍّ لمن يرى الداء دواء، وتبًّا وألف تبٍّ لمن خُدع بهذا مرارًا وتكرارًا! تتسامى أفراد المؤسسات العدلية والقضائية بقراراتها الصائبة والصحيحة التي ابتغت بها وجه الحق والعدل، وتكون مرشحة لأسمى المراتب الأخروية. وكل ساعة عدل منها تعد أعواما من عمل الخير في حقها لدى الحق تعالى. ولا تقل عن درجتها هذه عندما تندم وترجع إلى نفسها بعد أي قرار خاطئ. ولكنها عندما لا تبالي بالحق، وعندما ترى أن الحق للقوة وللقوي، وتضحِّي بالحق على مذبح القوة لا تستحق حينذاك أي عفو أو توبة”(4).
توبة مؤسسات التربية والتعليم: باعتبار هذه المؤسسات حاضنة لفكر الأفراد وثقافتهم فقد خصها كولن بالتوبة “فما دامت هذه المؤسسات محافظة على مشاعر الأمة وأفكارها ومقدساتها، ومدافعة عنها وصائنة لها، استحقت كل تبجيل وتقدير. فإن رَوَّجت للأفكار المنحرفة والمشوهة سقطت إلى دركٍ أسفل من درك اللصوص والمجرمين. وما لم تعد إلى رشدها وتتخذ موقفًا حازمًا تجاه الأفكار الأجنبية والمخربة، فلا تُقبل منها توبة، ولا مغفرة لها”(5).
المسؤولية عند كولن أساس تربوي تنبني عليه النهضة باعتبار أن “أخلاق المسؤولية أول وسيلة لتحقيق رؤيانا وخيالنا. …لذا يرى كولن أنه لا مفر من ضبط تصرفاتنا بالمسؤولية. بل ينبغي شد كل جهد لنا بهذه المسؤولية،
لقد جعل فتح الله كولن التوبة بداية طريق نحو البناء الحضاري الإنساني، إذ جعلها فرضًا على كل فرد “على جميع من لهم علاقة بمصير هذه الأمة وقدرها من الناحية المادية أو المعنوية، وعلى جميع أصحاب الأرواح المخلصة الذين نذروا أنفسهم لهذه الأمة أن يعترفوا بذنوبهم ويتوبوا. أجل! فعلى جميع هذه المؤسـسات والأفراد أن يراقبوا أنفسهم مرة أخرى عن كثب، فيروا نصيبهم من الإهمال والأخطاء والآثام. وعلى الذين يسعون لاهثين وراء المناصب، الذين على أعينهم غشاوة من حبهم المحصور على حزبهم، وفي آذانهم صمم، الذين تركوا بأفكارهم الشاذة الأجيال الصاعدة دون قلب ولا روح، الذيـن يرون بطغيانهم وجبروتهم أن الحق للقوة، والذين أعلنوا الحرب على كل ما يخالف أفكارهم حتى وإن كان من مصدر إلهي، الذيـن لا يرون ولا يدافعون إلا عن مصالحهم ومنافعهم، الذيـن لا يرون بأسًا من أي تزوير أو كذب أو خداع وتدليس، الذيـن يرون كلَّ وسيلة مشروعةً من أجل الوصول إلى غاياتهم وأهدافهم، الذيـن يتقلبون ويتلونون مع كل عهد.. على كل هؤلاء أن يثوبوا إلى رشدهم، وأن يعلنوا وللمرة الأخيرة عن توبتهم باسم الإنسانية وأن يجددوا قسمهم ويمينهم عليها”(6).
لقد ركز فتح الله كولن على التوبة كأول طريق نحو التربية الإيمانية التي يعتقد أنها السبيل الأهم للنهوض الحضاري. وهذا الخطاب التربوي عند كولن غالبًا ما يعتمد على إثارة الحماس والثأثر الوجداني لدى الأفراد للتعلق بالقيم الدينية، وإذا كان هذا النوع من الخطاب له نتائج محمودة فإنها غالبًا ما تكون محكومة بالظرفية المكانية والزمنية، إذ سرعان ما يصيبها الفتور ما لم تتحول هذه القيم إلى قناعات راسخة لدى الأفراد. وقياسًا على التجربة النبوية في صياغة الإنسان المسلم الملتزم بتعاليم دينه، نجد أن الخطاب التربوي كان خطابًا عمليًا أكثرَ منه نظريًّا، مما أسهم في جعل القيم الإسلامية تنعكس على تعاملات الأفراد وتترجم إلى ممارسات عملية. ولعل ما جعل كولن يركز في خطابه على التربية بهذا المفهوم، أي التربية على قيم الأمانة والعدل والصدق والإتقان، هو غياب كل هذه القيم في الإنسان واعتماد القوانين الزجرية بدلها؛ ومن هنا يركز اهتمامه على غرس هذه القيم الأخلاقية والتربوية كفكر مرجعي وسلوك عملي لدى الأفراد، وكقانون منهجي تعمل به المؤسسات والهيئات المختصة بالتسيير والتدبير.
2- تأصيل الثقافة لتشييد الحضارة
الثقافة والحضارة مفهومان متلازمان في فكر فتح الله كولن؛ فلا سبيل لبناء حضارة الأمة دون تأصيل الثقافة الإسلامية، وذلك لا يتم إلا بتجاوز منهج التقليد والتبعية سواء منها الداخلي “الثراث” أو الخارجي من الحضارات الأخرى. وقد اعتبر أن الثقافة كلٌّ لا يتجزأ، وهو منهج الإسلام الشمولي في نظرته للكون والإنسان، ولعلاقة الإنسان بمحيطه وبذاته وبكل شيء “فالاستعارة لا تزيد الأمة إلا تبعية بل ينبغي أن نبني ذاتنا من ذاتنا، إن رؤية كولن للثقافة تنطلق من اعتبارها مفهومًا مستوعبًا لكل الخصوصيات التربوية والدينية والعادات والتقاليد والفنون والأعراف. وكل ممارسة لها تعبير في الثقافة فهي ليست مجرد ممارسات سطحية، بل أعمق من ذلك باعتبارها تعبيرًا عن الدين الذي هو ملازم للإنسان في كل جوانبه الفنية والعادات والعلوم وكل شيء، وتعبيرًا عن العادات والأعراف التي دأب على ممارستها الإنسان.
فالإنسان عند كولن هو صانع الحضارة ومركزها، ولذلك فبناء الحضارة لا يتأتى إلا ببناء الثقافة على أسس قيادية قوية قادرة على التدافع الكوني، وتقديم رؤية أخلاقية كونية للدين والفكر والإنسان، تُصالح الإنسان مع فطرته، وتُوجهه نحو مهمته الحقيقة، يقول كولن: “تتشكل الثقافة الحقيقية من خلال التمازج والتفاعل بين الدين الحقيقي وبين الخلق السامي والفضيلة في بوتقة العلوم المهضومة جيدًا، ووصول هذا المزيج إلى المستوى المطلوب من النضج. لذا لا يمكن الحديث عن الثقافة الحقيقية في أي جو من اللادينية والهبوط الأخلاقي والجهل، ولا يمكن لأي إنسان أن يعيش في مثل هذا الجو دون الاستفادة من هذا المنبع”(7).
فالثقافة عند فتح الله كولن “تظهر وتولد وتنمو من طبيعة الأمة والمجتمع. والثقافة بالنسبة للمجتمع بمثابة الزهور والثمار بالنسبة للشجرة. والأمم التي لم تنجح في إنضاج ثقافتها أو الأمم التي فقدت ثقافتها تشبه الأشجار العقيمة التي لا تعطي أثمارًا، وكل ثقافة امتزجت مع ماضي الأمة وارتبطتْ بجذور روحها تستطيع إنارة طريق الحياة والتقدم أمامها. وعلى النقيض من هذا فإن قيام الأمة بتسليم نفسها إلى أحضان فكر وثقافة أجنبية والسير متذبذبة ذات اليمين وذات اليسار سيؤدي إلى اضمحلال تلك الأمة وتفسخها. إن رقي أي أمة وتقدمها مرتبط بمدى التربية التي تلقاها أفرادها من الناحية العاطفية والفكرية.
3- منهج البناء من الداخل
يقترح فتح الله كولن لزوم المنهج البنائي الذاتي الذي يبني منطق الأمة من داخل مقومات الأمة الذاتية وليس من خارجها، ويكون بذلك تجاوز أيضًا منهج التوفيق أو التلفيق أو التركيب معتبرًا هذه المنهجية ثبتت من خلال عدة تجارب مثلها في تاريخ الأمة. ويقوم منهج البناء الذاتي لديه على خصائص منها:
إن إصلاح أي أمة لا يكون بالقضاء على الشرور، بل بتربية الأجيال تربية صحيحة وبتثقيفها ثقافة صحيحة، ورفعها إلى مستوى الإنسانية الحقة.
تلازم الحركية والفكر: لأن الفكر وحده لا يستطيع النهوض بالأمة من مزالقها يقول: “يمكن تلخيص خط كفاحنا كورثة الأرض بكلمتي الحركية والفكر. وإن وجودنا بوجهه الحقيقي يمر عبر الحركية والفكر. حركية وفكر يغيران الذات والآخرين. ومن وجهة أخرى، يبدو كل وجود وكأنه حاصل حركة ومجموعة أنظمة، وبقاؤه مرتبط بالحركة وبتلك الأنظمة. وإن أهم شيء وأشده ضرورة في حياتنا هو الحركية. فمن الضروري أن نتحرك على الدوام في ظروف قاهرة نضع أنفسنا تحت ثقلها بأنفسنا، لنحمل فوق ظهورنا واجبات ونفتح صدورنا أمام معضلات، الحركية المستمرة والفكر المستمر. ومهما ضحينا في هذا السبيل، فإن لم نتحرك نحن فسندخل في تأثير الدوامات الفكرية والبرنامجية لأمواج هجمات الآخرين وأعمالهم الحركية، ونضطر إلى تمثل فصول حركاتهم”(8).
التحذير من تغريب الأمة: لقد حذر فتح الله كولن بقوة من تغريب الأمة وتفكيك عوامل تماسكها “إن إبعاد أمة كاملة عن ذاتها وعن هويتها، وزرع أدمغتها بأفكار غريبة عنها، وهدم محرابها، وتحويل منبرها، ليست من الآثـام التي يمكن أن يغفرها التاريخ ولا المحكمة الإلهية يوم الحساب”(9). ولا يلقي باللوم على حاملي مشاريع التغريب، بل يلقي كل اللوم على أبناء الأمة الواعين بمرجعيتها الصحيحة يقول: “أجل! إن على الأسرة والمجتمع والوطن أن يحذر جدًّا من أصحاب الأرواح الفجة التي لم تتهذب بالتوحيد؛ فأصحاب هذه الأرواح المنكودة التي اسودّت بالدخان، وصدئِتْ حتى فقدت شفافيتها، وحل السواد محل البياض الناصع في العالم الداخلي لهم لا يتورعون -إن لم يكن اليـوم فغدًا- من حرق الوطن وكل شيء. ولا يمكن أبدًا التهوين من مقدار الخيانات التي اقترفها هؤلاء الذين ختم الله على قلوبهم وعلى أبصارهم ووضع عليها غشاوة فيما مضى من الزمن وفي هذا الزمن.
ولكن يجب التنويه بأننا -في المطاف الأخير- نحن المسئولون عن الذيـن باعوا الوطن لهذا أو لذاك، وحولوا الغابات والبساتين إلى صحاري جرداء، ونحن المسؤولون عن هؤلاء الجهَّال عديمي الإيمان والضمير من الدمى بأيدي الآخرين الذين اقترفوا كل هذه الإساءات. أجل! نحن الذيـن أهملنا ونحن الذين أفسدنا، نحن الذين جعلنا عديمي الإيمان هؤلاء لا يبالون بأي شيء، ونحن الذين سندفع الحساب، سندفع الحساب اليوم ونحن في القبضة الحديدية للحوادث والبلايا، وسندفع غدا أمام التاريخ، ثم سندفعه يوم المحكمة الكبرى، يوم لا يعزب عن ربك مثقال حبة من خردل”(10).
4- روح المسؤولية
المسؤولية عند كولن أساس تربوي تنبني عليه النهضة باعتبار أن “أخلاق المسؤولية أول وسيلة لتحقيق رؤيانا وخيالنا. ولما كان السكون والجمود موتًا وانحلالاً واللامسؤولية في الحركة فوضى ولغطًا، فلا مفر من ضبط تصرفاتنا بالمسؤولية. فينبغي شد كل جهد لنا بالمسؤولية، طريقنا طريق الحق، وقضيتنا حمل الحق، وغايتنا تحري رضاء الله في كل رّفة عين، والأصل أن هذه صَدَقة كينونة الإنسان وحكمة وجود الإرادة. نحن نحسب أنفسنا مضطرين إلى التحري عن غاية الحياة في حياتنا، والتوصل إلى العشق في أرواحنا، والوعي بشعور المسؤولية في وجداننا، وإرشاد المستيقظين على منبع نظام أساسه وأصوله الإيمان، ومصدر قوته العشق، ونوره العلم والفن والأخلاق والحكمة. فنحتسب أنفسنا عبيدًا لهذه الرسالة عبودية لا انعتاق منها، وستكون بداية لنهضة عالمية ثانية، هذه الجهود التي نرجو انتشارها وتطورها في استقامة وروحانية جميع الأولياء والأصفياء والأبرار والمقربين منذ البداية إلى اليوم”(11).
إن الخطاب الفكري لفتح الله كولن على الرغم من الطابع الوجداني الذي يغلب عليه إلا أنه لا يخلو من الخصائص العقلية، “فمن العسير الارتقاء إلى هذه الذروة ما لم تمرر التجربة من مصفاة العقل، ومالم يُسلِّم العقل نفسه للفطنة العظمى (النبوة)، فبهذا النظر يكون العلم بُعدًا من أبعاد الدين وخادمًا له، والعقل طيف نور يصل به الإلهام أينما يشاء والمكتسبات التجريبية منشورًا يعكس روح الوجود.ويصدح كل شيء بصوت أناشيد المعرفة والمحبة والذوق الروحاني. ويربط كولن بين القلب والروح لأجل حياة ذات آفاق عالية يقول: “والحقيقة أن هذا هو السبيل لربط الحياة وجعلها تحت إمرة القلب والروح. وهكذا فإنْ قام الإنسان -باعتبار هذا المستوى أفقًا حياته- بالتعامل مع الأفكار السامية في كل حال من أحواله، ووجَّه حياته لواهبها ورأى أن الإحياء أعمق شيء في الحياة، ورنا بنظره نحو الذرى على الدوام تحول -أراد ذلك أم لم يرد- إلى شخص يطبِّق برمجة سامية، لذا يقوم بلجم أهوائه وبتضييق أذواقه الشخصية ولكن ضمن إطار معين.
إن الإنسان في هذا العصر أحوج ما يكون إلى المحبة والكلمة الطيبة، والنظرة الحانية، لتعود إليه آدميته، ويرجع إلى فطرته، وإنسانيته التي تخلصه كم الشرور والاضطرابات التي ضاق ذرعا منها.
و خلاصة القول: إن الخطاب عند محمد فتح الله كولن تميز بحضور كبير للوجدان والجمالية، من خلال تركيزه على الروح والقلب والتوبة والمحبة، وهي عبارات تنتمي لنفس الحقل الوجداني، وهو طابع غلب على خطابه، بل هو سمة مميِّزة للرجل؛ فهو رجل مرهف الإحساس، كثير البكاء، سريع التأثر، فلا تجد صعوبة في ملاحظة ذلك في أغلب خطبه وتواصلاته مع الناس. وهي سمة لم تميزه فقط، وإنما ركَّز عليها في حركته ودعا إلى تربية الأجيال عليها، فهل يمكن اعتبار هذا الطابع المميز في خطاب كولن، مدخلاً مهمًّا من مداخل الإصلاح والبناء الحضاري، وهل التجربة التركية بهذه المقومات والاقتراحات يمكنها أن تخرج من المحلية إلى العالمية وتصلح لكل البيئات والثقافات؟
الهوامش
(1) مجلة حراء، العدد:11، مقال فتح الله كولن «الإنسان الجديد».
(2) 77، الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ترجمة أورخان محمد على، دار النيل للنشر-مصر، ط3، 2007م.
(3) 37، التلال الزمردية، فتح الله كولن، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للنشر-مصر، ط3، 2007م.
(4) جيل الحداثة “التوبة” صفحة الأستاذ كولن الرسمية.
(5) جيل الحداثة “التوبة” صفحة الأستاذ كولن الرسمية.
(6)جيل الحداثة “التوبة” صفحة الأستاذ كولن الرسمية.
(7) 80، الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ترجمة أورخان محمد على، دار النيل للنشر-مصر، ط3، 2006م.
(8) 57، ونحن نقيم صرح الروح ترجمة عوني عمر لطفي أوغلو، دار النيل للنشر-مصر، ط4، 2008م.
(9) 122، ترانيم قلب وأشجان روح، فتح الله كولن، ترجمة أورخان محمد على، دار النيل للنشر-مصر، ط4، 2008م.
(10) 122، المصدر السابق.
(11) 94، ونحن نقيم صرح الروح، “الشعور بالمشؤولية”.
المصادر و المراجع
1- و نحن نبني حضارتنا، ط4 2008م، دار النيل -مصر.
2- ونحن نقيم صرح الروح، ط4، 2008م، دار النيل-مصر.
3- الموازين أو أضواء على الطريق، ط3 2007م، دار النيل-مصر.
4- روح الجهاد و حقيقته في الإسلام، ط5، 2008م، دار النيل-مصر.
5- طرق الإرشاد في الفكر و الحياة، ط4، 2008م، دار النيل-مصر.
6- التلال الزمردية، ط3 2007م، دار النيل للطباعة و النشر-مصر.
7- مجلة حراء “مجلة علمية فكرية ثقافية تصدر كل شهرين من إسطنبول، (سابقا)، القاهرة حاليًا”.
Leave a Reply